فتحي صالح
01/05/2007, 01:56 PM
الاحبة الواتاويون،
اقدم لكم هذه المشاركة المتواضعة، وهي عبارة عن قصة قصيرة كنت قد ترجمتها قبل وقت وارجو ان تجدوا فيها المتعة والفائدة:
الإتقان
تأليف : جون جلزويرثي
الفائز بجائزة نوبل للأدب لعام 1932م
عرفته منذ كنت في ميعة الصبـا لأنه صنع لأبي جزمــة ( حذاء ذا ساق طويلة ) ذات مرة ، وكان وقتها يسكن وأخوه الأكبر في حانوتين صغيرين، ضما فيما بعد معاً ليكونا حانوتاً واحدا،ً في زقاق ضيق ، لـم يعـد له وجــود الآن ، وان كـان وقتئذ من المواقع المميزة في الطرف الغربي West End )) . لم يميز ذلك المبنى ، بطابعة الهاديء نسبياً ، اية لوحة تشير إلى أنه شيّد لأحد أفراد الأسرة المالكة ، بل كان بسيطاً في كل شيء حتى في الاسم الألماني " الأخوة جزلر" الذي كتب على واجهته ، والعدد اليسير من أزواج الجزم التي عرضت في أحدى نوافذه . أذكر كم كنت أقف حائراً متسائلاً عما يمكن أن تدره تلك الجزم على صانعها من دخل ، لاسيما أن صنعها لا يتم إلى بطلب من عملائه، وأرجع بأفكاري دون أن أصل لشيء سوى المزيد من الحيرة ، بيد أنني لم أشك لوهلة بأن، يكون صانع هذه الجزم قد أخفق ولو لمرة في إتقان ما يصنع ، ولطالما خطر لي انه قد يكون اشترى تلك الجزم لكي يعرضها في تلك النافذة ثم ما البث أن استبعد تلك الفكر ، فمن غير المعقول أن يملأ بيته بالجلود دون أن تكون مادة لعمله . كما كانت هذه الجزم النسائية ذات الكعب ، غاية في الجمال ونحيلة بغير رونق ، وكان القماش الخاص الذي يعلو جلدها ذا جاذبية يسيل لها لعاب ناظرها، وكان بريقها السخامي البهي يترك لديه انطباعاً بأنها ارتديت على مدى مائة عام ، رغم جدتها. إن من صنع هذه الأحذية ، لابد أن يكون قد استحضر أمامه الجزمة بروحها وكنهها لكي تكون صنيعته مثالاً لا يشوبه ما يشوب سائر النعال.
لقد تداعت عليّ هذه الأفكار بالطبع في وقت لاحق ، رغم أني لمحت فيه وفي أخيه ، عندما تعرفت عليه وأنا في الرابعة عشرة من عمري تقريباً ، ما يدعوني لاحترامه ، فمن يصنع مثل هذه الجزم لابد أن يكون غامضاً وعبقرياً .
أذكر جيداً ملاحظتي التي جاءت على خجل ذات يوم عندما مددت له قدمي الفتية : " أظن انه من الاستحالة بمكان صنع حذاء يلائم هذه القدم يا سيد جزلر " ، وبادرني برده بعد أن افترت لحيته الحمراء عن ابتسامة ساخرة : " أنه فن! " .
بدا لي وكأنما صنع هو ذاته من الجلد إلى حد ما ، بوجهه الأصفر المتغضن وشعره ولحيته الضاربين إلى الحمرة والطيات التي تتدلى بأناقة أسفل خديه حتى زوايا فمه وصوته الأجش الذي يصدر من عمق تكوينه بنغمة وحيدة لا تتغير ، فالجلد مادة توحي بالتهكم والجمود والإثارة وتلك هي صفات وجهه، عدا عينيه بلونهما الأزرق الضارب إلى الرمادي واللتين ابقتا له على جاذبية الرجل البسيط الذي تستحوذ عليه المثالية، وأن لم يفصح عنها . أما أخوه الأكبر فيكاد يشبهه في كل شيء باستثناء عينيه الدامعتين باستمرار وشحوبه الواضح وبراعته التي لم أفطن لها حتى انتهى لقائي به ثم علمت فيما بعد بأنه هو العقل المدبّر عندما سمعت منه عبارة : " سأستوضح الأمر من أخي " ولولا هذه العبارة ما عرفت بأنه أكبر الأخوين.
ان تقدم السن بالمرء واشتداد عوده يكسبه فن المراوغة والتهرب من سداد الفواتير ،اما امام الأخوين جزلر، فانه يقف عاجزاً عن التهرب والمراوغة. لم يخطر لي ببال أن أذهب إلى محلهما لأمد قدمي أمام تلك النظرة الفولاذية الزرقاء الفاحصة لأنني كنت بحاجة لأكثر من زوجين من الأحذية ، بل لم يعدُ الأمر كونه مجرد تأكيد له بأنني لا زلت من عملائه. ولم يكن التردد على المحل ممكناً إذ أن ما يصنعه من جزم يعمر طويلاً حتى يخيل للمرء بأن عامل الزمن قد ألغي من قاموس صانعها، وإنها صنعت من خامة اجتمعت فيها خلاصة الجزم. أن دخول هذا الحانوت ليس كدخول أي حانوت آخر يدلف إليه المرء ليتلقى الخدمة ثم يمضي سريعاً في حال سبيله، فالأمر هنا مختلف تماماً ويشبه دخول الكنيسة التي يمكث فيها المرء ملياً. يجلس الزبون هنا على كرسي خشبي يتيم ولا يجد أحداً في المحل ليستقبله بل يلمح بعد حين من فوق الحافة العليا لألواح الجلد الداكنة والتي تنبعث منها رائحة مميزة تبعث على الارتياح وجه صاحب المحل أو وجه أخيه الأكبر يرقبه من تحت وهو منكب على عمله. ثم ما يلبث أن يسمع صوتاً أجش متبوع بقرع قبقاب يذرع الدرج الخشبي الضيق ثم يجد صاحب المحل واقفاً أمامه بانحناءة خفيفة دون معطف وإنما مئزر جلدي وأكمام مقلوبة إلى الخلف كما لو كانت أفاقت لتوها من حلم جزمي أو كأنها بوم فاجأه ضوء النهار فقض عليه عزلته . عندما كنت ابادره بالسؤال عن حاله وعما إذا كان بوسعه صنع زوج من الجزم الجلدية الروسية لي ، كان يقف لبرهة ثم يعود أدراجه من حيث أتى ، أو يتجه إلى ناحية أخرى من حانوته دون أن ينبس ببنت شفه ويدعني أواصل استرخائي على الكرسي الخشبي والاستمتاع باستنشاق رائحة الجلود المستوطنة في محله والتي تمثل عنوان صنعته. لا يمضي الكثير من الوقت حتى يعود وتمتد يده بعروقها النافرة وهي تحمل قطع من الجلد الذهبي الضارب إلى اللون البني ثم ينطق أخيراً : " أليست قطعة رائعة " ؟ وبعد أن أبدي إعجابي بها تأتي عبارته الأخرى " متى تريدها " ؟ فأجيبه " في أقرب فرصة دون أن تضغط على نفسك " ، ثم يقول " أيناسبك مساء بعد غد " أو إذا كان من قابلك هو الأخ الأكبر فسيقول : " سأسأل أخي " فأتمتم عندها: " شكراً لك ! طاب نهارك يا سيد جزلر " فيرد: " طاب نهارك" دون أن يرفع عينيه عن قطعة الجلد التي بيده ، وأثناء توجهي إلى باب الحانوت ، يعود القبقاب إلى النقر مجدداً وهو يعود به إلى حيث كان مرتقياً به درجات المحل الخشبية إلى عالمه الجزمي الحالم . أما إذا فكر المرء بنوع آخر من الأحذية التي لم يسبق لجزلر أن صنعها له فسوف يقحم نفسه في مراسم وطقوس أخرى تبدأ بتجريده من جزمته وتقليبها لوقت طويل بين يدي جزلر ورمقها بنظرة فاحصة حنونة كما لو كان يذكر بريقها وقت صنعها ويلوم الزبون على الطريقة التي عبث فيها بتحفته الفنية ، وبعدها يضع قدم زبونه على قطعة من الورق ويجول حول قدمه مرتين أو ثلاث مرات بقلم رصاص ثم ما يلبث أن يتلمس بأصابعه وبحركة عصبية على أطراف أصابع قدم الزبون ليقف بنفسه على غور متطلباته .
لم يغب عن ذاكرتي ذلك اليوم الذي سنحت لي فيه فرصة لأبادره بالقول : " سيد جزلر ، أتعلم بأن الزوج الأخير من جزم التمشية بالمدينة قد بدأ يصدر صريراً أثناء المشي " وعندها نظر إلىّ لبرهة دون أن يرد لعلي أتراجــع عما قلت أو أبدي بعض التحفظ على مقولتي ، وبادرني بقوله " لا ينبغي له أن يصدر صريراً " لكنني عدت فقلت له " لقـد وقـع منه ذلك " فرد عليّ قائلاً : " يبدو أنك تركته يبتل قبل هذا الصرير " ، فأجبته : " لا أظن أنني قد فعلت " وعند ذلك تحول نظره إلى الأسفل كما لو كان يسترجع ذكريات خاصة لها صلة بتلك الجزمة وأحسست عندها بالأسى لقولي ما قلت. وسمعته بعد إطراقه يقول " أعده لي ثانية لأفحصه " .
شعرت بالأسف لما اثاره موضوع جزمتي من فضول وكآبة وهم لديه : " هذه الجزمة رديئة منذ الولادة وإذا لم أتمكن من فعل شيء لإصلاحها فسوف أنزل قيمتها من فاتورتك " لبرهة ( ولبرهة فقط ) شرد مني ذهني متجولاً في حانوته وأنا أنتعل زوجاً من الجزم كنت اشتريته على عجالة من أحد المحلات الكبرى . أخذ طلبي دون أن يعرض عليّ أية قطعة من الجلد ولاحظت عينيه وهما تخترقان أعلى قدمي ولم يلبث أن قال لي : " هذا الحذاء ليس من صنعي " ولم يبد على نبرة صوته أي غضب أو أسى أو حتى ازدراء بل شابه شيء من الهدوء الذي يجمد له الدم في العروق . أنزل يديه وضغط بأصابعه على موضع في الحذاء الأيسر الذي بدا عصرياً ، وأن لم يكن مريحاً بما يكفي ، وأردف بقوله : " أن هذا الموضع هو سبب ألمك ، ..هذه الشركات الكبيرة لا تحترم نفسها ... قمامة ! " ثم عقب ، وكأن شيئاً ما في أعماقه قد أطلق لسانه ، ليحدثني ملياً وبمرارة ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمعه يتحدث عن ظروف صنعته والصعوبات التي تكتنفها .
" لقد أخذوا كل شيء ، أخذوه بالدعاية لا بالعمل ، وسحبوا البساط من تحت أرجلنا ، نحن الذين تربطنا بالجزم علاقة عشق ، حتى أصبحت اليوم بلا عمل . أن أحوالنا في تراجع مع كل عام يمر كما ترى " . تفرست في وجهه الذي ترك فيه الزمن خطوطه ولمحت فيه أشياء لم ألمحها من قبل ، أشياء مُّرة وصراع مرير وشيب غزا لحيته الحمراء بغزارة دون مقدمات.
لقد ناضلت وأنا أشرح له الظروف التي اضطرتني لشراء هذه الجزمة المشؤومة بيد أن تعابير وجهه وصوته تركا لدي انطباعاً عميقاً دفعني في ثوان معدودة لطلب العديد من أزواج الأحذية مدفوعاً بعقدة الذنب التي لازمتني أطول من أي وقت مضى . ولم تطاوعني نفسي على الذهاب إليه ثانية لأكثر من عامين بسبب ضميري الذي ما فتيء يؤنبني ، بيد أني استجمعت شجاعتي أخيراً وقررت الذهاب إليه ، ولدى وصولي دهشت إذ لاحظت أسماً آخر قد رسم على أحدى النافذتين الصغيرتين لحانوته وكان أسماً لصانع أحذية لكنه كان ، بطبيعة الحال ، صانع أحذية للأسرة المالكة . لم تعد الجزم القديمة المعهودة قادرة على الاحتفاظ بعزلتها الوقورة بل كدست في نافذة واحدة أما من الداخل فقد أصبحت البئر الضامرة للحانوت الصغير أكثر ظلمة واشتدت الرائحة المنبعثة منها عن ذي قبل . كما انتظرت أكثر من المعتاد قبل أن يطل عليّ جزلر بوجهه من الأعلى وقبل أن يبدأ قرع القبقاب لأرضية الدرج الخشبية. أخيراً وقف أمامي وحملق بي من خلال نظارته التي يحيط بها اطار من الحديد الصديء وبادرني بقوله " سيد ... ، أليس كذلك ؟ " فأجبته بصورة متلجلج " ها أنت ذا يا سيد جزلر! " ، فأردف بقوله " لكن جزمتك تبدو بحالة جيدة جداً ، كما ترى ! أنظر ، لازالت بحالة ممتازة " ثم ما لبثت أن مددت له قدمي قلب نظره : " أجل لم يعد الناس بحاجة إلى جزم جيدة ، كما يبدو " . ولكي أهرب من عينيه المعاتبتين ونبرة صوته اللائمة ، ابتدرته على عجل متسائلاً عما فعل في حانوته فأجابني بهدوء " انه باهظ التكاليف" ثم أردف متسائلاً : " هل تود شراء بعض الجزم " فما كان مني إلا أن طلبت ثلاثة أزواج ، رغم أنني لم اكن بحاجة لأكثر من زوجين ، ولم يطل مكوثي لديه فسرعان ما استأذنته وانصرفت . مضيت في طريقي وأنا أفكر بأن لابد من أنه يظن بأن لي دور ما في التآمر عليه ، أو على أقل تقدير ، في الوقوف ضد تصوره لمفهوم الجزمة . كثيرون هم اللذين لا يلقون بالاً لمثل هذه الأمور إذ أنه قد يمر عدد من الشهور قبل زيارة هذا الحانوت ثانية ، فانا أتذكر ذلك الشعور المُلحّ : " حسناً ! لست أنا من يتخلى عن هذا العجوز ، فلأمض إليه ... لكن لربما قابلت أخاه الأكبر هذه المرة " أنني على يقين بأن الأخ الأكبر هذا ليس في تكوينه ولا في شخصيته ما يعطيه القوة الكافية لتوجيه اللوم لي حتى وأن كان من قبيل البلاهة وعن غير قصد ، وفي غمرة أفكاري المتداعية أثناء مكوثي في الحانوت جاءني الفرج فقد بدا لي بأن أخاه الأكبر منهمك في معالجة قطعة ما من الجلد . هتفت : " سيد جزلر ! كيف حالك ؟ " فدنا مني وقلب بصره بي وقال: " أنا في خير حال " قالها ببطء ثم عقب: " لكن أخي الأكبر مات “.
لاحظت بأنه هو لكـن كان الهرم والذبول باديان عليه بوضوح ! كمـا لم يسبق لــي أن سمعته يتحدث عن أخيه بتاتاً . لقد صدمني سماع هذا الخبر فلم أملك سوى أن أقول له بصوت واهن : " يحزنني سماع ذلك منك ! " فأجابني : " نعم لقد كان رجلاً طيباً وكان يتقن صناعة الجزم " ثم مر بيده على رأسه الذي اختفى معظم شعره فجأة ولم يبق منه سوى شعيرات واهنة كتلك التي كانت تكسو رأس أخيه المسكين ، وظننت لوهلة أن قلة الشعر تلك كانت سببا لوفاته " لم يحتمل خسارة الحانوت الآخر . "هل تريد أن أصنع لك بعض الجزم " قال ذلك وهو يرفع قطعة من الجلد بيده ثم ثنى بقوله: “ إنها قطعة جميلة “.
طلب عدة أزواج من الجزم وقد استغرق صنعها بعض الوقت لكنها أفضل بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى ، ولم يكن من السهل أن تهتريء . لم يمض بي وقت طويل حتى سافرت إلى خارج البلاد ولم أعد إلى لندن إلا بعد عام ونيّف وكان أول حانوت قصدته هناك حانوت صديقي القديم الذي تركته في الستين ورجعت إليه بعد أن تحظى سن الخامسة والسبعين وتحول إلى إنسان ضامر ومهتريء ومرتعش وكانت هذه هي المرة الأولى التي لم يعرفني فيها بحق. بادرته بالتحية كالمعتاد لكن بقلب يعتصره الحزن " كم هي جميلة جزمتك هذه ! أرأيت لقد داومت على ارتداء هذا الزوج في كافة الأوقات أثناء وجودي خارج البلاد ، ولم يهتريء نصفه بعد ، إلا ترى ذلك ؟ " أطال النظر إلى جزمتي وهي زوج من الجلد الروسي ، وبدا لي أن وجهه استعاد بعض عافيته ثم مد يده إلى باطن قدمي وقال لي : " هل يلائمك هنا ؟ أنني أذكر بأن هذا الزوج أتعبني قليلاً " فأكدت له بأنه يلائمني تماماً وعندها سألني " هل تود أن أصنع لك بعض الجزم ؟ بوسعي صنعها لك بسرعة إذ ليس لدي ما أقوم به هذه الأيام " أجبته : " بلى من فضلك فأنا بحاجة إلى جزم من كافة الأنواع " فرد عليّ : " سأصنع لك طرازاً جديداً لم يسبق أن صنعته لك. لقد صارت قدمك أكبر فيما يبدو، بعدها بدأ في تدوير قلم الرصاص حول قدمي بتثاقل شديد ثم تلمس أطراف أصابع قدميّ، ونظر لمرة واحدة إلى الأعلى ليسألني عما إذا كان قد أبلغني بوفاة أخيه. لقد كان النظر إليه يبعث في داخلي الحزن والألم، إذ لاحظت وهنه وهرمه ولم أفرح بشيء كفرحي بالفرار منه ولم أعد أفكر بهذه الأحذية لاستبعادي فكرة صنعه لها، بيد أنها وصلتني ذات أمسية.
فتحت الطرد لأرى أربعة أزواج من الجزم فقمت برصها إلى جانب بعضها البعض ثم جربتها واحداً تلو الآخر ، كانت تلك الأزواج الأربعة رائعة حقاً في الشكل وفي الملاءمة لقدمي وفي تشطيب وجودة الجلد الذي صنعت منه . لقد كانت بحق أفضل ما صنعه لي على الإطلاق . نظرت إلى فتحة ساق أحد الأزواج التي استلمتها فوجدت فاتورة منه بقيمتها وكان المبلغ هو نفس المبلغ المعتاد لكنني صدمت إلى حد ما إذ لم يسبق له أن أرسل لي فاتورة قط قبل مرور أربعة أيام على استلامي للطرد . هبطت درجات السلم مسرعاً وحررت له شيكاً بالمبلغ وقمت بإرساله بالبريد فوراً وبنفسي . وبعد مضي أسبوع عرجت على الزقاق الذي كان يقبع به حانوته ووجدت ساقي تسير بي إلى ذلك الحانوت ورأيت في ذلك فرصة لكي أعبر له عن إعجابي الشديد بالجزم الجديدة التي صنعها لي واصف له كم هي مريحة ولدهشتي وجدت اسمه قد اختفى عن واجهة الحانوت رغم وجود نفس الجزم النسائية ذات السيقان الرفيعة والجلود الخاصة المكسوة بظهارة من القماش، وجزم الفروسية بلمعتها السخاميّة ، تقبع جميعاً في مكانها . دفعني شعور عميق بالقلق إلى ولوج المحل لأجد الحانوتين قد ضما معاً كما كانا في السابق ووجدت هناك شاباً أنجليزي الملامح ، فبادرته : " هل السيد / جزلر في الداخل ؟ " نظر إليّ الشاب نظرة استغراب ورمقني شزراً ثم أجابني : " لا يا سيدي " ، " لكن بوسعنا خدمتك بكل سرور ، فقد أصبح المحل ملكنا ولابـد انـك رأيت اسمنا معلقــاً على واجهة بابه الآخر . أننا نخدم بعض الشخصيات المهمة " فعاجلته : " أجل : أجل ! لكن ماذا عن السيد / جزلر ؟ " تأوه ذلك الشاب عندئذ وأجابني " لقد مات " ، وقع عليّ هذا الخبر وقع الصاعقة فما دريت إلا ولساني يسبقني في التساؤل باستغراب: " مات ! كيف يكون هذا وأنا لم استلم هذه الجزم إلا يوم الأربعاء من الأسبوع الفائت " فعقب الشاب بقوله " رحيل تصدم له بحق ! لقد قضى العجوز المسكين جوعاً ".
" رحمتك يا رب! "
" إنه الجوع البطيء ، هكذا سماه الطبيب. كما ترى فقد نهج هذا الأسلوب لكي يستمر في العمل ولكي يبقي على حانوته ، لم يسمح لأحد بأن يلمس ما يصنع من جزم إلا نفسه وعندما كان يتلقى طلباً كان يستغرق وقتاً طويلاً في صنعه فأنفضّ الناس من حوله وخسر جميع زبائنه . كان يجلس هناك منكباً على عمله ليله ونهاره وأصدقك لو قلت بأنه ما من رجل في لندن بوسعه صنع جزم أفضل من تلك التي كان يصنعها ! لم يلجأ بتاتاً إلى الترويج لنفسه رغم ما تراه من منافسة ، لم يكن يتعاطى إلا بأجود أنواع الجلود وكان يقوم بكل العمل بنفسه . أنظر ماذا كانت النتيجة ! ماذا تتوقع لرجل بهذه الأفكار ؟
" لكن الجوع ! - قد يكون هذا القول مغالى فيه – بيد أنني كنت أراه بنفسي منكباً على جزمه مواصلاً ليله بنهاره حتى آخر رمق ". كما ترى فأنني كنت أراقبه ولم أره قط يمنح نفسه فرصة ليأكل ولم يدخر قرشاً لنفسه بل كان ينفق كل ما لديه في سداد إيجار الحانوت وشراء الجلد وأستغرب كيف ظل على قيد الحياة لهذه المدة الطويلة . لقد اعتاد على ترك ناره تنطفئ . انه شخصية لا تنسى . لقد كان صانع أحذية جيد " .
علقت : " بلى ! كان صانع أحذية جيد " ثم استدرت ومضيت على عجل إذ لم أشأ أن يلحظ ذلك الشاب أنني بالكاد أرى طريقي .
اقدم لكم هذه المشاركة المتواضعة، وهي عبارة عن قصة قصيرة كنت قد ترجمتها قبل وقت وارجو ان تجدوا فيها المتعة والفائدة:
الإتقان
تأليف : جون جلزويرثي
الفائز بجائزة نوبل للأدب لعام 1932م
عرفته منذ كنت في ميعة الصبـا لأنه صنع لأبي جزمــة ( حذاء ذا ساق طويلة ) ذات مرة ، وكان وقتها يسكن وأخوه الأكبر في حانوتين صغيرين، ضما فيما بعد معاً ليكونا حانوتاً واحدا،ً في زقاق ضيق ، لـم يعـد له وجــود الآن ، وان كـان وقتئذ من المواقع المميزة في الطرف الغربي West End )) . لم يميز ذلك المبنى ، بطابعة الهاديء نسبياً ، اية لوحة تشير إلى أنه شيّد لأحد أفراد الأسرة المالكة ، بل كان بسيطاً في كل شيء حتى في الاسم الألماني " الأخوة جزلر" الذي كتب على واجهته ، والعدد اليسير من أزواج الجزم التي عرضت في أحدى نوافذه . أذكر كم كنت أقف حائراً متسائلاً عما يمكن أن تدره تلك الجزم على صانعها من دخل ، لاسيما أن صنعها لا يتم إلى بطلب من عملائه، وأرجع بأفكاري دون أن أصل لشيء سوى المزيد من الحيرة ، بيد أنني لم أشك لوهلة بأن، يكون صانع هذه الجزم قد أخفق ولو لمرة في إتقان ما يصنع ، ولطالما خطر لي انه قد يكون اشترى تلك الجزم لكي يعرضها في تلك النافذة ثم ما البث أن استبعد تلك الفكر ، فمن غير المعقول أن يملأ بيته بالجلود دون أن تكون مادة لعمله . كما كانت هذه الجزم النسائية ذات الكعب ، غاية في الجمال ونحيلة بغير رونق ، وكان القماش الخاص الذي يعلو جلدها ذا جاذبية يسيل لها لعاب ناظرها، وكان بريقها السخامي البهي يترك لديه انطباعاً بأنها ارتديت على مدى مائة عام ، رغم جدتها. إن من صنع هذه الأحذية ، لابد أن يكون قد استحضر أمامه الجزمة بروحها وكنهها لكي تكون صنيعته مثالاً لا يشوبه ما يشوب سائر النعال.
لقد تداعت عليّ هذه الأفكار بالطبع في وقت لاحق ، رغم أني لمحت فيه وفي أخيه ، عندما تعرفت عليه وأنا في الرابعة عشرة من عمري تقريباً ، ما يدعوني لاحترامه ، فمن يصنع مثل هذه الجزم لابد أن يكون غامضاً وعبقرياً .
أذكر جيداً ملاحظتي التي جاءت على خجل ذات يوم عندما مددت له قدمي الفتية : " أظن انه من الاستحالة بمكان صنع حذاء يلائم هذه القدم يا سيد جزلر " ، وبادرني برده بعد أن افترت لحيته الحمراء عن ابتسامة ساخرة : " أنه فن! " .
بدا لي وكأنما صنع هو ذاته من الجلد إلى حد ما ، بوجهه الأصفر المتغضن وشعره ولحيته الضاربين إلى الحمرة والطيات التي تتدلى بأناقة أسفل خديه حتى زوايا فمه وصوته الأجش الذي يصدر من عمق تكوينه بنغمة وحيدة لا تتغير ، فالجلد مادة توحي بالتهكم والجمود والإثارة وتلك هي صفات وجهه، عدا عينيه بلونهما الأزرق الضارب إلى الرمادي واللتين ابقتا له على جاذبية الرجل البسيط الذي تستحوذ عليه المثالية، وأن لم يفصح عنها . أما أخوه الأكبر فيكاد يشبهه في كل شيء باستثناء عينيه الدامعتين باستمرار وشحوبه الواضح وبراعته التي لم أفطن لها حتى انتهى لقائي به ثم علمت فيما بعد بأنه هو العقل المدبّر عندما سمعت منه عبارة : " سأستوضح الأمر من أخي " ولولا هذه العبارة ما عرفت بأنه أكبر الأخوين.
ان تقدم السن بالمرء واشتداد عوده يكسبه فن المراوغة والتهرب من سداد الفواتير ،اما امام الأخوين جزلر، فانه يقف عاجزاً عن التهرب والمراوغة. لم يخطر لي ببال أن أذهب إلى محلهما لأمد قدمي أمام تلك النظرة الفولاذية الزرقاء الفاحصة لأنني كنت بحاجة لأكثر من زوجين من الأحذية ، بل لم يعدُ الأمر كونه مجرد تأكيد له بأنني لا زلت من عملائه. ولم يكن التردد على المحل ممكناً إذ أن ما يصنعه من جزم يعمر طويلاً حتى يخيل للمرء بأن عامل الزمن قد ألغي من قاموس صانعها، وإنها صنعت من خامة اجتمعت فيها خلاصة الجزم. أن دخول هذا الحانوت ليس كدخول أي حانوت آخر يدلف إليه المرء ليتلقى الخدمة ثم يمضي سريعاً في حال سبيله، فالأمر هنا مختلف تماماً ويشبه دخول الكنيسة التي يمكث فيها المرء ملياً. يجلس الزبون هنا على كرسي خشبي يتيم ولا يجد أحداً في المحل ليستقبله بل يلمح بعد حين من فوق الحافة العليا لألواح الجلد الداكنة والتي تنبعث منها رائحة مميزة تبعث على الارتياح وجه صاحب المحل أو وجه أخيه الأكبر يرقبه من تحت وهو منكب على عمله. ثم ما يلبث أن يسمع صوتاً أجش متبوع بقرع قبقاب يذرع الدرج الخشبي الضيق ثم يجد صاحب المحل واقفاً أمامه بانحناءة خفيفة دون معطف وإنما مئزر جلدي وأكمام مقلوبة إلى الخلف كما لو كانت أفاقت لتوها من حلم جزمي أو كأنها بوم فاجأه ضوء النهار فقض عليه عزلته . عندما كنت ابادره بالسؤال عن حاله وعما إذا كان بوسعه صنع زوج من الجزم الجلدية الروسية لي ، كان يقف لبرهة ثم يعود أدراجه من حيث أتى ، أو يتجه إلى ناحية أخرى من حانوته دون أن ينبس ببنت شفه ويدعني أواصل استرخائي على الكرسي الخشبي والاستمتاع باستنشاق رائحة الجلود المستوطنة في محله والتي تمثل عنوان صنعته. لا يمضي الكثير من الوقت حتى يعود وتمتد يده بعروقها النافرة وهي تحمل قطع من الجلد الذهبي الضارب إلى اللون البني ثم ينطق أخيراً : " أليست قطعة رائعة " ؟ وبعد أن أبدي إعجابي بها تأتي عبارته الأخرى " متى تريدها " ؟ فأجيبه " في أقرب فرصة دون أن تضغط على نفسك " ، ثم يقول " أيناسبك مساء بعد غد " أو إذا كان من قابلك هو الأخ الأكبر فسيقول : " سأسأل أخي " فأتمتم عندها: " شكراً لك ! طاب نهارك يا سيد جزلر " فيرد: " طاب نهارك" دون أن يرفع عينيه عن قطعة الجلد التي بيده ، وأثناء توجهي إلى باب الحانوت ، يعود القبقاب إلى النقر مجدداً وهو يعود به إلى حيث كان مرتقياً به درجات المحل الخشبية إلى عالمه الجزمي الحالم . أما إذا فكر المرء بنوع آخر من الأحذية التي لم يسبق لجزلر أن صنعها له فسوف يقحم نفسه في مراسم وطقوس أخرى تبدأ بتجريده من جزمته وتقليبها لوقت طويل بين يدي جزلر ورمقها بنظرة فاحصة حنونة كما لو كان يذكر بريقها وقت صنعها ويلوم الزبون على الطريقة التي عبث فيها بتحفته الفنية ، وبعدها يضع قدم زبونه على قطعة من الورق ويجول حول قدمه مرتين أو ثلاث مرات بقلم رصاص ثم ما يلبث أن يتلمس بأصابعه وبحركة عصبية على أطراف أصابع قدم الزبون ليقف بنفسه على غور متطلباته .
لم يغب عن ذاكرتي ذلك اليوم الذي سنحت لي فيه فرصة لأبادره بالقول : " سيد جزلر ، أتعلم بأن الزوج الأخير من جزم التمشية بالمدينة قد بدأ يصدر صريراً أثناء المشي " وعندها نظر إلىّ لبرهة دون أن يرد لعلي أتراجــع عما قلت أو أبدي بعض التحفظ على مقولتي ، وبادرني بقوله " لا ينبغي له أن يصدر صريراً " لكنني عدت فقلت له " لقـد وقـع منه ذلك " فرد عليّ قائلاً : " يبدو أنك تركته يبتل قبل هذا الصرير " ، فأجبته : " لا أظن أنني قد فعلت " وعند ذلك تحول نظره إلى الأسفل كما لو كان يسترجع ذكريات خاصة لها صلة بتلك الجزمة وأحسست عندها بالأسى لقولي ما قلت. وسمعته بعد إطراقه يقول " أعده لي ثانية لأفحصه " .
شعرت بالأسف لما اثاره موضوع جزمتي من فضول وكآبة وهم لديه : " هذه الجزمة رديئة منذ الولادة وإذا لم أتمكن من فعل شيء لإصلاحها فسوف أنزل قيمتها من فاتورتك " لبرهة ( ولبرهة فقط ) شرد مني ذهني متجولاً في حانوته وأنا أنتعل زوجاً من الجزم كنت اشتريته على عجالة من أحد المحلات الكبرى . أخذ طلبي دون أن يعرض عليّ أية قطعة من الجلد ولاحظت عينيه وهما تخترقان أعلى قدمي ولم يلبث أن قال لي : " هذا الحذاء ليس من صنعي " ولم يبد على نبرة صوته أي غضب أو أسى أو حتى ازدراء بل شابه شيء من الهدوء الذي يجمد له الدم في العروق . أنزل يديه وضغط بأصابعه على موضع في الحذاء الأيسر الذي بدا عصرياً ، وأن لم يكن مريحاً بما يكفي ، وأردف بقوله : " أن هذا الموضع هو سبب ألمك ، ..هذه الشركات الكبيرة لا تحترم نفسها ... قمامة ! " ثم عقب ، وكأن شيئاً ما في أعماقه قد أطلق لسانه ، ليحدثني ملياً وبمرارة ، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أسمعه يتحدث عن ظروف صنعته والصعوبات التي تكتنفها .
" لقد أخذوا كل شيء ، أخذوه بالدعاية لا بالعمل ، وسحبوا البساط من تحت أرجلنا ، نحن الذين تربطنا بالجزم علاقة عشق ، حتى أصبحت اليوم بلا عمل . أن أحوالنا في تراجع مع كل عام يمر كما ترى " . تفرست في وجهه الذي ترك فيه الزمن خطوطه ولمحت فيه أشياء لم ألمحها من قبل ، أشياء مُّرة وصراع مرير وشيب غزا لحيته الحمراء بغزارة دون مقدمات.
لقد ناضلت وأنا أشرح له الظروف التي اضطرتني لشراء هذه الجزمة المشؤومة بيد أن تعابير وجهه وصوته تركا لدي انطباعاً عميقاً دفعني في ثوان معدودة لطلب العديد من أزواج الأحذية مدفوعاً بعقدة الذنب التي لازمتني أطول من أي وقت مضى . ولم تطاوعني نفسي على الذهاب إليه ثانية لأكثر من عامين بسبب ضميري الذي ما فتيء يؤنبني ، بيد أني استجمعت شجاعتي أخيراً وقررت الذهاب إليه ، ولدى وصولي دهشت إذ لاحظت أسماً آخر قد رسم على أحدى النافذتين الصغيرتين لحانوته وكان أسماً لصانع أحذية لكنه كان ، بطبيعة الحال ، صانع أحذية للأسرة المالكة . لم تعد الجزم القديمة المعهودة قادرة على الاحتفاظ بعزلتها الوقورة بل كدست في نافذة واحدة أما من الداخل فقد أصبحت البئر الضامرة للحانوت الصغير أكثر ظلمة واشتدت الرائحة المنبعثة منها عن ذي قبل . كما انتظرت أكثر من المعتاد قبل أن يطل عليّ جزلر بوجهه من الأعلى وقبل أن يبدأ قرع القبقاب لأرضية الدرج الخشبية. أخيراً وقف أمامي وحملق بي من خلال نظارته التي يحيط بها اطار من الحديد الصديء وبادرني بقوله " سيد ... ، أليس كذلك ؟ " فأجبته بصورة متلجلج " ها أنت ذا يا سيد جزلر! " ، فأردف بقوله " لكن جزمتك تبدو بحالة جيدة جداً ، كما ترى ! أنظر ، لازالت بحالة ممتازة " ثم ما لبثت أن مددت له قدمي قلب نظره : " أجل لم يعد الناس بحاجة إلى جزم جيدة ، كما يبدو " . ولكي أهرب من عينيه المعاتبتين ونبرة صوته اللائمة ، ابتدرته على عجل متسائلاً عما فعل في حانوته فأجابني بهدوء " انه باهظ التكاليف" ثم أردف متسائلاً : " هل تود شراء بعض الجزم " فما كان مني إلا أن طلبت ثلاثة أزواج ، رغم أنني لم اكن بحاجة لأكثر من زوجين ، ولم يطل مكوثي لديه فسرعان ما استأذنته وانصرفت . مضيت في طريقي وأنا أفكر بأن لابد من أنه يظن بأن لي دور ما في التآمر عليه ، أو على أقل تقدير ، في الوقوف ضد تصوره لمفهوم الجزمة . كثيرون هم اللذين لا يلقون بالاً لمثل هذه الأمور إذ أنه قد يمر عدد من الشهور قبل زيارة هذا الحانوت ثانية ، فانا أتذكر ذلك الشعور المُلحّ : " حسناً ! لست أنا من يتخلى عن هذا العجوز ، فلأمض إليه ... لكن لربما قابلت أخاه الأكبر هذه المرة " أنني على يقين بأن الأخ الأكبر هذا ليس في تكوينه ولا في شخصيته ما يعطيه القوة الكافية لتوجيه اللوم لي حتى وأن كان من قبيل البلاهة وعن غير قصد ، وفي غمرة أفكاري المتداعية أثناء مكوثي في الحانوت جاءني الفرج فقد بدا لي بأن أخاه الأكبر منهمك في معالجة قطعة ما من الجلد . هتفت : " سيد جزلر ! كيف حالك ؟ " فدنا مني وقلب بصره بي وقال: " أنا في خير حال " قالها ببطء ثم عقب: " لكن أخي الأكبر مات “.
لاحظت بأنه هو لكـن كان الهرم والذبول باديان عليه بوضوح ! كمـا لم يسبق لــي أن سمعته يتحدث عن أخيه بتاتاً . لقد صدمني سماع هذا الخبر فلم أملك سوى أن أقول له بصوت واهن : " يحزنني سماع ذلك منك ! " فأجابني : " نعم لقد كان رجلاً طيباً وكان يتقن صناعة الجزم " ثم مر بيده على رأسه الذي اختفى معظم شعره فجأة ولم يبق منه سوى شعيرات واهنة كتلك التي كانت تكسو رأس أخيه المسكين ، وظننت لوهلة أن قلة الشعر تلك كانت سببا لوفاته " لم يحتمل خسارة الحانوت الآخر . "هل تريد أن أصنع لك بعض الجزم " قال ذلك وهو يرفع قطعة من الجلد بيده ثم ثنى بقوله: “ إنها قطعة جميلة “.
طلب عدة أزواج من الجزم وقد استغرق صنعها بعض الوقت لكنها أفضل بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى ، ولم يكن من السهل أن تهتريء . لم يمض بي وقت طويل حتى سافرت إلى خارج البلاد ولم أعد إلى لندن إلا بعد عام ونيّف وكان أول حانوت قصدته هناك حانوت صديقي القديم الذي تركته في الستين ورجعت إليه بعد أن تحظى سن الخامسة والسبعين وتحول إلى إنسان ضامر ومهتريء ومرتعش وكانت هذه هي المرة الأولى التي لم يعرفني فيها بحق. بادرته بالتحية كالمعتاد لكن بقلب يعتصره الحزن " كم هي جميلة جزمتك هذه ! أرأيت لقد داومت على ارتداء هذا الزوج في كافة الأوقات أثناء وجودي خارج البلاد ، ولم يهتريء نصفه بعد ، إلا ترى ذلك ؟ " أطال النظر إلى جزمتي وهي زوج من الجلد الروسي ، وبدا لي أن وجهه استعاد بعض عافيته ثم مد يده إلى باطن قدمي وقال لي : " هل يلائمك هنا ؟ أنني أذكر بأن هذا الزوج أتعبني قليلاً " فأكدت له بأنه يلائمني تماماً وعندها سألني " هل تود أن أصنع لك بعض الجزم ؟ بوسعي صنعها لك بسرعة إذ ليس لدي ما أقوم به هذه الأيام " أجبته : " بلى من فضلك فأنا بحاجة إلى جزم من كافة الأنواع " فرد عليّ : " سأصنع لك طرازاً جديداً لم يسبق أن صنعته لك. لقد صارت قدمك أكبر فيما يبدو، بعدها بدأ في تدوير قلم الرصاص حول قدمي بتثاقل شديد ثم تلمس أطراف أصابع قدميّ، ونظر لمرة واحدة إلى الأعلى ليسألني عما إذا كان قد أبلغني بوفاة أخيه. لقد كان النظر إليه يبعث في داخلي الحزن والألم، إذ لاحظت وهنه وهرمه ولم أفرح بشيء كفرحي بالفرار منه ولم أعد أفكر بهذه الأحذية لاستبعادي فكرة صنعه لها، بيد أنها وصلتني ذات أمسية.
فتحت الطرد لأرى أربعة أزواج من الجزم فقمت برصها إلى جانب بعضها البعض ثم جربتها واحداً تلو الآخر ، كانت تلك الأزواج الأربعة رائعة حقاً في الشكل وفي الملاءمة لقدمي وفي تشطيب وجودة الجلد الذي صنعت منه . لقد كانت بحق أفضل ما صنعه لي على الإطلاق . نظرت إلى فتحة ساق أحد الأزواج التي استلمتها فوجدت فاتورة منه بقيمتها وكان المبلغ هو نفس المبلغ المعتاد لكنني صدمت إلى حد ما إذ لم يسبق له أن أرسل لي فاتورة قط قبل مرور أربعة أيام على استلامي للطرد . هبطت درجات السلم مسرعاً وحررت له شيكاً بالمبلغ وقمت بإرساله بالبريد فوراً وبنفسي . وبعد مضي أسبوع عرجت على الزقاق الذي كان يقبع به حانوته ووجدت ساقي تسير بي إلى ذلك الحانوت ورأيت في ذلك فرصة لكي أعبر له عن إعجابي الشديد بالجزم الجديدة التي صنعها لي واصف له كم هي مريحة ولدهشتي وجدت اسمه قد اختفى عن واجهة الحانوت رغم وجود نفس الجزم النسائية ذات السيقان الرفيعة والجلود الخاصة المكسوة بظهارة من القماش، وجزم الفروسية بلمعتها السخاميّة ، تقبع جميعاً في مكانها . دفعني شعور عميق بالقلق إلى ولوج المحل لأجد الحانوتين قد ضما معاً كما كانا في السابق ووجدت هناك شاباً أنجليزي الملامح ، فبادرته : " هل السيد / جزلر في الداخل ؟ " نظر إليّ الشاب نظرة استغراب ورمقني شزراً ثم أجابني : " لا يا سيدي " ، " لكن بوسعنا خدمتك بكل سرور ، فقد أصبح المحل ملكنا ولابـد انـك رأيت اسمنا معلقــاً على واجهة بابه الآخر . أننا نخدم بعض الشخصيات المهمة " فعاجلته : " أجل : أجل ! لكن ماذا عن السيد / جزلر ؟ " تأوه ذلك الشاب عندئذ وأجابني " لقد مات " ، وقع عليّ هذا الخبر وقع الصاعقة فما دريت إلا ولساني يسبقني في التساؤل باستغراب: " مات ! كيف يكون هذا وأنا لم استلم هذه الجزم إلا يوم الأربعاء من الأسبوع الفائت " فعقب الشاب بقوله " رحيل تصدم له بحق ! لقد قضى العجوز المسكين جوعاً ".
" رحمتك يا رب! "
" إنه الجوع البطيء ، هكذا سماه الطبيب. كما ترى فقد نهج هذا الأسلوب لكي يستمر في العمل ولكي يبقي على حانوته ، لم يسمح لأحد بأن يلمس ما يصنع من جزم إلا نفسه وعندما كان يتلقى طلباً كان يستغرق وقتاً طويلاً في صنعه فأنفضّ الناس من حوله وخسر جميع زبائنه . كان يجلس هناك منكباً على عمله ليله ونهاره وأصدقك لو قلت بأنه ما من رجل في لندن بوسعه صنع جزم أفضل من تلك التي كان يصنعها ! لم يلجأ بتاتاً إلى الترويج لنفسه رغم ما تراه من منافسة ، لم يكن يتعاطى إلا بأجود أنواع الجلود وكان يقوم بكل العمل بنفسه . أنظر ماذا كانت النتيجة ! ماذا تتوقع لرجل بهذه الأفكار ؟
" لكن الجوع ! - قد يكون هذا القول مغالى فيه – بيد أنني كنت أراه بنفسي منكباً على جزمه مواصلاً ليله بنهاره حتى آخر رمق ". كما ترى فأنني كنت أراقبه ولم أره قط يمنح نفسه فرصة ليأكل ولم يدخر قرشاً لنفسه بل كان ينفق كل ما لديه في سداد إيجار الحانوت وشراء الجلد وأستغرب كيف ظل على قيد الحياة لهذه المدة الطويلة . لقد اعتاد على ترك ناره تنطفئ . انه شخصية لا تنسى . لقد كان صانع أحذية جيد " .
علقت : " بلى ! كان صانع أحذية جيد " ثم استدرت ومضيت على عجل إذ لم أشأ أن يلحظ ذلك الشاب أنني بالكاد أرى طريقي .