المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دراسة عن الشاعر الألماني " هايْنرِشْ هايْنِهْ " :



الدكتور شاكر مطلق
15/04/2007, 10:11 PM
دراسة عن الشاعر الألماني " هايْنرِشْ هايْنِهْ " :
" Heinrich Heine "
د. شاكر مطلق
حمص _ سورية
مدخل :
تعتبر المجموعة الشعرية الأولى التي أصدرها الشـاعر الألمـاني" هـاينرش هـاينه"
-H. Heine - ( 1797.12.13 - 1856.2.16 ) عن دار النشر هوفمان - كامبه في هامبورغ -ألمانيا عام 1827 تحت عنوان " كتاب الأناشيد " ، من أهم أعمال الشاعر الأدبية والشعرية على الإطلاق .
ولا تزال هذه المجموعة ، التي عمل الشاعر في طبعتها الثانية على تنقيحها بجدِّية استمرت عاماً أو ما يقارب ، تُعتبر من أكثر الكتب الشعرية رواجاً في نطاق الثقافة الألمانية الزاخرة بأسماء شعراء لامعين عِظام مثل (غُوتِهْ) -بالتاء المخففة- شِلَّرْ - أَيْشِنْدورف - هُولْدَرْلين - رِيْلكِهْ ... إلخ.
وإذا كان لابد من إضاءة سريعة للمرحلة التاريخية القلقة التي عاشها الشاعر ، وعاشتها أوروبا في القرن الثامن عشر ، لِفْهم كتابـات الشاعر النثرية والصحفيّة والشعرية بالطبع ، فإنه لابد أيضاً من عرضٍ واستعراضٍ لمأساة حياته ونضاله ضد مرضه ومن أجل سعادة البشرية وحرية المضطهدين والمستضعَفين البؤساء ، وهِجْرته الطوعية إلى باريس للعيش فيها والإبداع حتى الموت ، وإلى التعريف بأصدقائه ومعارفه من المبدعين والعظماء في الفكر والمجتمع مثل : - كارل ماركس – الذي عمل معه عامين في باريس ، و- فريد يرِشْ إنجِلْز- الذي زاره في مرضه ، وصداقته مع – بلْزاك- و ألفريد دي موسيه - وكذلك الموسيقيّين العظام مثل فرانس لِسْتْ – شوبّان – روسِّيني ، وأيضاً – لافاييت – تيريس – فكتور هيجو – لامارتين – فكتور كوزان – ألكسندر دوماس-فيجي- موسيت … إلخ . وحتى شاعر ألمانيا العظيم (غوتِهْ) الذي قام الشاعر الشاب هاينه بزيارته في (فايْمار) بعد رحلةٍ على الأقدام استمرت أسابيع طويلة ، وغير ذلك الكثير .
كان (هاينه) قد ولد في مدينة (دوسِلْدُوْرفْ) بتاريخ 1797/12/13 في أسرة يهودية متواضعة، وكان والده يتاجر بالمناديل ، لذا أطلق عليه الاسم الإنكليزي (هِيري- Herry ) وينتمي الشاعر إلى الجيل الأول من اليهود الذين عاشوا خارج "الغِيتّو" وتفاعلوا مع مجتمعهم الألماني ، حتى أن هاينه ، إبّان دراسته الجامعية ، قد انضم إلى تلك النوادي الطلابية الجرمانية التي تَضرِب بالسيف وتنشِدُ الأغاني الجرمانية العريقة إبان الاحتفالات التي تُستهلك فيها كمياتٌ ضخمة من الجِعَةِ ، وقد تعرّفتهم أيضاً وتعرفت عقليّتهم في جامعة "ماربورغ" العريقة الواقعة على نهر اللان ، حيث ابتدأت دراستي الطب والتي درَسَ فيها (باسترناك) وت.س إليوت ودَرَّس فيها الفيلسوف والناقد المعروف مارتين هايْدِغَرْ M.Heidegger .
وبعد أن رفض عمّه الثّري سلامون (سليمان) في هامبورغ تزويجه بابنته أمالي (Amalie) والتي رفضت هي أيضاً الاقتران به ، وبعد أن أدرك أنه لا يحب التجارة وأعمال المال ، وبناء على نصيحة والدته ، بدأ دراسة الحقوق في جامعة "غوتِنْغِنْ" العريقة عامي (1825-1824) ثم درس في مدينة بون) عند الفيلسوف المعروف شليغل (Schlegel) ، وكذلك في برلين عند الفيلسوف الشهير هيجل (Hegel) . وعلى الرغم من أنه أكمل دراسة الحقوق ، إلاّ أنه لم يكن يشعر برغبة في مزاولة تلك المهنة ، وشعر نفسه متعلقة تماماً بالأدب وبالصحافة التي عمل فيها بجد في باريس مراسلاً الصحف الألمانية ، ناقداً بشدةٍ الأوضاع في بلده الأم ، الأمر الذي أدى إلى منع نشر كتاباته في كثير من الأحيان ، بل وإلى منعـه من العـودة إلى بلده ، على الرغـم من أن ملك بروسيا – الألماني – (وِلْهِلْم الثالث) – وهو من المعجبين بشعره – رغِبَ في السماح له بالعودة ، غير أن المستشارين رفضوا ذلك بشدة .
وبقيت ألمانيا تحتل المركز الأول في اهتماماته الكتابية ، بعد أن تجول فيها على أقدامه واطلع ، عن قرب ، على أحوال الناس والفقراء ، فأصدر عام (1844) كتابه المعروف " ألمانيا خرافة شتائية " ويدور حول السخرية السياسية والاجتماعية . واستمر هذا التقليد ، في مطلع القرن العشرين ، بكتابات شديدة السخرية والنقد كما قرأناها في أعمال " توخولسكي " و " فيدِه كِندْ " وغيرهما .
كان ( هاينه ) يرى ألمانيا على عتبة ثورة شعبية ستطيح بالملكية وبالنظام القديم على غرار الثورة الفرنسية غير أن انهيار حركة عام (1848) في بلوغ هدفها جعله يتشاءم من إمكانية قيام أي ثورة ديمقراطية في ألمانيا ، وإنْ ظَلّ يدعو، في كتاباته ، إلى إعادة تنظيم أوروبا (بطريقة ما) سياسياً واجتماعياً وبعيداً عن فكرة الدولة القومية ، التي لم يعد يرى مستقبلاً لها ، لأن ألمانيا التي انطلقت ، قبل قرن ونصف ، إلـى إنجاز مشروعها الوطني – القومي – انطلقت ، حسب رأيه ، متأخرةً وبأنها ستجد ، عند إنجازه ، أنْ لا ضرورة لهذا المشروع ، كما سبق لفرنسا وإنكلترة أن اكتشفتا ، وبالتالي فهو من السّبـاقين لفكرة الوحدة الأوروبية التي نراها تتنامى وتتوطد اليوم .
كان هاينه -منذ شبابه- قلقاً ضجراً بالأوضاع السياسية المنحطّة في بلده -ألمانيا- ويريد التغيير بأي ثمن . وعندما دخل (نابليون) مسقطَ رأسه (دوسِلْدوْرف) بتاريخ 1811/11/3 ، وكان عمره وقتئذٍ ثلاثة عشر عاماً ، أخذ يهلّل له ويرى في ذلك تحريـراً لألمانيا . وسقطت هذه الهالة عن (نابليون) عندما توّج نفسه قيصراً عام (1804) . وكان الموسيقار الخالد (بيتهوفن) قد أهداه السّمفونية الثالثة إعجاباً به ، وقام بسحب هذا الإهداء لاحقـاً ، بعد أن أمسى بطلُه قيصراً . إلاّ أنّ الولد "هاينه" لم يكن ليدركَ مثل هذه الأمور المعقدة في تلك الفترة ، بعد أن دُحِرَ نـابليون في معركة (واتِرْلو) عام 1814 ، ونُفيَ بعدها إلى جزيرة ( إلْبا ) وعاد ليحكم مدة مئة يوم، إلى أن قررّ "مؤتمر فينّا" عام 1815 نفيه من جديد إلى جزيرة (سان هيلينا) حتى موته ، وبغياب نابليون عن الحكم عاد (آل بوربون) إلى حكمهم الملكي في فرنسا من جديد .
وعندما حاول الملك الفرنسي (كارل العاشر) أن يحدَّ من حرية الصحافة ويضعَها تحت الرقابة وأن يُضيّقَ حقوقَ الشعب الانتخابية ، انطلقت في شوارع باريس ، بعد ساعات فقط ، ثورةُ 25 تموز من العام 1830 - التي ألهبت مشـاعر (هاينه) وجَعَلتْهُ يقرر نهائياً ، عام 1831 الذهاب إلى فرنسا والحياة فيها ، تلك الثورةُ التي قام بها الطلاب والعمال الجمهوريون والتي أدّت إلى النصر .
كان " هاينه" شأنه شأن العديد من المهاجرين الألمان الذين عاشوا في باريس ، كلاجئين سياسيين ، يتلقى من الحكومة الملكية هناك إعانةً مالية قدرها (4800) فرانك سنوياً ، مما جعل صورتُه تهتّز في أعين الألمان ، عندما نُشرت لوائحُ وزارة الخارجية الفرنسية بعد ثورة فبراير 1848 وهروب الملك إلى إنكلترا وإعلان الجمهورية ، هذا الدّعم الذي كان الألمان المهاجرون يرون فيه (قَرضاً) مؤقتاً بينما كان "هاينه" يرى فيه حقاً، وطالبَ فيما بعد ، بإعادة هذا الدّعم إليه.
علاقة (هاينه) الدينية لم تكن بعامة وثيقة حتى أنه ترك الديانة اليهودية ليصبح ، في السِّر ، مسيحياً (بروتستانت) وذلك في مطلع شبابه ( 25 عاماً) . وقد حوّل اسمَه من هنري إلى هاينْرِشْ،غير أنه بقي، على حد قول الناقد الشرس الشهير "مارسيل رايش رانيكه" العجوز - وهو ألماني يهودي بولوني الأصل - في مجلة ألمانية مطلع هذا العام 1997 ، (بقي أصيلاً وغربياً في البلدين معاً وبالمختصر غريب هنا كما هناك . كان يهودياً بالنسبة للألمان ، وألمانياً بالنسبة للفرنسيين ، منبوذاً في ألمانيا وغريباً في فرنسا ) .
لكن هذا الأمر لا ينطبق ، كما أرى ، مع الحقيقة تماماً . فنحن نقرأ في سيرة الشاعر الضخمة الصادرة عن نفس دار النشر في هامبورغ التي أصدرت كتبه (هوفمان وكامبه) والتي تقع في نحو ستمئة صفحة من القطع الكبير، رداً من الشاعر على أحد أصدقائه الألمان الذي سأله عن حياته الجديدة، كمايلي:
إذا سألك أحدٌ ما عمّا أفعله هنا ، أجِبه وقل له هذا :
إذا سألتْ سمكةٌ في البحر أخرى عما تفعله ( أي عن أحوالها ) فإنها ستجيب :
أنا سعيدة هنا مثل ( هاينه ) في باريس .
وبالفعل انعكست حياته الجديدة هناك وتعرّفه - في عاصمة الحضارة العالمية ،العديدَ من الشخصيات العامة وعلى جوانب هامة في الأدب والفن - على كتاباته ، وكانت باريس بالنسبة له معبراً إلى المجتمع الأوروبي .
لقد أسهم هاينه في تعريف الفرنسيين على الفلسفة الألمانية . في صالونات باريس الأدبية ، وبخاصة في صالون الأميرة " بليجو جوزو" تعرّفَ وصادق العديد من مشاهير رجالات الأدب والعلم والموسيقى-كما ذكرنا - مثل ( شوبان -روسّيني- ليِسْتْ - لافاييت - تيرس - ألفريد دي موسيه - هوغو - فكتور كوزان - جورج صاند " وهو الاسم المستعار للكاتبة المهاجرة الشهيرة صديقة بلزاك) وهذا ما كان قد عايشه في صالونات برلين الأدبية قبل ذلك وبخاصة في صالون الثرية اليهودية (راحِيل فارِنْهاغن) التي عهِدَ إليها بنشر ديوانه الأول " كتاب الأناشيد " عام 1822 الذي صدر لاحقاً عام 1827 في هامبورغ ، كما تعرّف هناك على الموسيقار مِينْدِلسون والعالم الشهير ألِكْسَندر فون هومبولد ، وشِملَر ، وماخَرْ وغيرهم من المشاهير .
اتصل (هاينه) في باريس بعائلة ( روتْشِلْدْ ) الثرية اليهودية التي كانت ولا تزال تسيطر على سوق المال الفرنسي ، وكان يرى في البارون ( جيمس روتشلد ) " نيرونَ " المال ، ورمزاً للأرستقراطية الجديدة التي ستقود ممارساتُها إلى الثورة ، وعلى الرغم من أنّ العديدَ من المشاهير كانوا يقترضون المالَ من البارون ، مثل (بلزاك) وغيره إلاّ أن "هاينه" يؤكد أنه لم يفعل ذلك لأنه ( يرثي لحال الأغنياء ) ، غير أنّه تقبّلَ هديةً من البارون على شكل سنداتٍ مالية ساعدَته ، فيما بعد ، في تدبير أوضاعه المالية البائسة وبخاصة بعد موت عمه "سليمان" في "هامبورغ" بألمانيا. سأل الشاعرُ البارونَ "روتشِلْد" عن أحواله فأجابه: أنا مجنون .فقال له هاينه : لا أصدّق حتى تُلقي النقودَ من النافذة .
فأجابه البارون : هذا هو جنوني لأنني لست مجنوناً إلى الحد الذي أرمي فيه النقود من النافذة ، وكان هاينه يقول : (المال أكثر ميوعة من الماء وأكثر تعرّجاً من الهواء) .
ظلّ "هاينه" يكتب من باريس إلى جريدة (أَوْسبُرغَر العامّة) مقالاته من باريس - وكان الأديب عندها يستطيع العيش من كتاباته الأدبية والصحافية ، ولكن كتاباته كانت تخضع إلى الرقابة أو المنع ، وحتى عندما دفع إلى ناشره في هامبورغ بكتابٍ عن الأوضاع الفرنسية ، قام الناشرُ بحذف نصف المقدمة وبتحويل بعض المقاطع إلى مديح خفيف للقيصر (وِلْهِلْم الثالث) -ملك بروسيا- مما أثار حفيظة الشاعر فكتب إلى جريدة (أوسبرغ) موضحاً الأمر ومطالباً بنشر المقدمة كاملةً ، كما في الأصل ، مع استعداده لتحمُّل كافة النتائج عن ذلك ، وأصدر بياناً قاسياً ينتقد فيه الأمراء والملك - مع احترامه لشخصه - وأخذ يحذرهم من صحوة الشعب الألماني الذي وصفه ( بالمهرّج ) الذي ربما ضغط على رؤوسهم حتى تطير أدمغتهم إلى النجوم ، وذلك بعد أن نكث الملكُ بوعده للشعبِ بإصدار دستورٍ للبلاد عام (1813) وكان ينتمي سياسياً إلى ما يمكن أن يُسمى بالاشتراكيين أو بالأحرار الديموقراطيين .
أقول إذا كان التعرُّفُ على المرحلة التاريخية التي عاشها وعايشها الشاعرُ وعلى معارفه وأصدقائه وحياته الشخصيّة وعَوَزهِ المادي الدائم ، برغم مساعدة عمّه الثري له (سالامون) - سليمان - صاحب البنك المعروف باسمه في (هامبورغ) والقائم حتى اليوم ، الذي تعرّفته كغيره من المواقع التي كان يعيش فيها (هاينه) إبان إقامتي في تلك المدينة الرائعة لدراسة الطب البشري فيها لأكثر من أعوام ستة ، إذا كان كل هذا ضرورياً فثّمة أمر ، في رأيي - يعتبر (كُونْدِ يتْسيوسِيني كوانون) كما تعبّر المقولة اللاتينية (أي شرط لابد منه) لفهم أعمق اضطرابات نفسه الخلاقة وهو المرض القاتل الذي أصيب به الشاعر والذي لا علاج له ، في ذك الوقت ، المرتبط بالجسد وبأعمق مشاعره الطينية ، ألا وهو مرض (الزٌّهري) الذي ألقاه طريح الفراش لفترة ثمانية أعوام في باريس بعد أن شَلَّ المرضُ يدَه اليسرى في عام (1832) وأصاب جفنَه العلويَّ الأيسرَ وهاجم بصرَه إلى أن أقعَده تماماً في عام (1847) بحيث اضطرَّ الشاعرُ ما بين (1851-1848) إلى أن يملي شعرَه، لُيكتَبَ في مجلد ضخم أشرف هو على تدقيقه .أدّى المرضُ ، في النهايةِ ، إلى موته بتاريخ 16/ 2 /1856 ودفنهِ في مقبرة العظماء (مونت ماتره) ، ولا تزال الورود توضع حتى اليوم على قبره من قبل المعجبين به .
هذا المرضُ القاتل ، وليدُ الخطيئة ووجهُها الآخرُ ، هو الذي يتحدث عنه الشاعر - مرمَّزاً - بقصيدة تصدّرت مقدمَته الطبعة الثالثة لديوانه الأول (كتاب الأناشيد) على شكل (رباعيات) مغرقة بالحزن والأسى نعرضها ضمن ترجمتنا المختارة لبعض أشعاره .

مقدمة الطبعة الثالثة

مقدمة الشاعر " هايْنرِشْ هايْنِه " للطبعة الثالثة من ديوانه الأول " كتـاب الأناشيد " الصادر في هامبورغ عن دار نشر " هوفمان وكامبه " عام 1827 ، وكتبَ المقدمةَ في مهجره في باريس بتاريخ 1839/2/20 .


هذه هي غابةُ الحكاياتِ الخرافيّةِ
عَبيرُ أزهار شجرة " اللِّنْدَةِ " (1) يَعْبُقُ
القمرُ الساطعُ الرائعُ
يَسحرُ مشاعري
* * *

تابعتُ مَسيري إليها
ومنذ مشيتُ ، سمعتُ لحناً في الأعالي
إنّه " طائر الليل " (2) - ناخْتِغَالْ - يغنّي
عن الحُبِّ وعن آلام الحُبِّ

* * *
إنه يغني عن الحُبِّ وعن آلامِ الحًبِّ
عن الدّموع والضحِكِ
وهو يهلِّل حزيناً ويَنتَحِبَ فرِحاً .
دموعٌ مَنْسيّةٌ تَستيقظُ .
* * *



تابعتُ مسيري ، ومنذ مَشيتُ
رأيتُ قصراً كبيراً
أمامي في العَراءِ
سطحُه ، القِرْمِديُّ المائلُ ، يرتفع عالياً

* * *

نوافذُ مُغْلَقةٌ في كلّ مكان
صمتٌ واحدٌ وحزنٌ واحدٌ
بدا ( لي ) وكأنَّ الموتَ الهادئَ
يسكن هذه الجدران الموحشةَ
أمام البوابة ( يجثو ) تمثالٌ " لأبي الهول " (3)
( الربّة الخُنْثى )
مُخنَّثٌ ( مَصوغٌ ) من الهَوْلِ واللّذاتِ
البطنُ والقوائمُ كما عند الأسدِ
والرّأسُ والصّدر كما عند الأُنثى

* * *

أُنثى جميلةٌ
نَظْرتُها البيضاءُ تُفصِحُ عن رغَباتٍ وحشيَّةٍ
الشّفتان الصّامتتان تتكوَّرانِ
ببسمةٍ تنمُّ عن القَبولِ
* * *

" طائرُ الليل " يغني بعذوبةٍ
لَمْ أستطعْ مقاومتها
وعندما قبّلتُ ذاكَ الوجه المحبّب ( للتمثالِ )
كان قد قُضِيّ عليّ .
* * *
التّمثالُ المَرمريُّ أصبح حيّاً
وأخذَ الحجرُ يــئِنُّ
لقد شَرِ بتْ جمرَ قبلاتي المُلتهبَ
بعَطشٍ وشوقٍ .

* * *

كادتْ أنْ تشربَ كلَّ أنفاسي
وأخيراً - وبشَهوةٍ عارمةٍ -
عانقتْ ، جسديَ المسكينَ
بأكفِّها الأسديّةِ ، ومزَّقتهُ .


* * *

( أيُّها ) العذابُ السّاحرُ والألمُ العَذبُ
( الذي ) لا حدود فيه للألم واللّذةِ
فبينما تُسعِدني ( منك ) قبلةُ الثَّغرِ
تجرحني قوائُمكَ بقسوةٍ مريعةٍ

* * *

" طائر الليل " غنّى : آهٍ من ( الربّة الخُنثى ) الجميلةِ
أيّها الحُبُّ ما معنى أن تمزِ جَ
كلَّ ما تعطيه للرّوح من نشوةٍ
بعَذاب الموتِ ؟

* * *

آه ( أبا الهَوْل ) - ( يا الرَّبةُ الخُنثى ) الجميلة
حُلّي ليَ ( هذا ) اللُّغزَ الرّائعَ
لقد فكّرتُ به طويلاً ( طويلاً )
بضع آلافِ السنين ...
* * *





























مختارات من قصائد مجموعة (إنْتَرْميزُّو الشعري)
للشاعر الألماني " هاينرش هاينه " : ( ترجمة عن الألمانية )

د.شاكر مطلق
رقم (1) :

في شهر أيّار ، رائع الجمال ،
حيث تتفتّقُ كلُّ البراعم
عندها ، في قلبي ،
تفتَّح الحبُّ
* * *
في شهر أيار ، رائع الجمال ،
عندما تغني كلُّ الطيور
اعترفتُ لها
بأشواقي ورغباتي

رقم (2) :
من دموعي انبثقَ
الكثيرُ من الورود
وصارت آهاتي
جوقةً لطائر الليل ( ناخْتيغال )
* * *
وإذا كنتِ تحبينني ، يا صغيرتي !
أُهدي إليكِ كلَّ ( هذه ) الورود
وأمام نافذتك سوف يصدحُ
نشيدُ طائر الليل .


رقم (4) :

عندما أنظر في عينيكِ
يتلاشى عذابي وآلامي
ولكن عندما أقبّل ثغرَكِ
أصبح ، تماماً ، معافى
* * *
عندما أتّكئُ على صدركِ
تعتـريني لذّةٌ سماوّيةٌ
ولكن عندما تقولين : أحبّكِ
يستلزمني البكاءُ بمرارةٍ

رقم (6) :

أسندي خدَّكِ على خدّي
لتسيل الدّموعُ معاً
وعلى قلبيَ اضغطي قلبكَ بقوّةٍ
لينبض اللّهيبُ معاً
* * *
وعندما ، في اللّهب العظيم ، ينصَبُّ
التيّار من دموعنا
وعندما يحيطكِ ذراعيَ بقوّةٍ
أموت من أشواق الحب .

* * *


رقم (7) :

أريدُ أن أغطّسَ روحي
في كِلْشِ الزّنبقة
وعلى الزّنبقة أن تنفحَ بنغمٍ
نشيداً عن حبيبتي
* * *
على النّشيد أن يُمطر ويدّوي
كالقبلةِ من ثغرها
تلك التي أعطَتني إيّاها مرّة
في ساعةٍ رائعةٍ عذبةٍ .

رقم (8) :
في الأعالي
تقف النجوم بدون حَراك
لآلافٍ عديدةٍ من السنين
تطل على وَلَهي.
* * *
إنهنَّ ( النّجوم ) يتحدّثنَ لغةً
غنيّةً ورائعة .
ولكن لا عالِم لغةٍ
يستطيع فهمَها .
* * *
ولكنّي تعلمتها
ولن أنسَها أبداً
قواعدُها علَّمني ( إياها )
الوجهُ الأكثر حبّاً إلى قلبي .
رقم (10) :

زهرة " اللَّوْتَس " تخافُ
من بهاء الشمسِ
وبرأسٍ مُطرِقٍ
تتـرقّبُ ، حالمةً ، الليلَ
* * *
القمرُ ، عشيقُها
يوقظُها بضيائه
ولهُ ، بمحبةٍ ، تُسفرُ
عن وجهها الوردي البريءِ
* * *
إنها تزهرُ وتشتعلُ وتَشعّ
وتتجمّدُ نظراتُها بصمتٍ ، نحو الأعالي
إنها تعبُق ( بالعبير ) ، تبكي وترتجف
من الحبّ ، ومن آلام الحبّ .

رقم (16) :

أعلميني ، يا حبيبتي ، اليومَ
أولستِ من صوَر الحلُم تلكَ
التي تفيض في أيام الصيف القائظةِ
في دماغ الشاعرِ ؟
* * *
ولكن لا ، فمثلُ هذا الفمِ الصغيرِ
ونورُ العينين الساحرِ هذا
هذه الطّفلةُ العذبةُ المحّببةُ
لا يمكن للشاعر أن يخلقَها
* * *
وحوشُ البازيليسكن(*) ومصّاصو الدماءِ
الزواحفُ وغيرُها من الحيوانات الخطرة
تلك الحيواناتُ الخرافيّةُ المريعةُ
تخلُقها نارُ الشاعرِ
* * *
ولكن أنتِ ، وحيَلُكِ
ووجهُكِ النبيلِ
وتلك النظراتُ ، كاذبةُ التّقوى
لا يخلقها الشاعرُ .
________________________________
(*) حيوان (Basilisk) الخرافي ، قاتل النظرات ويشبه التنين ، نقابله في أسـطورة (زيغفريد) الجرمانية الشهيرة وهو حيوان لا يمكن قتله ، لأنه مسحَ جسَده بالدماء ، إلاّ من موضع وحيد كانت ورقةُ شجر قد غطته ، ومنه يجد البطل (زيغفريد) السبيلَ إلى قتله ، ويذكّر هذا بوتر البطل (آخيل) في الأدب الإغريقي .

رقم (21) :
هذه القصيدة ، تعتبرُ امتداداً للقصائد رقم (20-17)، حيث يتحدث الشاعر فيهم عن زواج حبيبته بغيره، وعن معاناته وعن شكواه التي تستمر في بعض القصائد اللاحقة ، كما سنرى .

لقد نسيتِ تماماً
أنني ملكتُ قلبَكِ طويلاً
قلبكِ العذب المخادع الصغير
لا يوجد أكثر منه عذوبةً وخِداعاً

* * *
لقد نسيتِ - إذن - الحبَّ والعذابَ
اللّذَيْن ضغطا على قلبي بينهما
لا أعلمُ ، هل كان الحبُّ أم العذابُ أكبرَ ؟
أعرفُ فقط أنّ كِليْهما ، كان عظيماً .



رقم (22) :

لو عرفَتْ الأزاهيرُ الصغيرةُ
عن عُمقِ جرحِ قلبي
لبكَتْ معي
من أجل شفائه من آلامه
* * *
ولو عرفَتْ " طيورُ اللّيل " - ناخْتيغال -
كَمْ أنا حزينٌ ومريضٌ
لأطلقَتْ بمرحٍ
غناءً منعِشاً
* * *
ولو عرََفتْ بحسرتي
(تلك ) النجومُ الصغيرة الذّهبيةُ
لأتتْ من الأعالي
إليَّ لتواسيني
* * *
إنهم جميعاً ، لا يمكن لهم أن يعلموا
غيرُ واحدةٍ تعرفُ آلامي
لأنها هي ( التي ) مزّقتْ
مزّقتْ ليَ قلبي .
* * *
رقم (23) :
لماذا الورودُ هكذا شاحبةٌ
تكلّمي يا حبّي ! لماذا ؟
لماذا في العشب الأخضرِ
يصمتُ البنفسجُ الأزرقُ ؟
* * *
لماذا تنشِدُ ، بصوت نادِبٍ ،
القُبّرةُ في الهواءِ ؟
لماذا تنبعثُ من عشبِ البلْسمِ
رائحةُ الجيفةِ ؟
* * *
لماذا تَشع الشّمسُ بين آنٍ وآخرَ
باردةً ، عَكِرةَ المِزاج ، نحو الأسفلِ ؟
(و) لماذا الأرضُ رماديّةٌ
خاوِيةٌ كالقبرِ ؟
* * *
لماذا أنا نفسي مريضٌ ، متعكّرٌ هكذا ؟
يا حبيبتي المحببّة تكلّمي !
آهٍ – تكلّمي ! يا أكثرَ الأحبّاءِ حباً لقلبي
لماذا هجَرِتني ( لماذا ) ؟!
* * *
رقم (25) :

شجرةُ " اللِّندَةِ " تُزهرُ ، طائرُ الليل يغنّي
الشمسُ تَضحك بمرحٍ لطيفٍ
عندها قبّلتِني ، وذراعُكِ عانقتني
وضغطتِني إلى صدرك المتورّم
الأوراقُ تساقطتْ - والغرابُ ينعق فارغاً
الشمس تحيّي بنظرةٍ مهمومةٍ
عندما قلنا ، بصقيعٍ ، لبعضنا بعضاً : " الوداع "
عندها انحنيتِ بأدبٍ ، أكثر الانحناءاتِ أدبا .
* * *


رقم (26) :

لقد شَعرْنا الكثيرَ ، حيال بعضنا بعضا
وأيضاً تحمَّلنا ، رائعاً ، بعضنا بعضا
كثيراً ما لعبنا (دورَ) الرّجلِ والمرأةِ
ومع ذلك لم نتشاجر أو نتضارب
بكينا ، ومزَحنا سويّاً
وقبّلنا وأحببنا ، بنعومةٍ ، بعضنا بعضا
وفي النّهاية ، ومن مرحٍ طفوليٍّ
* * *
لَعبنا ، في الغابة والمروج ، لعبة التّخفّي(الغُميّضة)
وعرفنا (جيّداً) كيف نتخفّى
حتى أنّنا لم نستطعْ أن نجدَ ، أبداً ، بعضنا بعضا
* * *
رقم (30) :
بنفسجُ العينين الأزرق
وردُ الخدّين الأحمر
زنبقُ اليدين الصغيرتين الأبيض
لازالت تزهرُ وتزهرُ باستمرارٍ
وحدَه القلب قد جفَّ .
* * *
رقم (33) :

شجرةُ ( الفِشْتِه ) تقفُ وحيدةً .
(هناك) في الشّمال ، على جردٍ مرتفعٍ قاحلٍ
إنها تغفو محُوطةً
بوشاحٍ من الثّلج والصّقيع
* * *
تحلُم بنخلةٍ
في بلاد الشرق البعيد
تتأسّى ، وحيدةً صامتةً
على جدارٍ صخريٍّ مُشْتعلٍ
* * *
رقم (36) :

مِنْ آلاميَ الكبيرةِ
أصنَعُ أناشيديَ الصَّغيرةَ
ترفعُ ريشَها (جناحيها) الصّادح
وتخفِقُ بحسْبِ أهواء قلبها .
* * *
لقد وجدتْ الطريقَ إلى محبوبتي
ولكنها تعود لتشكو
تشكو ، ولا ترغب أن تقول
عمّا رأتهُ في القلب .
* * *
رقم (38) :
بعضُ صور الزمان المنسيِّ
تَصعُد من قُــبَّر ةٍ
وتري ( ني ) ، كيف قُر بكِ
كنتُ أحيا
في النّهار أترنّحُ حالماً
في الشوارع بدون هدفٍ
الناس يَعجبون لمظهري :
كنتُ حزيناً ، صامتاً .
* * *
في اللّيل ، كان ( الأمرُ ) أفضل
فالشوارع فارغات
وأنا وظلّي معاً
نتجوّل ، بصمتٍ ، مُتسَكّعين
بخطواتِ ذوات صدى
أتجوّل فوق الجسر
القمرُ يخترقُ من الغيوم
ويحييّ بنظرةٍ صارمةٍ .
* * *
توقفتُ أمام منزلكِ
وتجمدتْ نظراتي نحو الأعلى
تجمّدتْ نظراتي نحو نافذتكِ
وقلبي أوجعني كثيراً .
* * *
أعرف ، أنك كثيراً قد نظرتِ
من نافذتكِ نحو الأسفل
ورأيتني ، كالعمود ، واقفاً
تحت أنوار القمر.

* * *
رقم (39) :

فتىً أحَبَّ فتاةً
لكنها اختارت آخرَ
الآخرُ أَحبّ أخرى
لكنه اختار هذه
الفتاةُ تزوجَّت غضباً
أوّل أفضل الرجال
الذين عَدَوْا في طريقها
الفتى في وضعٍ سيِّئٍ .
* * *
إنها قصةٌ قديمةٌ
ولكنها تبقى جديدةً
ومَنْ تحصلُ له
ينشطر قلبُهُ إلى نصفين .

رقم (40) :

أسمعُ النشيدَ يصدح
- الذي كانت الحبيبة تغنيّه -
ير يد صدري أن يتمزّق
من اندفاع الألم الوحشي
يدفعني شوق قاتم
إلى الأعلى ، إلى أعالي الغابة
هناك ينحلُّ إلى دموعٍ
ألميَ العظيم .
* * *
رقم (47) :

لقد عذبوني
أزعجوني (حتى ) الازرقاق والشُّحوب
بعضُهم بحبّهِ
وبعضهم ببغضهِ .
* * *
لقد سمّموا رغيفي
صبّوا السُّمَّ في كأسي
بعضهم بحبّهِ
بعضهم ببغضهِ
لكن التي عذّبتني .
أزعجتني عكّرتني أكثر ( من الجميع )
لَمْ تكن تبغضني
لم تكن تُحبني .
* * *
رقم (49) :

عندما يفترق اثنان
يمدان اليد لبعضهم بعضا
ويأخذان بالبكاءِ
وبالتنهُّد بدون انقطاع
نحن لم نبكِ
ولم نـتنهّدْ من الأسى
الدموعُ والتَّنهدُ
جاءا بَعْدَ ذلك .
* * *
رقم (47) :

مُسمَّمةٌ أنا شيدي
كيف يمكن للأمر أن يكون غير ذلك ؟
لقد سكبتِ لي السُّمّ
في حياتي المزْهرة
مُسمِّمةً أناشيدي
كيف يمكن للأمر ، غير ذلك ، أن يكون ؟
أحمل الكثير من الأفاعي في قلبي
وأنتِ ( أيضاً ) يا حبيبتي !
* * *
رقم (48) :

الشّمس الحارّةُ ترتمي
فوق خدِّيكِ الصّغيرين
الشّتاءُ الباردُ يرتمي
في قلبكِ الصغير .
* * *
( لكنّ ) هذا سيتبدّلُ عندَكِ
يا من أحبّها كثيراً !
الشتاءُ سيكون في الخدِّين
والشمسُ ستكون في القلب .

رقم (57) :

في ليلة الخريف العاصفةِ
تعوي الريحُ وينصبُّ المطرُ
أين يمكن الآنَ
أن تكونَ صغيرتي المسكينةُ ؟
إنني أراها متَّكئةً على النَّافذةِ
وحيدةً في حجرتها الصّغيرةِ
العين ممتلئةٌ بالدموع
ونظراتها المتجمّدةُ تحدِّق في الليل .
* * *

رقم (58) :

ريحُ الخريف تهزُّ الأشجارَ
الليلُ رطبٌ وباردٌ
مُتَوشّحاً بمعطفٍ قاتمٍ
أمتطي وحيداً إلى الغابة .
* * *
وعندما أمتطي ، تمتطي أفكاري
وتسبقني ( إلى هناك)
إنها تحملني خفيفاً ، هوائياً
إلى منزل حبيبتي
الكلابُ تنبحُ ، والخدمُ يظهرون
بشموعٍ مرتجفةٍ
أقتحم الدّرجَ الحلزونيَّ صاعداً
(يرافقني ) أزيزُ مهمازيَّ
* * *
في المخدع ذي السّجاد الزاهي
( أشعر ) بالدفء والطيوب
هناك ، تتجمّدُ ، غاليتي - دهشةً -
وأرتمي بين ذراعيها
الريح تعصف بأوراق الأشجار
وشجرة البلّوط تقول ( لي ) :
ماذا تبغي ، أيها الفارسُ الأحمقُ
بحلُمك الأحمقِ هذا ؟

* * *
رقم (61) :

منتصف الليل كان بارداً ، صامتاً
وكنت تائهاً أتسكّع ، في الغابة ، شاكياً
لقد هززتُ الأشجارَ في نومها
فهزتْ رؤوسها تعاطفاً (معي) .
* * *
رقم (64) :

ليلٌ استلقى على عينيَّ
رصاصٌ استلقى على فمي
بدماغٍ وقلبٍ متجمّدين
استلقيتُ في قعر قبري
* * *
منذ متى قد غَفوتُ ؟
لا أستطيع أن أقول
لقد استفقتُ وسمعت
كيف كان يُدقُّ على قبري
" ألا ترغبُ بالنهوض ( يا ) هايْنرشْ؟
اليومُ الأزليُّ ينبثقُ
والأموات يقومون
والفرح الأزليُّ يبتدي "
* * *
حبيبتي ! أنا لا أستطيع النهوض
لم أزل أعمى
انطفأت عيناي تماماً
من كثرة البكاء
" سأقبلك (يا) هاينرش
ليمضي الليل عن عينيكَ
لتستطيع رؤية الملائكة
وبهاءَ السماء أيضاً "
حبيبتي ! لا أستطيع النهوض
لم يزل ( الجرحُ ) ينزف
حيث طعنتِني في القلب
بكلمةٍ حادةٍ
" بهدوءٍ تامٍ أضعُ _ (يا) هاينرش _
يدي على قلبكَ
عندها سيتوقف النَّزفُ وتشفى من الآلام "
* * *
حبيبتي ! لا أستطيع النهوض
إن رأسي ينزف أيضاً
لقد أطلقتُ فيه النارَ
عندما اختُطِفت منّي
" بجدائلي - ( يا ) هايْنرِشْ ! -
سوف أدكُّ جرحَ رأسكَ
وأدفعُ تيارَ الدماء
وأجعلُ رأسَكَ سليماً "
كان الرجاءُ ناعماً محبّباً
لم أستطع مقاومته
رغبتُ بالنّهوض
لأمشي إلى الحبيبة
عندها انفتحتْ جراحي
وانصبَّ - بقوّة متوحّشةٍ
من رأسي والصدر - تيّارُ الدّم
وانظرْ ! لقد استيقظتُ .
* * *

" احتفالٌ ربيعيٌّ

تلكَ هي لذّةُ الرّبيع الحزينة :
الفتياتُ المُزهِراتُ
- السّرب الوحشيُّ -
يندفعن بشعرٍ مائجٍ
وبنحيبٍ حزين ، وصدور عارية " ( ينشدن ):
أدونيس ! أدونيس !
* * *
الّليلُ يهبط
وتحت أنوار المشاعلِ
يَبحثنَ في الغابةِ
جيئةً وذهاباً
صدى الفوضى الخائفة
من البكاء والنّحيب والصُّراخ ( يُردّدنَ ) :
أدونيس ! أدونيس !
* * *
ذلك الفتى ، رائعُ الجمال
ملقيّاً ، على الأرض ، شاحباً وميتاً .
الدَّمُ يصبغ كلَّ الأزاهير بالأحمر
وصُراخ الشّكوى يملأ الهواءَ ( مردّداً ) :
أدونيس ! أدونيس !

******************************













مقدمة لقصيدة ( اللُّورَهْ لايْ )
للشاعر الألماني " هايْنْرِشْ هايْنِه "

تتألف القصيدة الشهيرة من ثلاثة مقاطع ، يضم كل منها ثمانية أشطرٍ ، وهي مستمدّة من حكاية خرافية شهيرة حول نهر "الرَّاين" العظيم ، الذي يطلق عليه الشعب الألماني ، بحبّ واحترامٍ لقب " الراين الأب " .
ومن الحكايات الخرافية العديدة ، التي تتناقلها الألسن وكُتِبتْ في الأدب الشعبي حول هذا النهر ، تحتل الحكاية الخرافية " اللّورهْ لايْ " مكانةً مرموقة وانتشاراً عظيماً جعلها معروفة حتى للتلاميذ الصغار .
والموقع الذي تتحدث عنه الخرافةُ ، وكذلك قصيدة "هاينرش هاينه" الشهيرة حوله هو موقع خرافيٌّ حقاً ، وبخاصة عند هبوط الظلام ، حيث ترتفع الصخور القاسية ، شديدة الانحدار ، بشكل مخيفٍ ، حول موقع معوّج في مجرى النهر ، الذي تندفع فيه المياه بسرعةٍ وبعنفٍ أدّى في الماضي إلى وقوع العديد من حالات الغرق للمراكب الصغيرة وبالتالي لنشوء الخرافة – ولا يزال هذا الموقع - حتى اليوم - يشكل منطقةً خطِرةً في طريق المراكب التي تعبر النهر صاعدةً أو هابطةً.
وقد تعرّفتُ المكانَ الشهير هذا ، إبّان دراستي في ألمانيا (غ) ، كمـا أتيحت لي الفرصة ، منذ وقت ليس بالبعيد ، أن أجد لي غرفةً في فندق صغيرٍ حديثٍ أقيمَ فوق المرتفعَ منذ زمن ليس بالطويل ، حيث عشْتُ أجواءَ هذا المكان الموحشة والرهيبة في العتمة وتحت ضياء النجوم الباهتة وصراخ البوم وغناء " طائر الليل " .
والقصيدة هذه - وهي من منهج دراسة الأدب في ألمانيا في المدارس - كانت تقدَمُ إبّان الحكم النازي - الهتلريّ للتلاميذ بدون ذكر اسم الشاعر - الشاعر مجهول - وهو أمر محزن ومضحك في آن واحد معاً لأن الجميع يعرف القصيدة ويعرف اسم كاتبها أيضاً ، وبالرغم من إحراق كتبه عام (1933) ، في تلك المرحلة العاتمةِ من تاريخ " شعب المفكرين والشعراء " كما يطلقون ، بفخارٍ ، على أنفسهم .





" خرافةُ اللُّوَرهْ لايْ " :
تقول خرافة" اللّوره لاي " وبشكل مبسّط ومختَزل ما يلي :
في موقع على نهر " الراين " يقع في أعلى مدينة كوبلنز Koblenz - تقع صخرة (اللّوره لايْ) العظيمة ، مطلّة على النهر في انحدار شديد .
وفي الليالي الصافية المقمرة ينظر البحار ، الواقف في قاربه الصغير ، بقلقٍ نحو الأعلى آن يَصلُ الموقع هذا ويسمع نشيد حورية الماء ذات الجمال الخارق والشعر الطويل الذهبي ، يأتيـه من هناك ، فيجد نفسه مصغياً بلهـفٍ ، مسحوراً مما يرى ويسمع ، فيسهو عن الخطر ويترك الأمواج الصاخبة تلهو بقاربه وتقذف بهما إلى الموت على الصخور الحادة الضخمة . ويتلاشى الغناء العذب مع اقتراب شعاع الصباح الأول .
وتعود الحوريّة لتجلس على الصخرة من جديدٍ ، تنظر حالمةً إلى البعيد ، وتطلّ إلى النهر باحثةً عن أُضْحية جديدةٍ ستكون الآن بحاراً شاباً جميلاً يلقي بنفسه في الأمواج الهادرة مشدوداً بسحرها بأعين غائمةٍ وحسٍّ مُخدَّر ونشوةٍ قاتلة .
هذا الشاب هو ابن أمير المنطقة الذي صعقه خبرُ موت ابنه وأمرَ بإحضار الساحرة (اللّوره لايْ) حيةً أو ميتةً إليه .
وطلبَ قائد البعثةِ - الذي انطلق في طلَبها- من أميره أن يسمحَ له بإلقائها من أعلى الصخور إلى النهر لتواجه الموت الأكيد ، لأنها ستكون قادرةً على التّخلص من الأسر بسحرها ، فوافق الأمير .
ووصلت جماعة الأمير المسلّحة الموقعَ . وبصعوبة بالغةٍ تسلّقت الصخورَ نحو الأعلى في جنح الظلام الهابط . وكانت الحورية تمشط شعرها بمشطٍ ذهبيّ عندما شاهدتْ الخطرَ المحيط بها وسألت ، باحتقـار ، عمّا يفعله أبناء الأرض الضّعفاء في هذا المُرْتَفَعِ .
فأجاب القائد : جئنا لنلقي بك أيتها الساحرة إلى أعماق النهر
- ولكن أبي " الرّاينْ " سيحضر بنفسه ليأخذ ابنته إليه . قالتْ : ساخرة ، وقد انتزعت وشاح الجبين وألقته إلى التيار في الأسفل وأخذت تنشد أغنيتها الغريبة :
" أبي !
أسرع ! أسرع !
وأرسل خيولَك البيضاء لطفلتك !
إنها ترغب الركوبَ على الأمواج والريّاح "
ترجمة قصيدة " اللُّوره لاي " للشاعر الألماني " هايْنرِشْ هاينه " :

لا أدري ما الذي يعنيه
أنني اليوم ، هكذا ، حزينٌ تماماً
خرافةٌ من زمنٍ قديمٍ جداً
لا تغادر وعيي
الهواءُ باردٌ والعَتمة تنتشرُ
وبهدوء يجري ( نهر ) الرّايْنْ
بريقٌ على قمة الجبل
يسطُع في شعاع شمسٍ غاربةٍ
أجمل العذراوات تجلس
بروعةٍ ، هناك في الأعلى .
عِقدها الذهبيّ يسطُع
وهي تمشّط شعرَها الذهبيَّ
تمشّطه بمشطٍ ذهبيٍّ
وإبّان ذلك ، تغنّي بلحنٍ عجيبٍ
له إيقاعٌ هائلٌ .
البحّار في مركبه الصغير
يتملّكه شوقٌ وحشي (عارمٌ)
لا ينظر إلى نتوءاتِ الصّخورِ
إنّما ينظر ( مشدوهاً ) إلى الأعلى فقط
وأحسب أن الأمواجَ تبتلع
في النهاية البحارَ والمركبَ
وهذا ما فعلته " اللوره لاي "
بغنائها ( الساحر ) .
ترجمة عن الألمانية
د.شاكر مطلق


الفصل الأخير للختام
أين هـايْنرش هاينه ، في وطنه الأم
( ألمانيا ) ، اليوم ؟

في إحدى زيارتي لألمانيا ، في تشرين أوَّل 1997 - التي درست فيها الطب وتخصصت في أمراض العيون وجراحتهـا، وعملت فيها عدة سنوات بين (1972-1958) - أخذتُ أبحثُ في مدن عديدة مثل برلين - هامبورغ - هانوفر - شويرين ... الخ عن مدى استعداد الناس ، أو على الأقل ، المثقفين منهم لاستقبال الشاعر المشاكس (هاينرش هاينه) بعد مرور قرنين على ولادته .
كذلك بحثتُ في المكتبات الكبرى وفي الصحافة المطبوعة والمرئية عن ذلك .
ملخص القول : الناس في وادٍ وهاينه والأدب بعامة ، في وادٍ آخر . صحيح أن هنـاك العديد من دور النشـر الكبيرة والصغيرة وفي طليعتها ، وبالطبع، دار نشر "هوفمان وكامبـه" - في هامبورغ - التي نشرت للشاعر هاينـه ديوانه الأول " كتـاب الأناشيد "عام (1827) وكل ما ألفــهِ الشاعر أصدرتْ بهذه المناسبة كتباً عنه سواء إعـادة طبع لأعمال معينـة أو ( مجموعة رسائله ) أو أعماله الشعرية الكاملة أو دراسات حديثة عن حياته في ضوء الأبحاث المستمرة ، وعن موقعه الأدبي كما في الكتاب الضخم عن حياته ، الذي ألّفه " فريتس ي. رادّاتس " Fritz J. Raddatz - ويقع في 392 صفحة من القطع الكبير وسعره حوالي أربعة آلاف ليرة سورية
( الناشر Beltz Quadriga ) وغيره ، ولكن الصحيح أيضاً أن (هاينه) لا يزال ، كما كان في حياته ، الشاعر الذي سمع به الجميع ولا يعرفه إلا القلائل ، وذلك بالرغم من أن العديد من أشعاره الرومانسية قد تم تلحينها وغناؤها وانتشرت شعبياً بقدر أو بآخر ، غير أن قراءته في العمق ، لا تزال تشكل صعوبة وإشكالية للدارسين ، بسبب ذلك التناقض ، غير المفهوم بسهولة ، في إنتاجه وفي تصرفاته .
لقد غنّى (هاينه) ، شأنه شأن عشرات شعراء الرومانسية قبله ، بعضَ المواضع الشاعرية في ألمانيا وفي مقدمتها موقع صخرة ( اللوره لاي ) (Die Lora Ley) التي نُسجت حولها الأساطير ، وقد أشرنا في هذه الدراسة لذلك ، أو جمال جزيرة (هيلغولاند) - Helgoland - أو غابات منطقة (الهارتس) - Harz - فائقة الجمال ، غير أنه سخر في نصوص أخرى من تلك العواطف المطاطة حيال مثل هذه المواقع ، التي غناها يوماً بمئات القصائد وآلاف الأبيات ليحطّم ، عامداً ، الأسطورة في الأذهان ، الأمر الذي دفع بالكاتب المفكر أدورنو (Adorno) لأن يتحدّثَ مؤخراً ، عن (الجرح هاينه) ذلك الذي " سلب الألمان لغتهم ، كما سلبَهم تلك السكينة أو الاستكانة الوطنية (التي يشيدون بها) في لغتهم " ....



E-Mail:mutlak@scs-net.org