المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مشروع السلطتين الفلسطينيتين



أحمد ماهر محمود النخالة
11/11/2012, 11:08 PM
مشروع السلطتين الفلسطينيتين:

1- دخول اللاعبين الجدد

الدكتور ماهر الجعبري

في سلسلة سابقة من المقالات تحت عنوان "قضية فلسطين"، والتي ضمن 16 حلقة، تم استعراض التطور التاريخي لقضية فلسطين، وتم كشف المؤامرات الدولية بمشاركة الأنظمة العربية والجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية وصولا إلى تأسيس السلطة الفلسطينية. وفي هذه السلسلة الجديدة، نستعرض الحالة الفلسطينية التي أخذت تتجذر على الأرض كأنها حل الدويلات الثلاثة: سلطتين ودولة احتلال"! وذلك بعد الانحسار التام لحل الدولة الواحدة (البريطاني)، وبعد تعثر حل الدولتين (الأمريكي)، وعلى إثر جر "الإسلاميين" للانغماس في وحل السلطة الفلسطينية.



بعد مرحلة طويلة من التنافس الدولي والإقليمي حول الرؤى السياسية (الغربية) لحل قضية فلسطين، وبعد الانبطاح التام لقادة منظمة التحرير الفلسطينية للمطالبة بالرؤية الأمريكية (حل الدولتين) كأقسى طموحها "النضالي!"، وبعدما رضي قادتها بأن يكونوا حرس حدود في سلطة تعفي الاحتلال من مسئولياته تجاه الشعب تحت الاحتلال، وتحفظ للاحتلال أمنه، وبعد شرعنة تلك الجريمة عبر الانتخابات الفلسطينية الأولى، ومن ثم عبر قرارات المجلس التشريعي بتعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، وعبر سلسلة من الاتفاقيات الأمنية، كانت المرحلة الجديدة تقتضي وجود قيادات سلطوية جديدة صافية الولاء لأمريكا، وتعتنق خارطة الطريق كنهج راسخ.

وبعد انتهاء دور عرفات، دفعت أمريكا بمحمود عباس إلى رأس الهرم بعدما كان متهما بالجريمة والخيانة من قبل فتح، وبعدما كان قد اعترف بخياناته العريقة في الاتصال مع اليهود منذ السبعينات من القرن الماضي كما وثّق في كتابه طريق أوسلو. وانخرط عباس في تفعيل التعاون الأمني مع اليهود على أعلى المستويات، حتى انطبق عليه بالممارسة وصف كارازاي فلسطين، كما كان عرفات قد أطلق عليه.



مع منتصف العقد الأول من القرن الجديد، غاب عن المشهد السياسي "رمزان" من الجانبين: غاب عرفات وتمكنت أمريكا من تشكيل القيادة الفلسطينية الجديدة على المقاس الذي أرادته، ثم غاب شارون بعدما أسس حزب كاديما الجديد.

وكان العام 2006 عام ظهور اللاعبين الجدد، إذ توافق فيه حصول انتخابات فلسطينية وإسرائيلية. وتسلم أولمرت حكومة "إسرائيل"، مطلع العام 2006، ولم يكن أولمرت من صنف القيادات المخضرمة في التاريخ العسكري "الإسرائيلي". ولذلك تفتقت الساحة السياسية على الجانبين عن "زعماء" للمرحلة الجديدة بخلفيات وشعارات جديدة.



وكانت أمريكا قد تمكنت من مباشرة تنفيذ خارطة الطريق عبر انتخابات الرئاسة الفلسطينية، ثم عبر التنسيق الأمني الذي انطلق بقوة مع تمكّن محمود عباس من استعادة الإمساك بخيوط السلطة والمنظمة. وتمثلت الخطوة التالية في استكمال بند الانتخابات التشريعية.

وكانت أوروبا قد خسرت فرص التأثير في مسار القضية بعد انحسار الوجود العرفاتي عن السلطة الفلسطينية، وصار لا بد لها من محاولة العودة عبر رجالات جدد تستميلهم نحو تحقيق مصالحها، أو تربط مصالحهم بمصالحها، ويسيرون في القنوات التي تفتحها لهم، وكان من الطبيعي أن تجد أوروبا في الدفع لإشراك رجالات المقاومة فرصة لاستعادة القدرة على التأثير على المشهد الفلسطيني.

وتوافقت حاجة أوروبا للرجالات مع حاجة قيادات في المقاومة لمد الجسور مع المجتمع الدولي، وفتح المجال لممارسة اللعبة الدبلوماسية. وتزامن ذلك مع علو نبرات الحديث عن التهدئة لدى فصائل المقاومة، وذلك بعد مرحلة مريرة من الحرب على الإرهاب. ولذلك صارت الفرصة مهيأة من مختلف الزوايا لإشراك حركة حماس في الانتخابات التشريعية.

كانت حركة حماس قد عارضت بشدة الانتخابات التشريعية في العام 1996 (كما ورد في الحلقة 13 من سلسلة قضية فلسطين)، وكانت قد أصدرت بيانا رسميا صارخا، رفضت فيه بمبدئية واضحة "انتخابات أوسلو" "تحت حراب المحتل الصهيوني" التي تكرّس "قبضة سلطة الحكم الذاتي"، حسب تعبيراتها (بيان حماس بشأن نتائج انتخابات الحكم الذاتي 24/1/1996 ). بل إن حماس كانت قد رفضت خطوة إسماعيل هنية عندما ترشح لانتخابات 1996، وقد أثارت فكرة المشاركة في تلك الانتخابات –في حينه- جدلا قويا في الحركة، مما اضطر هنية إلى سحب ترشيحه (بل وتنقل بعض المصادر أن حماس كانت قد صدرت بيانا ضد هنية نفسه حول موقفه ذاك).

ولذلك كان قرار حماس الجديد للمشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2006 انقلابا فكريا على ما أعلنته في السابق، وردة سياسية على قرار حاسم كانت قد اتخذته. ومن نافلة القول التأكيد هنا أن قرار المشاركة الجديد لم يحظ بإجماع داخل الحركة، وأنه جاء بعد حملة تصفية واغتيالات نالت عددا من القيادات الحمساوية، ومنهم الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي رحمهما الله. وتوافق ذلك مع بروز تيار "حمائمي" في الحركة يدفع نحو خوض لعبة العلاقات الدولية. وقد استطاع ذلك التيار مد جسور التواصل مع الأنظمة العربية (على غرار تجربة منظمة التحرير في تلك العلاقات)، وصارت تلك الجسور الممتدة والعلاقات المنسوجة بحاجة للحصول على شرعية انتخابية تمثيلية.

كشف قرار حماس للدخول لانتخابات السلطة عن فرص مستقبلية لإشراك حماس في الحلول السياسية، لأن الحقيقية التي لا جدال فيها أن المقاومة لا تحتاج تفويضا من أحد للقيام بها، على عكس الانخراط في المشاريع السياسية والمفاوضات فهي التي تحتاج التفويض "والشرعيّة التمثيلية". وقد كان من المعلوم بداهة أن انتخابات المجلس التشريعي تجري تحت الاحتلال وعلى أساس اتفاقية اوسلو، بل حسب بنود خارطة الطريق (2003) التي خصصت المرحلة الأولى فيها تحت عنوان التحول/الانتخابات، ونصت على أن "يُجري الفلسطينيون انتخابات حرة وعادلة وشفافة للمجلس التشريعي الفلسطيني"، ضمن المرحلة الأولى، تمهيدا للمرحلة الثانية من الخطة الأمريكية، التي ربطت متابعات التنفيذ بخطوة الانتخابات.

إذن، خاضت حماس غمار الانتخابات ضمن ما فسحته السياسة الأمريكية، رغم كل ما قيل من تبريرات. وكان محمود عباس قد أكّد أن "المجلس التشريعي أسس على أساس بند من بنود اوسلو ولذلك كل ما يجري إنما يجري على أساس اوسلو"، وقال "قد يحلو للبعض أن يتخيل ما يوافق هواه ويقول إن اتفاقية أوسلو قد ماتت، ولكن الحقيقة أن هذه الانتخابات تجري وفق اتفاقية أوسلو، وأنا رئيس منتخب للسلطة بموجب اتفاقية أوسلو".

ولم تتعلم حركة حماس من درس الانتخابات التشريعية الأولى التي تمثلت باكورة إنجازات مجلسها في إلغاء بنود من الميثاق الوطني الفلسطيني، وفي شرعنة جريمة الاعتراف بالاحتلال، ولم تقبل حقيقة الوعي على أن المجلس التشريعي إنما وُجد لتمرير مخططات أمريكا لتصفية قضية فلسطين. وكل واحدة من هذه النقاط كفيلة بأن تكون سدا منيعا أمام انغماس أي حركة إسلامية في وحلها وفي آثامها.

وتوافقت الإرادات الدولية المؤثرة على الساحة الفلسطينية على غمس حماس في وحل السلطة بهدف الحصول على اعتراف بطابع إسلامي بالكيان "الإسرائيلي"، بعد أن لم يكف اعتراف المنظمة ورجالاتها تحت شعار العلمانية. ولا شك أن القبول بسلطة تحت الاحتلال وبمؤسساتها هو أول الاعتراف. ولقد تجاوبت حماس مع متطلبات المرحلة عندما قررت أن لا تدرج في برنامجها الانتخابي إزالة "إسرائيل" وعدم الاعتراف بها، بل تماهت مع متطلبات المجتمع الدولي عندما أخذت تتحدث عن هدف مرحلي وعن دولة في حدود 1967.

وتمّت الانتخابات في 25/1/2006. واكتفت حركة الجهاد الإسلامي بالامتناع عن التصويت، أما حزب التحرير فقد حذّر من مغبة المشاركة في تلك الانتخابات، ولكن حركة حماس لم تقبل النصيحة، وأصرّت على خوضها دون رؤية لما بعدها، ودون وعي على الشَرَك الذي أُعد لتوريطها. وصارت تدافع عن مشاركتها بقوة.

وفازت حماس بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، ودفعتها حركة فتح نحو الواجهة السلطوية من خلال تشكيل الحكومة الفلسطينية، وذلك ضمن تخطيط مدروس لتوريطها في مشروع سلطة تحت الاحتلال، فيما انصرفت فتح إلى محاولة إعادة البناء وترتيب "البيت الفتحاوي"، والذي اقتضى التخلص من كل من لم يكن حسب المقاس الأمريكي، واقتضى قطع كل حبال الترابط مع بريطانيا بعد سجل فتحاوي عريق من العلاقات التاريخية.

ووجه حزب التحرير نصيحة صادقة لحركة حماس في 28/1/2006 بأن "تَوَلِّي السُّلطة في ظل الاحتلال شَرَكٌ ليلحق "الإسلاميون" بالعلمانيين في الموافقة على القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين"، ولكنّ حماس المأخوذة بنشوة الفوز، تورطت أكثر وشكلت حكومة برئاسة إسماعيل هنية (الذي كانت الحركة قد قرّعته في انتخابات 1996 على موقفه منها).

ومن ثم أقسمت رجالات حماس يمين الولاء لمهندس أوسلو ولكرازاي فلسطين، وتسلّمت مهام سلطة خدماتية تعفي الاحتلال من مسئولياته، ووقعت فيما حذّر منه الرنتيسي رحمه الله عندما تحدّث عن هدف الاحتلال في "إيجاد سلطة محلية تدير شؤون المواطنين، فتخفف عن المحتل أعباء الإدارة، وفي نفس الوقت تحفظ للاحتلال مصالحه"، وتغافلت عن توجيهه في أن همّ السلطة هو "مباركة الاحتلال، والتعاون معه ضد أبناء شعبها، لحفظ أمن الاحتلال واستقراره وبقائه مقابل أن يضمن الاحتلال لتلك السلطة وجودها"، ولم تعترف بتوصيفه للحاكم في مثل تلك السلطة بلقب كرازي (هل السلطة في ظل الاحتلال إنجاز وطني أم إنجاز للاحتلال؟).



وهكذا نفخت مشاركة حماس الروح من جديد في سلطة كانت آيلة للسقوط، وتم التمهيد لمتابعة تنفيذ خطة أمريكا. وتزامن تطور المشهد الفلسطيني، مع صدور إستراتيجية الأمن القومي لأمريكا في آذار 2006، والتي ركّزت على بعدين رئيسين للسياسات الأمريكية تجاه المسلمين: ترويج الديمقراطية، ومنع انتشار الإرهاب (استراتيجية الأمن القومي لأمريكا)، وألقت تلك الرؤية الأمريكية للسياسة الخارجية الجديدة بظلالها على قصية فلسطين الساخنة. وبكل أسف لم تدرك حماس خطورة الموقف التي تصفه الإستراتيجية الأمريكية "بحرب الأفكار" بين مشروع أمريكا الديمقراطي وبين مشروع الأمة الإسلامي، ولم تلتفت حركة حماس لما نصّت عليه الوثيقة من حرص أمريكا على كسب المعركة بالقول: "على المدى الطويل، فإن كسب الحرب على الإرهاب يعني كسب معركة الأفكار"، وبدل التموضع مع المسلمين على موقف الرفض للانغماس في السلطة والوقوف الفكري مع الأمة في حرب الأفكار ضد مشروع أمريكا قبلت حماس "باللعبة الديمقراطية"، بل وتحت حراب الاحتلال اليهودي.

وهكذا تمثّل المشهد على الساحة الفلسطينية في تلك الفترة ببروز مجموعة متنوّعة من اللاعبين الجدد على مستوى "إسرائيل" وعلى مستوى السلطة الفلسطينية، وتم فيها توريط الشعار الإسلامي في سلطة أمنية تحت الاحتلال، وتم فيها تمييع الخطاب السياسي حول قضية فلسطين، بما يتفق مع إستراتيجية أمريكا في "حرب الأفكار"، وبما يؤسس لوجود خطاب قابل لأن تكون هنالك سلطة تحت الاحتلال، وبما يمهّد لرفع وتيرة التصريحات "الإسلامية" بقبول حل الدولتين (الأمريكي)، والقاضي تلقائيا بوجود دولة "إسرائيل". وهو ما فتح لمرحلة بشعة في تاريخ قضية فلسطين.

أحمد ماهر محمود النخالة
11/11/2012, 11:33 PM
مشروع السلطتين الفلسطينيتين:

2- الالتحام الدموي والانشطار السلطوي

الدكتور ماهر الجعبري

مع انتهاء الحالية الانبطاحية للمنظمة ورجالاتها أمام متطلبات الأمن "الإسرائيلية"، ومع تنظيف وسطها السياسي مما ليس أمريكيا، أتاحت خارطة الطريق (الأمريكية) الفرصة أمام أوروبا لمحاولة الدفع برجالات جدد على مسرح السلطة عبر الانتخابات التشريعية في العام 2006، وكانت حركة حماس قد بدأت مد الجسور نحو المجتمع الدولي، ومن ثم تورطت في وحل السلطة تحت الاحتلال، وشكلت الحكومة الفلسطينية، متغافلة عن مواقفها السابقة، وعن الرفض المبدئي الذي كان قد خطه الرنتسي رحمه الله، ونفخت بذلك الروح في مشروع السلطة، ومكنت أمريكا من متابعة السعي في توريط الشعار الإسلامي في مشروعها الوسخ عبر لعبة الديمقراطية.

إلا أن "العرس الديمقراطي الفلسطيني" لم يدُم طويلا، إذ بدأ الشقاق يدب بين الفرقاء سريعا، وظهرت بدايات الاقتتال الداخلي خلال أسابيع من تسلم قيادات حماس للسلطة، وعلى إثر ذلك صدرت وثيقة الأسرى (من مختلف الفصائل في السجون الإسرائيلي) في حزيران 2006، لترجح خيار المشاركة في الانبطاح على خيار المواجهة بالسلاح، ولتفتح الطريق المشترك بين حماس وفتح نحو الاعتراف بالاحتلال اليهودي من خلال صيغ لغوية مركبّة وملتوية (وثيقة الأسرى)، وكانت وثيقة الأسرى إبداعا لغويا في التركيب والالتفاف على "الثوابت"، بدل أن تكون نصيحة مخلصة للعودة لثوابت الأمة، والإصرار على رفض أي شكل أو عمل يمهد للتنازل.

ودارت كلمات تلك الوثيقة المفتاحية حول مصطلحات الحلول السلمية (التي كانت قد تأصلت عند المنظمة)، وركزت الوثيقة على "توحيد الخطاب السياسي الفلسطيني على أساس برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني والشرعية العربية وقرارات الشرعية الدولية"، وهكذا تجرّأت وثيقة الأسرى على استخدام تعبيرات سياسية كانت تعتبر من أدبيات المفرّطين. ثم تحدثت عن تخصيص منظمة التحرير ورئيس السلطة (الذي هو مهندس أوسلو) بالمسئولين عن إدارة المفاوضات، بدل أن تجزم بحرمة التفاوض مع الاحتلال، وبدل أن تحمّل عباس وزمرته المسئولية التاريخية عن مسيرة التفريط. وبالطبع غُلّفت كل تلك الانحرافات عن ثوابت التحرير بالحديث عن عرض أي اتفاق مصيري على المجلس الوطني الفلسطيني أو لاستفتاء عام.

وهكذا أوجدت وثيقة الأسرى أفقا جديدا للتحرك الحمساوي-الفتحاوي المشترك نحو حل الدولتين (الأمريكي)، وتم الترتيب لعقد مؤتمر صحفي مشترك بين رئيس السلطة (عباس) ورئيس الحكومة (هنية)، للإعلان عن الموافقة على وثيقة الأسرى، غير أن الطرفين تفاجآ عندما تم اختطاف الجندي "الإسرائيلي" شاليط، فتعطل ذلك المؤتمر الصحفي، وتعطلت من بعده المشاركة في الحلول السلمية. وأصبح شاليط الذي تم أسره من خلال عملية مشتركة من ثلاثة فصائل فلسطينية ملفا من ملفات قضية فلسطين، وتسلمته حركة حماس، لتبدأ به مشوارا طويلا من المفاوضات مع "إسرائيل" عبر الوسطاء.

وظلّ موقف الاعتراف الصريح صعبا على قادة حماس، ولم تستخدم عبارات واضحة تفيد مباشرة بالاعتراف، إذ كان ذلك يشكّل خطرا حقيقيا على بنيان الحركة، وخصوصا أنها ضمّت مخلصين تحركوا بدافع حب الجهاد والاستشهاد، وعلى رأسهم المقاومين في جناحها العسكري. ولذلك برزت الحاجة لعملية ترويض طويلة، كما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية ومع حركة فتح، التي كانت أيضا قد ضمّت عند انطلاقها المخلصين المندفعين للقتال من أجل التحرير، واحتاجت فتح ردحا من الزمن حتى تفصح عما كانت تخفيه من اتصالات سرية مع اليهود ومن توجهاتها المبكرة نحو الاعتراف بالاحتلال للأرض المحتلة عام 1948.

وظهرت إشارات سير حماس على خطا فتح في الترويض، وبدأت قيادات حماس في مرحلة من تمييع الألفاظ، والتراقص في التصريحات بين المعاني اللغوية للكلمات وبين المفاهيم السياسية: فصارت تتحدث عن الهدنة طويلة الأجل بدل السلام الدائم، وعن إعادة تأهيل المنظمة بدل الانخراط المباشر في وحلها التآمري، وعن أشكال متعددة للمقاومة بدل الجهاد بالسلاح، وعن استراحة المحارب بدل وقف العمل العسكري، وعن دولة في حدود 1967 كحل مرحلي (تماما كما كانت فتح –والمنظمة- قد بدأت تمرير ذلك التنازل تحت شعار "خذ وطالب").

وفي تلك الأثناء، حصلت حرب تموز 2006، عندما شنّت "إسرائيل" هجوما عسكريا على لبنان في محاولة منها لنزع سلاح حزب الله حسب ترتيبها مع أمريكا، التي كانت تسعى لتمهيد الأجواء لتحريك مسار الحل السياسي مع سوريا، حتى تتلازم المسارات التفاوضية. وانطلقت شرارة تلك الحرب بعد قيام مقاتلين من حزب الله بخطف جنديين يهوديين. ولكن وجود مسلمين مخلصين كانوا متعطشين لردّ الصاع صاعين لجيش اليهود، مكّن من رد الهجوم ودحر المعتدين على أعقابهم خاسرين خائبين، وهو ما أزّم الموقف "الإسرائيلي"، وهزّ موقف أولمرت في رئاسة الحكومة، ودفع الكيان "الإسرائيلي" لتشكيل لجان تحقيق للبحث في أسباب الهزيمة.

وتزامنت تلك التطورات العسكرية والسياسية على المحور الشمالي، مع وضع حكومة حماس تحت الحصار الاقتصادي، في محاولة للتجويع من أجل التركيع، وتصاعدت أزمة رواتب الموظفين في السلطة، وكانت منظمة التحرير قد خلقت "جيشا" من الموظفين ضمن كوادر البطالة المقننة. وحاولت حماس أن تدير الموقف كأنها تدير مؤسسة خيرية، وصار رئيس الحكومة يتحدث عن التزوّد بالزيت والزعتر، وحاولت قياداتها جمع التبرعات من جيوب الناس عبر حملات كأنها جمعية خيرية، إلا أن الأزمة استمرت في الضغط على بطون الناس، من أجل دفع عقولهم نحو قبول الاعتراف الواضح بكيان "إسرائيل".

وتكرر الاقتتال الداخلي بين رجالات فتح وحماس، ثم احتدم مرة أخرى في كانون ثان 2007. ووجه حــزب التحريـر في 28/1/2007 نداء "إلى أهل فلسطين بعامة، وفتح وحماس بخاصة" دعا فيه لحقن الدماء، وكشف فيه توريط الساسة لأتباعهم في اقتتال حول تفاصيل برنامج سياسي لدويلة هزيلة.

وصار أهل فلسطين يعيشون بين خيارين: إما الاقتتال بين فتح وحماس أو حكومة وحدة وطنية تقوم على شكل من الاعتراف بكيان "إسرائيل". وهكذا تضافر عاملان لتمرير فكرة حكومة الوحدة الوطنية (التي تقوم على برنامج الاعتراف) وهما التجويع وإسالة الدماء، ونجحت الخطة نسبيا، وبرزت حكومة الوحدة الوطنية كمطلب جماهيري.

وفي محطة من محطات الصراع، تم توقيع اتفاق مكة في شباط 2007 بمباركة أمريكية وتحت رعاية ملك السعودية، الذي هو عرّاب المبادرة العربية للسلام، وتغافلت حماس عن مواقف الملك عبد الله التطبيعية تلك، بل وقف رئيس مكتبها السياسي -خالد مشعل- يشبّهه بالرسول صلى الله عليه وسلّم إذ يفرد عباءته للصلح –ولرفع مشروع السلطة- كما فرد الرسول عباءته لقبائل قريش (لرفع الحجر الأسود)!

وتم إخراج التوافق السياسي على مشروع السلطة والتفويض بالمفاوضات على أنه حقن للدماء. وأخذت حركة حماس تتحدث عن "الالتزام" بقرارات القمم العربية (وهي كانت بالطبع قد اعترفت بإسرائيل وبحل الدولتين)، وتتحدث عن "الاحترام" لقرارات الشرعية الدولية والاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية. وثار جدل لغوي موسع حول التفريق بين معاني الالتزام والاحترام، ضمن حالة من توظيف الألفاظ للالتفاف على الثوابت الراسخة في وعي الناس حول حرمة الاعتراف بالاحتلال وحول حرمة الاتفاقات والقرارات التي تصب في ذلك. وصار الخطاب السياسي المشترك يستغبي الناس، التي تدرك بداهة أن قرارات القمم العربية كانت تواترت تؤكد الاعتراف بالاحتلال وآخرها المبادرة العربية للسلام.

وتم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بعد اتفاق مكة برئاسة إسماعيل هنية، وقد تم ترتيبه بمباركة أمريكية، بعد تخطيط أمريكي مسبق كما تضمن تقرير بيكر-هاملتون (الأمريكي)، الذي صدر نهاية العام 2006، الذي ربط علاج المأزق في العراق بقضية فلسطين، وأوصى بدعم حكومة الوحدة الوطنية مؤكدا على حل الدولتين، "وتقديم دعم قوي للرئيس الفلسطيني محمود عباس والسلطة الفلسطينية لأخذ زمام المبادرة في تمهيد الطريق لإجراء مفاوضات مع إسرائيل، وبذل جهد كبير في دعم وقف إطلاق النار" (ملخص نص تقرير بيكر-هاملتون).

وكانت تلك الخطوة تمهيدا لإعادة تفعيل المبادرة العربية للسلام رسميا مع توريط حماس فيها، ولذلك شاركت قيادات حركة حماس في القمة العربية التي عقدت في الرياض بتاريخ 28/3/2007 مع عباس، ووافقت حماس على أن تكون حاضرة وسط حكام يتحدثون عن مبادرتهم التطبيعية، وعن برنامجهم للتفريط، متغافلة عن تاريخهم الخياني وعن حالهم الانبطاحي. وبدأت حماس بذلك مرحلة من العلاقات الرسمية مع الأنظمة التي فرّطت بقضية فلسطين.

وهكذا التقت الرموز "الإسلامية" والعلمانية على طاولة المؤامرات العربية. وتحركت المبادرة العربية للسلام قدما على الساحة الدولية، أما قادة "إسرائيل" فقد ظلّوا يناورون للخروج من المأزق ومن الضغوط الأميركية عليهم للسير في عملية السلام.

ورغم التوافق السياسي على مائدة الأنظمة العربية، ظلت أوساط الحركتين مسكونة بأحقاد التعذيب الذي تعرضت له رجالات حماس في سجون سلطة فتح. ولم تدم تلك الأجواء التصالحية، وانقشعت غيوم المصالحة عن صيف ساخن عام 2007، واندلعت أحداث غزة الدموية بين فتح وحماس، فلطخت صورة الفلسطيني المناضل أمام شعوب الأمة الإسلامية، وقامت القوى العسكرية في حماس بتصفية الوجود الفتحاوي في غزة، وسيطرت على المقار الأمنية، مما أدى إلى انشطار سلطوي فعلي، وصفته حماس بالحسم العسكري، ووصفته فتح بالانقلاب، وصار يسمّى حالة "الانقسام".

ودخلت القضية في مرحلة الصراع الفصائلي المفضوح. وصار هنالك ردح إعلامي بين شقي السلطة، وقمع أمني لرجالات الطرفين، لا زالت أصداؤه مستمرة حتى الساعة.

وترسخت أقدام حكومة حماس في غزة، وأخذت تمد جسورها السياسية نحو إيران، وتوطدت علاقات قيادات حماس مع النظام السوري، فيما تشكلت حكومة برئاسة سلام فياض (الذي كان وزير المالية تحت رئاسة هنية!) في رام الله منذ تموز 2007، وبدأ اسمه يلمع على الساحة الفلسطينية، وبدأت مرحلة "الفياضية" في الضفة الغربية، مما تستدعي وقفة في حلقة قادمة من هذه السلسلة.

وتزامن ذلك الانشطار السلطوي مع بروز لاعب أمني جديد على ساحة سلطة رام الله، وهو الجنرال الأمريكي ديتون الذي وصفه البعض تهكّما بأنه "زعيم فلسطين". وردّت حكومة فتح على الأعمال الدموية في غزة باستشراس أمني في الضفة الغربية، وصل إلى ارتكاب جرائم قتل في الضفة الغربية وفي سجون السلطة. وتمخض عن ذلك الاحتدام عن قمع أمني بالضفة الغربية صار مبررا بالدوافع الأمنية والصراع على السلطة.

وهكذا تمثل المشهد على الساحة الفلسطينية في تلك الفترة بتعطل خطة أمريكا وخارطة الطريق بعد احتدام الصراع الدموي على السلطة، وبعد فشل المحاولة السعودية الأولى لتمرير مشروع تصفية قضية فلسطين. وصارت السلطة سلطتين، وصار الهم ماليا وتنافسا على الحضور، وعلى تحقيق الاعتراف بالشرعية.