المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المحارب ... و المحطة



حسن الرموتي
24/11/2012, 04:13 PM
المحارب... و المحطة ؟ حسن الرموتي

هذه القصة فازت بمسابقة ب ب س و مجلة العربي

و نشرت بمجلة العربي الكويتية عدد 627/ فبراير 2011

في محطة القطار ، والمحطة مكيفة و مضاءة نهارا ، أناس كثيرون يدخلون و يغادرون ، و قطارات كثيرة تمر بعد أن تتوقف لدقيقة أو لدقيقتين ، كان المحارب لوحده ، دون رفيق ، و بلا حقيبة ، يتأمل نقوش سقف المحطة ، و النقوش لا يعبأ بها أحد سواه ، ثم يرنو للوحة الإلكترونية الكبيرة و الملونة والمعلقة على الجدار المقابل لمقهى المحطة ،- مقهى الجامعة العربية - خمن في نفسه أنها يابانية الصنع ، و تعجب لقدرة هؤلاء القوم ، أحس بغصة و هو يتأمل اسم المقهى و قد كتب بخط رديء ، توقف يطالع أسماء المدن و المحطات ، و ربما العواصم التي حلم كثيرا بزيارتها ، وتأسف لأنه لم يزرها يوما ، فجأة جاءه صوت نسائي يقول و بحنان مبالغ فيه :
- المسافرون الكرام، رحلة القطار رقم 48 و الذاهب إلى...... ستتأخر الرحلة لساعتين بسبب عطب في فرامل القطار و مقصورة القيادة، الأعمال جارية لإصلاح الأعطاب ، فمعذرة .
ابتسم المحارب للاعتذار ، و كاد يبكي للأعطاب التي أصابت مقصورة القيادة ، فبحكم خبرته كمحارب و كقائد لدبابة كان يعرف أن إصلاح مثل هذا العطب يتطلب أكثر من ساعتين .
سار نحو المقهى ليتناول سائلا باردا لم يحدده في ذهنه بعد ، فقد أحس بجفاف في حلقه ، الكراسي لم تكن وثيرة كما خمن في نفسه وثيرة ، ترك جسده يستسلم بهدوء للكرسي ، و أشار للنادل بيده ، تأمل كراسي المقهى وهي تبدل روادها كما تبدل القطارات مسافريها .. ابتسم في أعماقه لهذا التشبيه ، عندما أنهى مشروبه و الذي لم يحس بطعمه ، المهم عنده ، أنه كان باردا .. قام بخطوات وئيدة و سار نحو كراسي الانتظار، اختار واحدا على مقاسه ثم تمدد بكامل قامته ، و لم يضمم ركبتيه إلى صدره كما تعود أن ينام ، و استسلم لغفوة ، مادام القطار لن يصل إلا بعد ساعتين أو أكثر ، و قبل أن يغالبه النوم ، استعرض أمام عينيه شريط يومه في المدينة ، دخان السيارات و زعيقها ، الغبار المتطاير ، الكلب الذي كاد أن يقضم جزءا من ساقه لولا ردة فعله و حذره الكبير الذي تعلمه في الحرب الأخيرة ، الشحاذ الذي لعنه و سب دينه عندما قال له المحارب أنه لا يملك نقودا ، و أنه جاء إلى المدينة بحثا عن تعويضات لإصابته في المعركة ...أطفال المدارس وهم يئنون تحت ثقل محافظهم المدرسية ، عجوز يراود امرأة ...
و على الكرسي الممتد في المحطة، كان المحارب قد استسلم لنوم عميق ...، الناس مايزالون يدخلون
و يخرجون، رجال و نساء و أطفال ...و القطارات تمر ، تتوقف قليلا ثم تمضي ، و اللوحة الالكترونية مازالت تغير مواعيدها و أسماءها ...و نادل المقهى يتنقل بين الكراسي بفرح فطولي واضح ..و ابتسامته لا تتغير ... حين استفاق المحارب ، فرك عينيه المثقلتين بالنعاس ، ثم وضع على عينيه نظارته الطبية التي تركها بجانبه عندما نام ، رنا إلى الساعة الكبيرة المعلقة على الجدار المقابل للمقهى ... أدرك أنه نام لساعات طويلة تعادل سنوات ، انتصب واقفا و كاد أن يصيح في العابرين:
- لماذا لم توقظوني ، لماذا ، لماذا ؟ ...
ضرب الكرسي الخشبي بكفيه بكل قوة ، التفت يمينا و يسارا و أدرك أن أحدا لن يجيبه، و أن أحدا لا ينظر إليه و لو نام فوق الكرسي لسنة كاملة ، حارس المحطة لوحده ببذلته المميزة كان ينظر إليه ، و قبل أن يقوم من مكانه ، عاد الصوت النسائي من مكبر الصوت من جديد و بدلال المبالغ فيه هذه المرة وهو يكرر :
- أيها المسافرون الكرام...، رحلة القطار رقم 67 المتجهة إلى....، القطار سيصل بعد ساعة ، نتمنى لكم رحلة مريحة على خطوطنا .
أدرك من خلال المقارنة بين الرقمين ، أن قطارات كثيرة فاتته ، و أن الرقمين يعنيان له شيئا ، لكنه لم يستطع أن يحددهما ... و حاول أن ينسى الرقمين ، و عليه فقط أن ينتظر ساعة أخرى ...و ألا ينام ...ظل المحارب راقب النادل و اسم المقهى المكتوب بخط رديء رداءة واقعه ، يراقب القطارات و هي تمر ، كأنها تدوس أعصابه .... مازال المحارب ينتظر ....

عبدالله بن بريك
07/02/2013, 08:10 AM
قصة كان لا بدّ لها أن تفوز بجوائز عديدة.
احتفاءٌ بالتفاصيل الدالة،رسمٌ بديع للانكسار و الوجود المتشظي،تلاعب ساحر بالزمن (زمن الواقع ،زمن الحلم ،
الزمن الفيزيائيّ ،الزمن النفسيّ ..)تقنية المقارنة غير المباشرة بين عالمين متناقضين(التقدم و التخلف)..
أرجو لك اطّراد النجاح الأدبيّ، و دوام السيولة الإبداعية.
تحياتي و تقديري،أستاذ "حسن الرموتي"