المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اليتيم



مروان العزي
08/08/2012, 10:29 AM
عادت مساءً إلى بيتها، تَجرُّ خُطاها التي أثقلها الألم، وتتعكَّزُ على أوجاعها، بعدَ يومٍ أمضتهُ في تنظيف بيوت الأغنياء وخدمتهم.

عادت تحمل سلَّتها الَّتي صنعتها من "خوص" سعف النخيل، تحملُ بداخلها ما جادَ به عليها أهلُ الجودِ والكرم، تحملهُ إلى طفلها اليتيم، الَّذي حَمَلت أمانةَ تربيته وحْدَها بعد وفاة زوجها، الَّذي فارق الحياة، ولم يترك بعدهُ سوى الثَّمن الَّذي يكفي لإيصاله إلى القبر، وبعد أن أشاح بوجهه عنها الأباعدُ وذوو الرَّحِم!

لكن الحزن الَّذي وَقَر في قلبها مُمازجًا إيمانها كان يُجمِّلهُ الصَّبر والأمل في أن ترى ذلك اليتيم رجلاً صالحًا فاضلاً غنيًّا تجتمع فيه الصفات الحسنة، تُمنِّي نفسها أن تراهُ مؤمنًا قويًّا، كانت تربيه على عزَّة النَّفس، وتَحْرِصُ أن تزرع فيهِ قيم الإسلام، تراهُ يكبرُ كلَّ يوم، يكبرُ لأنَّهُ يشعرُ بما تحملهُ الأم من حُزن، ومن مسؤولية، فتراهُ ينزعُ ثوب الطفولة، وينضو رداء المرح واللهو دون أن يعلم، وكأنَّهُ يشعرُ أن عليه أن يكبر قبل الأوان، ويحملَ المسؤولية قبل وقتها!

كانت تتنغم وهي تروي لطفلها قصصًا من السِّيرة النبوية العطِرة، كما عوَّدتهُ كلَّ ليلة قبل أن يغمض أجفانه، على حين تبقى عيونها تحرسه وتتأمل ملامحه دون أنْ تَذوقَ طيب الكرى، أو تهجع غير ساعةٍ من ليل، ترقب الصَّباح لِتحملَ سلَّتها وتخرجُ كعادتِها تطوفُ على بيوتات الأغنياء.

وذات يومٍ من أيَّامها قضتهُ كما تعوَّدت أن تقضي كلَّ يوم، عادت إلى بيتها، وأماراتُ المرض والإنهاك باديةٌ عليها، استلقت على الأرض وهي تنادي على طفلها بكأسٍ من الماء.

جَلَس عند رأسها فقبَّلهُ وهو يقول: أمَّاه، لماذا لا تذهبين إلى الطبيب؟!

فيأتي الصوتُ مقطَّعًا: أنا على ما يرامُ يا ولدي!

أمَّاه، عندما أكبر سأصبح طبيبًا؛ حتَّى أعالِجَكِ أنا، دون أن تذهبي إلى الطبيب وليس معكِ أجره!!

ثمَّ يستدركُ قائلاً: أمَّاه، أخْبَرَني صديقي "سامح" في المدرسة أنَّ أباه اشترى لهُ ألعابًا كثيرة، يقول: إنَّهُ اشترى له "درَّاجة هوائية تمشي سريعًا!"، واشترى له "طائرة" تطيرُ في الهواء، وهو يقول: إنهُ سيطيرُ بها، ويحطُّ في ساحة المدرسة!

أمَّاه، اشتري لي ألعابًا مثل الَّتي مع سامح!

تبتسم، وقد ترقرقت في عينيها دمعة، وهي تقول: إن شاء الله يا حبيبي، عندما أقوم معافاةً من المرض، سأجتهد لكي أوفرَ لك مالاً تشتري به ما تشاء!

أمَّاه، عندما أكبر سأصبح تاجرًا! حتَّى يصبح عندي مالٌ كثيرٌ كثير، أنفقهُ على البيت وأنتِ ترتاحين من خدمة البيوت، أنا أعلمُ أنكِ تعبتِ كثيرًا من هذا العمل.

كانت الأم قد أسلمت للنَّومِ أجفانها، ويتيمها جالسٌ عند رأسها يواصل سَردَ أمنياته وأحلامه.

أمَّاه، أرجوكِ لا تنامي قبل أن تحكي لي قصةً عن نبينا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مثل كل يوم، فأنا أحبُّ نبينا محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كثيرًا، وعندما أكبر سأقتدي به، لا أكذب، ولا أغش، ولا أخاف أحدًا غير الله، حتَّى لو كنتُ فقيرًا، هو أيضًا كان فقيرًا!

كما أنَّهُ يتيمٌ مثلي، أليسَ كذلك يا أمي؟

غير أنَّهُ يتيمُ الأبويين، وأنا يتيمُ الأب فقط! أليسَ كذلك يا أمي؟

أمَّـاه...

أمَّـاه...

أمَّـاه...

بَقِيَ يُرَدِّدُها، وقد أسلَمَت الأم نفسها إلى نومةٍ طويلة!


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Literature_Language/0/38033/#ixzz22wBQAaOE

أحمد المدهون
08/08/2012, 01:40 PM
قصة موجعة، غنية بالمعاني والعبر.
عن أي شيء أتحدّث:
عن اليتم والحرمان،
أم عن تخلي الأقارب والأباعد،
أم عن تضحية الأم،
أم عن تربية الأولاد وربطهم بالنماذج والقدوات الصالحة،
أم عن أحلام الطفولة البريئة،
... ؟!!

سرد جميل، يأسرنا حتى النهاية، لننتهي على وقع شدّة البلاء.
فاللهمّ رحماك باليتامى.

الأستاذ الأديب مروان العزي،
أشكرك، وأحييك.
وأستأذنك بتثبيت القصة.

سميرة رعبوب
09/08/2012, 02:18 AM
أنا يتيم حطم القدر صروحي ،
ورماني في حُطام من دموعي ،
على ثرى الوالدين تبكي عيوني ،
غربتي نثرت أشلاء روحي ،
ورمتني في نشارٍ من جراحي .

تقبل خربشاتي النازفة من ألم عميق حكته قصتك السامقة ،
لا جف الله لك قلما في ميادين الحق أستاذنا الأديب مروان العزي ،
لك الاحترام والتقدير ~

مروان العزي
09/08/2012, 12:00 PM
قصة موجعة، غنية بالمعاني والعبر.
عن أي شيء أتحدّث:
عن اليتم والحرمان،
أم عن تخلي الأقارب والأباعد،
أم عن تضحية الأم،
أم عن تربية الأولاد وربطهم بالنماذج والقدوات الصالحة،
أم عن أحلام الطفولة البريئة،
... ؟!!

سرد جميل، يأسرنا حتى النهاية، لننتهي على وقع شدّة البلاء.
فاللهمّ رحماك باليتامى.

الأستاذ الأديب مروان العزي،
أشكرك، وأحييك.
وأستأذنك بتثبيت القصة.

شكرا استاذ أحمد للطف المرور وجمالية التعليق والاعجاب
أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم وان أقدم افضل أبداعاتي في منتديات واتا الحضارية

سأسعى لان يكون أدبي ملتزمًا بالقضايا الإنسانية

علمًا ان قصة اليتيم هي باكورة كتاباتي في مجال القصة القصيرة وهي المحاولة الاولى لي

الحمد لله ...أنا مسرور جدا بإشادتكم

تقبل خالص تحياتي

مروان العزي
09/08/2012, 12:09 PM
أنا يتيم حطم القدر صروحي ،
ورماني في حُطام من دموعي ،
على ثرى الوالدين تبكي عيوني ،
غربتي نثرت أشلاء روحي ،
ورمتني في نشارٍ من جراحي .

تقبل خربشاتي النازفة من ألم عميق حكته قصتك السامقة ،
لا جف الله لك قلما في ميادين الحق أستاذنا الأديب مروان العزي ،
لك الاحترام والتقدير ~

شكرا للأستاذة الفاضلة ست سميرة
أقرأ في عباراتك التي كتبتيها من وحي قصة اليتيم تأثير العاطفة والاحساس
ومن كلماتك الرائعة أستدل على نجاح القصة التي تعتبر باكورة كتاباتي في مجال القصة القصيرة

خطوة أولى بدأتها ويشجعني في مواصلة المسير إعجابكم وإطرائكم وإشادتكم

تقبلي خالص تحياتي

مصطفى-ك-
24/11/2012, 07:02 PM
السلام عليكم

بارك الله فيك رائعة بحق