المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جلسة مع "مظلة في قبر " لمصطفى لغتيري- كتبهامحمد فري



مصطفى لغتيري
23/10/2006, 01:47 PM
جلسة مع "مظلة في قبر " لمصطفى لغتيري
كتب المقال محمد فري.
أهداني الأستاذ القاص مصطفى لغتيري مجموعته القصصية " مظلة في قبر " منذ مدة..والمثير هنا أنني قرأتها في جلسة واحدة، ومعنى ذلك أن هناك شيئا جذبني في المجموعة، وجعلني أتابع القراءة دون تأجيلها، وقد يتعدد هذا الشئ ويتنوع، لكنه يبقى مرتبطا دائما بالإحساس بالمتعة، وهذا ما شعرت به وأنا أتابع القصص القصيرة جدا في هذه المجموعة، والتي بلغ عددها سبعة وخمسين أقصوصة.
عدد القصص هنا يؤكد تمرس الكاتب بهذا النوع من السرد، وميله الشديد إليه، والحقيقة أنه جنس له خصوصياته التي تميزه عن غيره، كما أن الآراء قد تعددت واختلفت حوله، فهناك من اعتبر القصة القصيرة جدا متأصلة عن الحكاية والخبر والطرفة في تراثنا القديم، ولعل هؤلاء قد ربطوها بمتعة الخبر أو الحدث الذي تتركه الحكاية، فقارنوها بما جاء في كتاب المستظرف وغير المستظرف من الكتب التراثية الجامعة للأخبار التي تراهن على السخرية والمفارقة. وهناك من اعتبرها جنسا أدبيا غير مستقل عن القصة والقصة القصيرة مادامت تتوفر على نفس عناصر البنية السردية، وهناك من شبهها بالمقامات محاولا إيجاد عناصر الائتلاف والاختلاف..إلى غير ذلك من الآراء التي اختلفت وجهات النظر فيها، واجتهد كل منها في التدليل على مواقفها بالأدلة والبراهين.
وإن كان لي من رأي في الموضوع، فإني أعتقد أن القصة القصيرة جدا، جنس أدبي له خصوصياته التي تجعله مستقلا بذاته، والذين قارنوها أو قرنوها بأجناس أدبية سردية قديمة، هم أنفسهم الذين قارنوا وقرنوا القصة والرواية بنفس الأجناس، وكأن الحكاية تعيد نفسها.
حقا تعتمد القصة القصيرة جدا على الاختزال والتكثيف والجمل القصيرة، لكنها تعتمد أيضا على عنصر آخر مهم أسميه " الذكاء وحضور البديهة "، فالكاتب يترجم ذكاءه وحضور بديهته بواسطة " إيحاءات " ينقلها عبر نسيج سردي سريع يفتح باب التأويلات أمام القارئ، وكلما كثرت الأبواب هنا كلما كان العمل أكثر نجاحا، لأن الأقصوصة القصيرة جدا هنا لا تصبح خاضعة لتفسير واحد، قد يفرضه الكاتب مسبقا، بل تفتح الأذرع أمام القارئ وتستقطبه لتجعله مشاركا من نوع خاص في الكتابة، أو كأنه قارئ يملأ ثغرات السرد التي تركها الكاتب قصدا.
القصة القصيرة جدا بهذا المفهوم تجعلني أتذكر النص الشعري القصير جدا، والمعروف "بالهايكو "، فلعل بينهما بعض أوجه الالتقاء، ولعله رأي بحاجة إلى تحليل دقيق ودراسة متمعنة ليس الآن وقتها.
أضيف أن القصة القصير ة جدا ليست جديدة كل الجدة، بل لها مسيرتها الطويلة في تاريخ الأدب، وأذكر منذ سنوات ليست بالقليلة متابعتي لعمود صحفي بإحدى الجرائد المغربية عنونه صاحبه " بقصة فلاش أو قصة في دقيقة "، والحقيقة أن القصة القصيرة جدا لا تخرج عن كونها " فلاشا " أو ومضة سريعة توحي لك بما تثيره من مواقف وآراء..
لعلني أطلت في مقدمة هذا النص الذي هو أصلا قراءة في مجموعة القاص المغربي مصطفى لغثيري، لكن ما يشفع لي في ذلك هو أن الحديث عن القصة القصيرة جدا لا ينفصل عن ذكر كتابها المرموقين ومن بينهم الأخ مصطفى، لذا فأغلب الآراء السابقة لا تنفصل عن الكاتب ومجموعته.
وعلى عادة القراءات الموازية أنطلق في عجالة من العنوان والصورة الظاهرين على الغلاف، فهما معا يوحيان لي بالانطلاق من الضيق إلى الشساعة، ، فالقبر في العنوان رمز للضيق لكن المظلة قد توحي بعكس ذلك، والصورة بدورها توحي لك بتواجدك وراء جدار يحاصرك لكن فتحته تقذف بك إلى فضاء واسع يساعدك على التنفس بارتياح، الضيق والشساعة في المؤشرين هنا قد يرتبطان بأهم ميزة في القصة القصيرة جدا ، وهي ( ضيق الشكل وشساعة المعنى )، لأن بإمكان هذا الجنس الأدبي فعلا أن يلخص أفكارا كثيرة في كلام قليل جدا.
ولقد قال مصطفى لغتيري الكثير من الأفكار الجميلة في كلام قليل، معتمدا عنصر التكثيف، ومختصرا عناصر بناء الجملة، وموظفا الرمز والصورة، دون التفريط في عنصر السردية الذي هو قوام القصة وروحها وجوهرها، والذي يقيها من السقوط في أجناس أخرى كالخاطرة أو القصيدة النثرية.
المجموعة كما سبق ذكره، تتكون من سبع وخمسين قصة قصيرة جدا، جل عناوينها تتكون من كلمة واحدة ماعدا ثلاثة، وهي عناوين ترتبط كلها بمتونها ارتباطا عضويا متماسكا، فتتوحد الدلالة وتتكامل بين المتن والعنوان تكاملا تاما لا يمكن فصله.
ولعل الكثير من النصوص قد استندت في المجموعة إلى التاريخ، وقد يرجع ذلك إلى خاصية توظيف الرمز من طرف الكاتب، إذ هو عنصر يساهم في تكثيف الدلالة وجعلها مشعة بالإيحاء دون الحاجة إلى تفسير طويل قد يتعارض مع طبيعة القصة القصيرة جدا. وفي حوار تحدث فيه الكاتب عن تجربته القصصية بموقع دروب، قال عن هذه الخاصية موضحا:" القصة القصيرة جدا، نظرا لقصر حجمها، لا تسعف الكاتب في بناء شخصياته، لهذا يتم التحايل على هذا الجانب باستدعاء شخصية من التاريخ مرسخة في ذهن القارئ، فتكفي الإشارة إلى اسم الشخصية مثلا حتى ينبني لدى القارئ تصور حول الشخصية، فيتخلص الكاتب من إحراج بناء الشخصيات"
وقد تكون الإشارة إلى هذه الشخصيات التاريخية مباشرة فيذكر اسمها صراحة كما في قصة المومياء مثلا، حيث:
”" جد نابليون في البحث، ونصب عينيه ما حدث منذ زمن سحيق بين أنطونيو ومعشوقته كليوبترا.
لم يأل جهدا في سبيل تحقيق مبتغاه، لكن بعد مدة طويلة من التقصي، ىاقتنع أخيرا أن المرء ليس بوسعه السباحة في نفس النهر مرتين. حينذاك، حمل معه مومياء، وعاد، قانعا بغنيمته، إلى فرنسا "
ولعل الإشارة تنطوي هنا على دلالات واسعة قد تكون إحداها استحالة تكرار التاريخ، لكن يعجبني التأويل الدال على فشل فرنسا في كسب حب مصر وتعاطف أبنائها معها لأن حملتها كانت استعمارية أكثر من كونها علمية ثقافية، فقنعت بالمومياء دون الروح.
وقد تكون الإشارات في النصوص إلى الشخصيات التاريخية غير مباشرة، كما في أقصوصة احتمالات:
" أخذ الكتاب بين يديه .. متلهفا طفق يقلب صفحاته.. فجأة تملكته بلا رحمة.. قكرة أن يتسبب الكتاب في موته..
احتمال أول:
- إنه يقرأ حكاية الملك يونان والحكيم دويان من كتاب ألف ليلة وليلة.
احتمال أول:
- إنه يقرأ كتاب " اسم الوردة " لأمبرطو إيك
احتمال ثان:
- إذا تعرفت على هذا الاحتمال.. فإنك - بلا جدال - تستحق صفة مثقف. "
فالاحتمالات هنا ترتبط بفكرة أن يتسبب الكتاب في موت صاحبه، ونجد محاولة للإجابة في الاحتمال الأول، ومحاولة أخرى في الاحتمال الثاني، ويبقى الاحتمال الثالث مفتوحا لاجتهادات القارئ الذي قد يتذكر مثلا سقوط رف الكتب على الجاحظ.
إشارة إلى شخصية تاريخية أخرى نجدها في أقصوصة ديانا:
" في أعماق قلبها طفقت الأميرة تشيد هرم خوفو..
لبنة لبنة..
حين أوشكت على وضع الحجر الأخير،
خاتلتها الملكة..
سحبت من قاعدة الهرم حجرا..
انهدم البناء، فتصدع قلب الأميرة. "
والجميل هنا هو هذا البناء الإيحائي الذكي، فالأميرة حاولت جاهدة تشييد هرم خوفو لبنة لبنة، إشارة إلى العلاقة الوجدانية بين ” ديانا ” البريطانية وابن الثري المصري، وهي علاقة لم تكتمل بسبب الحدث المأساوي المعروف، وكأن لعنة الملكة كانت هي الأقوى بسبب عدم رضاها عن هذه العلاقة " المهينة " للقصر، فكان سحب الحجر من قاعدة الهرم، وكان انهدام البناء، وكان موت الأميرة.
بالإضافة إلى الاعتماد على الشخصيات التاريخية هناك الاعتماد على عنصر المفارقة التي تأتي في آخر النص كالصدمة المتوقعة، وهناك نماذج كثيرة لهذا الجانب في المجموعة أذكر من ذلك على سبيل المثال قصة العولمة:
”"صعد الزعيم إلى المنصة..
لعن العولمة،
لعن الإمبريالية،
واقتصاد السوق.
أحس - فجأة - بغلة تكتسح جوفه..
أومأ إلى أحدهم،
فأحضر له - دون تباطؤ -
زجاجة كوكاكولا. "
الزجاجة هنا تختصر العولمة كلها، وكان استحضارها في النهاية بارعا وبليغا، كالصدمة الموقظة من النوم
مفارقة أخرى ذكية نجدها في قصة الزوج:
"توقف القطار.. عانقت الزوجة زوجها مودعة..بعد هنيهة ابتلعتها مقطورة.. عبر الزجاج أطلت عليه، وعلى ثغرها ابتسامة رحبة..رد الزوج بأخرى أقل رحابة..تحرك القطار، ثم ما لبث أن اختفى عن النظر.. لحظتها أجال الزوج بصره في المحطة.. لمح امرأة شاردة الذهن.. تأملها برهة.. بغتة داهمه إحساس بأن المرأة - لا ريب - ودعت زوجها.. وأنه اللحظة قد يكون في نفس المقطورة، حيث تجلس زوجته."
أو في قصة ادخار التي تتحدث عن الشخص الذي يدخر من أجل شراء سيارة فيستعذب الادخار وينسى السيارة.
هي قصص قصيرة جدا إذن تؤكد دقة التركيب وقوة الإيحاء وكثافة الرهان عبر سرد متميز بحبكة متينة وقوية تكشف بجاذبية عن رهانات متعددة كالإشارة إلى تناقض العقل والنقل في قصة نيزك ، أو لا محدودية المعرفة وانعدام أحادية التأويل في قصة متاهة، أو اعتبار الحياة معاناة بدءا ونهاية كما في قصة صرخة، أو التشبث بالحياة حتى ولو كانت الوسيلة معاناة مثل قصة خبرة، أو نشدان السعادة حتى ولو كانت مصطنعة كما في قصة سعادة.. إلى غير ذلك من النصوص القصيرة المنطوية على رهانات كبيرة..
ويطول الحديث عن مضامين ورهانات قصص مصطفى لغثيري..وتحسن الإشارة في الأخير إلى تناص جميل أقامه الكاتب مع قصة -البرتقالة - المعروفة لأحمد بوزفور:
" صباحا فتحت باب الثلاجة.. مددت يدي داخلها.. تناولت برتقالة.. متلذذا شرعت أقشرها.. فجأة أمام ذهولي، تحولت البرتقالة إلى سيارة أجرة صغيرة حمراء.. شيئا فشيئا استحالت دهشتي إعجابا بالسيارة.. بتؤدة فتحت بابها الخلفي.. انبثق منها الكاتب متأبطا أوراقه.. مددت يدي نحوه.. دون تردد سلمني إحداها.. متلهفا قرأتها..إنها قصة سيارة أجرة، تحولت إلى برتقالة."”
هي رؤيا من الأخ لغثيري..يتعهد فيها بمتابعة مسيرة القصة القصيرة جدا.. مترسما خطى الكبار الذين سبقوه..في ميدان منفتح باستمرار على عناصر التطوير والتجريب