المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة قصة مهاجر/د.نعيم محمد عبد الغني



نبيل الجلبي
13/12/2012, 03:24 PM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم الأول

حديث القرآن عن الهجرة


يتحدث القرآن عن الهجرة في مواضع متعددة، وسياقات متنوعة، فقد تحدث عن هجرة الأنبياء كسيدنا إبراهيم وسيدنا لوط، وسيدنا موسى عليهم السلام، وتحدث أيضا عن تفاصيل هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وهجرة بعض من أصحابه، وبين منزلة هؤلاء المهاجرين في الإسلام.
لقد حكى القرآن عن سيدنا إبراهيم أنه قال: { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }. أما سيدنا لوط فقد أمر بترك قريته التي كانت تعمل الخبائث، وساعتها قال لقومه: { إني لعملكم من القالين }، والقلى يعني الهجر والترك.
ورحل سيدنا إبراهيم وسيدنا لوط إلى أرض بارك الله فيها؛ حيث قال عن سيدنا إبراهيم إثر ذكر قصة حرقه بالنار: { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ }.
وموسى عليه السلام، خرج من مصر خائفا يترقب، مهاجرا إلى الله ورسوله؛ حتى أتى سيناء وكانت حكايته المشهورة مع ابنتي شعيب؛ ليعود من بعد أن يمكث عشرة أعوام مع سيدنا شعيب متزوجا إحدى ابنتيه، نبيا إلى فرعون الذي طارد موسى ومن معه من المؤمنين الذين يخافون من بطش فرعون، إلا أن موسى الذي هاجر من قبل وكان موقنا بنجاة الله له، قال: { إن معي ربي سيهدين }، وهي نفس الكلمة التي قالها من قبل خليل الله إبراهيم عندما نوى الهجرة من أرض قومه الذين عبدوا الأصنام وأرادوا إحراقه.
أما سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- فتحدث القرآن عن هجرته حديثا أكثر تفصيلا، فبين ما حدث له في الهجرة بقوله: { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
ثم ذكر ثواب المهاجرين فقال مثلا: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً }. وذكر بعضا من قصص المهاجرين من الصحابة كالمؤمنات المهاجرات اللاتي أردن يبايعن الرسول مثلا، وغير ذلك من قصص المهاجرين التي سيكون لنا معها حديث آخر إن شاء الله.

يتبع

نبيل الجلبي
13/12/2012, 03:40 PM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم الثاني

المقدمة


إنهم مهاجرون إلى الله، نفضوا عنهم غبار الدنيا، وتمسكوا بدينهم، أملا في رضا الله، كانت لكل واحد قصته التي خلدها التاريخ تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
كان منهم الأنبياء والصالحون والعلماء، واستحقوا بشارة الله في قوله: { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً }.
في هذه الحلقات نعرض لكل من هاجر وشد الرحال، وترك الصحاب والآل، بمنهج واضح المعالم بين القسمات، منهج حدده لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إنما الأعمال بالنية وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) رواه البخاري.
نعرض قصص المهاجرين في القرآن، وقصصهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، ونستمع إلى كل صحابي مهاجر وهو يروي قصته في الهجرة، ثم نستمع إلى العلماء وهم يروون تجاربهم في الرحلة إلى الطلب العلم، والهجرة في سبيل تحصيله، ونعتبر من قصص الذين تابوا وأنابوا إلى الله، وهاجروا أرض المعاصي إلى أرض الطاعات، وهجروا القبائح والمنكرات.
نعرض كل هذه القصص متحرين الدقة في الرواية، والأمانة في الوصف، والعمق في التحليل؛ أملا في جمع المشتت من قصص المهاجرين في جملة مفيدة لها محل في النفوس، وعظيم الفوائد والدروس.
إن القصة منهج ترتاح إليه النفس، ولذا كانت منهجا أصيلا في الدعوة إلى الله، وذكر القرآن قصصا للنبي كي يستأنس بها، ويستفيد من تجاربها، قائلا له بعدها: { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}(هود) .
وما كانت هذه القصص للتسلية وتضييع الوقت، بل كانت عبرة وعظة، { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.

يتبع

نبيل الجلبي
14/12/2012, 10:47 AM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم الثالث

هجرة الطفيل بن عمرو الدوسي



الطفيل بن عمرو الدوسي أحد المهاجرين من دوس إلى مكة، ثم من دوس إلى المدينة المنورة، وهو رجل أديب أريب، يميز الحق من الباطل، يقول الشعر، ويعرف للكلمة وزنا.
هاجر إلى مكة فحذره أهلها من أن يلتقي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-فكلامه سحر يفرق بين الزوج وزوجه، والابن وأبيه، فسمع الطفيل كلامهم بادئ الأمر، لكنه فكر بعقله، فرأى أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ويحكم ما أوتي من ملكات فيما يقال له.

يذكر ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة عن أبي الفرج الأصبهاني أن الطفيل لما قدم مكة ذكر له ناس من قريش أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يختبر حاله فأتاه فأنشده من شعره، فتلا النبي -صلى الله عليه وسلم- الإخلاص والمعوذتين فأسلم في الحال.

وكان في إسلام الطفيل خيرا؛ إذ حمل هم الدين من أول لحظة، فعلم أنها رسالة ينبغي أن يؤديها لقومه، حيث كان سيدا مطاعا فيهم، وزِيد له بعد إسلامه لقب ذي النور، وسبب تسميته بذي النور أنه لما وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال له ابعثني إليهم واجعل لي آية، فقال اللهم نوّر له، فسطع نور بين عينيه، فقال يا رب أخاف أن يقولوا مُثلة، فتحول إلى طرف سوطه فكان يضيء له في الليلة المظلمة.
ذهب الطفيل ودعا أباه فأسلم، ثم أسلم معه أبو هريرة وحده، وذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- شاكيا قومه.
وعاد إلى قومه وذكر قصة سوطه ونوره، قال فدعا أبويه إلى الإسلام فأسلم أبوه، ولم تسلم أمه ودعا قومه، فأجابه أبو هريرة وحده الذي يروي هذه الحكاية فيقول: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن دوسا قد عصت وأبت، فادع الله عليها، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة ورفع يديه، فقال الناس هلكت دوس، فقال: « اللهم اهد دوسا وائت بهم » أخرجه البخاري في الصحيح.
واستجاب الله لدعاء نبيه وأسلمت دوس، وذهب الطفيل بن عمرو يعرض على الرسول أن يهاجر وأصحابه إلى دوس؛ ليتخذها منطلقا للدولة الإسلامية الناشئة،
في حكاية أخرجها البخاري في الأدب المفرد، ومسلم في صحيحه عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الطُّفَيلَ بْنَ عَمْرٍو الدوسي أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ يا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ لَكَ في حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنَعَةٍ - قَالَ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ في الْجَاهِلِيةِ - فَأَبَى ذَلِكَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- لِلَّذِى ذَخَرَ اللَّهُ لِلأَنْصَارِ فَلَمَّا هاجر النَّبِي صلى الله عليه وسلم إلى الْمَدِينَةِ هاجر إِلَيهِ الطُّفَيلُ بْنُ عَمْرٍو وَهاجر مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَمَرِضَ فَجَزِعَ فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يدَاهُ، حَتَّى مَاتَ فَرَآهُ الطُّفَيلُ بْنُ عَمْرٍو في مَنَامِهِ فَرَآهُ وَهَيئَتُهُ حَسَنَةٌ، وَرَآهُ مُغَطِّيا يدَيهِ، فَقَالَ لَهُ مَا صَنَعَ بِكَ رَبُّكَ؟ فَقَالَ غَفَرَ لِي بِهِجْرَتِى إلى نَبِيهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ مَا لِي أَرَاكَ مُغَطِّيا يدَيكَ قَالَ قِيلَ لِي لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ.
فَقَصَّهَا الطُّفَيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « اللَّهُمَّ وَلِيدَيهِ فَاغْفِرْ »

ظل الطفيل مسلما مخلصا في إسلامه، تتكسر على عزيمته قواعد الشرك، وتجتث بسواعده أشجار الباطل الخبيثة، فكان من المكلفين بهدم الأصنام حول الكعبة، حيث بعث لهدم صنم يقال له ذي الكفين، وكان صنمَ عمرو بن حمحمة، فجعل يحرقه بالنار، ويقول:

يا ذا الكفين لست من عبادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حششت النار في فؤادكا

واشترك الطفيل في غزوات النبي، وحارب مع أصحابه، حتى توفي يوم اليمامة، في عهد أبي بكر بعد أن كانت هجرته معلما من معالم نشر الإسلام.

يتبع

نبيل الجلبي
14/12/2012, 11:21 AM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم الرابع

مهاجر من اليمن



أخرج الإمام البيهقي في سننه عن أبي سعيد أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن فقال يا رسول الله: إني هاجرت
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد هجرت الشرك، ولكنه الجهاد، هل لك باليمن أحد؟
قال: نعم أبواي.
قال أذنا لك ؟
قال: لا،
قال: فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما.

هذا الأثر يبين قصة صحابي مهاجر من اليمن، أراد أن يأخذ ثواب المهاجرين الأولين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الهجرة الأولى كانت للشرك، فقد خرج في مأمن من نفسه وأهله، لا يتعقبه أحد ولا يؤذيه بسبب إسلامه، فقد خرج وهاجر في ظروف طبيعية ليست كظروف مهاجري مكة، ومن ثم فإنه لا يدخل في زمرتهم من حيث الفضل والذِّكر.

ولكن الرجل أسلم جديدا ولا تقال له هذه المعاني فتكسر عزيمته، وتُفتِّر همته، وتصده من الوهلة الأولى، بل قال له النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب حكيم،( هجرت الشرك )، ذاكرا معنى من معاني الهجرة؛ إذ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، وأولى المنهيات الشرك بالله، فمن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما، وضل ضلالا مبينا.

وإذا كان ثواب المهاجرين الأول عظيما؛ إذ خرجوا من ديارهم وأموالهم وأبنائهم، تاركين ذلك كله ابتغاء رضوان الله، فإن هذا الثواب موصول لمن يسعى على نفسه وأهله ليعيش عيشا كريما، يظل به مرفوع الهامة، منتصب القامة.
لقد رأى الصحابة رجلا جلدا، فتمنوا أن تكون قوته في الحرب، وقالوا: لو كان هذا في سبيل الله، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إن كان يسعى على أبوين فقيرين فهو في سبيل الله.
إن الهجرة مصطلح تطور معناه، فكان في البداية الخروج من بلاد لا يأمن الإنسانفيها على نفسه؛ بسبب إسلامه إلى بلاد يكون فيها في مأمن؛ ليبلغ دين الإسلام.
وما زال هذا المفهوم قائما، ما دام هناك صراع بين الحق والباطل، وبين الإسلاموخصومه، إلا أن هذا الصراع عندما تخف حدته، وترتخي شدته، فإن الهجرة تكون جهادا ونية، جهادا للنفس ولأعداء المسلمين، بنية صادقة، وعزيمة لا تلين.

ويقدر الإسلام من يترك أبناءه وزوجه، ويهاجر في سبيل الله، إلا أن بر الوالدين له منزلة كبرى في الإسلام، فبعد توحيد الله يأتي البر بالوالدين، خاصة إذا بلغ الكبر أحدهما أو كلاهما، فمن تكريم الله لمن تعب وسهر على راحة ابنه أن يكافئه بأن يحث ولده على بره دوما وخاصة عند الكبر، فذلك يعطي أمانا اجتماعيا في الدولة، وهذا الأمان الاجتماعي هو لبنة الاستقرار الأولى التي تجعل من يخرج للجهاد في سبيل الله غير مشغول بشيء إلا الجهاد.

إن الذين يخرجون للقتال في سبيل الله دون إذن من آبائهم ثم يقتلون هم أصحاب الأعراف، وفي الحديث الذي رواه ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف، فقال: ( إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم، فقتلوا في سبيل الله ).

إن هذا الصحابي الجليل له أمثاله الكثيرون من الذين يقرؤون عن بطولات الصحابة وفضلهم وما أعده الله لهم من ثواب عظيم، فيودون لو كانوا في ظروفهم؛ حتى يكونوا مثلهم في الفضل، ولكن قد تصبح هذه أمنية لا أكثر؛ إذ لم يختر الصحابة البلاء، بل فرض عليهم فرضا، وكانوا في خوف على حياتهم وأموالهم، خوف دفعهم لأن يكونوا في حذر دائم رافعين سلاحهم؛ خشية هجوم عليهم، وقد ملوا من هذا الحال، ففي البخاري بسنده عن خباب بن الأرت أنه قال شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌ بردة ً له في ظل الكعبة، فقلنا ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال:
( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، لكنكم تستعجلون ).

إن هذه الحماس الذي نجده من الشباب عند قراءة هذه السير وتمني لقاء العدو والبلاء جاء بسبب ما سمعوه من تمكين الله لهذه الصفوة في الأرض بعد فترة وجيزة ليقيموا حضارة إسلامية كبرى، ويؤسسوا لدولة إسلامية عظيمة، ولكن قرار الهجرة وترك الأهل والأبناء قرار صعب في السلم فما بالك في ساعة الخوف؟ ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ).

إن كثيرا من فكر الحركة الإسلامية المعاصرة فهمت هذه الآثار فهما خاطئا فأعلنت الجهاد في غير ساحته، فتركت ذريعة لأعداء الإسلام ليصمونا بالتطرف والإرهاب، فماذا لو كانت الحركة الإسلامية المعاصرة معتدلة الفكر في جملتها، لا تثير القلاقل في الدول العربية والإسلامية، ووجهت جهودها للتربية ثم جهاد إسرائيل في عقر دارها؟ هل كان ذلك أولى أم أن يقول صاحب تنظيم جهادي سابق نريد أن نفتح القاهرة قبل فتح القدس؟ وهذا قيل في بلد الألف مئذنة! بل في بلاد الحرمين قام بعضهم زاعما الجهاد بتفجير نفسه وسط الأبرياء، فكان الحصاد المر لفكر لم ينضج ويقدر الأمور حق قدرها.

ولست بهذا الكلام مع الذين يسرفون في إبعاد الجهاد عن معناه الأصلي في جهاد الكفار بالسلاح، ولكن من الذين يفهمون الجهاد مفهوما عاما شاملا بحيث يستخدم كل مفهوم مع المكان الذي يناسبه، والوقت الذي يقتضيه، والحاجة التي يدعو إليها ولي الأمر.

يتبع

نبيل الجلبي
15/12/2012, 12:16 PM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم الخامس

هجرة ابن خطيب قريش


قصة مهاجرنا في هذه الحلقة تأتي أهميتها من أن بطلها كان من أوائل المهاجرين إلى الحبشة، في وقت كان أبوه من أشد أعداء الإسلام، بل كان خطيبا يهجو الإسلام حتى هم سيدنا عمر بن الخطاب أن ينزع ثنيته، فلا يستطيع الكلام، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال:
( عسى أن يقوم مقاماً يحمد فيه ).
وقد كان لسهيل بن عمرو موقفه الذي حمد فيه، فقام بمكة خطيبا عند وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة، فسكنهم وعظم الإسلام.
وكان كلامه كوقع السحر على نفوس الناس، به يعجبون، وعلى وقعه يستمتعون ويتأثرون، وكان في الجاهلية يستخدم هذه المهارة في مهاجمة الإسلام والمسلمين، فقال بعد غزوة بدر يحرض على الإسلام: (يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة يأخذون عيركم؟ من أراد مالا فهذا مال ومن أراد قوة فهذه قوة).
وعندما يسلم ابنه غير مفتون بعبارة أبيه الرنانة، وألفاظه الطنانة، فإنه بذلك يكون قد هز ثقة الناس في هذا الخطيب البليغ.
إنه عبد الله بن سهيل بن عمرو الذي هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، فلما قدم مكة أخذه أبوه فأوثقه وفتنه، قال ابن سعد قال محمد بن عمر بن عطاء: " خرج عبد الله بن سهيل إلى نفير بدر مع المشركين مع أبيه سهيل، ولا يشك أبوه أنه قد رجع إلىدينه فلما التقوا انحاز عبد الله إلى المسلم حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل القتال فشهد بدرا مسلما، وهو ابن سبع وعشرين فغاظ ذلك أباه غيظا شديدا ".
ولكن الابن الذي جعل الدين عليه أعز من أبيه، لم ينس أباه يوم الفتح، حيث طلب الأمان له من رسول الله، كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب، إذ يقول عبد الله: يا رسول الله أبي تؤمنه؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( نعم هو آمن بأمان الله فليظهر )، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله:
( من رأى سهيل بن عمرو فلا يشد إليه النظر. فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن بنافعه ) فخرج عبد الله إلى أبيه، فأخبره مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سهيل: كان والله برا صغيرا وكبيرا.
وأسلم سهيل بن عمرو وأبلى في الإسلام بلاء حسنا، وكان كثير الصلاة والصوم والصدقة، خرج بجماعته إلى الشام مجاهدا، ويقال: إنه صام وتهجد حتى شحب لونه وتغير، وكان كثير البكاء إذا سمع القرآن.
أما عبد الله ابنه فقد سبقه إلى الهجرة والإسلام والشهادة؛ قال ابن سعد: وشهد عبد الله أحدا والخندق والمشاهد كلها، وقتل باليمامة شهيدا وهو ابن ثمان وثلاثين سنة فلما حج أبو بكر في خلافته أتاه سهيل بن عمرو فعزاه أبو بكر بعبد الله فقال سهيل: لقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يشفع الشهيد لسبعين من أهله ) فأنا أرجو أن لا يبدأ ابني بأحد قبلي.

نعم كانت هذه قصة المهاجر الذي تحدى أباه وترك كل شيء لله، فعوضه الله خيرا، إذ أسلم أبوه، واعترف له بالفضل، وكان له بعد إسلامه أشد حبا وأكثر قربا، وفي هذه الهجرة درس خلاصته أن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.

يتبع

نبيل الجلبي
16/12/2012, 12:45 PM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم السادس

أم كلثوم بنت عقبة



تحت لهيب الشمس الحارقة، وفي ظلام الليل الدامس، وفي خوف من قطاع الطرق، وملاحقة قريش كانت هجرتَها، أنفاسها تتلاحق، وفكرها لا يشغل بغير الإسلام والهجرة لنبيه، تعلم جيدا أنها أمام صعوبات الطريق وخطره، فهي لا تملك الزاد والراحلة، وامرأة يخشى عليها من قطاع الطرق، وقد يلحقها أهلها فيخيب سعيها وترد لتعذب عذابا أليما، ثم هي بعد كل ذلك تخشى أن يردها الرسول صلى الله عليه وسلم وفاء ببنود صلح الحديبية مع قريش.

مصاعب كثيرة، ومخاطر جمة واجهت الصحابية الجليلة أم كلثوم عقبة بنت أبي معيط رضي الله عنها، فلنصحبْها في هذه المغامرة، لنرى قصة هجرتها وكيف تغلبت على هذه المصاعب.

لقد أعدت أم كلثوم عدتها منذ أخذت قراراها، فبدأت في خطة إخفاء أمر هجرتها، حيث علمت أن الطريق من مكة إلى المدينة قد يأخذ منها خمسة أيام، فباتت تذهب إلى البادية عند أهلها فتقيم ثلاثة أيام أو أربعة ثم ترجع مكة، حتى تعوّد منها أهلها على ذلك، ولما اطمأنت عزمت عزمها، وذهبت كأنها تريد البادية، ولما ذهب عنها من يرافقها غيرت طريقها فقصدت المدينة، وهنا يمكن أن نستنبط أن قريشا لم تكن ترضى بأن تخرج المرأة وحدها حتى ولو كان المكان قريبا، خوفا عليها من قطاع الطرق، وعلى هذا فكيف ستخرج أم كلثوم إلى المدينة متغلبة على هذه الصعوبة الكبيرة؟

لقد خرجت أم كلثوم مهاجرة إلى المدينة سيرا على الأقدام، ليقابلها رجل يسألها : أين تريدين؟

وهو سؤال منطقي إذ استغرب الرجل أن تمشي امرأة في مثل هذه المخاطر، وكان سؤاله من باب نخوة العربي وشهامته، فرغم مقدار الفساد الذي كان في الجاهلية إلا أن أصحاب النخوات كان لهم تواجد، فمنهم عنترة الذي يقول:


وأغض طرفي ما بدت لي جارتي * حتى يواري جارتي مأواها.

لكن أم كلثوم أرادت أن تتأكد أن الرجل صاحب نخوة لا صاحب شهوة، فسألته بشجاعة ما مسألتك ومن أنت؟

ولأن الرجل أحس بها وبخوفها عرفها بنفسه فقال: رجل من خزاعة.

هنا تطمئن أم كلثوم، فخزاعة دخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، وإذا فالرجل باتت عنده نخوة العربي، وأخوة الإسلام، ولن يتعرض لها بسوء، وبدأت تعرفه بنفسها قائلة:

إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علم لي بالطريق.

لقد عرضت السيدة أم كلثوم مشكلتها في عبارات موجزة، تترتب إحداها على الأخرى، فهي من قريش التي عادت الرسول طويلا، ثم هي تريد الذهاب إلى المدينة التي لا تعرف طريقها.

وكانت الإجابة من الرجل أكثر اختصارا، حيث قال: أنا صاحبك حتى أوردك المدينة.

إنه موقف يذكرنا بنخوة سيدنا موسى حين عرض على ابنتي شعيب أن يسقي لهما بعد أن رأى من الفتاتين الضعف وعدم القدرة على السقي، فسقى لهما ولم يدر حوار بينهما إلا في حدود الضرورة، حتى قضيت الحاجة، وفرج العسر.

كانت أمانة الرفيق الذي صاحب أم كلثوم بادية في هذا الطريق، فهما وحدهما، في طريق خال، ومرت عليهما خمس ليالٍ، تصفها أم كلثوم بقولها:
( جاءني ببعير فركبته، فكان يقود بي البعير ولا والله ما يكلمني بكلمة، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده بالشجرة وتنحى إلى فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح حدج البعير فقربه وولى عني فإذا ركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة فجزاه الله من صاحب خيرا ).

وها قد وصلت أم كلثوم بعد ليالٍ اطمأنت فيها لأخلاق الرجل الذي رافقها في هذه المغامرة الكبيرة، ولكن هذا الاطمئنان شابه قلق على غايتها الكبرى، إنها غاية رفقة النبي، أبعد كل هذا التعب ترد ثانية إلى قريش كما رد صحابيان قبلها هما أبو بصير وأبو جندل؟

تقول أم كلثوم:
(فدخلت على أم سلمة وأنا منتقبة، فما عرفتني حتى انتسبت وكشفت النقاب، فالتزمتني، وقالت هاجرت إلى الله عز وجل، وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قلت: نعم وأنا أخاف أن يردني كما رد أبا جندل وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقوم مصبحي قد طالت غيبتي اليوم عنهم خمسة أيام منذ فارقتهم وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبوني فإن لم يجدوني رحلوا

فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته خبر أم كثلوم فرحب بها وسهّل، فقلت إني فررت إليك بديني، فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، وقد رأيتك رددت رجلين حتى امتنع أحدهما، فقال:
إن الله عز وجل قد نقض العهد في النساء وحكم في ذلك بحكم رضوه كلهم،
وكان يرد النساء فقدم أخواها الوليد وعمارة من الغد،
فقالا: أوف لنا بشرطنا وما عاهدَتنا عليه،
فقال: قد نقص الله العهد فانصرفا.

قلت وأعلم أن نقض العهد في النساء معناه نزول الامتحان في حقوقهن، فامتحنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وامتحن النساء بعدها وذلك أنه كان يقول لهن والله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله والإسلام وما خرجتن لزوج ولا مال فإذا قلنا ذلك تركهن ولم يرددن إلى أهليهن.

وامتحنت أم كلثوم رضي الله عنها، وفيها ومن جاء من بعدها من المهاجرات نزل قوله سبحانه:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.

كانت هذه الأحداث في العام السابع للهجرة، حيث فرج الله عز وجل عن أم كلثوم، وبسببها فرج عن مهاجرات أخريات، وتزوجت أم كلثوم بزيد بن حارثة الذي قتل عنها يوم مؤتة، فتزوجها الزبير بن العوام، فولدت له زينب ثم طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً. ومنهم من يقول: إنها ولدت لعبد الرحمن إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت بعد أن سطرت قصة هجرتها صفحة في تاريخ الخلود.

يتبع

نبيل الجلبي
17/12/2012, 11:11 AM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم السابع

أبو جندل



أبو جندل بن سهيل بن عمرو صحابي جليل مثلت هجرته أقسى لحظات مرت على المسلمين في تاريخ الإسلام، لحظة كاد الصحابة فيها أن يعصوا رسول الله ويهلكوا، ولحظة قال فيها أبو الحصين: (إنه هَمّ بأن يرد أمر رسول الله)، ولحظة قال فيها عمر بأنه ما شك في الإسلام إلا في هذا اليوم.

إنها قصة صعبة على أبي جندل وعلى المسلمين الذين تعاطفوا معه، ثم هي أشد صعوبة على النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو أثناء توقيع صلح الحديبية، يرسف في قيوده التي قيده بها أبوه سهيل بن عمرو كبير مفوضي قريش.
لقد كان سهيل بن عمرو مفاوضا شرسا، وخطيبا مفوها، وكان من شروط الصلح أن النبي يرد إليه كل من جاءه من مكة مهاجرا مؤمنا، ولا ترد قريش من جاء إليها من عند الرسول.

وهذا أمر رآه الصحابة صعبا، وزاد من صعوبته رؤيتهم أبا جندل يرسف في أغلاله مستجيرا بالنبي وأصحابه من بطش قريش. وكانت هذه فرصة سهيل بن عمرو ليضع الصلح بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم في أول اختبار صعب، فقال: هذا أول العهد بيننا، وطلب منه أن يسلمه أبو جندل ولده، لكن النبي صلى الله عليه وسلم- طلب من سهيل أن يستثني أبا جندل من الاتفاق، وقال له: هبه لي، ورفض سهيل الذي خرج لقتال المسلمين يوم بدر مع ولده عبد الله الذي ترك أباه وانضم إلى صفوف المسلمين؛ مما غاظ ذلك سهيلا، وقرر ألا يتكرر المشهد مع ولده الثاني أبي جندل.

لقد كان الموقف صعبا عسيرا، صوّرته كتب السير جميعا، ولنأخذ منها رواية البخاري في صلح الحديبية أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو دخل يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد).
قال فو الله إذاً لم أصالحك على شيء أبدا،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأجزه لي ).
قال ما أنا بمجيزه لك،
قال: ( بلى فافعل ). قال ما أنا بفاعل، قال مكرز بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله.

وفي روايات أخرى ومنها رواية ابن كثير في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم .
قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدنى قائم السيف منه.
قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه! قال: فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.
وتروي كل كتب السير أن أبا جندل فرج الله كربه واستطاع أن يفلت من المشركين ويلحق بأبي بصير في ساحل البحر ليجتمع معه قرابة سبعين أو كثر من ذلك على اختلاف الروايات، ويصبحوا مصدر تهديد لعير قريش التي طلبت من النبي أن يلغي هذا الشرط وأن يقبل المسلم من مكة، فكان صبر أبي جندل وأبي بصير ومن معهما من المؤمنين معقبا فرجا، فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه كما يقول الشاعر.

إن المتأمل في قصة هجرة أبي جندل يحاول البحث عن حلقة مفقودة، فكتب السير تروي أنه هرب من سجن أبيه ومشى متجنبا الجبال حتى وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي رده إلى أبيه، ثم أخذه أبو مكرز من أبيه وأدخله خيمته، فماذا فعل بعد ذلك؟
هل فعل كما فعل أبو بصير حيث باغت رفيقيه في الطريق وقتلهم بسيف أحدهم؟ أم هل رجع مكة ثانية وخرج من سجنه ثم هاجر إلى البحر منضما لأبي بصير، أم استطاع أن يهرب من فسطاط أبي مكرز الذي أجاره من ضرب أبيه؟

كل هذه الاحتمالات واردة، وما وجدت لهذه الأسئلة إجابة في كتب السير والتاريخ التي اطلعت عليها، لكن ما تذكره كتب السير أنه انضم إلى أبي بصير، الذي كان يصلي لأصحابه وكان يكثر من قول الله العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصره فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم ، واجتمع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس من بني غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة وهم مسلمون فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها.

حتى طلبت قريش من الرسول أن يستقبل من جاء مسلما من قريش، وبعث الرسوبل يطلب أبا جندل وأبا بصير ومن معها ليقدما عليه في المدينة، فمات أبو بصير وكتاب النبي على صدره، ورجع أبو جندل إلى المدينة وظل يجاهد في سبيل الله حتى مات في طاعون عمواس، وكانت قصته من أشهر قصص المهاجرين.

يتبع

نبيل الجلبي
19/12/2012, 12:49 PM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم الثامن

أبو بصير



في الحلقة الماضية تناولنا هجرة الصحابي الجليل أبي جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما، وقلنا إن أبا جندل لما رده الرسول لقريش تنفيذا لصلح الحديبية ذهب إلى أبي بصير في ساحل البحر، وكان إماما للمسلمين هناك، حيث هددوا قوافل قريش واقتصادها، وكي تكتمل الصورة فإننا نتناول قصة الهجرة لأبي بصير رضي الله عنه التي بلغت في شهرتها حدا لا يقل عن هجرة أبي جندل، فهما صنوان في هذا الأمر لا يفترقان، وقصة كل واحد منهما تطلب الأخرى.

ونأخذ رواية البخاري التي ذكر فيها قصة هجرة أبي بصير عند تعرضه لصلح الحديبية، وبوب عليها فقال: باب الشرط في الجهاد، ثم ذكر أن أبا بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين،
فقالوا العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين،
فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم،
فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر،
فقال أجل والله، إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت،
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه، حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه ( لقد رأى هذا ذعرا ). فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول،
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم،
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد ).
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر،
قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم،
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل، فمن آتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى:
{ وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُم عَنْكُم وَأَيْدِيَكُم عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم...}
إلى هنا انتهت رواية البخاري في قصة هجرة أبي بصير التي تكاد تذكر في مضمونها في بقية كتب السنة والتراجم، وما يضاف إليها أن أبا بصير عندما طلبت قريش من الرسول أن يأخذ من جاءه مسلما، وأن يحميهم من أبي بصير وجماعته، كان على فراش الموت فوضع كتاب رسول الله على صدره وفارق الحياة ودفنه أبو جندل وأقام على قبره مسجدا.

ومع هذه القصة الشهيرة المقتضبة لنا أن نقف بعض الوقفات:

أولا:
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان وفيا بالعهد، وما حدث لأبي بصير وجماعته لم يكن من تدبير النبي، بل هو اجتهاد من الجماعة المسلمة المضطهدة التي فرت بدينها وهاجرت بطريقتها، ولم تشأ إحراج النبي بنقض عهده، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاجتهاد بسكوته عليهم، إذ لم يبعث إليهم بمن ينهاهم عن فعلته، بل اعتبرهم خارج نطاق الدولة، ولهم أن يتصرفوا بالطريقة التي يحمون بها حياتهم، ويحفظون بها دينهم ونفذ بنود العهد حرفيا بأنه لم يستقبل في المدينة من جاء إليه مسلما من قريش باستثناء النساء، فإن الله حكم بألا يرجعن إلى الكفار، وقد علمت قريش ذلك، حيث رُوي أن العامري الذي قتله أبو بصير وهرب منه ليلوذ بالمدينة ثم بالبحر بعد ذلك أراد سهيل بن عمرو أن يكلم فيه النبي ليطلب ديته، لأنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. وبهذا حدثت الثغرة الأولى في الاتفاق، حيث رأت أن الشرط الذي ظنوه في صالحهم انقلب عليهم، وهدد مصالحهم، فبعثوا يطلبون من النبي أن يلغي هذا الشرط من الصلح وأن يستقبل هذه الجماعة التي هددت مصالح قريش الاقتصادية، وبات الفتح قريبا.

ثانيا:
إن أبا بصير الذي هاجر بهذه الطريقة يعلم بنود الصلح، وخضع لأمر الله ورسوله، ولكنه استنبط من كلام النبي أن الله سيجعل له مخرجا، فاجتهد وقتل أحد الرجلين اللذين أخذاه في الطريق، وبهذا أفلت من قبضة قريش، ورجع إلى النبي فقال: ( ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال ) فعلم أمرين الأول: أنه لو بقي في المدينة فسيرده الرسول لقريش، والثاني، أن قوله صلى الله عليه وسلم قال ( مسعر حرب لو كان معه رجال ) يشير إلى إمكانات أبي بصير القتالية، وذكائه وحيلته التي تنفع في الحرب، وتفيد في مثل هذه الظروف التي تمر بها الدولة الناشئة، فخرج في عرض البحر، وفعل ما فعل من تكوين جماعة مسلمة كانت شوكة في حلق، قال ابن حجر تعليقا على قوله عليه الصلاة والسلام ( ويل أمه مسعر حرب ) ، فلقنها أبو بصير فانطلق، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى مَن بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم يجوز التعريض بذلك لا التصريح.

ثالثا:
إن أبا بصير كان يؤم الناس في الصلاة، وتخلى عن الإمامة لما جاءه أبو جندل الذي قدمه للإمامة وتعليم الناس القرآن، فكانت هذه الجماعة المؤمنة المهاجرة يقودها رجلان، الأول له خبرات قتالية، مصحوبة بحيل سياسية، والأخرى لرجل أكثر علما وله دراية بالخطابة والشعر؛ إذ هو ابن خطيب قريش سهيل بن عمرو، وسيكون له أثر في تعليم الناس، ومن ثم كان عملهم قائما على التخطيط والدراسة ومن قبل التوكل على الله.

إن هجرة أبي بصير مثلت فصلا مهما في تاريخ هجرة المسلمين إلى المدينة، ولذا كانت أكثر الهجرات شهرة وانتشارا، وعليها كانت استنباطات فقهية كثيرة في أحكام الجهاد، وقضايا لا يزال المسلمون يتعرضون لها إلى اليوم.

يتبع

نبيل الجلبي
20/12/2012, 03:42 PM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم التاسع

سلمان الفارسي وهجرة البحث عن الحقيقة




تختلف قصة هجرة سيدنا سلمان الفارسي عن كثير من الصحابة الذين هاجروا، فسيدنا سلمان لم يهاجر من مكة إلى المدينة، بل هاجر من فارس إلى المدينة عبر رحلة طويلة ملئت بالمصاعب والمشاق.
لقد كان سلمان ثريا أثيرا عند والده، وكان يعبد معهم النار، وفي رواية كان يعبد الخيل، ورأى ذات يوم بعض النصارى يعبدون الله، فأعجبته عبادتهم وذهب لوالده يخبره، فحذره منهم، ووصل الأمر بوالد سلمان أن حبسه في الحديد حتى لا يتبع هؤلاء.

ولكن سلمان الباحث عن الدين الحق لم يُلق بالا لهذا الحديد، فخرج من فارس بعد أن رأى قومه قد ضلوا عن السبيل، وذهب باحثا عن دين حق؛ إيمانا منه بأن الإنسان لا بد أن يكون صاحب عقيدة سليمة، ولا يمكن أن يعيش في هذه الحياة بغير دين، فبحث عن إله يعبده، فدل على نصارى الشام فلزم أحدهم يأكل ويشرب معه، ويعبد الله بجواره على دين النصرانية، حتى مات ذلك الراهب، ليصحب راهبا ثانيا فيموت، ثم يذهب إلى راهب يوصيه قبل موته بأنه لم يعد أحد على دين عيسى الحق، وإن هذا أوان ظهور نبي علامته أن ختم النبوة بين كتفيه، ولا يأكل الصدقة، ويقبل الهدية.

وقعد سلمان رضي الله عنه على طريق القوافل التي تمر إلى الحجاز يسأل عن رجل خرج في قومه يقول إنه نبي، حتى مرت قافلة ذاهبة المدينة، فعلم أن نبيا خرج فيهم، ولكن كيف يصل سلمان إلى النبي، وهو الذي لا يملك شيئا يركبه، ولا طريقا يعلمه، وليس معه من زاد المسافر شيء؟
لقد قرر سلمان أن يبيع أغلى ما يملك في سبيل أن يهتدي إلى دين الله الحق، ويتبع ذلك النبي الذي بشر به الإنجيل، وأُخبر به من الرهبان الذين صحبهم. باع سلمان حريته لأحد اليهود على أن يحمله إلى مكة ويطعمه كسرة خبز ويحمله خلفه على البعير ويذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات أنه قرر أن يبيعهم غنما وأبقارا كانت معه على أن يحملوه لرسول الله بالمدينة، فأخذوا منه بقره وغنمه ثم باعوه، وعلى أي حال فقد غادر سلمان قصر أبيه بحثا عن الدين الحق وآل به الأمر إلى أن يكون عبدا رقيقا لأحد اليهود.

ولعمري إن أشق شيء على الإنسان أن يكون عبدا مملوكا لا يقدر على فعل أي شيء إلا بإذن من سيده، ولكن أصحاب الأهداف الكبيرة، والغايات العظمى يعرفون أثمان ما يبحثون عنه، فبذل سلمان غير مضطر حريته بحثا عن هدفه، وتحقيقا لمأربه وغايته.

ووصل سلمان إلى المدينة، وأخذ منذ الوهلة الأولى يبحث عن النبي، ويتحرى الدقة في معرفته، في تأن وروية، مستعينا على ذلك بالسر والكتمان، يقول سلمان:
( فإذا امرأة من أهل بلادي فسألتها وكلمتها فإذا مواليها وأهل بيتها قد أسلموا كلهم، وسألتها عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يجلس في الحجر إذا صاح عصفور مكة مع أصحابه حتى إذا أضاء له الفجر تفرقوا، قال فجعلت أختلف ليلتي كراهية أن يفتقدني أصحابي، قالوا مالك قلت: أشتكي بطني فلما كانت الساعة التي أخبرتني أنه يجلس فيها أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو محتبٍ في الحجر وأصحابه بين يديه فجئته من خلفه صلى الله عليه وسلم فعرف الذي أريد فأرسل حبوته فسقطت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه قلت في نفسي الله أكبر هذه واحدة، فلما كان في الليلة المقبلة صنعت مثل ما صنعت في الليلة التي قبلها لا ينكرني أصحابي فجمعت شيئا من تمر، فلما كانت الساعة التي يجلس فيها النبي صلى الله عليه وسلم أتيته فوضعت التمر بين يديه،
فقال ما هذا؟
قلت صدقة قال لأصحابه: كلوا، ولم يمد يديه،
قال قلت في نفسي: الله أكبر هذه ثنتان،
فلما كان في الليلة الثالثة جمعت شيئا من تمر، ثم جئت في الساعة التي يجلس فيها فوضعته بين يديه
قال ما هذا؟
قلت: هدية فأكل وأكل القوم،
قال قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ).
ففي هذه الرواية ينبغي أن نقف عند أمر اختلفت فيه كتب التراجم، الأمر الأول: أن سلمان ذهب إلى مكة كما يظهر في الرواية السابقة، وهناك روايات أخرى أن سلمان ذهب إلى المدينة، حيث إن يهوديا اشتراه، وبذلك تكون هجرة سلمان من فارس إلى المدينة، أو تكون هجرته من فارس إلى مكة ثم إلى المدينة.
لقد وردت الرواية التي ذكرت مكة في كتب مثل صفة الصفوة، ووردت روايات المدينة في كتب مثل أسد الغابة والاستيعاب.
ويترتب على هذا الاختلاف أمر ثان هو أن الزمن الذي أسلم فيه سلمان، هل أسلم قبل الهجرة أم بعدها؟
إن هذه قضية بحثية أثارتها قصة هجرة سيدنا سلمان، ولم أصل فيها لحل، ولكن الذي أستطيع أن أقوله الآن، إنه من المهاجرين على أي من الروايتين، وإنه وصل إلى الحقيقة، ولكنه أصبح الآن عبدا رقيقا بعد أن كان حرا طليقا، وتلك معضلة أخرى، فكيف يجد لها مخرجا؟


بعد أن اهتدى سلمان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إثر رحلة شاقة استمرت سنوات وسنوات باحثا عن الحقيقة، باذلا فيها كل ما يملك حتى حريته، قص على النبي قصته، وكانت هذه بداية البحث عن رحلة أخرى، إنها رحلة الحرية.

لقد أعجب النبي بشخصية سلمان، وعلم أن مثله الذي يستعد للتضحية في سبيل الدين هو من سينفع الإسلام، إنه أمام رجل له عقل يفكر، ينكر عبادة غير الله، وله ثقافة بالأديان الأخرى، وخبرة بالمسيحية، ومن أهل فارس، فهو يعرف العربية والفارسية، وسينضم من بعد إلى كوكبة من الصحابة، صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي وبذلك فمنذ الوهلة الأولى تتحقق عالمية الإسلام بهذه الكوكبة التي حملت مشاعل الهدى، وفتح الله على يديها البلاد، وهدى بسببها العباد.

وقد تحقق ذلك فكان سلمان في طليعة الذين فتحوا فارس، وهو الذي تفاوض مع أهل فارس عارضا عليهم باللغة الفارسية الإسلام أو الجزية أو القتال، فاختاروا القتال، وفتحت بلاد فارس وأطفئت نيران كسرى.
يحكي لنا سيدنا سلمان قصته مع الحرية وكيف فرج الله عنه فيقول: سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصتي فأخبرته، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق فاشتر نفسك،
فأتيت صاحبي فقلت: بعني نفسي،
قال نعم، أبيعك نفسك بأن تغرس لي مائة نخلة إذا أثبتت وتبين ثباتها أو نبتت وتبين نباتها جئتني بوزن نواة من ذهب،
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال فأعطه الذي سألك، وجئني بدلو من ماء البئر الذي يسقي أو تسقي به ذلك النخل،
قال: فانطلقت إلى الرجل فابتعت منه نفسي، فشرطت له الذي سألني، وجئت بدلو من ماء البئر الذي يسقى به ذلك النخل، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فانطلقت فغرست به ذلك النخل فو الله ما غدرت منه نخلة واحدة، فلما تبين ثبات النخل أو نبات النخل أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه قد تبين ثبات النخل أو نباته، فدعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوزن نواة من ذهب فأعطانيها، فذهبت بها إلى الرجل أو في كفة الميزان، ووضع له نواة في الجانب الآخر فو الله ما قلت من الأرض، فأتيت بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو كنت شرطت له وزن كذا وكذا لرجحت تلك القطعة عليه فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكنت معه ).

وهكذا فرج الله كرب سلمان وأصبح حرا طليقا، وعبدا لله وحده، وكانت له في الإسلام بعد ذلك صولات وجولات، وكان صاحب فكر خلاق، استفاد منه المسلمون في حربهم وسلمهم، فاسمه مقرون بمعركة الخندق التي كانت ابتكارا عسكريا لم يعرفه العرب، واسمه مقرون بالمدائن التي مات بها وكان أميرا عليها.
كان عطاء سلمان رضي الله عنه خمسة آلاف دينار، وهي كفيلة بأن تجعله يعيش في سعة وبسطة، ولكنه كان يتصدق بالمال كله، ويعمل الخوص ويبيعه، ويقول أحب أن آكل من عمل يدي، ولم يكن له إلا بيت من جريد، وكانت له عباءة يفترش بعضها ويلبس بعضها. ورد في الاستيعاب لابن عبد البر عن ابن وهب وابن نافع عن مالك قال: كان سلمان يعمل الخوص بيده، فيعيش منه ولا يقبل من أحد شيئاً.
قال: ولم يكن له بيت، وإنما كان يستظل بالجذور والشجر وإن رجلاً قال له: ألا أبني لك بيتاً تسكن فيه؟
فقال: ما لي به حاجة،
فما زال به الرجل حتى قال له: إني أعرف البيت الذي يوافقك..
قال: فصفه لي. قال: أبني لك بيتاً إذا أنت قمت فيه أصاب رأسك سقفه، وإن أنت مددت فيه رجليك أصاب أصابعهما الجدار. قال: نعم فبنى له بيتاً كذلك.

كانت لسلمان رضي الله عنه منزلة كبرى عند الرسول وأصحابه، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان لسلمان مجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي هريرة قال: كان سلمان صاحب الكتابين. قال قتادة: يعني الإنجيل والفرقان. وقال كعب الأحبار: سلمان حُشي علماً وحكمة.

إن قصة هجرة سلمان لم تكن عادية، بل كانت لرجل حياته كلها هجرة، أعرض عن الدنيا وكانت في يديه، وأقبل على الدين الذي استقر في قلبه، فوجد حلاوة الإيمان التي لا يعدلها شيء من متع الدنيا، ومتع بأنوار اليقين والتوكل على الله. لقد تفاخرت قريش عند سلمان الفارسي رضي الله عنه يوما فقال سلمان لكنني خلقت من نطفة قذرة ثم أعود جيفة منتنة ثم آتي الميزان فإن ثقل فأنا كريم (إحياء علوم الدين 5/133)
وهكذا عاش سلمان كريما إلى أن لقي الله عز وجل في سنة خمس وثلاثين أو ست وثلاثين من الهجرة على خلاف في ذلك لتكون هجرته درسا لأولي الألباب،

يتبع

نبيل الجلبي
21/12/2012, 06:08 PM
سلسلة قصة مهاجر

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

القسم العاشر

أسماء بنت عميس


من المهاجرات الأول، حيث أسلمت قبل أن يدخل الرسول والصحابة دار الأرقم بن أبي الأرقم، خصها النبي بالدعاء عندما جهزت له ابنته فاطمة، وكانت معها كأمها في ليلة بنائها، ومن أمانتها جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل ابنته رقية، ثم كانت مع سيدنا علي في غسل فاطمة الزهراء، وأوصى أبو بكر الصديق بأن تغسله حيث مات وهي زوجته، وتوفيت أسماء بنت عميس رضي الله عنها في سنة 40 من الهجرة.
كانت أسماء ذكية ذات منطق وبيان، ومن هذا الذكاء ما ذكره أبو نعيم في حلية الأولياء2/75 عن الشعبي قال:
تزوج علي رضي الله تعالى عنه أسماء بنت عميس بعد أبي بكر، فتفاخر ابناها محمد بن أبي بكر وعبد الله بن جعفر، فقال كل واحد منهما: أنا خير منك وأبي خير من أبيك.
فقال علي لأسماء اقض بينهما، فقالت لابن جعفر: أما أنت يا بني فما رأيت شابا من العرب كان خيرا من أبيك، وأما أنت يا بني فما رأيت كهلا من العرب خير من أبيك، فقال لها علي ما تركت لنا شيئا، ولو قلت غير هذا لمقتك.

هذا الذكاء جعلني أبحث عن قصتها في الهجرة، فاجتهدت في مراجعة كتب التراجم والطبقات لأجد لها حكاية أو قصة عن هجرتها فلم أجد إلا أنها كانت من المهاجرين إلى الحبشة في السفينة عبر البحر، ولذا سموا بأصحاب السفينة، ثم من المهاجرات إلى المدينة بعد ذلك وأنها من أصحاب الهجرتين والقبلتين، ولم أقرأ إلا حديثا لطيفا يأتي في إطار التنافس بين الرجال والنساء في المسارعة إلى الخيرات، وتحصيل الثواب، فعن أبي موسى قال:
بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه، أنا وأخوان لي، أنا أصغرهم، أحدهم أبو بردة والآخر أبو رهم، إما قال بضع وإما قال ثلاثة وخمسون وإما اثنان وخمسون رجلا من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثنا ها هنا، وأمرنا بالإقامة، فأقيموا معنا، قال فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا.
قال فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا، أو قال أعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئاً إلا لمن شهد معه، إلا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، فقسم لهم معهم، قال: فكان ناس من الناس يقولون لنا -يعني لأصحاب السفينة-: سبقناكم بالهجرة. قال: فدخلت أسماء بنت عميس، وهي ممن قدم معنا على حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم زائرة، وقد كانت قد هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء : من هذه؟
فقالت: أسماء بنت عميس،
فقال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟
فقالت أسماء: نعم.
فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم،
فغضبت، وقالت: كلا يا عمر، كلا والله، كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم، ويعظ هالككم، وكنا في دار -أو في أرض - البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وايم الله لا أطعم طعاما، ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله والله ولا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه.
فلما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت يا نبي الله: إن عمر قال كذا وكذا؟
قال: ( فما قلت له ).
قالت: قلت له كذا وكذا
قال: ( ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم - أهل السفينة -هجرتان ).
قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا، يسألونني عن هذا الحديث ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم. رواه البخاري وأصحاب السنن.
إن هذا الحديث الذي كانت فيه مناظرة بين أسماء بنت عميس وسيدنا عمر يجعلنا نستشف بعض الأمور:

الأول: أن أسماء بنت عميس بلغت شهرتها بين الصحابة مبلغا عظيما، ولم تعرف بشخصها، بل عرفت بعملها، وهكذا يوزن المرء بعمله، لا بشخصه وحسبه ونسبه وجنسه ولون، فعمر رآها للمرة الأولى عند حفصة، ولكنه سمع عنها وسمع من أمر هجرتها ما جعله يقول ذلك.

الثاني: أن الصحابة كان بينهم تنافس في الخير وبذل الثواب، وابتغاء مرضاة الله، وشواهد ذلك كثيرة، فعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ }.

الثالث: أن ثواب الهجرة محدد بمقدار الجهد المبذول فيها، فالذي هاجر في الخوف ليس كالذي هاجر في الأمان، وقد ذكرنا ذلك في قصة مهاجر اليمن الذي قال للرسول: إني هاجرت، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس من المهاجرين المخصوصين بالثواب، وإنما يدخل في مفهوم الهجرة العام من هجرة الشرك ونحوه، فقال: هجرت الشرك،
وقد وعى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الدرس، فلما قسم العطاء أعطى لعبد الله ابنه ثلاثة آلاف ونصف، وأعطى باقي المهاجرين أربعة آلاف، وكانت حجته أن عبد الله هاجر مع أبيه الذي لم تجرؤ قريش على الاقتراب منه، أما هؤلاء المهاجرون فقد تركوا أموالهم وديارهم وخرجوا متخفين، حتى يبلغوا مأمنهم في المدينة أو الحبشة، وقد حاولت قريش إرجاعهم من الحبشة أكثر من مرة وأفلحوا في إحدى هذه المرات. والنبي صلى الله عليه وسلم قدر جهد الذين هاجروا للحبشة، وبشرهم بثواب الهجرتين.

الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحترم رأي المرأة ويقدرها، ويعرف رأيها، وهذا الموقف من الشواهد الدالة على ذلك.