المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المفارقة في القصة القصيرة جدا "مظلة في قبر" لمصطفى لغتيري نموذجا عبد الرحمان مولي



مصطفى لغتيري
18/04/2007, 01:40 AM
المفارقة في القصة القصيرة جدا .
"مظلة في قبر" لمصطفى لغتيري نموذجا.
عبد الرحمن مولي.
إن القصة القصيرة جدا فن من فنون السرد يمتاز بقدرته على التكثيف الدلالي وإثارة التأويلات المختلفة ، وعنصر المفارقة فيها يحكم استراتيجية النص التي يبغي الكاتب أن يبرزها بوعي ، كما أن عناصر هذا الفن تتمثل في الحكائية والوحدة والتكثيف والمفارقة .
وتسعى القصة القصيرة جدا من خلال أسلوب سردي غني بالجمل الفعلية القصيرة إلى تعميق إحساس القارئ بالناس وبالأشياء من خلال استخدام الأديب لأدوات تعبيرية خاصة كأسماء الأعلام ذات الرصيد الثقافي والتاريخي وغير ذلك ، واستفادته من اللون والإيقاع النحوي والتركيبي .
وسأدرس في هذه الورقة عنصر المفارقة في المجموعة القصصية القصيرة جدا : " مظلة قي قبر" للأديب مصطفي الغتيري ، لما لعنصر المفارقة من أهمية بالغة في البناء السردي للقصة ، وذلك من خلال ستة نماذج .. وقبل ذلك لا أرى ضيراً من تحديد مفهوم المفارقة، فهي تعتمد على مبدإ تفزيغ الذروة وخرق المتوقع، حسب رأي الدكتور يوسف حطيني، كما أنها تسعى إلى استنبات الدهشة وتشييد مناخات متباينة بين الواقعة وتمخضاتها، فهي الحامل لأجنة المغاير ونوايا الأضداد المتجاورة حين تتقافز للظفر بالنشوة.
وكثيرا ما تحتاج المفارقة، وخاصة مفارقة الموقف أو السياق إلى كد ذهني وتأمل عميق للوصول إلى التعارض بين المعنى الظاهر والمعنى الخفي الغاطس في أعماق النص وفضاءاته البعيدة.
ولابد من الإشارة هنا إلى أن صاحب هذه المجموعة كاتب متمرس مهووس بانتقاء الكلمة ذات الوقع البديع الأخاذ والدلالة الموحية الغنية، الشيء الذي جعله يخوض غمار القصة القصيرة جدا وبنجاح كبير، يجعل عمله هذا عملا متميزا بحق.
العنوان في المجموعة "مظلة في قبر" يحتوي على مفارقة مصدرها التباين الشديد بين المظلة والقبر، مما يفتح المجالات لتأويلات القارئ ولخيالاته وتصوراته محاولا الربط بين المظلة والقبر، ثم إن المظلة في القبر الذي هو حضن الموتى، يغدق عليهم سكينة وراحة.. ثم إن المجموعة عنوانها ليس عنوان قصة قصيرة جدا من القصص كما جرت عادة الكتاب أن يفعلوا عادة..
أما النماذج التي نرصد المفارقة فيها فهي كالتالي: المرآة- المومياء- دخان أسود- الكلب- نيزك- المتشائل.
1- المرآة:
إن الكاتب هنا يدخلك عنصرا في القصة وشخصا يواجه مرآة ينظر إليها، فلا يرى إلا خواء.. وحين تحاول أنت إعادة النظر لا تظفر برؤية وجهك، لتتبين أن المرآة هي التي تتأمل وجهها فيك... والمفارقة هنا رصد الكاتب لهذه الممارسة اليومية العادية عند كل الناس بالمقلوب .. فهو يجعل المرآة تحل محل الإنسان فيصبح هو عاكسا لها..
إنها صورة قصصية سردية لعلاقة الإنسان بالأدوات العادية وارتباطه بها، فماذا يحدث لو استخدمت هي الإنسان بدل أن يستخدمها هو لصالحه؟ تلك هي المفارقة؟
2- المومياء:
يستلهم الكاتب هنا شخصيتين اثنتين من التاريخ الإنساني: نابليون الغازي لمصر، وكليوباترا رمز الجمال والحب عند المصريين القدامى... ليجمع بين الشخصيتين المنتميتين إلى عصرين مختلفين.. فنابليون يريد أن ينسج قصة حب صحبة كليوباترا، وعندما يبحث جاهدا لتحقيق مبتغاه، يقتنع أنه ليس بوسعه السباحة في النهر مرتين..
والمفارقة أن يحمل المومياء بدل كلوباترا ويعود بها إلى فرنسا، لقد أقصى الكاتب فارق الزمن بين الشخوص، ثم جعل نابليون يستبدل كلوباترا الجميلة بمومياء مص الزمان دماءها ولم يعد فيها من الحسن شيء. فهو لكي ينسج المفارقة استوحى شخصياته من التاريخ لكي يشيد به حكايته ليبهرنا في النهاية باكتفاء نابليون بالمومياء، تاركا للقارئ مجالا خصبا لإعمال خياله فيما يمكن أن يوحي به هذا الفعل.
3- دخان أسود:
هذا النص من النصوص القليلة جدا في المجموعة التي احتوى عنوانها على كلمتين بدل كلمة واحدة.. وفيه أيضا يستحضر الكاتب شخصية (نايرون) المعروف بأنه أحرق مدينة روما لينتشي برؤية اللهب ويتلذذ بالعزف على قيثارته بينما تحترق المدينة..
والأديب هنا يوقف الزمان في لحظة الإحراق، ومن هناك يلتقط حوارا يجري بين شخصين من الأهالي القريبين من روما وهما يناقشان أمر الدخان المتصاعد..
والمفارقة أنهما لا يهتديان إلى أن روما تحترق ولكن إلى أن الكرادلة لم يتفقوا بعد على خليفة للبابا لأن الدخان كان أسود..
فالناس هنا يفهمون الأحداث والوقائع من خلال تكوينهم العلمي، وتصوراتهم الذاتية وقد يذهبون في ذلك إلى ما يحدث المفارقة
4- الكلب:
هنا يثور الكلب لأن صاحبه أحكم وثاقه؛ فيشفق عليه الرجل ويفك الوثاق لينطلق الكلب بحرية يعدو في كل اتجاه ليعود بعد مدة ويتوجه مباشرة إلى وثاقه..
فالمفارقة هنا بينة تثير كل دهشة عندما يعود الكلب بمحض إرادته صوب الوثاق- (فراشة تسعى إلى النور وفيه الفناء)..
وهي مفارقة فيها إشارة إلى جزء من معاناة الإنسان المعاصر الذي يجهد نفسه كثيرا في العمل من اجل تحقيق أمل يكبله بقيود كان يمكنه أن يتجنبها بسهولة.
5- نيزك:
الجدة في حوارها مع المتكلم ترى في الضوء الذي يمرق في الفضاء بسرعة خاطفة ثم يختفي، ترى فيه نجمة سقطت وعمر أحد ما انقضى..
وعندما يشرح لها المتكلم الأمر ترى أن الكتب قد أفسدت عقله.. هنا نقف عند اختلاف الرؤى والتناقض في العقليات وتشبث الأجداد ببعض المفاهيم الغير المتصلة بالعلم، وهي ظاهرة إنسانية مثيرة للجدل..
6- المتشائل:
في قصة المتشائل تكون المفارقة في الشخص الذي ينظر إلى نصفي الكأس معا، نصفها الممتلئ ونصفها الفارغ فيجتاحه مزيج متناقض من الأحاسيس.
فهو متفائل لأن نصف الكأس مليئة، وهو متشائم لأن نصفها الآخر فارغ.
هذا يمثل ما يجتاح الإنسان المعاصر من تناقضات في المشاعر اتجاه ما يعيشه يوميا من أحداث ومشاهدات قد تسعده وتحزنه في نفس الوقت، فهو في حياته اليومية منقسم بين سعيد وشقي وبين متفائل ومتشائم.
هذه نماذج من القصص ذات المفارقات الباهرة البينة، التي تجعل من قراءتها وغيرها ممتعة لمن يبحث عن جمال الكلمة وجمال الرؤيا وجمال السياق.. خاصة وأنها سيقت بلغة بليغة شاعرة تميز لغة القصة القصيرة جدا عند الكاتب مصطفى لغتيري ومن ينحو نحوه من أدبائنا.


ألقيت هذه الورقة في لقاء القصة القصيرة جدا بالصالون الأدبي يوم السبت 14 أبريل 2007

عبدالله بن بريك
08/01/2013, 03:44 PM
تحليل مفيد ، يترصد أنواع القفلات و دورها في البناء السرديّ للقصة القصيرة جدّاً.

شكراً للناقد "عبدالرحمان مولي"على هذا المجهود الطيب.و تحياتي للمبدع "مصطفى الغتيري"