المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العالم الحكائيّ في "الدراويش يعودون إلى المنفى" لإبراهيم درغوثي



محمد نجيب العمامي
23/10/2006, 01:43 PM
تمهيد
يدرك متتبّع الإنتاج الرّوائيّ في تونس ظهور تيّار نزع أصحابه، شأنهم في ذلك شأن نظراء لهم في سائر بلاد العرب، إلى ارتياد آفاق لم يبلغها أسلافهم وإلى البحث بحثا واعيا عن طرائق تشكيل تطمح إلى الخروج عن المألوف وتعمل، وإن بدرجات متفاوتة، على الإفادة من الإنتاج السّرديّ الغربيّ المعاصر والتّراث القصصيّ العربيّ في محاولة لتجاوزهما جميعا وإنشاء نصّ روائيّ له طابعه المميّز. وكان من نتائج هذا المسعى أن غاب "التّعاقب السّرديّ الهادئ الرّصين المعبّر عن طمأنينة النّفس وتناسق الأشياء ضمن عالم موحّد ثابت" فتوتّرت العلاقة غالبا بين السّرد والمسرود وظهر لدى بعض الكتّاب ولع بالخطاب وتقنيات السّرد أدّى إلى تهميش ما يسمّى بالمحتوى السّرديّ أو العالم الحكائيّ . وقد ارتأينا أن نجعل هذا العالم الحكائيّ مدخلنا إلى دراسة "الدّراويش يعودون إلى المنفى" أولى روايات إبراهيم درغوثي المنشورة. ولا يردّ هذا الاختيار إلى قلّة الدّراسات حول هذه الرّواية فحسب وإنّما يردّ خاصّة إلى ما بدا لنا فيها من احتفاء بالشّكل الفنّيّ تجلّى في وفرة النّصوص الواقعة على هامش المتن وفي تقسيم هذا المتن إلى أبواب وفصول وظهر في تعدّد الرّؤى ومراكز القصّ ومحاوره وفي البناء الزّمنيّ للأحداث. وبرز في تطعيم الكتابة القصصيّة بموادّ مختلفة منها الواقعيّ والأسطوريّ والخرافيّ والتّراثيّ وفي إشراك المرويّ له إشراكا فعليّا في عمليّة إنتاج النّصّ الرّوائيّ وفي إرباك القارئ وإزعاجه وحمله على التّخلّي عمّا ألف من عادات القراءة.
هذا الاحتفاء بالشّكل الفنّيّ الذي ألمعنا إلى بعض مظاهره دفعنا إلى البحث عن منزلة العالم الحكائيّ في هذا النّصّ حتّى ندرك العلاقة بينه وبين الخطاب السّرديّ ودورها في إنتاج معاني الرّواية.
مكوّنات العالم الحكائيّ
يتحدّث امبرتو إيكو ( Umberto Eco) عن تجربته روائيّا فيقول: "استكشفت أنّ الرّواية لا علاقة لها أوّل الأمر بالكلمات [...] أعتقد أنّه لترويَ يجب بدءا أن تبنيَ لنفسك عالما يكون مؤثّثا أقصى ما يمكن حتّى في أدنى جزئيّاته [...] يجب بناء العالم أمّا الكلمات فتأتي لاحقا، من تلقاء نفسها تقريبا" . ويضيف أنّه خصّص سنة كاملة لبناء عالم روايته قبل أن يباشر الكتابة . فإنهاض عالم يتطلّب تأثيثا والتّأثيث يقتضي الإجابة عن الأسئلة التّالية: "ماذا ؟ (الوقائع) وأين ؟ (المكان) ومتى ؟ (الزّمان) ومن ؟ (الشّخصيّات)" . فما هي مكوّنات العالم الحكائيّ في "الدّراويش" ؟ وكيف أثِّث هذا العالم ؟ ولماذا ؟
أ- الوقائع المباشرة
تتشكّل هذه الوقائع من حكايات درويش وفرنسوا مارتال ونمرة. وتمثّل حكاية درويش خيطا يشدّ بعضها إلى بعض ويظلّ درويش سواء حضر أو غاب ومهما تباعدت الأزمنة والأمكنة عنصرا موحّدا يلمّ الشّتات ويجمع المتفرّق . وقد عاد درويش ذات يوم إلى القرية، قريته. فابتاع قدرا ولازم السّاحة العموميّة يطبخ ماء وحجرا بينما رجلاه تحت القدر تلتهمهما النّيران. أغرى المشهد الفرنسيَّ فرانسوا مارتال الذي أحبّ القرية وابتنى له فيها منزلا يتردّد عليه صيفا وشتاء فالتقط صورا عديدة لدرويش وقدره. ولكنّ درويش اقتحم عليه بيته ليلا والتهم أشرطة التّصوير فنشأت عداوة بين الرّجلين واستحال درويش خطرا يهدّد الفرنسيّ باستمرار وطيفا يقضّ مضاجع أرباب السّلطة ساسة وتجّارا.
اختفى درويش وانتحر الفرنسيّ ثمّ ظهر درويش ثانية في القرية فصدمه ما لحقها وأهلها من تغيير وفجأته الحرب تُشنّ على العراق والتقى بنمرة ابنة عمّه فاقترحت عليه أن يلتحق "بأصحاب الكهف" فجمّع الأهالي وساقهم إلى الكهف، مثواهم الأخير. وفي المقابل ترك الأطفال وهم يشهدون ميلاد يوم جديد.
تلك هي أهمّ الأحداث المباشرة وقد دارت في أمكنة مختلفة من قرية ذات نخل وماء.
ب- المكان
ليس للقرية اسم به تُعرف وتتميّز. ومع ذلك فبينها وبين مدينة توزر وشائج. فلهما معالم مشتركة مثل "الواحة ذات المليون نخلة" (ص42) و"عيون الماء والمتحف وحديقة حيوان الصّحراء" (ص10) و"النّزل الفخمة" (ص169). ولكنّ الشّبه بين توزر الواقع وتوزر النّصّ يقف عند هذا الحدّ. فما عادت إليه حاجة بعد أن أدّى وظيفتي تأكيد الانتماء الحضاريّ والإيهام بالواقع. ولا تخلو الوظيفة الثّانية من أهمّيّة. فالقارئ يجد نفسه حيال نصّ تتداخل فيه تداخلا محيّرا الأمكنة والأزمنة والواقعيّ والخرافيّ والأسطوريّ والتّاريخيّ والحلم والمعيش. وقد حرص الرّاوي من خلال الإشارات المحيلة إلى خارج النّصّ على تأكيد أنّ الواقع يظلّ منطلق السّرد ومرجعه.
وقرية النّصّ يحدّها جبل وواحة ويطلّ عليها منزل فرنسوا مارتال وزاوية سيدي عبد القادر الجيلاني وتتوسّطها ساحة عموميّة وسوق وتتجاور فيها الأحياء العتيقة بأزقّتها ودروبها وقديم بناءاتها والأحياء العصريّة بشوارعها وشاهق محلاّتها التّجاريّة وفاخر نزلها. ولم يرد ذكر هذه الأماكن في النّصّ عبثا وما كان ضبط مواقعها عملا مجانيّا.
فالجبل لا وجود له في توزر الواقع ولكنّ ضرورات الفنّ اقتضته فكان. ففيه نامت نمرة وفيه التقت بأصحاب الكهف وإليه ساق درويش بإيعاز منها الأهالي ليكون له ولهم قبرا. ولعلّ وظيفة الكهف الأساسيّة والتي اقتضت وجود جبل في مكان مرجعيّ لا جبل فيه تكمن في إقامة رابط صريح بين القصّة الدّينيّة وواقع العرب. إلاّ أنّ الرّاوي وإن استلهم القصّة تصرّف فيها بما يتماشى والسّياق الجديد. فأصحاب الكهف فرّوا إليه طلبا للحماية في حين زُجّ فيه درويش والأهالي، دراويش أواخر القرن العشرين، عقابا لهم على عجزهم عن مجاراة تغيّرات الزّمن وعن الوقوف في وجه من اغتصب منهم التّاريخ والأرض.
والواحة في صحراء. فهي الماء والظلّ والحياة والرّزق. ولكنّها أصبحت مصدر بلاء. أغرت ثمارها الاستعمار قديما وبهر بديع منظرها السّيّاح حاضرا ففقدت القرية طابعها الأصيل وثُقبت ذاكرتها وضاعت كنوزها (ص44) وشوّهتها معاول الهدم والتّغيير وأحلّت محلّ أصيل بناياتها حينا وإلى جارها حينا آخر نزلا فخمة ينعق في أرجائها البوم (ص69) وامتدّت بناية "السّوبر ماركت" ذات الطوابق الثّلاثة تشقّ عنان السّماء شامخة على المساكن والسكّان تسرق الجهد وتقتات بالعرق. وينهض اسمها وموقعها عند "تقاطع شارع الحرّيّة والاستقلال" (ص34) وما تحويه من سلع استهلاك مستوردة شواهد على التّبعيّة والهزيمة الحضاريّة.
تشوّهت القرية وعجزت عن أن تكون مدينة عصريّة غربيّة وما قدرت على أن تظلّ عربيّة فأصبحت تعيش صراعا ممزّقا بين حاضر ليس لها وماض ما عاد لها منه غير أسباب بدأت تهي. ولعلّ أفضل صورة لها تلك القطعة الذّهبيّة التي طلع بها درويش على النّاس: "دنانير ذهبيّة مرسوم على وجهها صورة الإمبراطور رونالد ريغن ومكتوب على قفاها ضربت في عهد الخليفة النّاصر لدين اللّه" (ص34). ولعلّ درويش كان الوحيد الذي وعى هذا التّمزّق وأدرك عمق ما يحدث أمام عينيه. تقول ابنة عمّه نمرة مستغربة سلوكه يوم زفافها الذي لم يتمّ: "لم أفهم مثلا لماذا أركبني هودجا على ناقة وأحضر في نفس الوقت سيّارة مرسيدس ترقص فوقها البالونات ذات ألوان قوس قزح" (ص 180).
أمّا منزل فرنسوا مارتال وزاوية سيدي عبد القادر الجيلاني فيتشابهان ويتقابلان ويلتقيان في وظائف ويختلفان في أخرى. تربّعا على أعلى موقعين في القرية. فكان المنزل "فوق هضبة تطلّ على الواحة" (ص42) وكانت الزّاوية مبنية فوق "تلّة [...] تطلّ على القرية من جميع الجهات" (ص166). وهذان الموقعان علامة على رفعة الرّجلين ومكانتهما في قلوب الأهالي وهي مكانة اكتسبها الوليّ الصّالح بما يُروى عنه من كرامات وآلت إلى الفرنسيّ بما يُعدّه في بيته من سهرات يشهدها أعيان القرية والشّباب.
شيّد الأجداد الزّاوية شهادة على عمق روحيّ وتأكيدا لانتماء حضاريّ وعلامة على تاريخ طويل يرجى له الامتداد والتّواصل. فكانت شامخة في تلّها، ساهرة على القرية وأهلها، جديدة متجدّدة، "نظيفة، بيضاء" (ص166). ولكنّ ذلك لم يكن سوى ظاهر يُخفي حقيقة فعل الزّمن في هذه الزّاوية. فقد امتدّت إليها رياح التّغيير العنيفة التي هبّت على القرية فهجرها روّادها والمريدون. وخلت إلاّ من الأطفال يُرتّلون وراء شيخهم آيات النّصر لحظة الهزيمة واستُبيحت حرمتها فحاصرها الجند وصاحب الشّرطة يرومون القبض على درويش المعتصم بها.
هُجرت الزّاوية أو كادت. ولكنّها ظلّت شاهدا صامتا حزينا على ما حدث ويحدث فتخلّت مكرهة عن دورها. وكان لا بد للسّكّان من زاوية. فكان منزل فرنسوا مارتال زاوية العصر الجديد و"محجّا للأهالي يطوفون حوله ويتبرّكون بأحجاره" (ص115) فيه تعقد حلقات الذّكر حتّى مطلع الفجر (ص93) تتلوها مجالس الأنس لا يحضرها غير الشّبّان الذين كانوا "يروحون ويجيئون على بيت النّوم يتهامسون ويتغامزون ويدسّون الدّنانير في جيوبهم"(ص94).
للشّباب قوّة القرية وعماد مستقبلها في هذه الزّاوية الغريبة الغربيّة حظّ وللشّيوخ الذين تركوا قراءة القرآن وقيام اللّيل والتّهجّد وإتمام الأوراد (ص115) نصيب. ففيها "يشاهدون الأفلام الأمريكيّة الخليعة ويمارسون الجنس مع السّائحات والسّيّاح الفرنسيّين والألمان والأمريكان" (ص115). فهذا المنزل إذن ماخور وما يدور فيه طُعم يخفي الفخّ الذي لم ينج منه غير واضعه. ففيه تغتال قيم روحيّة تالدة وتحاك مؤامرات عن المغفّلين خافية. ولكنّ هذا المكان لم يسلم بدوره من فعل الزّمن. فقد أدّى وظيفته فنحّته جانبا أدوات جديدة أنجع عملا وأبعد أثرا كالأقمار الصّناعيّة (ص168) وضيّق الفضاءات وواسعها: "الجمّال يربّت على الفخذين الشّقراوين [...] وتقطر اللّذّة في عيني السّائحة الأمريكيّة" (ص103).
عدّد الغازي أساليبه وانتقل الصّراع غير المتكافئ من السّرّ إلى العلن ومن اللّيل إلى النّهار ومن منغلق الأماكن إلى منفتحها. فبرزت ساحة القرية مكانا منخرطا في هذا الصّراع. ولها على امتداد النّصّ أهمّيّة. فبها افتتح وبها اختتم. احتلّها درويش في الفصول الأولى يمارس فيها فعلا لا يخلو من رمز. وانفرد بها الأطفال في الفصل الأخير انفرادا لا يقلّ رمزيّة عن فعل درويش. وقد كانت، وهي ميدان الصّراع ومحراره، هادئة خالية حتّى إذا ما عاد إليها درويش عادت إليها الحياة ودبّت فيها الحركة. ولكنّها كانت حياة شبيهة بالموت وحركة أقرب ما يكون إلى السّكون.
لم يفهم السّيّاح ما يأتيه درويش وغاب عنهم ما يرمز إليه مشهد القدر والرّجل المادّ رجليه في النّار فلم يروا فيه سوى مشهد طريف يصدم العين والخيال. أمّا الأهالي ففطنوا إلى أنّ نار درويش لهم لا عليهم: "نار درويش لا تحرق" (ص35). ولعلّهم أدركوا مغزاها ولكنّهم أعرضوا عنها وعن صاحبها. وقد تكون النّار نار الواقع تصلي النّاس فلا يسعون إلى إخمادها. وقد تكون نار الثّورة يدعو إليها درويش ولا من مجيب. ولعلّها، وهو الأرجح، الاثنان معا. فلفعله هذان البعدان المتلازمان. وهو ما يجهر به النّصّ ويصرّح. يقول الرّاوي: "في السّاحة ما زال درويش [...] يهرق النّفط على أعواد الحطب.. فتلتهم النّيران الحطب والخطب وصور زعماء القبائل المعروضة في الجرائد اليوميّة. ويضغط البخار على غطاء قدر الألمنيوم، فيبرك درويش فوقه ويقول: لا! ليس الآن! مازالت طائراتنا من ورق" (ص101).
يعلو صوت درويش إذن في السّاحة ولكنّه سرعان ما يرتدّ إليه فلا صوت غيره ينادي بوقف النّزيف وبضرورة المقامة. إلاّ أنّ السّاحة، وإن بدت ساكنة، تمور من الدّاخل. فقد فوجئ درويش عند عودته الثّانية بكتابات على الجدران لم يألفها: "الموت لأمريكا" و"يسقط هولاكو المغولي" (ص169). ذاك صوت المثقّفين من الأهالي، أولئك الذين يعرفون التّاريخ ويستخدمون في خطابهم الدّعائيّ الاستعارات: "هولاكو المغولي". وقد بدأ يعلو بمعزل عن درويش وناره. ولكنّه صوت خافت ضعيف يتسربل باللّيل والخوف وبعصيّ الاستعارات أحيانا.
تنهض السّاحة بما هي رمز للحياة السّياسيّة والاجتماعيّة، مثلها في ذلك مثل سائر أمكنة القرية، شاهدا على القهر والهزيمة واستمرارهما ولكن إلى حين. ففي السّاحة سيولد الأمل مجسّدا في الأطفال ذات صباح جديد (ص201).
هذا المكان الذي أتت عليه عوادي الزّمان تجاوره في النّصّ أمكنة لها وجود واقعيّ مستقلّ عن وجودها في العمل التّخييليّ. وهي تكشف جميعها عجز العربيّ عن بناء ذاته وضعفه في مواجهة عدوّ مقنّعا حينا سافر أحيانا قويّ دوما بسلعه وسيّاحه وسلاحه من "توماهاوك" و"باتريوت" و"ب52" (ص184). ويستحيل الموت المجازيّ حقيقة في "ملجإ العامريّة" (ص194) وفي "طريق البصرة- الكويت المضروب بالنّابالم" (ص196). ويجثم شبح الموت على كلّ العرب فتغدو بلادهم قبرا هائلا ممتدّا من المحيط إلى الخليج ويصبحون وقد فقدوا كلّ أسباب الحياة "جثّة عملاقة رأسها في الخليج ورجلاها في المحيط" (ص194). ولم يفت الرّاوي أن يضع الإصبع على ما اعتبره السبب المباشر لموتهم على الحقيقة والمجاز. فاستحضر حيرة المنذر بن النّعمان من مطاوي التّاريخ وتلافيف الذّاكرة وجعلها شاهدا على ثروة العرب تُنهب وعلى مصدر من مصادر قوّتهم يقوى به عدوّهم عليهم وعلى معالم حضارتهم تُطمس وصفوفهم تُفكّك وتتفرّق. يقول صاحب الحيرة لحظة استكشاف النّفط: "اكتم السّرّ حتّى لا تحسدنا قبائل هوازن وثقيف" (ص108).
مرّ المكان من الخاصّ (القرية) إلى العامّ (بلاد العرب ماضيا وحاضرا) ومن الاتّساع (القرية وبلاد العرب) إلى الضّيق (الكهف) فالاتّساع النّسبيّ (ساحة القرية) فترجم رؤية إلى الواقع يتنازعها التّشاؤم والتّفاؤل. وليس التّشاؤم، في نظرنا، حالة نفسيّة اعترت صاحبها بقدر ما هو وليد معايشة لأوضاع لا تكفّ عن التّدهور. وما تدمير العراق على أيدي الأبعدين والأقربين إلاّ صورة عن هذا التّدهور قد لا تكون أبلغها ولا آخرها: "هنا الرّياض: كلّ مطارات العدوّ ومنصّات إطلاق الصّواريخ بعيدة المدى ومعامل الأسلحة الكيمياويّة والبكتريولوجيّة والذّرّيّة والجسور والدّبّابات وعيون الأطفال الكحيلة.. دمّرتها قوّاتنا الجويّة الباسلة" (ص172).
شحن المكان دلالات نفسيّة ورمزيّة وحضاريّة. وكشف، على اختلافه، جوانب من القضيّة التي يعالجها النّصّ وموقف الرّاوي منها. ولعلّ الزّمن الرّوائيّ يؤكّد ما أفصح عنه المكان.
ت – الزّمان
حدّد النّصّ الزّمن الخارجيّ (أو المرجعيّ ) لبداية مجموعة الأحداث المباشرة الأخيرة ونهايتها. فدرويش عاد من السّفر ذات يوم من أيّام شهر كانون الثّاني/ يناير (ص179) وتحديدا يوم السّادس عشر منه، يوم اندلاع ما اصطلح على تسميته بحرب الخليج الثّانية:
"قلت [درويش]: هل عادوا [الرّوم] يا شيخنا ؟
قال: نعم ! ألم تسمع نشرة الأخبار الصّباحيّة ؟ " (ص167).
وسكنت حياة وانطلقت أخرى وأسدل السّتار بعيد انتهاء هذه الحرب لحظة كانت "قرطاجة تستمع لشروط روما وتوقّع على القرارات الأمميّة" (ص185).
أمّا مجموعة الوقائع المباشرة الأولى فبدأت بعيد ليلة "السّادس عشر من الشّهر الفائت" (ص33). وإذا كانت هذه الإشارة الزّمنيّة لا تحيل على زمن مرجعيّ بعينه ممّا يجعلها مندرجة في زمنيّة الأحداث الدّاخليّة فإنّ طرفها الأوّل يذكّر بيوم بداية الحرب ويكشف أهمّية هذا الحدث التّاريخيّ ودوره في نشأة النّصّ الرّوائيّ. ولكنّ الزّمن إذا ما نحن تجاوزنا الوقائع المباشرة، يمتد بل يتناسل. فإذا هو أزمان منها ما هو دينيّ غارق في القدم كزمن نشأة الخليقة وزمن إبراهيم الخليل ومنها ما هو خرافيّ كزمن قصص كرامات الأولياء وما هو تاريخيّ قريب نسبيّا كزمن استكشاف النّفط في جزيرة العرب أو تاريخيّ أبعد كزمن زفاف قطر النّدى إلى الخليفة المعتضد العبّاسيّ. وهو زمن "السّوبر ماركت" ينبت في غير تربته و"الإمبراطور رونالد ريغن" تُرسم صورته على عُملة العرب وزمن السّياحة الصّحراويّة تنمو وتزدهر ومايكل جاكسون "ينوح الحادي" (ص103) بإحدى أغانيه والعربيّ يطارد في المطارات الغربيّة مدانا حتّى تثبت براءته (ص85) وهو أيضا زمن بعضه ميقاتيّ وبعضه الآخر لا يُقاس بالوحدات المتواضع عليها. يقول الرّاوي:
"ومرّت أيّام
ومرّ أسبوع
ومرّ شهر وشهور
ومرّ دهر
ومرّت دهور
ودرويش يترقّب مجيء الرّجال" (ص 35و36).
وهو، إلى كلّ ذلك، زمن عامّ، زمن عرب أواخر القرن العشرين، زمن الاستهلاك النّاشئ والتّبادل غير المتكافئ والأرض تستباح والحاضر والمستقبل يصادران ولا ذراع تمتدّ ولا صوت يعلو سوى صوت درويش الخافت العليل، هذا الذي يعيش زمنا شخصيّا هو زمن الغربة والفعل العقيم والمنفى الاختياريّ واليأس من الأهل، زمنا أعياه وأعجزه فلم يجد سوى السّخريّة بها يواجه ويتحدّى. يقول:
"وعاودت تجوالي في السّوق.
الوجوه كالحة حدّ الفجيعة
ونشرات الأخبار تذاع كلّ نصف ساعة
تحلّق الرّجال- الأطفال حول أجهزة الرّاديو يتابعون الأخبار" (ص171).
ويبدو أنّ سخرية درويش من سخرية صانعه وأنّ وحشة الأوّل من وحشة الثّاني. يقول الرّاوي وهو كاتب يروي :
" والقافلة تقترب من مدينة الحيرة. فتخرج كوكبة من الحرس السّلطانيّ لاستقبالها.
وترحّب بهم الكلاب
وينبح الرّجال
[...] ويمدّ السّماط على الأرض:
جمال مذبوحة
ورجال مذبوحة
عفوا ! غلّطني الوزن !
أقصد:
جمال مذبوحة !
وجمال مذبوحة
وجمال مذبوحة
ويفوح الشّواء..
شواء لحم الرّجال.
عذرا مرّة أخرى. جعلني الوزن أغلط
أقصد: فاح شواء لحم الجمال" (ص104و105).
ورغم تعدّد الأزمنة وتداخلها فالزّمن التّاريخيّ أو المرجعيّ هو الطّاغي. ولكنّ الرّاوي يتلاعب به تلاعبا دالاّ. فلا يستحضِر منه إلاّ ما كان للسّياق مواتيا ولمقاصده مؤدّيا غير عابئ بالمطابقة بين الشّخصية والحدث التّاريخيّ ولا بمواضعات الواقع ومقتضيات المنطق. من ذلك قول درويش في حضرة الحسن الحفصي شامتا ومدينا: "لقد خوزقك التّاريخ يا مولانا" (ص133). وقوله عن الشّخص نفسه: "وأسمعته خبرا تحدّث به جنود كرلوس الخامس ودوّنه أحمد بن أبي الضّياف في "إتحاف الزّمان بملوك تونس وعهد الأمان" [كذا]" (ص133).
تتباعد الأزمنة إذن وتتباين ولكنّها تنصهر جميعا في زمن واحد هو زمن العرب ، زمن حضارتهم وموروثهم الدّينيّ والثّقافيّ. وقد حاول الرّاوي، وهو يقف خاصّة على المحطّات الأقلّ إشراقا في هذا الزّمن ، البحث عن الجذور البعيدة والقريبة لهزيمة العرب الحضاريّة ولعيشهم، على ضفاف التّاريخ، قبائل ضعيفة متناحرة.
إنّ الإشارات العديدة إلى الزّمن المرجعيّ خفيّة كانت أو صريحة تكاد تخفي زمن الوقائع الدّاخلي وهو زمن تطغى عليه ثنائيّة اللّيل والنّهار. فمن أحداث النّهار إشعال درويش النّار في السّاحة العموميّة وتوزيعه طائرات الورق على الأطفال وزيارة فرنسوا مارتال الأحياء القديمة ولقاؤه الأوّل مع درويش وحلول السّيّاح الأمريكان بالسّاحة ومشاهدتهم شريط "جنون درويش بعد أن هام حبّا بنمرة" (ص88) وزيارتهم أماكن القرية السّياحيّة ومدينة الحيرة. ومنها أيضا عودة درويش إلى القرية ولقاؤه فيها مع نمرة وانفراد الأطفال بالسّاحة.
أمّا أحداث اللّيل فمنها حلول درويش بالقرية الذي سبق انطلاق الوقائع المباشرة واقتحامه لاحقا بيت فرنسوا مارتال والتهامه أشرطة التّصوير ومنها كلّ ما اكن يدور في مجالس الأنس التي يقمها الفرنسيّ في بيته وكذلك محاصرة الشّرطة درويشا ونمرة وانقبارهما والأهالي في الكهف.
اختلفت الأحداث بين نهار وليل وبدأت نهارا وانتهت نهارا. ورغم اختلاف الزّمنين فإنّّ دلالتهما تكاد تكون واحدة. فاللّيل هو زمن المؤامرات والتّخطيط المحكم لتخدير أهل القرية وشلّ فكرهم ومسخهم وهو زمن مطاردة من شرد عن القطيع وزمن الصّفقات المصيريّة تُبرم في مجالس الطّرب واللّهو. يقول الرّاوي:"وتضحك السّائحة الأمريكيّة التي كانت تراقص الملك وتقول له ما رأيك يا مليكي لو أبادلك هذا الزّيت اللّزج، الكريه الرّائحة بقارورة عطر فرنسيّ وسبحة ومرسيدس، وسيوف يمانيّة وسرير مذهّب الحواشي وغلالة شفّافة من الحرير ؟" ويردّ عليها ملك الحيرة: "أنت ضيفتي ونحن كرام والضّيف لا يردّ له طلب" (ص108).
أمّا النّهار فهو زمن المؤامرات ولا رادع وزمن المقاومة يدعو إليها درويش ولا مجيب وزمن الدّمار تنعق بأخباره أجهزة الإعلام من كلّ صوب:
"هنا لندن
هنا صوت أمريكا
هنا صوت الجماهير
هنا إذاعة الفاتيكان
هنا صوت العرب من القاهرة
هنا أورشليم القدس
هنا السّماء السّابعة
هنا الرّياض:
كلّ مطارات العدوّ [...] دمّرتها قوّاتنا الجويّة الباسلة" (ص171 و172).
وزمن الهزيمة والمعاناة يضيق بها الصّدر فلا ينطلق اللّسان ولا تمتدّ الذّراع. فترتسم على الوجوه حقدا وغضبا وعجزا.يقول درويش:
"ذهبت إلى ساحة السّوق الأسبوعيّة.
وجوه الرّجال كالحة..
والدّكاكين ملأى بالسّلع.
[...] ووجوه الرّجال كالحة حدّ الفجيعة" (ص168).
النّهار في "الدّراويش" ليل حالك. ولكنّ ظلمته ليست سرمديّة فما إن دخل أهل القرية الكهف حتّى "أشرقت شمس يوم جديد" (ص201). فقد قرئت صفحتا الحاضر والماضي قبل أن تطويا وأنيط الأطفال المستقبل يبنونه على أسس جديدة .
تنوّعت الأزمنة وتعدّدت الأمكنة وتعاقبت الأحداث حينا وتباعدت حينا آخر. ولكنّ هذه المكوّنات تظافرت جميعا لمعالجة القضيّة ذاتها. ولعلّ هذا التّعاضد يُدرك أيضا في مستوى الشّخصيات.
.ث – الشّخصيات
الشّخصيات في "الدّراويش" عديدة. ولكن منها ما هو حاضر فاعل في الأحداث مؤثّر في ما شهدته من تحوّلات ومنها ما لا حضور له ولا دور إلاّ بفضل ما يقيمه من علاقات مع شخصيّة محوريّة أو أكثر. وقد ربطت بين هذه الشّخصيات جميعا ضروب من العلاقات أكسبت الحكاية نوعا من التّماسك وساهمت في فكّ رموز النّصّ وكشف دلالاته.
ولعلّ درويش أهمّ الشّخصيات وأكثرها حضورا في النّصّ. فبه افتتح السّرد وبه اختتم. شارك في جلّ الوقائع المباشرة وإليه فوّض الرّاوي شأن سرد بعضها . واختار له اسما مثقلا بالدّلالات. فدرويش لفظة فارسيّة تعني الفقير ثمّ أصبحت مصطلحا يدلّ في نظام الصّوفيّة على الزّاهد الجوّال . فاللّفظة لغة واصطلاحا تحيل على انتماء اجتماعيّ ونمط حياة ونظام فكريّ ورؤية إلى العالم لعلّ أهمّ ما يميّزها رفض المجتمع والعيش على هامشه. وإنّا لنجد كلّ هذه المعاني مجسّدة في درويش الشّخصيّة القصصيّة. فهو جوّال غريب دوما، منفيّ أبدا، فقير له مع الجوع مواعيد وللكرماء منه موقف. فقد "بات ثلاث ليال بدون طعام. ترك الصّدقات جانبا: صحون الكسكسي وقدور المرق والبطاطا المقليّة والبيض المسلوق والخبز والتّمر" (ص33). تتلمذ على يدي علم من أعلام التّصوّف في الإسلام "سيدي محيي الدّين بن عربي" (ص133) وعاشر الأولياء الصّالحين. وشاهد كراماتهم. وهو بدوره صاحب كرامات وصانع أعاجيب. ربّت مرّة على ظهر حصانه فنبت للحصان في الحين جناحان (ص84). وحلّت لعنته على من خالف أوامره فخرجت عليه ثعابين شرّيرة متحفّزة (ص128) أو فقد ذكره لحظة استعداده لمجامعة زوجته (ص128) أو استحال حجرا أصمّ أخرس (ص200). فنسجت حوله الأساطير وأصبح "مولانا درويش" (ص126).
إلاّ أنّ لدرويش أكثر من وجه فهو. فهو شخصيّة خرافيّة عمرها آلاف السّنين (ص) عاصرت حكّاما اختلفت أزمانهم وتباعدت. حاورت "مولاي الحسن الحفصيّ" (ص133) وعرفت "صلاح الدّين الأيّوبيّ" (ص167) ورونالد ريغن (ص34). لها من أجسام البشر الأعضاء وأسماؤها وليس لها منها أبعادها والأحجام. يقول الرّاوي: "درويش يبدأ في التّضخّم، تزداد كفّه سعة وارتفاعا ويكبر حجم بقيّة أعضائه إلى أن يصبح كجبل أحد. والرّجال يحاولون الفرار من فوق الكفّ، فتحاصرهم أصابع كالمآذن" (ص116). وهي، إلى ذلك، كائن تاريخيّ مثقّف بثقافة عصره، عصر الكتابة. تستعير ممّا راج فيه من شعر صورة الشّمس التي طلعت "حمراء كالخبزة" (ص165). وتقتدي، دون تمييز عرقيّ أو ثقافيّ أو فكريّ، بمن شاع عنهم حبّهم الوطن ومعاداتهم الاستعمار والاستغلال ورغبتهم في بناء الذّات "جمال عبد النّاصر وغيفارا وباتريس لوممبا" (ص167) وتتوسّط السّاحة تدعو وحيدة إلى ثورة لم يحن أوانها بعد.
درويش إذن شخصيّة مركّبة أريد لها أن تكون عصارة حضارة ورمز ثقافة تجهد أن تكون في عصر لم تشارك في صنع ملامحه الكبرى بل أدارت له الظّهر فنبذها دون أن يفنيها.
وفي الصّفّ المقابل نجد الفرنسيّ فرنسوا مارتال وهو سميّ شخص تاريخيّ عاش في الجريد . ولعلّ هذا الاسم العلم يفتح آفاق انتظار لقارئ عرف صاحبه الأوّل أو سمع عنه. أمّا بالنّسبة إلى غيره وبسبب كونه أجنبيّا ليس له ما للأسماء العربيّة، مشتقّة أو جامدة، من طاقات إيحاء فيظلّ مجرّد علامة لغويّة وشكلا أجوف يملأ تباعا. إلاّ أنّ لفظة "الفرنسيّ" التي اقترنت بالاسم أوّل ما ظهر في النّصّ لا تحيل على جنس ولا على انتماء حضاريّ فحسب وإنّما تحيل خاصّة على علاقات معقّدة ربطت منذ أكثر من قرن ولا تزال بين الغرب والشّرق.
وهذا الفرنسيّ غنيّ قويّ يظهر لأبناء البلد من الحبّ ألوانا وينصب لهم من الفخاخ أشكالا. يشمل الجميع بعنايته فينظّم للشّبّان والشّيوخ سهرات في بيته و"يوزّع حبوب منع الحمل ويشجّع الأطفال على مطالعة الكتب الفرنسيّة" (ص156). يحارب قيما ويغرس أخرى ويؤدّي رسالة، رسالة الرّجل الأبيض. فيحاول أن يلحق بركب الحضارة من لم يتعدّوا طور "بدء الخليقة" (ص39). لا تفوته شاردة ولا واردة. يرصد حركات من شذّ عن الجماعة و"يدفع الهبات لمن يحمل له بعض الأخبار حيوات الرّجل [درويش] الحاضرة والماضية" (ص157) بل هو عين على كلّ أهل القرية "يسجّل ملاحظاته على دفاتر صغيرة ويهتف كلّ يوم إلى تونس وباريس" (ص156).
للفرنسيّ إذن ظاهر يدركه كلّ أبناء القرية وله باطن خفي عن جلّهم ولم يفطن له سوى بعضهم. وقد تحدّدت علاقاته بهم وفق هذه الثّنائيّة. فجمعته بالشّبّان والشّيوخ علاقة قائمة على الرّغبة المتبادلة والمصلحة المشتركة.أمّا علاقته بالنّساء فنهضت عل الرّغبة من جهته وعلى النّفور بل على العداء من جهتهنّ. فقد ودّ تصويرهنّ ولكنّهنّ "انهلن عليه سبّا وشتما بعد أن غطّين وجوههنّ بالملاءات السّوداء" (ص43). قد يردّ هذا النّفور وتلك العداوة إلى أن الفرنسيّ الشّاذّ صرف عنهنّ الرّجال. ولكنّنا نميل ،بفضل بعض القرائن النّصّيّة، إلى اعتبار المرأة في هذا السّياق رمزا. فهي المؤتمنة على العرض والنّسب بل هي الأرض والوطن. لذلك كانت نساء القرية "يخفن الغريب خوفهنّ من وباء الكوليرا" (ص44).
وإذا كانت علاقة مارتال بالشّبّان والشّيوخ والنّساء ذات بعد واحد لا تتعدّاه فإنّ ما يشدّه إلى درويش أعقد. فبينهما تشابه وتقابل في آن معا وبينهما صراع دائم وعداوة مستفحلة لا ينتهيان إلاّ بزوال أحدهما أو بتخلّيه عمّا هو به، في النّصّ، كائن. فكلاهما يعرف ما يريد وكلّ منهما واع بأنّه صاحب أفكار وقيم يجب أن تسود. ولكنّ قواهما المتفاوتة وطرائق عملهما المختلفة مكّنت الفرنسيّ من كسب ودّ الذّكور البالغين من الأهالي ومن السّيطرة على أصحاب السّلطة والقرار ويسّرت له التّسلّل إلى عقولهم "فانقلب بمرور الأيّام إلى رمز روحيّ" وأصبح منزله "محجّا للأهالي يطوفون حوله ويتبرّكون بأحجاره. حتّى الكبار: شيوخ القبائل وقادة الجند وكبار التّجّار جرّتهم رائحة "الكيف" إلى هناك، فجاؤوا زرافات ووحدانا وحطّوا الرّحال داخل حديقة القصر" (ص115). ولم يبق لدرويش سوى الأطفال يعلّمهم "السّحر وقيادة الطّائرات الورقيّة" (ص35) في انتظار يوم تصبح فيه الطّائرات حقيقيّة. لقد ظلّ دهورا يترقّب مجيء الرّجال" (ص36) ولكنّ "الرّجال توسّدوا نهود النّساء وناموا" (ص36) فأيقن أنّه خسر الحاضر وبدل أن ينكفئ على ذاته اتّجه إلى الأطفال يعدّهم لمستقبل يأمل أن يكون مختلفا.
على هذا النّحو يسم التّقابل العلاقة بين الرّجلين وأنصارهما. فمن جهة درويش والأطفال ومستقبل موعود ومن جهة أخرى الفرنسيّ والكبار وحاضر يراد له الاستمرار. ولقد تواصل الصّراع إلى ما بعد انسحاب درويش من السّاحة ولم يحسمه انتحار الفرنسيّ لأنّ الصّراع لا يدور في الحقيقة بين شخصين لا يكاد يعرف أحدهما الآخر بل بين حضارتين مختلفتين كان بينهما ولا يزال نزال. ففرنسوا مارتال في نظر درويش "روميّ" (ص47) و"فرنسيّ لعين" (ص132) ودرويش في نظر مارتال "وحش شرقيّ" (ص47). وبهذا المعنى فإنّ ما عهد إليهما من أدوار متقابلة يجعل التقاءهما على قاعدة وفاق وتفاهم أمرا مستحيلا.
أمّا ثالث الشّخصيّات المحوريّة فنمرة. لها من سميّتها، أنثى النّمر، الضّراوة وشدّة البأس ولها منها الإباء والجموح. ولكنّها، مثلها، إذا قهرت دانت واستكانت إلى حين. هام بها درويش ابن عمّها. فخطبها وأقيم العرس ولكنّها فرّت ولاذت بصاحب الجبل. وانقبرت في الكهف ولم تخرج منه إلاّ بعد أن "دقّت نواقيس القيامة" (ص184) انفجارات تهزّ مدن العراق وزمجرة "توماهاوك" و"باتريوت" و"ب52" (ص184) تخنق الأنفاس فترتعد الفرائص وينحبس الصّوت ويرتفع البصر جهة أبناء العمومة فيرتدّ حسيرا.
ولقد وردت أخبار نمرة مسترجعة على لسان الرّاوي الأوّل في البابين الثّالث والرّابع. ولكنّ الخطّة الفنّيّة اقتضت حضورها في أواخر النّصّ وتحديدا في بابيه الأخيرين. وقد حضرت نمرة شخصيّة فاعلة في الأحداث وشخصيّة فاعلة في الخطاب إذ روت كامل الباب الثّاني عشر . ولم يكن تكليفها بالرّواية أمرا عفويّا وما كان ظهورها في النّهاية، إحدى المواطن الاستراتيجيّة في النّصّ،اعتباطيّا. فلأفعالها دور حاسم في الحركة القصصيّة ولأقوالها دور مهمّ لا في كشف بعض ما تعمّد الرّاوي الأوّل إخفاءه في ما استرجع من أخبارها فحسب وإنّما خاصّة في توضيح بعض مقاصد التّأليف.
وتبدو نمرة من خلال أخبارها المسترجعة والحاضرة، مثلها في ذلك مثل درويش، كائنا واقعيّا ولا تاريخيّا في آن معا. وهي، في صورتها الواقعيّة، كائن ذو وجهين. فلها إلى الرّيف انتساب وإلى المدينة انتماء. تعاني شظف العيش:
"تعمل في الحقل
تحرث...
وتزرع..
وتجني المحاصيل..
وتعود إلى البيت مهدودة القوى..
[...] وتنام على الأرض" (ص58).
وتنعم، في الآن ذاته، بمتع الدّنيا ومباهجها:
"تعشق السّفر
وتقتني ملابسها الدّاخليّة من باريس
وأحمر الشّفاه من هونغ كونغ
وكلاسينها من لندرة
وسوتياناتها من جزر هاواي
ومرآة الزّينة من لاهاي..." (ص59).
لها حضريّةً عشّاق من "بورصة نيويورك" (ص59) ولها ريفيّةً مع الجنس مواعيد ومع غير أهلها مغامرات إذ "يربّت فرسان الخيول الإنجليزيّة على ردفيها بحنان السّائس الماهر وتغادر إسطبل البهائم وبين نهديها بقايا من علف الخيول !"(ص58). وقد انشدّ إليها درويش وتوسّل بأكثر من حيلة إلى نيل رضاها فرشا الشّعراء بالهدايا الثّمينة ليكتبوا فيها قصائد غزل ينسبها إلى نفسه (ص58). ولم يبخل عليها بماله فكان "يدفع، يوقّع على الشّيكات ويدفع" (ص59). وتنكّر في صورة بائع جوّال علّه يظفر بلفتة منها أو نظرة إلاّ أنّها أغلقت دونه أبواب السّماوات السّبع (ص62). ولم ييأس إلى أن كان يوم الزّفاف.
رغب درويش في نمرة فنفرت منه وأقبل عليها فأعرضت عنه. فوسم الانفصال والتّقابل العلاقة بينهما. وكانت نمرة تألم لنفسها وله. تقول مسترجعة ماضيهما معها: "ما أشقاني به ! وما أشقاه بقسوتي" (ص180). ولكنّ هذه المسافة الوجدانيّة القصيرة جدّا لم تمنعهما من التّخلّص منه بل من قتله مرّتين، مرّة حين رفضته زوجا فسمعت "شقشقة داخل صدره تشبه تحطّم البلّور" (ص62) ومرّة لمّا زجّت به في حاضر الأحداث، في ظلام الكهف وغياهب الموت (ص196).
عجز الحبّ معلنا ودفينا عن إقامة تواصل حقيقيّ بين الشّخصيّتين. فكان حبّا عقيما، مستحيلا، مسدود الآفاق. فليس البعد العاطفيّ سوى جانب من الرّابطة التي تشدّ أحدهما إلى الآخر. ولعلّه الأضعف مقارنة إلى بالجانب الفكريّ. وهو جانب متين الصّلة بصورة نمرة كائنا لا تاريخيّا. فقد عاصرت الأوائل وشهدت أهمّ التّحوّلات التي عرفتها بلاد العرب وانقبرت في الكهف ألف سنة وخرجت منه فوجدت الأوضاع أسوأ ممّا كانت عليه.
وقد كان لها بدرويش معرفة عمرها "آلاف السّنين" (ص180) وكان لها به علاقة تميّز طورها الأوّل، وهو الأطول، باتّصال وانسجام جسّمهما، في مستوى الخطاب، ضمير المتكلّميْن "نحن" وكثرة الأفعال الدّالّة على المشترك من الأعمال: "أكلنا، صوّرنا، رشقنا، صلّينا، رأينا، قلنا، شققنا، زرعناها، عمّرنا، بنينا، ملأنا" (ص181). وتلخّص هذه الأفعال مسيرة العرب منذ "سنوات الصّيد في البريّة" (ص180-181) والصّلاة للنّجوم والشّمس (ص181) إلى أن كان القرآن والإسلام فكان عهد البناء والانتشار وسيادة العالم (ص181).
وهذا الوجه الثّاني لنمرة يفسّر توتّر علاقتها لاحقا بدرويش ورغم ما بينهما من انجذاب ورغبة. فدرويش، في النّصّ، كائن "واقعيّ" أحبّ وخاب وكافح وفشل. ولكنّه، في الآن نفسه كائن لا تاريخيّ بل هو رمز للعربيّ قديما وحديثا. تقول نمرة: "عندما اشتدّ الظّلام في الزّاوية جاورني [درويش] كالطّيف وطلب أن يتفخّذني. قلت لن أهب نفسي لآلة مرتخية منذ ألف عام" (ص187).
كشفت نمرة رمزية درويش. فأكّدت ،في الآن ذاته، رمزيتها. فهذه الشّخصيّة التي تعدّدت صورها وأسماؤها هي، كما جاء على لسانها، الأمّ (ص185) والأرض "الحبلى قمحا وزيتونا وعيونا في طرفها حور". استباحها العدوّ فرضخت مكرهة. ورفضت، مع ذلك، أن تهب أبناءها نفسها عقابا لهم على ضعفهم وعلى تنكّرهم لها. تقول مواصلة سرد حوارها مع درويش في الزّاوية ليلا: "قال: وهذا الغريب الجاثم فوق صدرك وشهيقه يصمّ أسماع الملائكة في السّماء السّابعة ؟ قلت: هو مغتصب وأنا السّبيّة" (ص187).
ولعلّ هذا البعد الرّمزيّ في شخصيّة نمرة لا يفاجئ القارئ. فقد لفتت إليه الأنظار منذ تولّيها السّرد. تقول: "بعد أن مرّت كلّ هذه الأعوام والدّهور مرور السّحاب وأنا كما أنا، ما تغيّر شيء فيّ.
أنا الجميلة دوما.
العاشقة دوما.
المعشوقة دوما.
أنا الحبلى بكلّ ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين.
أنا التي تعطي ولا تمنن
أنا التي تجوع ولا تشتكي.
أنا التي ...(عفوا لن أقول كلّ شيء) " (ص179).
ولكنّها ستقول كلّ شيء وستوضّح ما خفي من أبعاد في علاقتها بدرويش وسندرك سرّ نفورها منها واستحالة التقائهما. فهي الأرض العربيّة يدوسها الغريب منذ ألف عام ولا من حام. وهو العربيّ يعيش غريبا عن عصره يشدّه إلى الماضي تراث ونمط عيش وتفكير تجاوزهما التّاريخ. تقول نمرة مسترجعة: "يومها أهداني درويش سيفا مذهّبا وفرسا وكسوة حرير اشتراها من متحف قطر النّدى. وكنت أرغب في غير ذلك. كنت أتشهّى جواهر باريس وبارودة الغريب" (ص180).
روت نمرة في آخر النّصّ فسلّمت القارئ مفتاحا من مفاتيح هذا النّصّ ووجّهته نحو قراءة رمزيّة. لكنّها، وقد فعلت، جنّبته عناء البحث فحرمته لذّة الكشف. والمتأمّل في الباب الذي روت يتبيّن أنّها كانت في أكثر من موضع قناعا شفّافا لمن فوّض إليها السّرد وعهد إليها بفكّ بعض الرّموز. تقول في مستهلّ الباب: "سأحكي ليلة أخرى نسيها الرّواة ولم يدوّنها الكتبة: بلغني أيّها القارئ السّعيد ذو الرّأي السّديد أنّ درويشا عاد من السّفر ذات يوم من أيّام شهر كانون الثّاني/ يناير..." (ص179). فمن أدراها أنّها تروي لقارئ وأنّ ما ترويه يندرج في نصّ أوسع لا يستهدف قارئا بعينه وإنّما القارئ ؟ وبعبارة أخرى كيف أمكن لها وهي الرّاوية من الدّرجة الثّانية أن تخاطب مرويّا له لا يقع وإيّاها في مستوى سرديّ واحد ؟
لقد نزل الرّاوي الأوّل عن السّرد لنمرة ولكنّ نزوله لم يكن تامّا. فقد أرادها راوية مضمّنة في الحكاية تروي من وجهة نظرها أحداثا هي طرف فيها. وأرادها، في الآن نفسه، صوتا غريبا عن الحكاية يأخذ بيد القارئ فينوب عنه في فكّ بعض الرّموز التي يقدّر الرّاوي الأوّل أنّ القارئ عاجز عن حلّها بمفرده.
وهكذا فالشّخصيّة في "الدّراويش" تُردّ، رغم تعدّد وجوهها، إلى وجه واحد لعلّه علّة وجودها في النّصّ. ففرنسوا مارتال هو الغربيّ المستعمر ودرويش هو العربيّ العاجز منذ "ألف عام" ونمرة هي الأرض العربيّة المقهورة منذ أمد غير قصير. فالشّخصيّة ليست مقصودة لذاتها بقدر ما هي مطيّة لتبليغ أفكار ومواقف ووسيلة إلى معالجة القضيّة الحضاريّة. ويبدو أنّ هذا التّصوّر للشّخصيّة ثابت من الثّوابت لدى الكاتب. يقول محمّد القاضي مختتما دراسة الشّخصيّات في "شبابيك منتصف اللّيل" : "فهذه الشّخصيّات ليست في الحقيقة إلاّ أفكارا ومواقف وهي بدد ممّا يعشّش فينا من آراء ومذاهب ونظريّات ومفاهيم وأنماط سلوك وأخلاقيات" .
خاتمة
يتبيّن من كلّ ما تقدّم أنّ للعالم الحكائيّ في "الدّراويش" مكانة تعادل مكانته في النّصوص الرّوائيّة التّقليديّة. فلم يطمسه البحث عن جديد الأشكال وطرائق السّرد بقدر ما ساهم في تجليته. وقد جاءت كلّ مكوّناته متعاضدة لخدمة الفكرة الأساسيّة للنّصّ. فتعدّدت الوقائع وتنوّعت ولكنّها صبّت جميعا في مصبّ واحد: إبراز ضعف الذّات وقوّة الآخر. واختلفت الأمكنة والأزمنة ولكنّ استخدامها الفنّيّ جعلها تساهم مساهمة فعّالة في إبراز جوانب من القضيّة المركزيّة المعالجة. أمّا الشّخصيّات فأدّت دورا مهمّا في سير الأحداث وفي تبليغ المواقف والآراء. ورغم أنّ بناء بعضها كان بناء تقليديّا فثمّة محاولة محتشمة للتّخفيف من استبداد الشّخصيّة الواحدة الوحيدة بالأحداث إذ تنازع أكثر من شخصيّة البطولة وإنّها لبطولة تقنية. وأنّى لها أن تكون حقيقيّة في نصّ يصوّر الفواجع والهزائم في مجتمع سمته الضّعف والتّفكّك ؟ ولقد أوكلت البطولة الحقيقيّة إلى الأطفال في المشهد الأخير. وقد أريد لها أن تكون جماعيّة لتحقّق ما عجزت عنه الأجيال الحاضرة.
ولقد اعتبر البعض هذه النّهاية مسقطة ورؤية الكاتب للعالم في هذه الرّواية متشائمة. وعدّ مصطفى الكيلاني مثلا هذا الضّرب من الكتابة "كتابة انزواء" واعتبر الرّغبة الملحّة في الانزواء "استجابة حدسيّة لنداءات ترِد أصداؤها من أبعد الأقاصي وتتردّد في الذّات الكاتبة فيستبدّ بها قلق اللّحظة ويتملّكها رعب المصير" . وعدّ التّذكّر في "الدّراويش" "فعل وجود وليس تقنية سرديّة فحسب يراد بها الاسترجاع تنفيذا لخطّة مسبقة" . وإنّا , وإن كنّا نتّفق مع الكيلاني في أهمّية التّذكّر في النّصّ نخالفه الرّأي في اعتباره مصدر السّرد الوحيد. فالماضي المستحضر نصّا كان أو تاريخا أو أسطورة ليس مقصودا لذاته والوقائع المسترجعة المتعلّقة بسيرة الشّخصيات المشاركة لم تستبدّ إلاّ ببابين نهض الاسترجاع فيهما بوظيفة التّفسير التّقليديّة. وفي ما عدا ذلك انتظمت الأحداث المباشرة وفقا لنمطي التّناوب والتّعاقب. وتطوّرت، رغم بعض الاسترجاعات، من بداية إلى وسط فنهاية.
فالحاضر هو مدار الاهتمام ومولّد السّرد والدّافع إلى الكتابة ولكن لا يُنظَر إليه بمعزل عن الزّمنين الآخرين. ولعلّ الزّمن الأهمّ رغم حضوره النّصّيّ المتقلّص جدّا هو زمن المستقبل. ولعلّ فعل الوجود الأهمّ في النّصّ هو فعل الكتابة وتحديدا فعل القصّ المكتوب. فالدّرغوثي وهو سليل شهرزاد يقصّ ليدفع عن نفسه الموت ولكنّه لا يقصّ ليمتع أو ليعظ أو ليهذّب الطّباع وإنّما هو يسرد ليضع الإصبع على مواطن الدّاء وليبشّر بمستقبل يرجو أن يكون أفضل من الحاضر والماضي معا. ولئن طغى الانفعال على الرّاوي الأوّل في نهاية الأحداث فزجّ بدرويش وسكّان القرية في الكهف فلأنّ بداية الكتابة زامنت بعض الواقع المصوّر في بعديه المحلّيّ والعربيّ. وإنّ مشهد الأطفال الذي به تنغلق الحكاية ليفتح أبواب المستقبل مشرعة وليؤكّد أنّ اليأس من الحاضر مهما بلغت شدّته لا يتناقض والإيمان بالمستقبل .
إنّ الكتابة في هذه الرّواية سلاح في معركة الحاضر الضّارية وسبيل من سبل انعتاق الذّات ووسيلة إلى تبليغ رسالة يُراد لها الفعل في القارئ. وهو ما يفسّر وضوح الخطاب وشفافيته والمبادرة بفكّ الرّمز إذا ما كثف الخطاب وهُدّدت الوظيفة الإبلاغيّة وهو أسلوب يكاد يكون ثابتا من ثوابت الرّواية العربيّة في تونس .
الهوامش

دار رياض الرّيّس للكتب والنّشر، الطّبعة الأولى، لندن/ قبرص، كانون الأوّل/ ديسمبر1992 .
مصطفى الكيلاني، الهاجس الحضاريّ في رواية الثّمانينات التّونسيّة، الصّباح الأسبوعيّ، تونس، 4/ 4/1992 .
فرج الحوار وصلاح الدين بوجاه وهشام القروي في روايته "ن".
العالم الحكائيّ ( L'univers diégétique) مفهوم يعيّن العالم الفريد الذي تبنيه كلّ قصّة ( Récit). انظر:
J-M. Adam et Françoise Revaz, L'analyse des récits, Mémo, Seuil, février, 1996, p.13.
أغلب ما كتب عنها مقالات صحفيّة قصيرة تهدف إلى التّعريف بها ولعلّ نشرها خارج تونس وكونها الأولى يفسّران هذا النّقص في الدّراسات.
انظر مثلا قول الرّاوي الأوّل: "ما رأيكم أصدقائي الكرام لو نترك القصّة في هذا المقطع ونعود مع قافلة السّيّاح الأمريكان إلى نزل الأنترناشيونال" (ص79).
أدّى تطوّر الكتابة الرّوائيّة في عصرنا إلى تطوّر دور القارئ. وفي هذا الصّدد يقول دانون بوالو: "منذ عهد جويس (Joyce ) تغيّر موقع القارئ في الرّواية ووظيفته. فما يطلب منه لم يعد أن يتعرّف إلى ذاته في مغامرات شخصيّة ما أو في أهوائها وإنّما أن يتماهى مع الكاتب نفسه. فأن تقرأ هو أن تحتلّ موقع المبدع وأن تجعل من رؤيته للعالم ومن بنائه للّغة رؤيتك وبناءك أي أن تنتج مجدّدا الخياليّ. فشرط الرّواية المعاصرة هذا يتطلّب من جانب القارئ ثورة حقيقيّة". انظر:
Laurent Danon-Boileau, Produire le fictif (Linguistique et écriture romanesque), Librairie des Méridiens, Klincksieck et Cie, Paris, 1982,p.9.
من خصائص الكتابة السّرديّة في "الدّراويش" الخروج عن الكتابة الرّوائيّة التّقليديّة والإفصاح عن قصّة الكتابة ومراجعها إفصاحا مباشرا والجرأة في الاعتراف بأنّ بعض ما في الرّواية جزء من سيرة الرّوائيّ وسرد التّاريخيّ واليوميّ والأسطوريّ والشّعبيّ. انظر فصل " الدّراويش يعودون إلى المنفى أو حرّيّة الكتابة وقهر الإيديولوجيا" من كتاب عمر حفيّظ "التّجريب في كتابات إبراهيم درغوثي القصصيّة والرّوائيّة"، صامد للنّشر والتّوزيع، صفاقس، نوفمبر1999 ، ص13–44 .
Umberto Eco, Apostille au Nom de la rose, traduit de l'italien par Myriem Bouzaher, Grasset, 1985, p.26 et 28.
نفسه، ص 28- 36.
J-M. Adam et F. Revaz, L'analyse des récits, op. cit, p.13.
سنهتمّ خاصّة بالوقائع المباشرة أو الحاضرة أي تلك التي تحتلّ المستوى الأوّل من القصّ مشكّلة القصّة الإطار أو الأصليّة وذلك لوفرة الأحداث المسترجعة ولعسر تلخيصها.
يقول مصطفى الكيلاني في هذا الصّدد: "وتظلّ حكاية "فرانسوا مارتال" وخادمه "عبدو" الخيط الوحيد النّاظم الذي يجمّع شتات النّصّ الرّوائيّ ويقيه من الاندثار الكامل في زحمة التّداعيات كالنّفاذ إلى البعض من تفاصيل حياته اليوميّة مثل علاقته اللّواطيّة بخادمه والصّلاة والخمرة والحشيش وتنظيم سهرات راقصة ماجنة". انظر مقاله "فعل التّذكّر ومراجع الذّاكرة في نماذج من الأدب الرّوائيّ التّونسيّ، الحياة الثّقافيّة، السّنة 23 ، العدد81، جانفي 1998، ص19.
ونحن لا نوافق هذا الرّأي لأنّ فرانسوا مارتال وخادمه غابا غيابا كلّيّا في الباب الثّالث واختفيا نهائيّا بنهاية الباب العاشر وتواصل السّرد في الأبواب الأخيرة ولا محور له غير درويش أو نمرة.
يرى بارت في معرض حديثه عن الوصف في النّصّ السّرديّ أنّه لا يوجد أيّ حرج في تخيّل أسود أو أشجار زيتون في بلد من البلدان الواقعة شماليّ الكرة الأرضيّة. فالفنّان لا يخضع إلاّ لضغط الجنس الأدبيّ. انظر:
Roland Barthes, L'effet de réel, in Littérature et réalité (collectif), Seuil, 1982, p.84.
نحن نشدّد.
الرّاوي في "الدّرويش" يروي من خارج الحكاية أحداثا لم يشارك فيها. ويقول جينات عن هذا الضّرب من الرّواة: "إنّ الرّاوي من خارج الحكاية يلتبس تمام الالتباس بالكاتب. ولن أقول، كما يقول الغير بإطناب، الكاتب "الضّمنيّ" بل أقول الصّريح والمعلن فعلا. ولكنّني لا أقول "الواقعيّ" بل أقول قد يكون أحيانا (نادرا) واقعيّا. انظر:
Gérard Genette, Nouveau discours du récit, Seuil, novembre, 1983,p.92.
يقول مصطفى الكيلاني عن "الدّراويش" إنّ "الرّواية فعل استقدام لوقائع شتّى تفكّك العصور وتعيد بناءها في زمنيّة سرديّة تؤالف بين المتباعدات في التّاريخ والانتماء الحضاريّ". انظر "فعل التّذكّر ومراجع الذّاكرة..."، مرجع مذكور، ص19.
هذا ما قد يفسّر أنّ الحديث عن ماضي العرب المشرق جاء في شكل سرد مجمل. تقول نمرة: "[رأينا القمر فقلنا هذا ربّنا فلمّا أفل قلنا نحن لا نحبّ الآفلين] ثمّ شققنا الأرض وزرعناها حبّا، وأنبتنا الحدائق تينا وزيتونا وحدائق غلبا. وملأنا الأرض ماعزا وخرفانا وجمالا وحميرا وخيولا يقدح الشّرر تحت أقدامها [...]" (ص181).

المقصود هو النّفط.
نجد مثل هذا الاستخدام لثنائيّة اللّيل والنّهار في رواية درغوثي الثّالثة. يقول محمّد القاضي: "والنّاظر في الزّمن الرّوائيّ يلاحظ هيمنة اللّيل عليه [...] على أنّ الظّلام الذي يمدّ أجنحته على الرّواية يتجلّى في نهايتها [...] إنّ موت أبي البركات بعد أبي الشّامات وأبي اللّعنات إيذان ببدء زمن جديد تسوده قيم جديدة". انظر:
محمّد القاضي، رواية "شبابيك منتصف اللّيل" لإبراهيم درغوثي، الحياة الثّقافيّة، السّنة21، العدد80، ديسمبر1996، ص58 و59.

البابان التّاسع والحادي عشر والفصل الأخير من الباب الثّالث.
غالبا ما لا يكون اختيار الاسم العلم اعتباطيّا وهو يخلق، أوّل ظهوره في النّصّ، آفاق انتظار لا تخيب غالبا. يقول فيليب هامون بعد أن عرض لأسماء أعلام في بعض النّصوص القصصيّة: " إنّ مثل هذه الأسماء "الشّفّافة" تؤدّي وظيفة تكثيف برامج سرديّة وتخبر سلفا عن مصير الشّخصيات التي تحملها وتيسّر توقّعه. فهذه الأسماء إذن عنصر مهمّ من عناصر وضوح القصّة ولكنّه عنصر لا ينفي أحيانا تخييب آفاق الانتظار". انظر:
Philippe Hamon, Pour un statut sémiologique du personnage, in Poétique du récit (collectif), Seuil, 1977, p.150.
Paul Robert, Dictionnaire le Robert, Paris, 1991, p.508.
المعجم الوسيط، دار الأمواج، الطّبعة الثّانية، بيروت، 1987 ، ص280.
العبارة للشّاعر الطّاهر الهمّامي.
يقول محمّد صالح الجابري إنّ فرنسوا مارتال "شخصيّة استعماريّة لا يعرفها إلاّ أهل الجريد". انظر مقاله "ويأتي الإبداع من (كريز)"، جريدة الرّأي العامّ، تونس، السّبت 10ديسمبر1994.
تقول سامية أسعد: "جسد المرأة مكان يرمز في كثير من الأحيان إلى الأرض ذاتها. ولقد دلّل على ذلك علماء النّفس خاصّة". انظر:
سامية أسعد، القصّة القصيرة وقضيّة المكان، فصول، المجلّد الثّاني، عدد يوليو/ أغسطس/ سبتمبر1982، ص185.
مصطفى الكيلاني، فعل التّذكّر ومراجع الذّاكرة، مرجع مذكور، ص19.
نستثني منه السّطر الأخير: "وأدرك شهرزاد الصّباح فسكتت عن الكلام المباح" (ص187).
هي "نمرة" ابنة عمّ درويش (ص57) وشهرزاد (ص179) ونمرة بنت المنذر (ص184).
يرى جينات أنّ لكلّ راو مرويّا له يقع وإيّاه في مستوى سرد واحد. فالرّاوي الأوّل يناظره مرويّ له أوّل والرّاوي من الدّرجة الثّانية (شهرزاد مثلا) يقابله مرويّ له من الدّرجة الثّانية (شهريار) وللرّاوي من الدّرجة الثّالثة (السّندباد البحريّ) مرويّ له من الدّرجة الثّالثة ( الحمّال وأصحاب السّندباد البحريّ) وهكذا دواليك. انظر:
Gérard Genette, Nouveau discours du récit, op. cit. p.91.
وعلى هذا الأساس فالكاتب هو الذي يتوجّه بالخطاب مباشرة إلى القارئ.
دار سحر، تونس، 1996.
محمّد القاضي، رواية شبابيك منتصف اللّيل لإبراهيم درغوثي، مرجع مذكور، ص60.
افتتح الباب الثّاني بتقديم جاهز لشخصيّة فرنسوا مارتال يذكّر بتقديم الشّخصيات في الرّوايات التّقليديّة. يقول الرّاوي: "كان السّائح الفرنسيّ الجنسيّة يزور قريتنا مرّتين في العام الواحد. رحلة الشّتاء والصّيف. فرنسوا مارتال كاد يفارق سنّ الشّباب إلاّ أنّ بنية جسمه مازالت شديدة، فهو طويل، ذو كتفين عريضين، ووجه حليق دائما كوجوه القدّيسين المعروضة في أيقونات الأديرة القديمة وكلّ ما يلفت النّاس إليه أكثر من غيره مشيته المتخنّثة [...] " (ص41).
انظر مثلا: عمر حفيّظ، الدّراويش يعودون إلى المنفى أو حرّية الكتابة وقهر الإيديولوجيا، مرجع مذكور، ص7.
مصطفي الكيلاني، فعل التّذكّر ومراجع الذّاكرة، مرجع مذكور، ص12.
نفسه، ص20.
نفسه، ص20.
البابان الثّالث والتّاسع.
يقول الكاتب النّصّيّ في "قبل البداية": "لم أكن أريد قبل هذا اليوم كتابة هذه الرّواية [...] ولكنّ درويشا هدّدني بالقتل [...] وظلّ درويش يهدّدني في كلّ ليلة إلى أن مرّ إلى التّنفيذ. استيقظت ذات صباح وإذا بجرح في عنقي [...] في اللّيلة التي تلت ليلة الذّبح جاءني درويش وبيده مسدّس مطبوع فوق جلده ( المسدّس مغلّف بجلد تمساح) Made in USA وقال: إن لم تكتب الرّواية هذه المرّة أسكنت في جمجمتك رصاصة أمريكيّة" (ص13و18).
اندلعت الحرب ضدّ العراق في16 جانفي1991 وامتدّت كتابة "الدّراويش" من "كانون الثّاني/ يناير إلى حزيران يونيو1991"(ص206 ).
النّهاية المتفائلة أردفها الكاتب بفصل مندرج في الخطاب على الخطاب وسمه ب"بعد النّهاية" هو عبارة عن قصيدة لقسطنطين كافافي تقطر حزنا وتشاؤما. وإنّ اختيار هذه القصيدة لا ينفي التّفاؤل بقدر ما يكشف ما يعانيه الكاتب من ألم بسبب عجزه وعجز جيله عن الفعل إيجابا في الواقع.
يبدو أنّ إدانة الحاضر والإيمان بالمستقبل من الثّوابت في مدوّنة إبراهيم درغوثي السّرديّة. يقول محمّد القاضي: "إنّ درغوثي لا يصف بل يحكم وهو لا يروي تاريخا بل يبشّر بمستقبل. إنّ هذه الرّواية رفض للموقف الانكفائيّ سواء أتوكّأ على التّراث أم ضرب في مهامه الاستلاب أم تقوقع في محارة الصّفويّة الروحانيّة". انظر مقاله "رواية "شبابيك منتصف اللّيل" لإبراهيم درغوثي"، مرجع مذكور، ص60.
ويقول محمّد النّاصر العجيمي: " فالسّطر القصصيّ عند الدّرغوثي يحمل في تصوّرنا شحنة من الانفعالات قد قد لا ننجازف إن اعتبرنا أنّها مزيج من السّخط أو الغضب والشّعور بالإحباط والمرارة وفي الآن ذاته من الأمل والتّطلّع إلى علاقات اجتماعيّة وبشريّة جديدة مبنيّة على مبادئ المحبّة وقيم الأخوّة". انظر مقاله "مدخل إلى قراءة القصّة القصيرة الحديثة: الكتابة القصصيّة عند إبراهيم درغوثي انموذجا" (مخطوط)، ص22 .
انظر مثلا كتابنا "الرّاوي في السّرد العربيّ المعاصر .

باقر جاسم محمد
29/10/2006, 12:42 AM
تمثل مقالة محمد نجيب العمامي المعنونة "العالم الحكائيّ في "الدراويش يعودون إلى المنفى" لإبراهيم درغوثي مثالا ً ممتازا ً على أهمية أن يرتقي النقد إلى الأدبي إلى مصاف الكشوف الفنية التي تنجزها الأعمال الأدبية. إنها تظهر أهمية التزود بأدوات منهجية و مصطلحات جديدة تستطيع أن تكشف عن التخوم الابداعية للنص دون أن تسقط في لعبة التماهي معه. لذلك أجد نفسي ممتنا ً للكاتب الذي أظهر قدرة فكرية فريدة في التحليل و الاستنتاج المبني على رؤيا تصل حد الابداع النقدي حول نص إبداعي هو الآخر. إنه نص " تتداخل فيه تداخلا محيّرا الأمكنة والأزمنة والواقعيّ والخرافيّ والأسطوريّ والتّاريخيّ والحلم والمعيش." و هكذا فإنني أدعو قراء واتا إلى أن يلتفتوا إلى هذا النص النقدي المهم. و أرجو أن يتواصل معنا الأخ العمامي دائما ً.
مع مجبتي. باقر جاسم محمد

محمد نجيب العمامي
29/10/2006, 01:19 AM
الأخ باقر جاسم محمد
أحيّيك وأشكرك على تقويمك الإيجابيّ لعمليي و على تفطّنك إلى إصغائي للنص. وهو بالمناسبة نصّ جيّد صياغة ومضمونا.
دمت بخير
محمد نجيب العمامي
http://laamaminajib.tripod.com

ابراهيم درغوثي
09/12/2006, 01:28 AM
شكرا للأخوين جاسم ونجيب
فقط أردت اعلام الأخ جاسم بوجود نص
رواية الدراويش يعودون إلى المنفى في بالب الروايات بهذا المنتدى
مع شكري وتقديري