المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (محنة قرية ) قصة : جوفاني فرجا / ترجمها عن الأيطالية : نهاد عبد الستار رشيد



نهاد عبد الستار رشيد
23/10/2006, 07:26 AM
قصة قصيرة

(( محنة قرية ))
بقلم: جوفاني فرجا
ترجمها عن الأيطالية : نهاد عبد الستار رشيد




" بيان عن ثورة البركان ! السنة اللهب باتجاه نيكولوسي ! " كان الحشد يندفع بسرعة صاخبة من الضواحي ،سيرا على الأقدام ، او على صهوات الخيل ، او في عربات نقل ، او باية طريقة ممكنة . كانت هناك ثمة زوبعة من الغبار الكثيف على امتداد المنحدر ، ووسط خضرة مزارع الكروم ، ترسم خط الطريق المتعرج . كانوا يلتقون عند كل ممر بعربات هابطة من القرية المهددة ، محملة بامتعة بيتية ، ومؤن واخشاب وحتى بمصاريع النوافذ والأبواب ودرابزونات الشرف ، وبكل ما تتطلبه عملية اخلاء قرية توشك على الأندثار . كان مع الأمتعة ، في عربات النقل ، او سيرا على الأقدام ، رجال ونساء متجهمين ، حاملين على اذرعهم اطفالأ هُجّعا ، ذوي وجوه متوهّجة من شدة الحرارة المتقدة واللهاث . من بيوت القرويين داخل المجمّعات السكنية المتناثرة ، على امتداد الطريق ، اطلّ السكان لمراقبة المشهد ، واضعين ايديهم على بطونهم ؛ ثمة عجوز كانت تعلق صورة رائعة على عضادة باب او مدخل بستان للخضر ؛ اولاد الشوارع الأوغاد الذين كانوا يلعبون على الأرض مبتهجون ؛ وعلى الأبواب المشرعة للكنائس الصغيرة ، كان تمثال القديس الشفيع يتلألأ تحت المظلة الصغيرة مثل شبح رهيب بشموعه المطفأة ، وامامه الأزهار الورقية . كان يتم تفريغ جميع حمولات العربات من الألواح الخشبية والمناضد في الساحة الصغيرة عند برج ( الكريفو ) لأقامة اكواخ اللاجئيين. كانت مضخات الأطفاء تتراجع مهرولة الى الوراء ، مصحوبة باهتياج عربات المدفعية ذات العجلتين ؛ وفي الجانب المقابل ، كان البركان يقذف سبائك اللهيب بقوة في الجو ، الى ارتفاع خمس مئة متر ،من وراء حجاب هائل من الرماد البركاني ، مصحوبة بدوي تحت سطح الأرض .
كان هناك ، عند مدخل البلدة الصغيرة ، اعاقة غير اعتيادية من العربات ، والخيول ، والأهالي الذين يتصارخون ، والجنود من حملة البنادق الذين شدّوا الأحزمة على اكتافهم وصدورهم كأنهم طليعة جيش مهزوم . كانوا يسيرون على تربة رملية سوداء ، بين صفين من البيوت غير المنتظمة ، الخالية من الآثاث، والمخلوعة الأبواب والنوافذ . ما يزال الناس ينقلون الأمتعة الشخصية بسرعة وصخب . من شرفة دار جديدة كانوا قد نزلوا فيها ، ارتفع صياحهم – ماأوسعها ! – خزانة الثياب الفخمة . لا تزال عجوز تقوم برعاية عدد من الدجاجات ، تجلس على سلّة في ساحة معزولة باطواق واضلاع البراميل . كان شخص بائس يتطلّع هنا وهناك ، الى المنازل الخالية من الأبواب ، ويدير ظهره الى الغرف الصغيرة الخالية ، وينتظر باكتئاب من دون امل ، في صمت مطبق ، كما لو كان مشرفا على الموت في ردهة الوفيات . انتظمت ، على رصيف النادي الريفي ، بعض السيدات على صفين من الكراسي ، وقد حضرن لرؤية المشهد . استعانت السيدات بمراوح يدوية ، لأبعاد دخان سجائر الرجال ، وهناك ثمة حاوية ( آيس كريم ) ، كانت تطوف هنا وهناك ، بماء بارد منعش ، وظُلّة القربان المقدس ، برماحها داخل الحزمة ، متكئة على الجدار ، وباب الكنيسة المقابلة مفتوح على مصراعيه ، عدا تألق حزين للقديسين المطليين بالذهب في نهاية المذبح . هناك فوق برج الأجراس ، فوق الصخب ، فوق الضجيج ، فوق اصوات البركان المدوية ، كان الجرس يقرع للمواكب ، دون ان يتوقف لحظة واحدة .
الى الشمال باتجاه الجبل البركاني ( اتنا ) ، كان الطريق العام يمتد وسط صفين من شجيرات الرتم ، وقد احتشد بفضوليين لغرض المشاهدة ، كانوا يضحكون ويثيرون الضجيج ، وينادي بعضهم البعض الآخر من بعيد ، وبالصيحات المكبوتة للسيدات المترنحات على سروج البغال غير الثابتة ، وبنداءات باعة المشروبات الغازية والجعة والبيض والليمون ، تحت الخيام التي نُصبت بسرعة . كانوا يسمعون اولئك الأكثر بعدا حين يصلون الى اعلى المرتقى الشديد الأنحدار ، فيطلقون صيحة جذلى ، ها هو ذا ! ها هو ذا !
في الجهة المقابلة الى اليمين والى اليسار ، على مدى البصر ، كالسد الشامخ على شاطىء اسود شديد الأنحدار ينبعث منه الدخان انتشرت فيه الأخاديد التي تتخللها شقوق متوهجة ، كان تيار الحمم – يحدث منها دمارا مصحوبا بقعقعة حادة لمواد مخاطية من اشجار جوز الهند التي ربما تكون ازهارها قد بدأت تتفتح ، تهتز مرة اخرى لنسيم المساء ؛ ثمة نساء يتشبثن باذرع رفاقهن في السفر، ويرتجفن بابتهاج ؛ تشتت آخرون في حقول الكروم ، على امتداد طريق التيار المنذر بالخطر ، كانوا يقفزون فوق الحواجز الجدارية الواطئة ، ويتخطون الحفر وثبا ، والنساء يمسكن تنانيرهن بايديهن ، وتصدر البراقع والمظلات الشمسية تموّجا لانهائيا ، فيما كان الشفق يحتضر في الغرب ، وكانت البحرية ، مع ذلك ، تتفرق بعيدا ، وكان السيل العارم من الحمم ، في ذلك الوقت ، يتوهج في الأفق المعتم . كان ضجيج الأجراس ، وغماغم مشوشة وكئيبة ، وسرب حشرات مضيئة ، من اليراع المتنقل ، تأتي باستمرار من البلدة الصغيرة الضائعة في الظلام . ثم ظهر من ظُلمة الطريق ، موكب غريب ، من الرجال والنساء ، حفاة ، يضربون على الصدور ، وينشدون ترانيم مقدسة باصوات خافتة ، ونبرة ملحة وحزينة ، لايفهم منها سوى – الرحمة ! الرحمة ! . وكان فوق الحشود السوداء ، التي لا يمكن تمييزها من اولئك التائبين ، بين اربعة مشاعل في جو مفعم بالدخان ،تمثال خشبي للسيد المسيح ، سوّده الدخان ، يبدو صارما ، متجهما ، ومتأرجحا على مناكب الرجال الذين كانت اقدامهم تغوص في الرمال .

اشرف الخريبي
10/11/2006, 08:17 PM
في الجهة المقابلة الى اليمين والى اليسار ، على مدى البصر ، كالسد الشامخ على شاطىء اسود شديد الأنحدار ينبعث منه الدخان انتشرت فيه الأخاديد التي تتخللها شقوق متوهجة ، كان تيار الحمم

هل ترى ياسيدى ذاك التوصيف الفنى وتجسيد المشهد البنائى بهذا العبق المزدحم بمفردات موحية تضعك داخل المشهد وكأنك جزء من البنية الفنية هذا الى جانب جمال النص وفكرته اجمالا



اعجبتنى عباراتك التى لا اعرف كيف انتبهت الى هذه الدقة فى تحويل المفردة بغاية البساطة الى ذهن المتلقى
فقط تحياتى القلبية لك وهنيئا لى بك

اشرف

د- صلاح الدين محمد ابوالرب
10/11/2006, 09:16 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
سيدي الفاضل
ترى من هو المبدع صاحب الفكرة ...او الذي استطاع ان ينقلها ببراعة الى لغة أخرى
ابدعت ايها المبدع

نهاد عبد الستار رشيد
11/11/2006, 03:07 PM
استاذنا العزيز اشرف


اشكرك كثيرا على اطرائك اللطيف ... ان ترجمة الأعمال الأدبية ، وعلى وجه الخصوص ، اعمال القاص فرجا ، لا تقتصر على نقل المعنى او الأسلوب فحسب ، بل ينبغي نقل الأثر ، اذ تتميز اعمال هذا القاص العظيم بناحية جمالية هي النتيجة النهائية للغة والمعنى والأسلوب ، وهي تظهر في تأثير عمله الأدبي في القارىء الأيطالي ، والمترجم الناجح هو الذي بوسعه ان ينقل هذا الأثر الجمالي الى المتلقي .
مع الود والتقدير ، واتمنى مزيدا من التواصل .
نهاد عبد الستار رشيد
مترجم وقاص وصحفي مستقل

نهاد عبد الستار رشيد
11/11/2006, 03:30 PM
الدكتور العزيز صلاح الدين ابو الرب

كثيرا مايجد الكاتب شيئا من المتعة عند نشر اعماله الأبداعية ، ويراها قد اصبحت في متناول القراء ، الا ان هذا القدر من المتعة يكتمل حين يصبح الكاتب قارئا لملاحظات القراء على ما نشر . عندها فقط تصبح المتعة قد اكتملت ، والفائدة قد اكتسبت .
مع فائق التقدير
نهاد عبد الستار رشيد
مترجم وقاص وصحفي مستقل