المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شجرة التوت



رشيد الميموني
24/03/2013, 11:42 PM
شجرة التوت

"... ولا تنس يا ولدي أن تتعهد شجرة التوت القريبة من مسكنك ، بما تستحقه من تشذيب للأغصان ونزع للطفيليات المحيطة بها. وكن دائما كعهدي بك تقيا عفيفا محافظا على صلواتك . واحذر أن تسقط ضحية لنزغ الشيطـــــان وهمزه ... أمــــك الراضية عنك ."
قرأ عبد التواب الرسالة مرارا وعينه لا تغفل عن الطريق المحاذية للمدرسة قبالته . هذا أسلوب السي علال ، فقيـــه الحارة ، يعرفه جيدا . يحس بجسده يفور... لو كانت الرسالة وردت قبل هذه اللحظة ، لكان بوسعه فعل شيء يكبح جمـــاح نفسه المتأججة . لكن فوران دمه لا يمنحه فرصة للتفكير .
منذ أيام وهو يراود فضيلة في صمت . أو على الأصح هي تراوده . فلا يمر يوم إلا ويراها مارة أو قابعة على التلـــة المقابلة للمنزل يمينا ، وللمدرسة يسارا . و لا يدري حتى الآن ، من حدد الموعد ، أهو أم هي .
ومنذ الأمس ، صار وحيدا . سافر رفيقاه في رخصة فتنفس الصعداء . كم كان يحلم بهذه الفرصة ، في منطقة نائيــــة قال عنها يوما لأمه أثناء إحدى العطل :"- هناك... تحيط بنا جبال جرداء . نقطن في دور من الطين . لا ماء ولا أي شيء.. نحن هناك أقل من درجة إنسان ."... ورغم ذلك كان يحاول الحفاظ على مكانته المميزة بين التلاميذ الذين كانوا يتسابـقون لملء جراره بماء المنبع البعيد ، وبين السكان بالـتزام الوقــار، فلا يرى إلا في فصله يدرس ، أو خلف نافــذة بيته يقــرأ أو تحت شجرة التوت الوحيدة في التلة ، يتأمل ..." ماذا اقترفته من ذنب حتى يرمى بي في هذا المنفى السحيق ؟"
لكن فضيلة تنتزعه من عزلته ، فلا يفكر إلا فيها ، ولا تشغـله ســوى بشرتها القمحــية وعينــيها السوداوين وقوامها الغض . هي وحدها من بين فتيات الدوارلا ترتدي حزام "الكرزية" ولا تطيق "الشاشية" على رأسها رغم حرارة الشمس الملتهبة . لا يعرف من هي ومن أين أتت . لكنه ينتظرها الآن ، في هذا الأصيل الفاقع لونه ، المغبرة سماؤه .
في الصباح التقاها عند شجرة التوت . رد التحية باقتضاب ، لكنها توقفت وقالت بجرأة :"- طريق السلامة لأصحابك يا أستاذ.".. ثم قالت أشياء أخرى . ربما عرضت عليه تنظيف البيت وترتيبه.لا يدري . انصرف مذهولا كمن أصابه الدوار.
يلمحها منحدرة من التلة . تتوقــف لحظة عند شجرة التوت ، ثم تتقــدم بخطـى ثابتة . لا يـبـدو عليها الارتباك . أحس بالخجل لشجاعتها ، بينما هو ينتفض وجلا وحذرا . تلج الباب المورب وتوصده وراءها ، ثم تلقي التحية وتقول مازحة:
- من أين أبدأ ؟ من المطبخ أم ...؟
ازدرد ريقه وأجاب متلعثما :
- كما تريدين... ما كان عليك أن تجشمي نفسك كل هذا العناء .
- لا عناء في هذا . تعبكم راحة ، يجب أن تعلم كم هي معزتك عندنا كبيرة .
ماذا يمكن أن يضيف ؟... لا شيء . هي بدورها سكـتت وانغمست في العمل . السكــون يخيم على البــيت وما جاوره ، بينما جسمه يغلي غليانا وقلبه يخفق بعنف حتى يخاله يوشك أن يتوقف نبضه وهو يرى الفتاة تنتهي من عملها وتستلقــي بجانبه على الكنبة منهكة .
يزداد الأصيل صفرة ، والجو اغبرارا . تلوح شجرة التوت هناك جامدة . تبدو له ذابلة . منذ متى لم يتعهد أغصانهــا وتربتها بالعناية والاهتمام ؟ يخيل إليه أنها ترمق فضيلة بنظرات يكاد الشرر يتطاير منها ، بينما يستشف منها نظرات إلـيه كلها عتاب ولوم وخيبة أمل . تزيدها صفرة الأصيل ذبولا والسكون وحدة وانعزالا بعد يوم قائظ لم تشهد له المنطقة مثيلا.. لكن صياح امرأة يعلو فجأة ، وتندفع من وراء التلة مثيرة نقعا . إنها تتجه نحو البيت .
يستفيق عبد التواب من غيبوبته ويدفع عنه الفتاة التي لا يبدوعليها وقع المفاجأة . هل كانت تتوقع ذلك ؟.. ليس لديه الآن مجال للتفكير والتحليل ، فالوضع حرج وسمعته في خطر . يجرها من يدها إلى أقصى الفناء ، ويفتح النافذة الخلفية ، لكن رؤوسا مشرئبة ترنو إليه فيوصد النافذة جزعا ويعود إلى الأخرى وينظر إلى التلة . رباه ، كأنها زرعت أجسادا آدمية. من أين أتوا ؟ وكيف علموا كلهم بالخبر ؟ ومتى تتوقف ولولة المرأة التي تكاد تخلع الباب بضربات قبضتها :
- بنتي ... بنتي ... أفسد بنتي ... يا للفضيحة .
ينظر إلى فضيلة مذعورا كغريق يلتمس النجاة ، فتغض بصرها . يعاود النظر إلى الخارج . لم تعد تظهر شجرة التوت و قد لفتها من كل ناحية الأجساد المتعطشة لمزيد من الإثارة . وربما داست تربتها الأقـدام وامتدت الأيادي تعـبث بأوراقهــا الوارفة . كيف هانت عليه ورسائل أمه لا تكاد تخلو من وصية بالعناية بها ؟
- الفضيحة ؟ - قال أحد المتفرجـين في تهكم- تخشى الفضيحة وهي قادمة للتو من بيــن أحضان الجنــود في "الكوارتيل"؟ لكنها ذكية كعادتـها وسوف تنال ما تريد .
الروابي الجرداء تنبت أجسادا أخرى . شاع الخبر كالبرق . في العيون بريق النشوة العارمة ، و لهفة عظمى لرؤيــة "المعلم" متلبسا ، ولمشاهدة ما يضع حدا للحياة الرتيبة القاتلة في هذه المنطقة المنعزلة . في الأصوات المبحوحة رنـــة ابتهاج..." الدرك . أفسحوا لرجال الدرك ... أنت ، أيها البغل ." .. أين منه الآن لحظات السكون ليهرع فيها إلى شجرته ، يستظل بظلها ويبثها شكواه ؟ ... لكن الآن عليه الخروج من هذه الورطة والإفلات بأي ثمن من الكماشة التي تطبق عليه .
- عفوا سيدي... لا شيء يستدعي كل هذه الضوضاء... هي خطيبتي تزورني ، ونحن متواعدان على الزواج .
- حقا ؟ نرجو ذلك .
وتنبري المرأة حاسرة الرأس ، منفوشة الشعر قائلة والزبد يتطاير من شدقيها :
- ليكن... ولكن الآن ... والعدلان مستعدان .
يغوص الدوار في الظلام وتختفي الأجساد فجأة كما ظهرت بغتة . ولا يبقى سوى صدى الضحكات والصيحات وكذا الزغاريد . كانت زغاريد غريبة لم يألفها من قبل قط . كانت أشبه بنعيق أو على الأصح بنحيب ينعي أرواحا .
- مبروك عليك يا فضيلة ... تستأهلي ذاك المحترم .
- نلت ما كنت تتمنينه وأمك... عليك الآن بالحلاوة . الجماعة لن تتخلى عن الزردة .
- هل رأيتم سحنته وهو يمضي العقد ؟ كان كمن يساق إلى الإعدام .
عجبا . أكان كل هذا الحقد مكبوتا في الصدور وهو لا يعلم ؟ هل كانت المكانة التي حلم بها بين السكان سـرابا ؟.. كم هو طويل هذا اللـيل ، وكم هي موحشـة هــذه اللحظات . كل شيء حوله جامد . حتى الزمن توقف . ينظر بوجــل إلى حيـث الشجرة . لا يراها ولكنه يشعر بالخزي قبالتها . يخيل إليه أنه يسمع نحيبها ، بل حشرجتها . وتمتد يده بحركة لا إرادية إلى ملابسه يتحسسها.. لم يعد يدري هل هو بثيابه أم عار منها . لقد غفل عن كل شيء ، حتى عن تعاقب الليل والنهار، وذهلت نفسه عما يحيط به ، فلم يفطن إلى وصول رفيقيه وجلوسهما بجانبه . كانا ينظران في صمت إلى الكتب المبعثرة عند قدميه الحافيتين ... تربية الطفل عند بياجي... المرشد التضامني ... وسائل الإيضاح في علم النكاح ... السعادة الزوجية...
- إنه ينتحر ويموت ببطء .
- كم كنت متلهفا لأزف إليه بشرى انتقاء أمه عروسا له .
- لقد أخطأنا حين تركناه وحيدا .
- لقد فات الأوان ... ما العمل الآن ؟
- الانتقال... لا شيء ينقذه غير الانتقال .
وفي انتظار الانتقال ، يقضي عبد التواب معظم أوقات فراغه في تأمل شجرة التوت التي لم يعد يجرؤ على الاقتراب منها رغم شدة الحر. يشعر في بعض الأحيان أنها لم تعد هناك وأن أياد اقتلعتها من جذورها . بينما تتنقل فضيلة كالفراشــة بين المنبع والبيت ، متعمدة المرور عند سور السوق الأسبوعي حيث يجلس ثلة من الفتيان . تتصنع الجد والوقار لكـــنها
تبتسم لتعليقاتهم :"- هنيئا لك العريس الجديـد .. لا تبخلي عليه بطريقتك الفريدة في الإمتاع ... المهم أن تذكري العزومة جيدا... فهناك من ينتظرها على أحر من الجمر. ولكن احرصي على أن يكون الآخر منهمكا في بيع الحروف ."
تطلق فضيلة ضحكة مجلجلة وتأخذ حجرا لترمي به صوبهم فيتلقفونه متمايلين على بعضهم البعض .
".. ولا تنسي يا أمي أن تكثري من دعواتك لي في صلواتك أن ينتشلني ربي من هذه المنطقة الفظيعة ويبعدني من هؤلاء الوحوش وأن تسامحيني على ما سببته لك من آلام ومن خيبة أمل ... إبنك المطيع عبد التواب"

مرزاقة عمراني
27/03/2013, 01:02 PM
http://www.wata.cc/forums/mwaextraedit6/extra/04.gif




أمر من هنا لأقول بأني قرأت جمالا و هدوءا راقاني كثيرا.... و لأعد بالعودة حين انهائي لرقن قراءتي المتواضعة في نص رشيد
الذي نسخته و طبعته لتتم لي راحة القراءة.

عبدالله بن بريك
27/03/2013, 01:37 PM
قصة رائعة جدّاً.

تثبيث عن جدارة.
*المسوغات:
-لغة نظيفة وازنت بين التقرير و الإيحاء ،و بين الحقيقة و المجاز.
-حبكة متقنة تشدّ المتلقي إلى النهاية يأحداثها المشوقة و شبكة علاقاتها المتنوعة.
-اشتغالٌ ناجحٌ على تيمات الحرمان ،الإغراء،التعيين القاسي،الخداع،الندم،،،
-شخصيات جمعت بينها علاقات الرغبة التواصل و الصراع.
-أنسنة المكان و الطبيعة الميتة بفنية (الشجرة مثلاً)
-شهادة الأستاذ "مرزاقة عمراني"
خالص التحية و التقدير،،أخي المبدع الأستاذ "رشيد ميموني"

رشيد الميموني
28/03/2013, 12:49 AM
http://www.wata.cc/forums/mwaextraedit6/extra/04.gif




أمر من هنا لأقول بأني قرأت جمالا و هدوءا راقاني كثيرا.... و لأعد بالعودة حين انهائي لرقن قراءتي المتواضعة في نص رشيد
الذي نسخته و طبعته لتتم لي راحة القراءة.

العزيزة مرزاقة ..
كم أشعر بالاعتزاز وأنا أرى كل هذا الثناء الذي حظيت به قصتي ..
سأنتظر بكل شغف مرورك البهي ..
باقة ورد تليق بشخصك .
مع خالص مودتي .

رشيد الميموني
28/03/2013, 12:53 AM
قصة رائعة جدّاً.

تثبيث عن جدارة.
*المسوغات:
-لغة نظيفة وازنت بين التقرير و الإيحاء ،و بين الحقيقة و المجاز.
-حبكة متقنة تشدّ المتلقي إلى النهاية يأحداثها المشوقة و شبكة علاقاتها المتنوعة.
-اشتغالٌ ناجحٌ على تيمات الحرمان ،الإغراء،التعيين القاسي،الخداع،الندم،،،
-شخصيات جمعت بينها علاقات الرغبة التواصل و الصراع.
-أنسنة المكان و الطبيعة الميتة بفنية (الشجرة مثلاً)
-شهادة الأستاذ "مرزاقة علواني"
خالص التحية و التقدير،،أخي المبدع الأستاذ "رشيد ميموني"

الأخ الغالي عبد الله ..
أعتبر تعليقك نقدا حظيت به قصتي ..
كلمات موجزة ومعبرة زادت من ألق النص وعنفوانه وجعلتني أحس أنني أمام مسؤولية كبيرة لأكون عند حسن ظنك وظن كل القراء الأعزاء ..
شكرا لك من كل قلبي وسأكون سعيدا جدا بمرورك وبصمتك على متصفحي .
بكل المحبة .

مرزاقة عمراني
28/03/2013, 02:07 AM
قصة رائعة جدّاً.

تثبيث عن جدارة.
*المسوغات:

-شهادة الأستاذ "مرزاقة علواني"


المكرم الأستاذ عبد الله بن بريك: أعتز كثيرا بشهادتك النبيلة إذ جعلت شهادتي على نص المبدع " رشيد الميموني" من بين مسوغات تثبيتها أيها الفاضل، و لكنني أسألك عن الاسم الجميل الذي أضفته إلى اسمي الأول فمن أين أتيت ب "علواني"

مرزاقة عمراني
03/04/2013, 04:17 PM
العنوان:
ينظر إلى العنوان على أساس أنه العتبة الأولى للنص ومفتاح القارئ لولوجه، ولابدَّ من ان يكون العنوان ذا قدرة إيحائية بمضمون النص، فتحا للقارئ شهية القراءة، من خلال العلاقة الكائنة بينه (أي العنوان) ومضمون النص.
شجرة التوت:
إن قراءة أولى أفقية في (شجرة التوت) أي العنوان لا تحيلنا إلا على صورة هذه الشجرة الضخمة الكثيرة الأوراق المثمرة نباتا حُلْوًا طيبًا، غير أن قراءة نحسبها أكثر عمقاً في العنوان، تؤشر على المفهوم التراثي لشجرة التوت، فهي مرتبطة بقصة الخطيئة الأولى التي ارتكبت في الجنة من طرف آدم وحوَّاء، عندما قدر الشيطان على إغوائهما، فأكلا من الشجرة المحرمة، ولمَّا تبدت لهما سَوْآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وهذا الورق بحسب بعض التأويلات يكون ورق شجرة التوت، وحسب تأويلات أخرى هو ورق شجرة التين.
غير أن السؤال الذي لا نستطيع تجاهله هنا هو: لماذا لم يختر القاص "شجرة التين" وآثر شجرة التوت؟ وإن أجوبة كثيرة قد تطرح نفسها كذلك، ولست ادري بالضبط أيها أختار، لذلك أدعو القراء الكرام إلى مشاركتي في محاولة الإجابة عن هذا السؤال: لماذا اختار القاص لنصه عنوان "شجرة التوت" ولم يختر "شجرة التين"، وإليكم بعض الإجابات التي اقترحها والتي تنتظر إثراءاتكم.
 أراد القاص أن ينوع ويُجَانِبَ ما هو مألوف ومتداول، إذ إن العنوان لو كان "شجرة التين" لفهم القارئ منذ قراءته للمرة الأولى أن النص يتحدث عن "الخطيئة الأولى" وأعرض عن قراءته.
 هل يؤسس القاص لتأويل جديد للقصة القرآنية في جانب الشجرة التي ستر بها آدم وزوجه عوراتهما، فينحي شَجَرَة "التين" ويركز على شجرة واحدة هي " شجرة التوت".
 هل يعطينا القاص دلالة أولى على أن قصته لا تتعلق بالخطيئة والمعصية، بقدر ما تحاول رواية الرغبة في التحرر من الكبت العاطفي وكلّ ما تعزِّزه فينا التربية الدينية الأخلاقية الصارمة. (نحن نتخيل هنا شجرة التوت الضخمة القوية بأوراقها الكثيرة قلبية الشكل).
 هل عمد القاص إلى أن يتناص قصة مع الأسطورة الإغريقية التي تحكي عن موت عاشقين تحت شجرة التين (بيرموس وثيزبي) وقد ضربا موعدا للالتقاء عند هذه الشجرة، وبالتالي تأكيد رغبة البطل في عيش قصة حب مماثلة.
شخصيات القصة:
تنتظم في القصة شخصيات مختلفة جميعها من حيث أبعادها الثقافية والاجتماعية، وضمن هذه الشخصيات البشرية تحضر " شجرة التوت" شخصية مشاركة في صنع الحدث وشاهدة عليه.
1- عبد التواب:
يحمل الاسم صفة (التوبة) وهي الرّجوع والإنابة مع النَّدم على الخطأ والإصرار على عدم العودة إليه، إن التوبة تحمل ضمنًا معنى الخطأ الذي يسبب الندم عليه حدثت التوبة، واسم (عبد التواب) يفتح الباب واسعا أمام من يرجو رحمة ربِّه وغفرانه، ففعل الخطيئة الذي يعقبه الندم يستحق الغفران من قبل الله تعالى، كما أن الخطأ يكون صفة ملازمة لطبيعة الإنسان التي تنحو إلى الضعف وفقدان الزمام أمام الإغراءات، ولا يخضع هذا الخطأ للتقسيمات الاجتماعية أو الثقافية، فهو يميزنا جميعًا، كما أن الرَّحمة الإلهية تسعنا جميعا، وسنلاحظ أن هذا الاسم (عبد التواب) مطابق لمُسَمَّاه إذ على الرغم من الوقوع في الخطأ فإن الشخصية تصِّر على التوبة والتمسك بِرِضى الوالدة منه رضَى الله تعالى بحسب المعتقد الدِّيني.

وعبد التواب- كما يوضحه النص- شابٌ متَعلِم أرسل من طرف الهيئات المختصة للتدريس في أحد الأرياف (الدُّوَار كما سمَّاهُ القاص)، والواقع أن عبد التواب لم يرسل بمفرده، إذ كان معه في المهمة (رفيقان) يشاركانه المنزل، ويكشف النص منذ بداياته عن مستوى عالٍ من الصراع وصل إليه البطل، صراع نفسي يعيشه لحظة استلامه لرسالة أمه تذكره فيها برعاية شجرة التوت والمحافظة على الصَّلاة والتقوى والعفاف، ولكن أنَّى له كل ذلك وقد ضربَ موعدًا لفتاةٍ من الدُّوار للقائها في المنزل وهو اللقاء الذي شكل بالنسبة له (حُلْمًا) يسعى في تحقيقه، و(مشروعا) يسعى في إنجازه: "قرأ عبد التواب الرِّسالة مِرَارًا وعينه لا تغفل عن الطريق المحادية للمدرسة قبالته" إن الصراع النفسي الذي عاشه عبد التواب في لحظة قراءة الرسالة كان قد وصل إلى مداه، فقد كان يقرأ الرسالة مرارا علَّهُ يقنع نفسه بمحتواها، فربما فعلت القراءة تكرارها فِعْلاً فينفسه، غير أن هذه النفس (الأمارة بالسُّوء) كانت توجه عينيه إلى الطريق المحاذية للمدرسة قبالته، وهي الطريق ذاتها التي ستسلكها "فضيلة" الفتاة المنتظرة وُصُولاً إلى بيته، إن النظر مركو على الطريق لا على المدرسة التي تنبه عبد التواب إلى (مهنة التعليم) والمهمَّة المشابهة لمهمة الرُّسل، التركيز على "المدرسة" سيكون عائقا أمام تحقيق الحلم، وحجر عترة أمام إنجاز مشروع اللقاء.
تتجسد في القصة شخصية عبد التواب الشاب التقي المحافظ على صلاته والرَّاغب في الوقت ذاته في تحقيق بعض ما يمليه عليه هذا الشباب من الانعتاق من قيود التربية الصَّارمة التي تلقاها عن أمِّه، هذه الأمن التي تصِّر على ملاحقته بمبادئ تربيتها ولو كان ذلك عبر الرَّسائل، إنَّها رقابة صارمة بحق مورست على (عبد التواب) حتَّى إنه لم يجد في حياته متنفسا منها، وسيسقط سقوطا حرًا أمام أول إغراء يواجهه في غياب أمه، ويتعثر بأول فخ يُنصَبُ له (في الرِيف).
يطرح رشيد الميموني إشكالية تربوية خطيرة: كيف نوَّفق في تربية أبنائها في جعلهم يدركون ما هو حقيقي ومدى علاقته بالمثالي، كيف نجعلهم يوازنون بين الواقع لكلِّ انحداراته وتغيراته وبين ما نلقنهم إيَّاه مستقًى من ما نؤمن به على أساس من الثبات والجمود.
والحق أن الكاتب يَصُوغ ضمن ما يصوغه قاعدة تربوية قديمة/ حديثة مفادها أن نربي أولادنا بغير الطريقة التي تربينا عليها نحن لأنهم مخلوقون لزمان غير زماننا.
من ضمن ما نكتشفه في شخصية(عبد التواب) أنَّه تلقى تربية يجوز لنا أن نصفها بالخطيرة، إذ تعتمد على المراقبة المستمرة والمصادرة على الرغبات والأحلام، إنها تربية هدفت إلى صناعة (الإنسان الكامل) ليس بالمفهوم النيتشوي (السوبرمان) ولا بالمفهوم الديني ( لأن الدِّين يقِّرُ للإنسان الخطأ والزلل) ولكن بمفهوم اجتماعي قاصر يرى في الصورة الخارجية التي يراها فينا غيرنا الصُورَةَ التي تمثلنا ويجب على الفرد أن يُكَابِدَ كل ما من شأنه أن يخل ببريق هذه الصورة حتَّى لا يظن بنا مَنْ نتوهم أنهم يراقبوننا السُّوءَ. لذلك يجتهد (عبد الوهاب) في أن يحافظ على وقاره واتزانه أمام سكان الرِّيف الذي يعمل فيه، وبين تلاميذه الذين يخدمونه بجلب الماء من (النبع البعيد) وهو لذلك يتقيد ويقتصدُ في حركاته (فلا يُرى إلاَّ في فصله يُدَّرس، أوْ خلف نافذة بيته يقرأ أو تحت شجَرَة التوتِ الوحيدة في التلة) وفي كل هذه الأمكنة لا يمارس الشاب سِوَى عَمل واحد هو القراءة أو تلقين العلم. وفي الوقت نفسه كان ( عبد التواب) ساخطًا على المكان البدائي الذي تحوَّل إليه ريف تنعدم فيه حتَّى الخُضرة، ويعزُّ فيه الماء إنه بالنسبة لعبد التواب الذي انتظر مستقبلا وظيفيا مشرقا لا يعدو أن يكون (منطقة فظيعة) سيجاهر في نهاية القصة بأمنية في الخلاص منها، وإلى حين ذلك، يضطر (عبد التواب) إلى التظاهر، هذا التظاهر الذي حسبه عاملاً مُسَاعِدًا على إظهار وقاره وتأكيد احترامه، سيكون العامل الذي سَاعَدَ فضيلة وأمها في نصب فخ محكم لَهُ.
 ينتقد رشيد الميموني هذه الطريقة في التربية التي تقنع متلقيها بأنه "إله" لا يتوجب عليه الخطأ تربية قائمة على قائمة مفتوحة من النواهي:"ى تنس، احذر".
 ينتقد رشيد أيضا سياسات الحكومة في توظيف المتخرجين والرَّمي بهم في أوساط بيئية واجتماعية ى تناسب نمط الحياة الذي ألفوه، فكيف لمن عاش في المدينة أن يسكن في بيت من الطين، غنما خيبة الآمال التي تواجه المتخرجين الموظفين حديثا، كأنما يعاقبون على أمرٍ لا يعرفونه.
 يؤطر غياب الأب هنا لغياب السَّند الذي لابد أن يحتاجهُ كل طِفْل وكل شاب، فتربية امرأة متناهية في الورع، تسيِّج حول ابنها سُورًا من النواهي والتحذيرات وتعزله عن العالم الذي يجب أن يعقله ويدركه، هي تربية قد تكون لها سلبياتها على شخصية رجل الغد، في ظلِّ غياب الأب الذي من المفترض أن يكون متفهما لمتطلبات ابنه الشاب النفسية والعاطفية.
2- فضيلة:
الشخصية التي حركت الحدث نحو التصاعد والتحول باتجاه مجرى مفاجئ وصارم.
الفضيلة، مفرد (الفضائل) ونستطيع أن نسميها بأنها(المؤسسة) التي يتراكم فيها كلّ ما هو سَام وأخلاقي (بالمفهم الديني للأخلاق).
غير أن النص يكشف عن تعارض صادم بين (فضيلة) الاسم و(فضيلة) الشخصية. هي شابة قمحية البشرة سَوْداء العينين غضةُ القوام، وهي مختلفة عن بنات الدُّوار (الرِّيف) وفي هذا الاختلاف تعلن الشخصية عن مشاريع لم يستطع الشاب عبد التواب تبينها للأسباب التي سَبَقَ ذكرها، وهي مشاريع تسوِّغها التحولات الاجتماعية والثقافية التي وجدت طريقها إلى الرِّيف في ظل تغير كوني لا يهدأ، تملك فضيلة من المواصفات الجسدية ما يجعلها قادرة على إغواء أي شاب، ولا يتنبه البطل (عبد التواب) إلى أن هذا الإغراء بالنسبة لها مهنة امتزج بالفن أكثر من كونه انوثة تعلن عن نفسها في تلقائية وسذاجة.
تتحرر(فضيلة) من لوازم الهيئة الريفية (الجبلية) فهي الوحيدة من بين فتيات الدُّوار" لا ترتدي حزام الكرزية ولا تطيق الشاشية على رأسها" على الرغم من الحرارة الشديدة، إن التحرر من هذا اللباس يعني ضمنا التحرر من العادات والتقاليد التي تحرص المرأة الجبلية (الريفية) على الاحتفاظ بها، في إشارة رمزية إلى التعلق بتاريخ وحضارة أصبحا من حديث الماضي، غير أن هذه المرأة تصر على استحضار هذا التاريخ في لباسها وهيئتها معلنة تمسكها بكل ما هو أصيل وراسخ.
وبتخلص "فضيلة" من الشاشية (القبعة) المصنوعة من سعف النخيل وحزام الكرزية المصنوع من الصوف تتخلص من مجموعة من الرموز الحضارية والثقافية التي تؤطر انتهاءً إلى أصل بعينه، ومهما كان هذا الانتساب (مغربيا أو أندلسيا) إلا أنه يعني في الأخير سلوكا وفكرًا واعتقادًا يتميز به هذا النسب وهذا الأصل.
ترفض فضيلة الشاشية وحزام الكرزية، فترفض بذلك كلَّ ما يأسر المرأة في ماضٍ يصِّر على الحضور في الحاضر (المرأة التي تعمل لتساعد في رقي أسرتها وعائلتها اقتصاديا، المرأة التي تكِّد خارج منزلها وتساعد رجل البيت في مهامه، فحزام الكرزية مثلا يشكل محَملاً للحطب بالإضافة إلى وظائفه الجمالية وإيحاءاته الحضارية)، والمرأة المستترة التي تحفظ جسدها...).
وبتخلص "فضيلة" من لباس المرأة الريفية ومحمولاته الثقافية والحضارية، تعلن عن انحدار المجتمع الريفي (التقليدي) الذي كان من المفروض أن يكون المعقل الحصين للأخلاق والأصالة نحو ثقافة العري ( الحضاري والأخلاقي).
وإذا كان والد "عبد التواب" مغيبا بفعل اليتم، فإن والد فضيلة مجهول تمامًا، إذ لا أحد يعرف من تكون (هوية مجهولة) ولا من أين أتت (أصل ونسب مجهولان)، لا أحد في الدوار يعرفها، كأنَّما هي مندسة أو طارئة تمتهن الإغواء، والإيقاع بالشذج من أمثال(عبد الوهاب).
على المستوى الرمزي،تمثل "فضيلة "رمزا للقيم الغربية الطارئة على المجتمع الرِّيفي، والتي لا انتماء لها في ثقافة هذا المجتمع وتاريخه، وهي قيم تخللَّت هذا المجتمع وترصدت لكل ما يمثل الأخلاق والتقوى والعفاف مجسدة هنا في "عبد التواب"، بشكل أوسع في "شجرة التوت" ولا يلقي الكاتب باللائمة على أحدٍ من الخارج في التمكين لهذا الانحدار والانزلاق، بل إنَّه يلُوم المجتمع الريفي ذاته الذي سمح لمحفزات هذا التحول "السلبي" بالتعشيش فيه، يظهر في "والدة فضيلة" والتي لا نعرف إن كانت والدتها فعلاً أم لاَ، وهي تقيم في الدوار مع ابنتها مجهولة النَّسب، والتي تعاشر الجنود وأهل الدوار على دراية بذلك لكنهم لا يحركون ساكنا، إنهم فقط منفرجون كما وصفهم عبد التواب، لم يرفضوا حضورها بينهم كما يفترض بسكان الرِّيف أن يفعلوا حين يرفضون الرذيلة.
و"أم فضيلة" هي الشخصية التي خططت لانفجار الموقف الدرامي للبطل (كبته العاطفي، معاناته في منطقة وصفها بالمنفى السَّحيق، اضطراره أن لا يكون ذاته، ويتصنع الوقار...).
3- السي علاَّل:
يمثل "السي علال" المؤسسة الدينية في "الحارة"، المكان الذي جاء منه عبد التواب، وعبد التواب، يعرف أسلوب "السي علال"، مَت يوحي بأن هذا الفقيه دائم المراقبة لأهل الحارة، وربما كان يراسل كل البعد عن الحارة وعن رقابته المباشرة، ليؤكد أن (هامشا من الحرية) غير مُتَاح، ولكن "السي علاَّل" ذو سَطْوَةٍ في حُضُوره وفي غيابه، وحين تتضافر هذه السطوة الدينية مع حضور الأم، فإن فاعليتها تمتد وتتسع إلى الدرجة التي تثني فيها "البطل" عن تحقيق مشروعه "الارتواء العاطفي"، غير أن الرسالة وصلت فيغير أوانها، لقد وضع البطل قدمه على طريق تحقيق مشروعه، فقد سبق وأن اتفق مع فضيلة على اللقاء في بيته، وهذه الرِسالة لن تثنيه أو تجعله يتراجع، فقد استغرق الأمْرُ أيَّامًا من المراودة، وحتى إذا فكر هو بالرجوع، فإن فضيلة لن تفعل ولن تقبل، فقد كانت البادئ بفعل المراودة، وهي تملك من الثقة والثبات والجرأة ما يعينها على تحقيق مشروعها، إذ يتبدى أنها هي في الحقيقة من بدأ بالمراودة، ومشروعها لا يتمثل في الالتقاء بـ"عبد التواب" وكسر حاجز الرقابة المجتمعية، فهذه الرقابة تم خرقها وتجاوزها ليس من قبل "فضيلة" وحسب بل من طرف أمها، أي أن القفز على قيم المجتمع قد تحقق فِعْلِيًّا قبل أن تتعرف "فضيلة" على هذا المجتمع سَتُلقنها أمها كيفية السَّير على طريق مخالف للمعتاد، وهي أيضا سترثُ عن أمها بذور المروق.
4- شخصية أم "عبد التواب":
لا تظهر أم عبد التواب ظهورًا ماديا في القصة، ولكنها تتموضع في الهيكل البنائي للنص كله ( بداية- وسط- ختام) وتظهر في ما يمكن أن نسميه نصوصًا تضمنية وهي ثلاثة (نص رسالة الأم- نص شكوى الابن- نص رسالة الابن) ولكي تفهم شخصية الأم سنحلل نص الرسالة.
أ‌- نص الرسالة (الأم  عبد التواب) / النص التحذيري: بداية القصة:
بداية القصة رسالة من (أم عبد التواب)، وهذا ما يخبر ببعد المسافة بينه وبين أمه، وبوجوده في مكان آخر غير المكان الذي يوجد فيه ابنها، ممَّا يضطرها للتواصل معه عن طريق الرَّسائل.
يقرأ عبد التواب الرِّسالة التي يبدؤها الكاتب بثلاث نقاط تؤشر على نص غائب لا يحتل مكانة ذات أهمية في أحداث القصة، ولذلك استغنى الكاتب عن إثباته لأنه في مجمل الأحوال لن يخرج عن السؤال عن الحال والأخبار به.
وتبدأ الرسالة هنا بـ"لا" التي تفيد النَّهي، والنهي لابدَّ أن يكون من مستلزمات التربية وتلقين الأخلاق والإبانة عمَّا يجب فعله وما يجب تركه.
وما رأت (الأم/ المربية/ الناصحة) تركَهُ واجبًا هو "النسيان" فولدها عليه أن لا ينسى، وإن حدثَا خطيرًا سيتحقق حين يصل الصراع إلى ذروته بفعل اختراق هذا "النهي" من طرف عبد التواب، ويحقق "النسيان" التي ألَّحت الأم على عَدَم اقترافه وكأنه جريمة عواقبها وخيمة، يظهر ذلك الإلحاح واضحًا من خلال موضعة "النهي" عن النِّسيان في خاتمة الرِّسالة.
لا تنس (النهي) : عدم النسيان= صفة الإله
 أن تتعهد شجرة التوت (ولا يجب أن يقوم على هذا التعهد عبد التواب نفسه، إذ يكفي أن يُوَّكل بالشجرة أخذ الفلاحين، أو الريفيين عموما، إذ الشاب من ساكني المدن، ولا عهد له برعاية الأشجار وتشذيب الأغصان، أما إذا كان هو من سيقوم بهذا العمل الذي يلزمه المتخصصون، فهذا يعني أنه سبق له التعامل مع الأشجار بالتشذيب والرعاية، لأنه من ساكني الحارات التي ربما نبتت في فناءات بيوتها مثل هذه الشجرة المثمرة).
كـن (الأمر)
دائما: الاستمرارية.
كعهدي بك: تأكيد الاستمرارية وتضمين الثقة
 تقيا
 عفيفا
 محافظا على الصلاة
احـذر: الأمر
أن تسقط ضحية لنزع الشيطان وهمزه (صفة الملائكة).
التوقيع:
أمك الرَّاضية عنك، وكأن تحقق شرط الرِّضا متوقف على الالتزام بهذه الأوامر والتحذيرات، تظهر شخصية أم عبد التواب في هذه التربية الصارمة والنافذة في شخص ابنها.( إله- داعية وإمام- ملاك).
لم تكن الأم تُعدُ ابنها ليكون رَجُلاً وفقط، ولكنها أرادت أن يتميز بمواصفات خارجة عن قدرة البشر العادي وخارجة عن مستطاع شاب يتدفق دم الشباب في عروقه، لذلك لم يصمد أمام أوَّل امتحان واجهه بعيدًا عن حضنها.
كمثل هذه الرِّسالة التعويذة التي كان يمكن لعبد التواب الاحتماء بها لو أنها وصلت قيل هذا الوقف أي قيل أن يتواعد مع (فضيلة) ويتفق معها على اللقاء، فهذه الشابة التي تضجُ حياةً وجُرْأَة وثقة ستأتي، وهو في انتظارها على الرغم من إدراكه (لوقاحتها) إلا أنه بانتظارها، فقد حلُم بهذا اللقاء، حتَّى إن مغادرة رفيقيه في العمل والمسكن للدُّوار كانت حلمًا تتيح له الالتقاء بها في المسكن و(الاختلاء بها).
وإذن لا مجال أمام البطل، فقائمة النواهي والأوامر ستخرق قريبًا، فـ " نفسه متأججة" و"فوران دمه لا يمنحه فرصة للتفكير"

ب‌- النص/ الشكوى وسط القصة:
تلتقي بالأم مرة أخرى في نص الشكوى وهو النص الذي نفهم منه الحالة الصعبة التي يعانيها (عبد التواب) بفعل تعيينه في (المنفى السحيق) وهذا هو الوصف الذي يستعمله البطل لوصف "الدوار" وهو كما نرى يحرِّد المكان من طابعه المحسوس ويحوِّله إلى (منفى) مكان للمغضوب عليهم والمعاقين، غير أن هذا المكان مجهول المعالم ممتد في المجهول والظلام غنه منفى سحيق، يصدق عليه وصف(جهنم) ويصف عبد التواب نفسه ورفيقيه بانهما (في الدوار)"أقل من درجة إنسان"، وإن سؤالاً هنا يطل برأسه يقول: ماذا قصد القاص بـ:(درجة إنسان) وضمن أيّ سُلَّمٍ تراتبي نعثر بهذه الدرجة؟ ولماذا لم تكن (إنسان) مُعرفة حتَّى نقرأ(درجة الإنسان)، فنفهم أن المخلوقات تنتظم في سلَّم تراتبي إحدى درجاته تكون (الإنسان) والرَّاسخ أن تكون الدَّرجة الأعلى والأرقى؟ وهل يتعدَّد الإنسان ويتفرع حتَّى يكون ثمة إنسان، وإنسان...، أليس الإنسان هو (الإنسان) في كل الأحوال؟
ج- نص الرسالة (عبد التواب الأمر) نص طلب الغفران
تحضر الأم في ختام النص بوصفها طود النجاة الذي يعتمد عليه عبد التواب للنجاة من (هذه المنطقة البغيظة)، يتحصن بدعواتها، وفي هذه المرأة هو من يوجه لها النِّداء بأن (لا تنسى) لأن ما حلَّ به حلَّ عندما حصل النِّسيان، لذلك أصبح عبد التواب يخشى النِّسيان، ويخافه على الأم التي تعتقد أن الله لا يرُّد دعوتها أن لا تنسى الدُّعاء لحظة من أجل التعجيل بإنقاذ ابنها من بين أولئك الوحوش الذي يعيش بينهم. وعلى الوالدة أن لا تنسى أيضا أن تسامِحِهُ لأنه سبَّب لها خيبة أمل ومن المتوقع أن تكون خيبة الأمل هذه كبيرة، فإضافة إلى أنَّنا نفهم من القصة أن عبد التواب هو وحيد أمه، فقد سَمَحَ لنفسه أن يتجاوز تربية أمه له ويهز أمن الأخلاق التي زرعتها فيه، لقد كان الشاب "نذلاً" في لحظة مَا، عندما وافق على أن تزوره "فضيلة" في منزل الطين ظنا منه أن لا أحد سيحاسبه إذ الفتاة لا أهل لها معروفون في الدوار أو خارجه، لقد وقع ضحية عوامل كثيرة (سذاجته، حرمانه).
الشخصية الرئيسية (شجرة التوت):
تَحْضر الشجرة في النص حضورًا سيِّدًا وطاغيا، فهي حاضرة منذ الكلمة الأولى، تتضمنُّها رسالة الأم ووصيتها، وهي حاضرة في تأملات البطل وأحاديثه مع نفسه، والشجرة كانت شاهد عيان على الأحداث منذ بدايتها إلى نهايتها المأساوية، وعلى الرغم من أن ذكرها صراحة (أي شجرة التوت) يَرِدُ ست (6) مرات في النص إلاَّ أن عدد الإشارات إليها كبير جدًّا، فعند شجرة التوت التقى البطل بفضيلة صياحًا، ولمحها أصيلاً تتوقف لحظة عندها، قبل أن تصل إلى منزله بخطى واثقة.
وتتجاوز دلالة الشجرة الأم إلى أن تكون (الحضارة والتاريخ) هُوية كان عبد التواب قد استند عليها مدة طويلة من الزمن إلى أن (انتشلته فضيلة من عزلته)، شجرة التوت هي تاريخ طويل من المبادئ والثبات على الانتماء لحضارة تدين بالقيم الايجابية التي تصنع فرْدًا ناجحًا في محيطه الداخلي والخارجي.
إنها مرآة (عبد التواب) عندما كان (تقيا، عفيفا، محافظا على صلاته)، أخلاق يتصف بها مجتمع معين، تحديدًا هو المجتمع المسلم، غير أنَّ أشياء مَا قد تحدث تغير طابع هذا المجتمع، وتغلل حتى في مناطقه الأصيلة وأجزائه الأولى مثل الريف والقرية والدُّوار، فتنقلب النفوس وُحوشا، إن رجلا بلا أخلاق، هو وحش أطلق في هذا العَالم، هكذا قال آلبير كامو، وهذا ما خلص إليه في الأخير "عبد التواب" الذي حبسته (تربيته) في ماض دون أن يدرك أنَّه قد أصبَح مُتَجاوزًا.
ولا عجب في أن تتخد "شجرة التوت" موقفا مضادًا من "فضيلة" المجردة من الهوية والتاريخ، المشرَّدة التي تنصب الشراك للغافلين، تبحث لها عن انتماء و"لقب" حتَّى لو كان ذلك عن طريق الحيلة والمكر. لذلك تعددت انتماءاتها، وألقابها، وإن كانت في كل مرة (مؤقتة)، دليل قوي على أننا لا نجتث الشر من جذوره، أو على الأقل نحن لا نتعِّظْ.
المـكـان:
للمكان في القصة عموما حضور أساسي، وهذا ما استند عليه بشير الميموني، ليخبر قارئه بقصه التحولات الثقافية والاجتماعية الحادثة في (الرِّيف) وهو المكان الذي كان يفترض له أن يبقى مُحافظا على الأصالة والأخلاق والدِّين- غير أنه لم يستطع الصمود أمام سطوة الانحدار الذي توصف به المدينة عادة وذلك لاشتمالها على وسائل الحضارة ولسهولة التحرر فيه من قيود المجتمع الكثيرة نظرًا لاتساعها واختلاف أفرادها وانفتاحها على تلقي ما هو طارئ وقادم من ثقافات ومجتمعات أخرى.
يتأثث هذا المكان العام بأجزاء مكانية أخرى تؤطر حالة (عبد التواب) وتزيد ملامح شخصية وحالته الراهنة وضوحًا، فثمة المدرسة وهي المكان الذي نفهم منه أن عبد التواب يشتغل مدْرسًا للأطفال، إذ إن المدرسة(الابتدائية) للأطفال هي أقصى ما يتسع له الريف من مؤسسات التعليم تستتر الجملة الواردة في بدايات النص والتي عرَّفتنا بـ (السي عَلاَّل) ( فقيه الحارة) إلى أن عبد التَّواب ليس من ساكني الرِّيف، إنه شاب من المدينة، فالحارة جزء من أصل هو المدينة، وربما دلَّت الحارة على مجموعة من الأشخاص يتقاسمون مساحة معينةً للسكن تجمع بينهم روابط متينة مثل حسن الجوار، إنهم في الغالب يشكلون نسيجا متضامُا، قويًّا، تتشابه مكوناته، والحارة تختلف عن المدينة الكبيرة وأحيائها الراقية وشوارعها ذات الهندسة الغربية، باحتفاظها بالطابع التقليدي الأصيل في الهندسة إذ (الحارة/ الزنقة) تدل على البساطة والعتاقة، قطعة نعُدهَا الآن من الماضي، وما يصنف معماريا تحت مسمى (القديم) (المدينة القديمة/ المدينة الجديدة) من هذا المكان المبطن بالحميمية والأصالة والحماية التي يعزِّزها وجود الأم/ السَّند يخرج عبد التواب إلى (الرِّيف) في مهمة محدَّدة هي نشر العلم والمعرفة. تعليم أطفال يحملون براءة الطفولة وبراءة المكان (الرِّيف) او هكذا حسبه (عبد التواب) إذ سينكشف له باطنهم، فهم ليسوا سوى (وحوش) كما سيبدو في آخر القِصَّة.
البيت:
يصف عبد التواب البيت الذي يسكنه في الرِّيف بأنه (بين من الطين)، بعيد عن نبع الماء، حتَّى أن تلاميذه هم من يجلب له الماء من المنبع البعيد، وهم يفعلون ذلك في غبطة وفرح، لأن لؤم أهلهم (الكبار لم يتغلغل إلى نفوسهم بعد، إنها حياة ضارية في البدائية، تجعلهم في درجه (أقل من درجة إنسان)، وفي هذا البيت ستحل عقدة البطل، وسيلتقي فيه بفضيلة. وفيه ينتهك (عبد التواب) تحذيرات والدته، ويقع في المأزق الذي لا تلوح بوادر الخروج منه حتَّى مع انتهاء القصة.
الزمان:
تتم حدث القصة في وقت "الأصيل" وهو الزمن الممتد بين العصر وغروب الشمس، ويوصف وقت الأصل عادة بالجمال والسكينة، وهو وقت ملائم للذكر والصلاة، يقول الله تعالى :"واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين"، ويقول أيضا:" واذكر اسم ربط بكرة وأصيلا"، وعلى الرغم من وصول رسالة والدة "عبد التواب" في هذا الوقت الملائم تماما للذكر والصلاة، وعلى الرغم من أنَّ "السي علاَّل" فقيه الحارة قد أكد على المحافظة على الصَّلاة والتقى والعفاف، إلاَّ أنَّ عبد التواب يلغي كلّ هذه النداءات والإشارات التي من شأنها أن تعترض طريقه.
واستطاع الكاتب ان يُرَاكمُ في هذا الزمن القصير أحداثا تدفقت بسرعة كبيرة، فما بين الجلوس في المنزل وانتظار"فضيلة" حسب الموعد إلى زواجه وعقد قرانه عليها في المجال الزمني ذاته، وهو الزمن الذي اكتشف فيه عبد التواب حقائق مثيرة.
• سذاجته.
• وقوعه ضحية خديعة وخطة ذكية للإيقاع به وتزويجه من "بغي" نجحت خطتها هذه من شبان- آخرين.
• اكتشافه لأن اهل "الريف" ليسوا بالبراءة والأصالة التي كان يتصورها؛ إنهم مخادعون، ماكرون ومنافقون، إنهم كما وصفهم عبد التواب "وحوش" لا يأبهون لصورة المعلم المحترم. إنهم باحثون عن الفضيحة، ومهنته بالنسبة لهم لا تعدو كونها "بيع الحروف"، منطق مادي استولى على جميع العقول!
النصوص الغائبة:
 النص القرآني:
تتناص "القصة" مع النص القرآني بشكل واضح، تحديدًا مع قصة "يوسف عليه السلام"، وقصته مع امرأة العزيز التي راودته عن نفسه، وغن كانت امرأة العزيز قد شغفها يوسف حبا لجماله وشبابه، فقد ملأ الطمع "فضيلة" وامها في مركز عبد التواب إذ يمثل الجانب الثقافي المفتقد في الدوار (إنه رجل محترم) كما تعبر القصَّة، ويحضر فعل "المراودة" في النص ليدل على أن "عبد التواب" و"فضيلة" تقاسما هذه الرغبة التي رأت شجرة التوت أنها(رغبة آثمة)، وإن كان يوسف عليه السلام عندما همَّ بها وهمَّت به رأى برهان ربِّه، فإن عبد التواب هنا عندما همَّت به فضيلة سمع عويل أمها ونحيبها ورأى النقع الذي أثارته جالبة معها كل سكَّان الدُّوار لإشهادهم على "الفضيحة".
وإذا كان تخلص يوسف من زليخا كان عن طريق تفضيل دخول السجن على الاذغان لمطالبها، فإن تخلص "عبد التواب" من فضيلة لن يكون إلا بطلب نقله إلى مكان آخر، ومن يدري ربما سيكون سجنا آخر، و"منفى سحيقا" آخر، إلا إذا فعلت صلاة الأم فعلها واستجاب الله لدعائها بأن ينقذ ابنها ويكون معه.
 القصص الشعبي:
أ‌- اختراق عنصر النهي:
تتأسس الحكاية الشعبية في الغالب على عنصر النهي عن أمْرٍ ما، ثم حدوث اختراقه، فالبطل يُنْهى عن إتيان أمْرٍ معين كفتح الباب للغريب، أو الدخول إلى غرفة محدَّدة، أو الشرب من منبع بعينه..الخ، وعندما يخترق البطل هذا النهي ويتجاوزه، ويفعل ما نهيَ عنه، يجني العواقب الوخيمة.
ب‌- فقدان السَّند:
في الحكاية الشعبية غالبا ما يكون البطل دون سند يدعَمُهُ ولذلك يكون من السهل أن يصبح ضحية المؤامرات والمكائد، وهذا السند يكون أحد الوالدين أو كلاهما.
ج‌- العنصر المساعد:
يتلقى البطل في القصة الشعبية عناصر ودلائل مُساعدة سواء أمعنوية كانت أم مادية (بشرية) تساعده على الوصول إلى مرحلة النجاة، والخروج من المصائد والمكائد التي تتربص به عادة دون توقف، ولكي يجتاز "عبد التواب" محنته هذه، يقف معه صديقاه، اللذان فاجآه بالرجوع في لحظة عُرْيه وسقوط كل القيم الاجتماعية التي آمن بها، والأحلام التي خطط لتحقيقها، وصدمته في عالم واقعي لا يشْبه عالم الكتب التي كان يقرؤها. فهذان الرَّفيقان هما صاحبا فكرة الانتقال الذي قد يحل المشكلة الروحية التي وقع بها عبد التواب.
 الأسطورة:
إذا كانت الأسطورة تقول إن "بيرموس" و"ثيزبي" قد اتفقا على اللقاء عند شجرة التوت، وهو المكان ذاته الذي ماتا فيه وخلَّدا حكاية حبهما الطاهر المقموع، فإن "عبد التواب" و"فضيلة" قد التقيا عند شجرة التوت ليكون هذا المكان شاهدًا على قصة غدْر وخديعة ستثخن روح "عبد التواب" جراحًا.
ويبقى في هذا النص البهي مناطق معتمة كثيرة لم أتوصل- طبعا- لإضاءتها علَّ الأحبة في واتا يتولون المهمة، لأن لكل قارئ قراءته الخاصة.
وأخيرا يا "عبد التواب" إنه فعلا ليس زمانا يعيش فيه الملائكة والأنبياء والمعلمون!

رشيد الميموني
04/04/2013, 05:28 PM
لا أستطيع التحكم في انبهاري بهذا النقد الرصين والممتع .
حجزت مقعدا لأكون تلميذا يتعلم مبادئ النقد هنا ..
وكأني أقرأ القصة لأول مرة ..
ماذا عساي أن أقول أمام هذا النقد الباذخ ؟
عاجز والله عن التعبير عن مشاعري .
ألف شكر أستاذة مرزاقة على ما قدمته هنا من توهج لقصتي .
تقبلي كل مودتي وتقديري واحترامي .