المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أوثانٌ ولكن من أفكار ورجال!



جواد البشيتي
24/04/2007, 10:07 AM
أوثانٌ ولكن من أفكار ورجال!

جواد البشيتي

في الحديث العربي عن "التنمية" و"الإصلاح"، أي عن "التغيير"، الذي كفى الله دعاته والمنادين به شرَّ "الثورة"، التي هي "رجس من عمل الشيطان" ينبغي لنا اجتنابه ولو كانت "بيضاء" ناصعة البياض، أرى شيئا يحتاج إلى ما يَعْدِل "الثورة"، هدما وبناء، حتى يتغيَّر؛ وهذا الشيء إنَّما هو "العقل العربي"، الذي له عين لا تُبْصِر، وأُذن لا تَسْمع، ويد مشلولة، وكأنَّه برزخ بيننا وبين الواقع النابض بالحياة.

لقد حان لهذا العقل أن يصقل مرآته حتى تعكس الواقع بأقل قدر ممكن من التشويه، الذي لا نغالي إذا قلنا إنَّه تحوَّل إلى "طريقة في التفكير" لا نحيد عنها.

إنَّ أوَّل مرض ينبغي للعقل العربي أن يشفى منه هو مرض "التسليم بكل ذاك الذي في حاجة إلى إثبات"، فنحن، دائما، في النقاش والجدال والحوار، لا نأتي بأدلَّة تؤكِّد وجهة نظرنا، أو تدحض وجهة نظر الخصم، إلا من النوع الذي ليس فيه من مقوِّمات "الدليل" شيء، فما نُعده "مسلَّمة"، أو "بديهية"، أو "أوَّلية"، نُشهرها في وجه الخصم كسيف بتَّار، أو كقول فصل، إنَّما هو "فكرة" ما زالت في حاجة إلى إثبات، وكأنَّه يكفي أن نعتقد بهذه الفكرة حتى يعتقد بها "الواقع"، فدليلنا هو من النوع الذي يُعْوِزْهُ الدليل!

إنني أدعو إلى جمع كل ما ننظر إليه على أنَّه "مسلَّمات"، تشبه "السيف البتَّار"، وغربلتها، من ثمَّ، بغربال الواقع، أو الحقيقة الموضوعية، حتى لا يبقى منها إلا الجدير بالبقاء، أي الذي يصلح "دليل إثبات" أو "دليل نفي" في جدلنا الفكري. وأحسب أنَّ هذا هو "الثورة" بعينها، والتي فيها، وبها، لا يبقى للأموات من سلطان على الأحياء، وننتصر في الحرب على ما بقي فينا من "وثنية"، فإذا كانت الأصنام المصنوعة من حجر قد حُطِّمت مِنْ قَبْل فلا بد، الآن، من تحطيم الأصنام المصنوعة من "فكر" و"بشر"؛ وإذا كانت صرخة الثورة القديمة "جاء الحق وزهق الباطل" فينبغي لصرخة الثورة الجديدة أن تكون "جاءت الحقيقة وزهق الوهم"؛ وكلَّما تأخَّرت هذه الثورة، في العقل العربي، ظللنا "مخلوقات الوهم" التي لم تتحوَّل بعد إلى "مخلوقات الحقيقة"!

ولكن متى، وكيف، تشفى عقولنا من مرض "التسليم بالذي ما زال في حاجة إلى إثبات"؟ عندما ندرك، وعبْر إدراكنا، أهمية وضرورة التحوُّل من "أمَّة جواب" إلى "أمََّة سؤال"، فنحن، في مخزوننا المعرفي والثقافي والفكري لا نملك من حُبِّ السؤال، ومن عِلْمِه وفنِّه، ومن الحاجة إليه، إلا ما يَعْدِل قطرة في بحر "أجوبتنا الجاهزة"، التي في أبراج مشيَّدة لا يدركها الموت ولو أصبح الواقع الذي، بأسئلته، أنتجها، أثرا بعد عين، ففي ثقافتنا، أو في طريقة تفكيرنا، تموت الأشجار؛ ولكن ظلالها تبقى!

يكفي أن نعود إلى "الشكِّ المعرفي"، وما يُوَلِّدَهُ من أسئلة وتساؤلات، حتى يصغر "عظامنا" كما "صغر" سقراط إذ قال وهو يتربع على "عرش المعرفة" في زمانه: "كل ما أعرفه هو أنِّي لا أعرف شيئا"؛ وكما "صغر" آينشتاين إذ قال بعدما جاءنا بالنسبية العامة والنسبية الخاصة: "عُدتُّ طفلا لا أملك في رأسي إلا السؤال"!

فمتى يسبغ الله على "عظامنا"، الذين لهم آفاق تسع كل شيء ولا يسعها شيء، نعمة "الصغارة" تلك؟!

منذ زمن طويل و"الثقافة" في مجتمعنا العربي تعاني "وثنية (أو "صنمية") النص" حتى تحوَّل قسم كبير من "المثقفين"، أو من "أهل الفكر والقلم"، إلى "حَفَظَة" لنصوص لا تستقر على معنى أو تفسير، وكأنَّ "المعرفة" هي الحفاظ على "الجسد" من النص مع تبديل "الروح"؛ أمَّا الأسلوب المتَّبع في ذلك فهو "التأويل"، فالباحث يتوفَّر على البحث عن "المعاني الخفية" وراء "المعاني الظاهرة" في الكلام أو النص، مُفْسِدا ومشوِّها "معناه الحقيقي". إنَّ "النص" لا يحتاج إلى "التأويل"؛ فالتفسير خير وأبقى، ويجب أن يظل غاية الباحث والبحث.

غير أنَّ بعض الناس يحتاجون إلى "التأويل"، الذي من خلاله يعزِّزون ويقوُّون وجهة نظر، لهم مصلحة في تعزيزها وتقويتها ولو كان تشويه "الحقيقة" هو عاقبة عملهم. بالتأويل يستطيع المرء، وبقليل من الجهد، أن يجد في أي نص المعاني التي يريد ويبتغي.. يستطيع أن يرى ما يرغب في رؤيته، أو ما يرغب في أن نراه.

لا بدَّ من العودة إلى الأخذ بـ "منطق التفسير والتحليل التاريخيين" فحسب، فالنص المنتزَع من "التاريخ"، أي من مكان وزمان ولادته، هو نص "معدوم المعنى"؛ ويكفي أنْ تَنْتَزِع "النص" من ظرفي الزمان والمكان حتى يتحوَّل إلى ما يشبه "السائل"، الذي لا شكل له سوى شكل الإناء الذي يُسكب فيه.

"الوثنية النصِّية" تفضي إلى اتخاذ "النص" مقياسا للحقيقة، فكل ما يوافقه يعدُّ حقيقة، وكل ما يخالفه يعدُّ باطلا، وكأنَّ "الحقيقة" في علومنا ومعارفنا هي ما يؤيده "النص"، الذي يشبه صنما صنعته أيادينا حتى تخضع له خضوعا وثنيا عقولنا!

العيب الأوَّل في ثقافتنا أنَّها من النمط الذي يسمح للمثقف بأنْ يتخذ "النص"، نص قول "عظيم"، دليلا على صواب وجهة نظره، أو على خطأ وجهة نظر معارضيه، فعندما يُسأل عن "الدليل"، دليل "التأييد" أو "النفي"، يستهل جوابه بإيراد نص قول يعتقد بعظمته الخالدة، لعلَّ هذا "الإرهاب الفكري" يجعل وجهة نظره في "بروج مشيَّدة"، فلا يدركها "الموت"!

هذا عيب ثقافي؛ لأنَّ "النص" مهما عظُم، أو بدا عظيما، لا يصلح دليلا بديلا من "دليل الواقع التاريخي"، فهذا الواقع هو الذي جاء بالنص، مختزِنا فيه "طاقة فكرية ناضبة"، أي أنَّ "الحيوية الفكرية" للنص لا تبقى بعد انتهاء "الواقع التاريخي"، الذي جاء بالنص إلى الحياة.

والعيب الثاني، هو "الغسل المستمر" للنص من معانيه الحقيقية عبر "لعبة كلامية" هي "التأويل"، الذي يمط النص، وكأنَّه شريط من المطَّاط، حتى قَطْعه وتمزيقه إربا إربا. وبهذا النسخ المستمر (عبر الزمن) لمعاني النص يتحوَّل "النص الواحد"، عمليا، إلى نصوص عديدة تتنابذ معانيها وتتناقض، كما تتحول "الثقافة" إلى "صناعة كلام"، تُفقِر العقل، وتجعل الإنسان في "اغتراب فكري" عن الواقع التاريخي الذي يعيش.