المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : امنحونا يوما واحدا للصدق...



رشيد قدوري
30/04/2007, 10:33 PM
امنحونا يوما واحدا للصدق...
كان من الاحسن أن تصادف هذه المقالة يوم الفاتح من أبريل باعتباره اليوم المعروف بتداول ﴿الكذْبات﴾ أو ما يسمى ب ﴿poisson d'avril﴾، لكن لا بأس مادامت الكتابة لا تصادف يوم النشر، وكذلك مادام الكذب قد اجتاح أيامنا وأعوامنا وأبريلنا فأي يوم اخترناه للكتابة عن الكذب فذاك هو الفاتح من أبريل...
ورغم اختلاف الروايات التاريخية حول أصل ﴿كذبة أبريل﴾، إلا أن هناك من يذكر أن الاحتفال بهذا اليوم انطلق من فرنسا ومنه انتقل إلى باقي دول أوربا واستوردناه كما استوردنا ﴿تقليعاتهم﴾ و﴿موضاتهم﴾ و﴿ خورداتهم﴾ و﴿أنصاف فساتينهم﴾... وقد يبدو من الممكن أن نقبل
–وإلى حد ما – كيف أنهم يمارسون هده المزحات والكذبات البيضاء في يوم معين خاصة إذا علمنا أنهم صادقون -على الأقل فيما بينهم - في باقي الأيام، ليس إلى ذلك الصدق المطلق ولكن إلى نسبة معتبرة، وبالاعتبار –أيضا- أن الكذب خصلة منبوذة كمبدأ في الحياة وليس مجرد فعل استهجنته جميع الديانات السماوية؛ والدليل أننا نجد حتى بعض اللادينيين أو العلمانيين منهم يمارسون الصدق ويكرهون الكذب؛ وما الكذاب إلا إنسان مخادع لا يمكن الثقة فيه وتتم مقاطعته أو التحذير في التعامل معه؛ لهذا فلا ضر ولا ضرار حسب اعتقادهم إذا كان هذا اليوم للخروج عن المألوف والمزح فيما بينهم. لكن سرعان ما تعود الجدية إلى مجراها الطبيعي .أما نحن فالكذب ليس مجرد شيء منبوذ أو مستهجن بل هو محرم تحريما قاطعا كعقيدة مؤسسة بالكتاب والسنة ولو كان مزحة، لان الكذبة كذبة مهما كان صنفها أو لونها ﴿وكل ودرجة إيمانه﴾ .لهذا نجد -وللأسف- أن هناك فرق شاسع بين ذلك المبدأ وبين هذه العقيدة من حيث انعكاسهما على أرض الواقع لأن مبدؤهم ملموس، أما عقيدتنا فقد أصبح كثير منا يرددها شفهيا ويعمل بأشياء أخرى تخالفها. بتعبير آخر هذا هو الخداع بعينه والنفاق بحرفه في أبريل وغير أبريل، وواقع الحال يقول إننا بحاجة إلى خلق يوم للصدق وليس إلى استيراد يوم للكذب.
يوم واحد فقط : يكون فيه مستشار ما صادقا مع منتخبيه، ليس معنى هذا أن يحقق لهم كل ما وعدهم به في يوم واحد، فهذا ضرب من المستحيل طبعا؛ ولكن يخرج إليهم ويعترف بصدق أن كل ما وعدهم به هو كذب في كذب ؛ ويطلب منهم السماح ثم يجمع أوراقه وأزلامه و﴿كرشه الحرام﴾ ويعتذر...
يوم واحد فقط : يطلع فيه برلماني ما إلى المنصة ليعلن أمام الملأ :أنني هنا من أجل الدفاع عن حصانتي ومصالحي ومصالح عائلتي وشلتي؛ ولست من أجل الدفاع عنكم يا من أوصلتموني إلى هدا المكان...
يوم واحد فقط : يخرج فيه رئيس بلدية ما ويعلن أمام الناس: إنني جاهل بأموركم الفكرية والثقافية والمعيشية؛ فلا تنتظروا مني أيها المثقفون أن أقيم لكم مهرجانا للشعر في مدينتكم تهجونني فيه ... لا ولن أبني لكم أيها المسرحيون ركحا تتهكمون فيه من توظيفاتي الزبونية ... وانتم أيها الكتاب لا تحلموا أن أدعم لكم جرائد أو مجلات تسخرون فيها من سيارة البلدية التي تنقل طفلتي المدللة حيث أمرت... ومتى طلبتها حضرت ...
يوم واحد فقط :يقول لنا فيه المسئولون عن الصحة أن مستشفياتنا مريضة هي الأخرى ولا تستطيع أن تتحمل صداع المرضى. ولا تنسوا أن كل من يريد أن يتداوى فحتما عليه أن يُعرّج على الخزينة لتأدية واجب الدخول ولو كانت بينه وبين الموت سوى لحظة الدفع المسبق؛ ولا ينسى أن يحضر ﴿مستلزماته﴾ و﴿مضادّاته الحيوية﴾... ويكون أجملَ لو يقتني طبيبا –بالمرة- لأن أطباءنا منهم من هو في عطلة؛ ومنهم من هو في مصحة خاصة؛ ومنهم من لا يستطيع أن يمر على جميع المرضى... وطبعا الخطاب موجه للفقراء أما الميسورين فليدخلوا من أي باب شاءوا... وفي أي وقت شاءوا... وليغرفـوا الدواء الذي شاءوا ...

يوم واحد فقط: يجيبونا فيه المسئولون من التعليم عن الأسئلة التي تعتمر في دواخلنا وما الأسباب التي تجعل مدارسنا وجامعاتنا عبارة عن مؤسسات لتخريج جيوش المعطلين، والقليل منهم من يجد منصبا ، وفي كثير من الأحيان يكون ذاك المنصب بعيدا كل البعد عن ميدان التكوين مما يجعل الإفادة والاستفادة ضئيلة، وفوق هذا وذاك يُطلب منهم أن يكونوا هم صادقين في عملهم ومُجدّين وذوي مردودية في عملهم غير المناسب لمؤهلاتهم .أما من بقي مُعَطَّلا وسولت له نفسه الاحتجاج أو الاعتصام، فهناك هراوة لكل محتج أو معتصم، مادامت لا توجد وظيفة لكل مجاز أو دكتور. هراوة تقصم ظهره إلى أن يعود إلى صفّ الصامتين، الصابرين ،المستسلمين لقدرهم وغبنهم، و﴿الله يرزق الصحة والسلامة والقناعة﴾ و﴿حقك في الجنة﴾ و﴿اللهم ادخّن ولا طافية﴾ و﴿خيرها في غيرها ﴾، إلى غير ذلك من أنواع "الكذب الكلامي" الذي يمارسه كلّ محبطٍ طوال السنة على نفسه دون أن يشعر.فهلا كان صادقا مع نفسه هو الآخر ولو ليوم واحد ودافع عن حقه وتشبث به ...
يوم واحد فقط: نترقب فيه الإحصائيات الحقيقية ليُفْصحَ لنا فيه المتخصصون عن العدد الحقيقي للفقراء ... والعدد الحقيقي لمن ماتوا بردا وصقيعا... والعدد الحقيقي لضحايا "المنانجيت" وضحايا النجاة وضحايا السّيدا وضحايا الطّرق. ومرتبتنا الحقيقية في بارومتر الرشوة وبارومتر الأمية
ولا تنسوا أن تختاروا أي يوم تريدونه سواء بنيسان أم بعاشوراء، وسواء صيفا أم ربيعا .المهم أن يكون﴿ يوما للصدق﴾ ...
ولتبقى النسبية هي أعظم نظرية تخدم الإنسان في أعماله وتحليلاته؛ كما تخدم منطق الأفكار والاختيارات فنحن لا نطلق الكلام جزافا ونحكم على كل الناس بالكذب أو الكل بالصدق .فمن يعتقد في الصدق ويمارسه فهو عند الناس وعند الله صديق ومن يدعي الصدق ويمارس خلافه فهو كذاب ولعل هذه الكلمات مجرد اقتراح يُـفيقُهُ من غفلته قبل أن يُكتب عند الله كذّابا...
وملحوظة أخيرة وضرورية : إن كل من هو متيقن من نفسه انه صادق طيلة أيام السنة أو طيلة حياته أو أثناء تأدية واجبه ومسؤوليته فهو غير معني بهذا الكلام بل ونشد على يديه ونشجعه على الاستمرار, لكن كل من أثارت في نفسه هذه الكلمات شيئا فهو منها ومحتاج ﴿ولو ليوم من الصدق﴾...
-------- [/size]