المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إدارة التنوُّع في سورية



سامح عسكر
17/09/2012, 09:16 PM
بقلم : حسّان عباس


مقدمة
شكَّلت منطقة شرق المتوسط، والتي تحتل المنطقة المعروفة باسم سورية الطبيعية قسمًا هامًا من خارطتها، منطقة استقطاب وعبور للعديد من الشعوب والحضارات. ويحصي علماء التاريخ ثمانٍ وثلاثين حضارة مرت فيها، منها ما عَبَرها ومنها ما استقر ليشكل أقلية قومية فيها، وليترك بصماته في ثقافتها. وكانت هذه المنطقة قبلة لشعوب هاجرت إليها هربًا من غوائل التاريخ. كما كانت أيضًا مهد الديانات التوحيدية الثلاث الكبرى، منها انطلقت رسالاتها، وفيها حدثت كبرى صراعاتها الداخلية والبينية.
واليوم، كما في الأمس، لا تزال المنطقة مسرحًا لصراعات قائمة، وأخرى تلوح في الأفق، يتداخل فيها الديني مع القومي وتنذر بانفجارات يتجاوز شررها حدود المنطقة ليصيب مناطق بعيدة في العالم.
تقدِّم سورية، بحدودها السياسية الحالية الموروثة من ألاعيب السياسة العالمية في المنطقة، نموذجًا مصغرًا للخليط العجيب المتعايش في المنطقة. وهذا ما شكَّل على الدوام، وفي الآن ذاته، موضع فخر وقلق للنخب الثقافية والسياسية. فالاختلاف نعمة إن أُحسن التعايش معه ونقمة إن ساءت إدارته.
كانت الصورة المهيمنة في العقود الماضية تظهر سورية بلدًا يتعايش أهله مع تنوعاتهم في إطار وحدة وطنية جامعة لا يتسنى لدول أخرى في المنطقة أن تحلم بها. غير أن بعض التوترات كانت تظهر من حين إلى آخر لتنبئ بأن ثمة جمرًا يتوقَّد تحت الرماد، فما أن يلامسه الهواء حتى يلتهب نارًا تهدد بحريق. ولعل الأزمة التي تعيشها سورية اليوم، بعد سنة على اندلاع الثورة، مثال واضح على هذا الخطر الكامن.
إن السبب الرئيسي في اتساع الشروخ بين المكونات المجتمعية المختلفة في المجتمع السوري لا يعود برأينا إلى تنوُّع هذه المكونات وإنما إلى وجود إدارة سيئة للتنوُّع كانت تضغط بثقلها الأمني عليه لتحافظ على صورته التعايشية الجميلة غير آبهة بما تخلقه في داخله من احتقانات وأحقاد.
إن الأزمة التي تعصف بسورية اليوم، وأيًّا كانت مآلاتها، تشكل فرصة تاريخية لوضع حد لهذه الإدارة السيئة للتنوع، ولقيام حوار وطني ينتهي بتعاقد اجتماعي جديد يرسي قيم مواطنة قانونية ودستورية واجتماعية حقيقة. ويجنب البلاد مخاطر تحول نعمة التنوع إلى نقمة احتراب أعمى قد لا يبقي ولا يذر.

سامح عسكر
17/09/2012, 09:20 PM
الفسيفساء السورية
يتمتع المجتمع السوري، كغيره من مجتمعات شرق المتوسط، بخليط عجيب من المكوِّنات الدينية و/أو القومية يجعل منه فسيفساء حقيقية.
أولاً: المكونات القومية
يشكِّل المواطنون العرب غالبية الشعب السوري. وثمة جدل كبير بين المؤرخين والمفكرين حول أصول العروبة السورية ففي حين يرى المؤمنون بالإيديولوجيا القومية العربية أن سورية عربية منذ بدايات استقرار السكان فيها (أي من الألف الثامنة قبل الميلاد)، وبالتالي فكل الحضارات التي عرفتها أرضها قبل ما يسمى بالفتوحات العربية الإسلامية هي حضارات عربية، أي أن العروبة هي الصفة المستقرة لسورية عبر التاريخ، يرى آخرون أن أصول سورية ليست عربية وإنما استعربت مع تلك الفتوحات واستمرت كذلك حتى يومنا هذا.
يشكِّل العرب اليوم أكثر من 80% من مجمل المواطنين السوريين، فهم المكوِّن القومي الأكبر الذي يمنح للبلد صفته القومية. وتعزز السياسات السورية المتتابعة على الحكم في سورية هذه الصفة القومية فاسم الدولة هو الجمهورية العربية السورية، والدستور يثبت صراحة عروبة الدولة، وتقوم الأجهزة الإيديولوجية للدولة بتكريس هذه الصفة، فتنكر كليًا الأصول غير العربية للوطن السوري بل وتتجاهل وجود مكونات قومية أقلوية لا تتشارك مع العربية بخصائصها القومية الهووية كاللغة أو الثقافة أو التقاليد. فالمناهج المدرسية مثلاً لا تحمل أي إشارة البتة إلى وجود مكوِّنات مثل المكوِّن الكردي والمكوِّن الأرمني والمكوِّن الشركسي.
يمكننا في الحقيقة التمييز بين فئتين من المكونات القومية في المجتمع السوري: المكونات القومية المتأصلة في المكان، والمكونات القومية المهاجرة.
1. المكونات القومية المتأصلة في المكان: والمقصود من ذلك هو المجموعات القومية التي يعود تاريخ وجودها في المنطقة إلى حقب بعيدة مما يجعل من الصعوبة بمكان أن نتلمس بداية هذا الوجود. هذه هي حال المكون العربي مثلاً، لكنها أيضًا، وبشكل أكثر وضوحًا، حال الأقليات الآشورية والسريانية والكردية.
تعود أصول الأقليتين الأشورية والسريانية الصغيرتين إلى مملكة آشور التي أسست في القرن الواحد والعشرين قبل الميلاد. وقد اعتنق الآشوريون الديانة المسيحية ويتكلمون حتى اليوم اللغة الآرامية الشرقية في الشمال الشرقي واللغة الآرامية الغربية (وهي اللغة التي كان يتكلمها السيد المسيح) في منطقة تواجدهم بالقرب من العاصمة دمشق. وعددهم قليل بشكل عام وأخذ يتناقص بتسارع خطير في العقود الأخيرة بسبب هجرة قسم كبير منهم إلى بلدان أوروبا الغربية (خاصة السويد).
أما الكرد فهم يشكلون 15% تقريبًا من المجتمع السوري أي ما يقرب من ثلاثة ملايين مواطن. وهذا الرقم عرضة للكثير من التصحيحات لأن من شبه المستحيل أن نعرف العدد الحقيقي للمنتمين إلى القومية الكردية في سورية. ليس لعدم وجود إحصاءات دقيقة في سورية فحسب (آخر إحصاء طائفي وقومي في 1943)، وإنما أيضًا لأن الكثيرين من الأكراد السوريين انصهروا كليًا في النسيج العربي، وخاصة في المدن الكبرى مثل دمشق وحلب وحماة...
يقطن الأكراد في كل الأراضي السورية لكن كثافتهم تزداد في بعض الأحياء التي تجمعوا تاريخيًا فيها، مثل حيِّي "ركن الدين" و"جبل الرز" في دمشق، وحارة "البرازية" في حماة... وكذلك في المنطقتين الشمالية والشمالية الشرقية من سورية وخاصة في بعض المدن مثل القامشلي (قامشلو) والدرباسية وعامودا وغيرها.
2. المكونات القومية المهاجرة: تتميز بعض الأقليات القومية الداخلة في تكوين فسيفساء شرق المتوسط بكونها جاءت من هجرات جماعية كبيرة تمت في لحظة زمنية معينة لشعب كامل، أو لجزء من شعب، مكتمل القومية. وغالبًا ما تجد هذه الهجرات أصلها في أحداث التاريخ غير البعيد. فلو أخذنا كمثال على هذا الأمر أصل الأقلية الأرمنية، وهي أقلية دينية/قومية يبلغ تعدادها ما يقرب من مائتي ألف مواطن في سورية وحدها، لوجدنا أن نسبة كبيرة منها جاءت إلى المنطقة واستقرت فيها هربًا من المجازر التي ارتكبها القوميون الطورانيون المتطلعون لبناء (إمبراطورية السهوب) في نهاية العقد الأول من القرن العشرين. وقد بدئ بتنفيذ تلك المجازر في أواخر شهر نيسان عام 1915 وانتهت بقتل ما يزيد عن مليون أرمني وتشريد مئات الآلاف الذين جاء قسم كبير منهم إلى المنطقة.
لقد حافظ الأرمن على الكثير من خصائصهم القومية، فهم يستخدمون لغتهم في التخاطب بينهم، ويمارسون شعائرهم الدينية في كنائسهم (الأرثوذكسية والكاثوليكية)، ويمارسون التقاليد الاجتماعية الخاصة بثقافتهم. وهم مندمجون تمامًا في النسيج المجتمعي المديني السوري (وخاصة المدينتين الكبريتين حلب ودمشق) حيث نجدهم في مجمل مجالات العمل وخاصة في بعض المهن الحرة التي تميزوا بإتقانها على مر الأجيال مثل التصوير والخياطة والميكانيك والموسيقا وفي بعض الاختصاصات العالية كالطب والهندسة.
أما الشراكسة فقد هاجروا من الأراضي الروسية بعيد الحرب بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، واستقر عشرات الآلاف منهم في القرى الممتدة من إسكندرون في الشمال إلى فلسطين جنوب سورية وخاصة في منطقة الجولان. وكان إسكانهم في هذه المنطقة ضمن خطة عثمانية تهدف إلى تعمير مواقع المياه على الطريق بين دمشق والمدينة المنورة في الجزيرة العربية لضمان المواصلات بين سورية والحجاز، وقطع الطريق أمام بريطانيا التي كانت تخطط للسيطرة على مصر والحجاز.
على غرار الأرمن، بقي الشراكسة متآلفين، على الرغم من تحدُّرهم من أربعة أصول قبلية مختلفة (الأبازاخ، القبرطاي، البجدوغ، الحتقواي)، تربط بينهم الخصائص القومية التي حرصوا على صيانتها والمحافظة عليها. فهم يتخاطبون بين بعضهم البعض بلغتهم، بل وبلهجات متعددة، ويحترمون إلى حد كبير التقاليد الاجتماعية الخاصة بهم وبخاصة في قضايا الزواج وفي أشكال التعبير الثقافية. ويتميز الشراكسة عن الأرمن في درجة انخراطهم في الوظائف العامة كالجيش والإدارة وفي أماكن استقرارهم حيث لا يزال قسم كبير منهم يقطن في البلدات الريفية التي هُجِّر إليها أجدادهم، فنجد نسبة لا بأس بها من الشراكس المزارعين في حين لا يعمل من الأرمن في الزراعة إلا جماعة صغيرة تعود في أصولها إلى مملكة أرمينيا القديمة التي امتدت حتى المنطقة الشمالية الغربية من سورية.
كذلك نجد مكونات قومية أخرى هاجرت بشكل جماعي هربًا من استبداد الإمبراطورية العثمانية واختارت الاستقرار في سورية مثل التركمان والداغستان والأرناؤوط والألبان والشيشان والقزق والبوشناق... لكنها بشكل عام مكونات صغيرة، وهذا ما جعلها أكثر عرضة للانحلال في المجتمع وبالتالي أضاعت الكثير من خصائصها القومية.
على العكس من المجتمعات المختلطة، كما هو الحال في أمريكا أو بريطانيا وغيرهما من الدول الغربية التي استضافت أعدادًا كبيرة من المهاجرين من أصول مختلطة، واستطاعت إدماجهم إلى حد كبير في مجتمعاتها، تبدي الأقليات القومية، الأصيلة منها أو تلك التي تتشكل نتيجة لهجرة جماعية، قدرًا كبيرًا من المحافظة على لحمتها العضوية، معتمدة في ذلك على استمرارية روابط القربى والتضامن الجمعوي. فتكوِّن في المجتمعات المضيفة شعبًا مشبعًا بروح قومية مستقلة عن قومية المجتمع المضيف مما يشكل نوى محتملة لتصدعات في النسيج الاجتماعي لهذا المجتمع، على عكس هجرات الأفراد الذين يضطرون للاندماج في ذاك النسيج بسرعة كبيرة. وربما يعود المنطق المؤسس لهذا التباين بين الحالين إلى كون القومية التي تشكلت على أساسها الدول في الحالة الأولى قومية "مدنية" في حين كانت القومية في الحالة الثانية قومية "عرقية".