المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الديمقراطية خلف القضبان



أيمن أحمد رؤوف القادري
30/04/2007, 05:51 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الديمقراطية خلف القضبان!
تجد كلمة العدل، في كل أذن، موضع القبول، ولا غرو في ذلك، فلا أحد يطمئن إلى ظلم يتربّص به، إن العدل كامن في وجدان الإنسان، مهما اجتهدت تراكمات العصور المظلمة، في أن تـنشر الغبار فوق مرآة العدل، حتى لا يتبين لأحد أن يرى فيها شيئاً واضح المعالم! ولقد كان للبشرية على امتداد عقودها، أن تبحث عن خارطة الطريق المؤدية إلى جزيرة الكنز هذه، جزيرة العدل. ولكن... هل يطمئن البشر اليوم، بعد هذه المحاولات الحثيثة؟ وهل أدركوا النظام الذي يحضن العدل؟ هل قدّم العلم الحديث شيئاً في تسريع الخطى باتجاه العدل؟
لا يقل أحد ما: إن أكبر مصائب الفكر البشري، في الجهل. إن جاهل فنون السباحة لا يقدم على الغطس، ويحمي نفسه من الغرق بالوقاية الاستباقية. وإن جاهل فنون الرماية لا ينبري لمبارزة أحد، خوفاً على رأسه.
قل إذاً إن أزمة البشرية في أن تدّعي أدمغة فيها العلم فتستر عوراتها بعلم مزيّف، أو أن تكون في جهل فاقع اللون، وهي لا تعلم. وحدّث إذّاك عن مغبّات الأمر: يروون في هذا الإطار عدة دعابات، منها أن أحدهم زعم أمام رفاقه أنه لم يترك مدينة إلا زارها في هذا العالم الواسع، وصار الرفاق يذكرون له المدن، وهو يقول: نعم، أقمت فيها أسبوعاً... نعم أقمت فيها أسبوعين... إلى أن قال أحدهم: يبدو أنك تعرف الجغرافيا جيداً. فأجاب: طبعاً، وأقمت فيها شهراً كاملاً. ومن الدعابات أن مغترباً مدعياً عاد إلى أهل قريته، وصار يتباهى بما حصّل من علوم في عاصمة الضباب، فسأله أحدهم عن شكسبير، فقال: هذا المعجم لا يفارقني، وأبقيه عند النوم تحت مخدّتي.
أمثال هذه المهازل تتحكّم اليوم بالبشرية، وشرّ البليـّة ما يضحك!
على أن شرّ هذه المهازل، على الإطلاق، مهزلة الديمقراطية، التي خلبت أكثر العقول. حتى لقد باتت هي المقياس الذي يزن به الكثيرون ما يرد أمامهم من أفكار أو قيم أو مبادئ، مع العلم أن الديمقراطية لا تتصف بالثبوت، ولا مجال للاستناد إليها، في إعطاء الأحكام، فليست قاعدة، بل القاعدة فيها أن لا قاعدة! أيعقل أن تتحكّم بورصة الأرقام المتغيّرة، إثر كلّ استـفـتاء، أو انتخاب، أو استطلاع رأي، بمنظومة القيم التي ينبغي أن تبقى راسخة في الأمة، وأن تتحكّم هي بخيارات الأمة؟؟؟؟ ثمة من ينطلق من الديمقراطية، مستـفتياً آراء الناس، جاعلاً هذه الآراء صاحبة القرار في إعدام قيم، أو نبش أخرى من القبور، أو الإتيان بمخلوقات ممسوخة بولادة قيصرية، ثم يقال: هذه قيم! ومن يفعل ذلك فهو كمن يريد أن يقفز قفزة جبارة، وإذا به يركّـز قدميه أثناء القفز، على أرض لينة، تتحرّك تحتها الرمال. فما مصير القفزة؟ ألـن تؤدي بالقافز إلى الغرق؟ وأي غرق؟
إن المرء ينبغي أن لا يسلس القياد، في هذه الحياة، لأفكار طائشة لا تملك الرصيد الوافي من اليقين.
إنّ من يبني «كوخاً» لكلب الحراسة، لا يحرص على تمتين أسسه، وترسيخها في الأرض، ولكن من يرفع ناطحات السحاب يجد من الضرورة أن يعمّق جذورها في الأرض، لأن الأخطاء في الأسس ستكون نتائجها مدمرة. وإن من يرمي سهماً مداه قريب، لا يبالي إن جنحت ذراعه قليلاً، إلاّ أنه إن طلب هدفاً بعيداً، فإن الجنوح الطفيف في بداية الرمي، يؤدي إلى فوات الهدف، في نهاية المطاف. فما بالنا إن كان الجنوح بالغاً في بداية الرمي!؟ وهكذا الأفكار المصيرية في حياة الإنسان، الأفكار التي تحدد وجهة سيره، فهذه لا يجوز أن تكون هشة يتطرق إليها الظنّ، ولو بوجه من الأوجه! وإلاّ فإن كل ما ينـبني عليها قابل للنسف!
ألا نرى أن المرء لو بلغه خبر وفاة شخص لا يمت إليه بكثير صلة، لا يحرص على التثبت من الخبر، لأنه لا يؤثر في مجرى حياته. أما لو نمي إليه أن المتوفى أبوه فإنه لن يكتفي بالسماع، وسيستنفر جملة حواسّه، ويستقدم كل الوسائل المتاحة، لبلوغ اليقين في هذا الخبر، الذي يزلزل حياته، ويبعثر مسارها.
إن فكرة الديمقراطية هذه موغلة في القدم، من مخلّفات العصور الوثنية، من بقايا الفكر اليوناني الذي لم يتسنّ له أن يلامس رسالة المسيح، عليه السلام! والتعويل عليها، قفزاً فوق ما قدمه الفكر المشبع برسالات الأنبياء، ضربٌ من التخبط في الظلام، والإصرار على البقاء في كهوف الماضي السحيق. وإنـنا لنرى أيضاً أن العالم الغربي قد بنى منظومة تشريعاته على أساس القانون الروماني، الممعن في القدم، المؤسَّس في أحضان الوثنية البغيضة! لقد عانت أوروبا من تحكّم الكنيسة في قراراتها، وتفاصيل حياتها، وبدل أن تبحث عن حلّ أكثر حداثة، من المسيحية، ضربت في بطون التاريخ، وعادت إلى الديمقراطية الوثنية! وشبيه بذلك ما فعلته على الصعيد الأدبي، فإنها لمّا ضاقت بقواعد أرسطو التي أنتجت المدرسة الكلاسيكية، بحثت عن البديل، فلم تجده إلاّ في الرجوع إلى تعاليم أفلاطون، سلف أرسطو، لتقتبس منها أصول المدرسة الرومانطيقية!
لقد بنت الديمقراطية، القديمة- الحديثة، قوام وجودها على أن الأكثرية دوماً على صواب، ولم تستطع الديمقراطية أن تشرح لنا: ما هي القاعدة التي انطلقت منها هذه الخرافة؟؟ أهي قاعدة منطقية؟ أم علمية؟ أم خلقية؟ إن الواقع يكذب هذا الأساس الذي انبنت عليه الديمقراطية. لك أن تشرح لي: كيف يكون مصير الجماعة إذا أراد الأستاذ أن يأخذ برأي التلاميذ الملزم، في كلّ سؤال يطرحه في الامتحان؟ أو إذا أراد ربـّان السفينة أن يأخذ برأي الركاب الملزم في كيفية قيادة السفينة؟ لقد أعلنها جاليلو مدوّية: إن الأرض كروية، وخالف الأكثرية، فهل كان رأي الأكثرية صائباً، لمجرّد أنه رأي أكثرية؟ وهل الخرافات التي تخرب المجتمعات إلاّ أبرز دليل على فساد الركون إلى ما تطمئن إليه الأكثرية؟
إن الأكثرية، على امتداد العالم، يتمّ التحايل عليها، وتجري برمجة أدمغتها، عبر الدعايات الإعلانية، واستطلاعات الرأي الموجّهة، التي تستبق آراء الناس، ولا ترتكز إليها. ثمة فنون ذكية في طرح الأسئلة، محور الاستفتاء، وفي اختيار العينات التي تطرح عليها الأسئلة. ولن ندخل الآن في مقدار الأمانة العلمية التي تتحلّى بها الهيئات التي تقوم بالاستفتاءات! ولن نتحدث عن المال الذي يغسل الأدمغة.... بل يلوّثها!
إن معرفة الحق والصواب، في مسألة ما، تحتاج إلى عدة عوامل: الاستعداد التكويني للفهم والتحليل، والتـثـقيف الدائم بمادة هذه المسالة، وامتلاك آلـيات غربلة لهذه الثقافة، والقدرة على الحياد دون التأثر بالهوى، والجرأة على مواجهة الآخرين بما ينتج عن البحث في المسألة، وأن يترك المرء لنفسه الوقت الكافي للبحث، ولو طال المدى. اقرأ هذا، وأخبرني: هل أكثر الناس يتحلّون بهذه الصفات؟؟ وهل يُترك رأي من يتحلّون بها، لأنهم قلّة، والكثرة تعارضهم؟؟؟!!
لقد نظر منظرو الديمقراطية إلى الأدمغة على أنها متوازية في القدرة على التمييز، وأعطوا لكل دماغ رصيداً مماثلاً للآخر في احتساب الأصوات، وفي ذلك ظلم كبير، إذ تساوى المفسد والمصلح، والمجرم ومن يلقي القبض عليه، والسارق والمسروق منه، في وضع أركان العدل في المجتمع!!!!
إن الاطمئنان إلى الأكثرية لا يوصل إلى العدل، بل إلى المساواة. وليست المساواة دائماً محمودة، فقد تنسف العدل، لأنها قد تعطي أطرافاً متباينة في تقديم الفائدة للمجتمع، ولا نقصد الفائدة المالية طبعاً، حصصاً متساوية في إبداء الرأي، واحتساب نسبته إلى مجموع الأصوات!!!
ولنا هنا أن نسأل: هل يملك الدماغ البشري أصلاً أن يحكم على الأشياء والأفعال، استناداً إلى مجرّد أنه دماغ؟ هل في تقديرات علماء وظائف الأعضاء أن الدماغ محلّ لهذه الوظيفة؟ إن الدماغ، الذي جُعل جهاز الحاسوب (الكومبيوتر) مشابهاً له، لا بدّ له من برمجة، حتى يميّز الخطأ من الصواب. ألا ترى أن الحاسوب لو تمت برمجته بمعلومات خاطئة، أعطاك نتائج خاطئة؟ نعم: إن الدماغ البشري قاصر عن الحكم، ما لم تكن «برمجته» سليمة. إن مجرّد القبول بمنطق البرمجة، يعني أننا رفضنا الركون إلى الرأي الفردي، ورفضنا التعويل على دور الدماغ في التشريع، فالبرمجة هي التشريع. وهنا يأتي السؤال: من يبرمج هذا الدماغ؟ من يحكم على هذه البرمجة أو تلك، أنها صالحة؟ لا يمكن أن نرضى أن يبرمج الفرد نفسه، فإنه إن فعل فقد اختار البرنامج عشوائياً، إذ لم تكن له قبل قابلية الحكم على ما يختار.
ولنا قبل أن نوغل في البحث، أن نسأل سؤالاً قد يبدو غريباُ للوهلة الأولى: من أدرى بخفايا السيارة: أصانعها أم راكبها؟ وإذا أردنا قيادتها، فتعاليم من منهما نـتّبع؟ لا ريب أن الصانع أدرى بما صنع، وأن اتباع رأيه أولى. وإن الله تعالى، هو خالق البشر، وأدرى بتركيبهم، وتعقيدات نفسياتهم وغرائزهم، وأعلم بحاجاتهم وردود فعلهم. إذاً، كما أن تلك السيارة تؤدي دورها على أكمل وجه، وتصان من العطب، باتباع ما ينصح به صانعها، نرى أن الإنسان إذا لزم المنهج الرباني، في إدارة شؤون حياته المختلفة، أمن الويل والخراب. ونحن على ثقة تامة بأن في الإسلام منهاج حياة شديد التكامل، فيه الخير الكثير، بل لا خير في غيره.
وفي تعقيب على من يرى أن الديمقراطية حكم الأكثرية، نقول: إن هذا تضليل بعيد، وإن المثالية المجردة من الواقع تأخذ الناس إلى أن يقتنعوا بهذا الكلام. فلو فرضنا أنه في انتخابات على مستوى بلد بكامله، ترشح في كل دائرة خمسة، ونال كل من الأربعة 18% من الأصوات، ونال الخامس 28%، من هو الفائز؟ أليس، وفق اللعبة الديمقراطية، الخامس؟ لكنه يمثل 28% من الناخبين، ولم يختره 72% منهم! إنه إذاً يمثل الأقلية! وماذا لو تكرّر ما يشبه هذا في سائر الدوائر؟ إن هذا السرد واقعي، وهو الغالب في اللعبة الديمقراطية. سيكون لدينا مجلس تمثيلي، يمثّل ثلث الناخبين، فحسب!
وستلي الطامة الكبرى، حين يسند إلى هذا المجلس أن يشرّع، فقد يعرض عليه مثلاً قانون الضرائب، فيقبله 54% من الأعضاء، ويرفضه 46% منهم، وبالتالي فالذي يسري هو إقرار القانون. ولكن: أهو يمثل إرادة الشعب؟؟؟ إنه في الواقع، ووفق قواعد الإحصاء الرياضية، يمثل إرادة 18% من الشعب!!! فاهنؤوا يا قوم بالديمقراطية!
والغريب أن بعض دعاة الديمقراطية، يشترطون في منح الناس أو الأحزاب، فيض «نعيمها» أن يقدّسوا طقوسها. يعلّق أحدهم على المادة 20 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حول حق كل شخص «في الاشتراك في الجمعيات والتجمعات السلمية»، فيرى أنّ المادة 29 منه، والتي تلخص فقه رينيه كاسين القانوني، تتحدث بوضوح عن قيود «يقررها القانون فقط، مستهدفاً ضمان الاعتراف الواجب بحقوق الآخرين وحرياتهم واحترامها، والوفاء العادل بمقتضيات الفضيلة والنظام العام في مجتمع ديمقراطي.»
لقد كان الإسلام، ولا ريب، أكثر عدلاً من فقاقيع صابون العدل، التي تطلقها هذه الديمقراطية، فهو لا يشترط حين يعترف بـ«الآخر»، أن يعترف هو به. إن النصارى واليهود لا يعترفون بمحمد، صلى الله عليه وسلم، نبياً، بل يعدونه كاذباً، ولا يرون الإسلام ديناً سماوياً، ولكن هذا لم يمنع الإسلام من الاعتراف بعيسى وموسى وسائر الأنبياء، عليهم السلام، ولم يمنع الإسلام من أن يبقي أرباب الملل الأخرى على ما يعتقدون، وأن يؤدوا طقوسهم، وفق ما يؤمنون، وأن يجروا عقود الزواج، ومعاملات الإرث، وفق ما تنص عليه نصوصهم. وإن الدولة الإسلامية لا تطلب منهم الإيمان والاعتراف بوجوب قيام النظام على أساس الإسلام، كل ما تطلبه أن لا تكون هناك أعمال مناوئة للدولة.
إن الذي دفع الناس إلى أن تخدع بالديمقراطية، أنها لمست فيها شعارات براقة، ولكن الممعن للنظر يجد أن الإسلام قد حقّق ما في هذه الشعارات، قولاً وعملاً، دون أن يبلغ به الأمر أن يهوي في منـزلقات الديمقراطية التي من شأنها أن تدمّر البشرية، الأمر الذي نبّـه إليه غير منصف ممن عاشوا في «ظلالها»، فاكتووا بنيرانها!
إن العدل أساس من أسس الشريعة الإسلامية، وقد أخبر الحديث القدسي أن الله حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين الناس محرّماً، ودعا القرآن إلى إنصاف الجميع، ولو كانت الكراهية، أي الشنآن، بالغاً تجاههم. إلاّ أن العدل الذي يتوخاه الإسلام لا يمكن أن يكون نسبياً، خاضعاً لتأثير المكان والزمان والأهواء، ولا بد أن يستند إلى القرآن الكريم، الذي نتحدى أن يردّ أحد الأدلة الوافرة على أنه من عند الله تعالى، الذي لا يخطئ ولا ينسى ولا يخضع للزمان أو المكان، فما يكون العدلَ في شرعه، هو الوجه الأكمل للعدل، ولا تشوبه شائبة. ومن شاء أن يغاير هذا الفهم، فعليه أن يهدم المقدمات التي سبقته، بالحجة اللازمة.
ولقد أجمع الفقهاء على وجوب أن تتمكّن شرائح الأمة، كافة، من التعبير عن رأيها في أولي الأمر الذين يحكمونها، سواء في ذلك الإمام الأكبر، الخليفة، أو الولاة الذين يعينهم الخليفة، فإنهم إن أظهروا التذمر من أحد الولاة عزله دون أن يبدوا الحجة على تذمرهم. وفي كتب السياسة الشرعية، والأحكام السلطانية، أدلة وافرة على هذه الأمور. إلاّ أن الأمة التي أُشربت عقيدة صافية، لن تبحث عن مواصفاتٍ لأولي أمرها، تخالف تلك العقيدة، وإلاّ فإن التناقض منذر بفناء هذه الدولة التي نتحدث عنها.
كما جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية متضافرة المعنى في إثبات ضرورة أن تنهض الأمة لمحاسبة أولى الأمر، وفق الأسس التي تقوم عليها فلسفة الدولة. قال عمر بن الخطاب: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها. إن محاسبة أهل الحكم ليست فحسب حقاً من حقوق الرعية، وإنما هي واجب عليهم، يترتب على إهماله اتهام النصوص الشرعية للأمة بالتقصير والحيد عن جادة الصواب. حتى أن بعض النصوص يجعل عدم الإنكار مساساً بالإيمان: وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. ونحن نقول إن الصحابة أنفسهم مارسوا هذا الحقّ في حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، فحاسبوه بما لا يخلّ باحترام مقام النبوة. وكان أساس المحاسبة أن يراجعوا الوحي، لا أن يحكموا أهواءهم.
والإسلام يحضّ الأمة على أن تدلي دلوها في شؤون السياسة والحكم، وقد حث الحديث النبوي صراحة على تقديم النصيحة لأئمة المسلمين، وجعل النصيحة علامة من علامات صدق الدين. إن النصوص الظنية التي يستند إليها الحاكم في إدارة الدولة، هي الأكثر حضوراً في القاموس التشريعي، ومن هنا يأتي دور الأمة في مراقبة اجتهادات الحاكم، لرصد مدى انضباطها بمعايير الإسلام، ولقد خلّد التاريخ تلك المرأة التي صوبت اجتهاد ابن الخطاب في شأن المهور، كما خلّد التاريخ قصة النفر الذين تسوّر عليهم عمر الدار، وهم يعاقرون الخمر، وأظهروا له فساد فعله، وأن دخول الدار دون استئذان مخالف للشرع، فاعتذر إليهم وانصرف!
وطالما أن الإسلام قد وسّع دائرة المباح، ولا سيما في الأشياء، إذ جعل الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم، فإن ذلك يعني بالتالي اتساع هامش الأمة في أن تبتكر وتبدي الرأي وتبدع. وهذا يقتضي تلاقح الأفهام والتشاور والتداول. إلاّ أن ما يباين الديمقراطية في ذلك، أن ثمة سقفاً لا يجوز أن نعلوه في كلّ نقاش: فلا ينبغي لأي رأي أن يناقض الأسس التي قام عليها المجتمع الإسلامي.
لقد جاءت شريعة الإسلام، لتخرج الناس من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد, فتحرّر بفضلها أتباعها من التبعية للأشخاص، وأعتقوا رقابهم من العبودية للبشر. وتفلّـتوا من قيود الأهواء، والركون إلى مواضعات الزمان والمكان والظروف، في تسيير شؤون حياتهم، فهم بهذا المفهوم أحرار، بل لا أحرار سواهم.
أما العبودية لله تعالى، فإن لها طعماً آخر. إن الإنسان يأنف من كلمة العبودية، لأنها مرتبطة في وجدانه، بالعبد المحتقر الذي يعمل كل عمره، ويستنفد سيده طاقاته، ليستفيد هو، ثم يرميه إن بات عاجزاً «رمي الكلاب». أما عبوديتك لله تعالى، فإنه غني عنها: أنت من يكسب في الدارين، وأجمل ما يعبّر عن ذلك الحديث القدسي: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" (رواه الإمام البخاري في صحيحه).
فأي سيد من البشر، يقدم هذا لعبده!!؟
وأخيراً.... أقول: لقد نشأت الديمقراطية الحديثة في أحضان الرأسمالية، وهذا تناقض واضح. إن الرأسمالية قائمة على التفاوت في القدرات، والظروف، وتكافؤ الفرص، وتوزيع الثروة. قال فرانكلين روزفلت عام 1937: " ... ها هو ذا التحدي لديمقراطيتنا: في هذا الشعب أرى عشرات الملايين من أفراده ومواطنيه... ما زال حتى هذه اللحظة، محروماً معظم ما نسميه أدنى مستويات المعيشة". ولنا أن نسأل: كيف يتسنّى الحصول على رأي الأكثرية، في مجتمعات رأسمالية، تسيطر عليها، اقتصادياً وسياسياً وتشريعياً، النخب المالية، وهي فئات قليلة تتحكم بمسار الحياة!!!
سؤال يبحث عن جواب: فهل من مجيب!!؟؟