المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من يبيعني قليلا من النوم قصة قصيرة ابراهيم درغوثي تونس



ابراهيم درغوثي
02/05/2007, 10:56 PM
من يبيعني قليلا من النوم ؟
قصة قصيرة

ابراهيم درغوثي / تونس

- 1 –

البارحة ، عدت من رحلتي التي دامت أطول من الهم على القلب . حطت الطائرة بالمطار الدولي عند منتصف الليل إلا ثلاث دقائق . واصلت العجلات احتكاكها بالأرض وهي تئز مدة دقيقة ، ثم سكنت ... وجاء صوت المضيقة رخيما يدعونا إلى فك الأحزمة ، فوقف الركاب وهم يتزاحمون عند باب الخروج ، ثم هبطوا بخفة فوق السلالم المتحركة التي حاذت باب الطائرة . ولم أقف ... بقيت جالسا في مكاني أنظر من النافذة الصغيرة . رأيته واقفا عند الباب بمعطفه الأشهب ونظارته الشبيهة بلون السماء الداكنة وبلامبالاته التي يتظاهر بها ، فأشعلت سيجارة وبدأت أدخن إلى أن دق كعب المضيفة داخل صدري عوضا عن دقات القلب حين رأيتها تقترب مني وبسمتها الآسرة تملأ المكان . حطت يدها بلطف ودعتني للوقوف لكنني ما استجبت لها في أول الأمر ، فضغطت على معصمي بلطف ، فأطعتها ووقفت .
عند باب الطائرة ، رأيته واقفا ينتظرني . وعندما حاذيته ، استلمني بخفة ووضع حول يدي اليمنى سلسلة صغيرة وأغلق القفل . ونزلنا درجات السلم جنبا إلى جنب وكأننا صديقان منذ بداية الخليقة واتجهنا إلى باب جانبي يقود إلى خارج المطار .

- 2 –

القاعة التي بت فيها صغيرة ، متران في مترين . وفانوس الكهرباء المعلق في السقف يضيء المكان بعنف . وهذا الضوء يزعجني وأنا أريد النوم . وشخير رجل تمدد في الركن الذي يقابلني يقرع كالنواقيس داخل أذني . والناموس الذي يحط عاليا عند السقف ويغافلني ليلسع في الأماكن الحساسة من الجسد : في شحمة الأذن ، على الجفنين ، في العنق ، في كف اليد ... وأفيق ... أخبط وجهي بعنف ، وأسب الناموس الذي يطير عاليا ويحط عند السقف .
الناموس يزعجني ، وأنا أريد النوم .
والجزمات الغليظة تدك الأرض دكا عند رأسي المسنود على حائط العنبر الرئيسي .
وأمسع أصوات نساء تتوسل :
- جيتك بجاه ربي ...
أصوات نساء الشوارع الخلفية اللاتي ضبطن وهن يراودن المارة ومخموري منتصف الليل .
- سامحني يا سيدي ، ابراس أمك سامحني ما عدتش انعاود ...
وأصوات فضة غليظة تزجر هذه النهنهات :
- اسكتي يا ... كلبة
وتعود الأصوات الرقيقة تطلب الرحمة . وتستجير بالنبي ، وبسيدي محرز ، وتحلف برؤوس الأولاد . وتبكي بحرقة . وترفض المشي داخل الممر . تحرن كما تحرن الأحمرة التي هدها التعب ، فتنزل الصفعات على الوجوه . وتهبط الركلات على المؤخرات . وتملأ اللعنة جو المكان
وأنا أريد النوم .
وهذا العويل الممزوج باللعنات يخنقني . وشخير الرجل المتكوم في الركن يكاد يذهب بروحي .
ويعود الصياح يملأ المكان .
- شوف يا سي أحمد سراق آخر الزمان ... لابس كرافات ، وحاطط على وجهه ريحة من باريز ... وعاما روحو باندي ... وماشي يسرق في فيلات الجيران ... والله غرايب يا سي أحمد ...
وتنزل الصفعات على الخدود السمينة الحمراء ، فينزل الدم من الأنوف الطرية ممزوجا بالمخاط والعياط .
ويبكي سراق آخر الزمان ، ويعولون :
- أنا ابن فلان الفلاني
- وأنا ابن علان العلاني ،
- وأنا بنت فلتان الفلتاني .
ويدكهم صوت جهوري :
- اسكتوا يا ... قردة .
فيتبولون على أثوابهم من شدة الخوف ، وتجري دموعهم على الخدود .
وينفتح باب القاعة الصغيرة ذات المترين في مترين ويحشر هذا الخلق معي ، فيكف صاحبي المتكور في الركن عن الشخير ويفتح عينيه ثم يعود لإغلاقهما ، فضوء الفانوس المعلق في السقف قوي . ويفرك الرجل عينيه ويختلس النظر ثم يتنحنح ويبصق على يمينه ، فتسقط البصقة في حجر واحد من أولاد الذوات . ولد فلان الفلاني ، فيرفع عينا حوراء ينظر بها إلى الرجل . ويحدجه صاحب البصقة بنظرة صقر ، فيستسلم الطفل إلى قضاء الله وقدره ويخرج من جيبه ورقا معطرا يمسح به آثار البصقة وطشيشها من على بنطلونه . ويتنحنح صاحبي من جديد ويعود إلى النعاس والشخير .
وأنا أريد النوم .
ورائحة الورق المعطر تملأ المكان . والشخير يملأ المكان . وواحد من أولاد الأسياد يهمس :
ما اتخافوش ، غدوة اتجي مامي واتخرجنا من هوني .
وانا لم أعرف طعم النوم منذ ثلاثة أيام يا أولاد مامي .

- 3 –

باكرا ، انفتح باب الغرفة بعنف أفزع الأولاد النائمين ، فهبوا واقفين .
أشار إصبع لي بالخروج من القاعة ، فتبعت الإصبع .
وجدت سيارة أمام الباب ، فركبت خلف السائق .
وزمجر المحرك وشخر ، فغزتني أصوات البارحة .
امتلأت بأصوات بنات الشوارع الخلفية وأولاد الأسياد ، فهبط النوم على كتفي ثقيلا كالرصاص المذاب ...

محمد فؤاد منصور
01/09/2007, 01:00 AM
الأخ أبراهيم درغوثى
هذا نص من النصوص المنسية التى مرت دون أن يستوقفها أحد والتى كانت تستحق أن يحتفى بها بما يليق ، لغة جميلة عذبة مطعمة بلغة دارجة ذات مذاق تونسى خالص وتصوير دقيق لأجواء الحبس والإعتقال مع قدرة فريدة على إمتلاك ناصية الحكى وإحتجاز وعى القارئ حتى نهاية سطور القصة ..أهنئك وأنا أعيد النص لذاكرة القراء ولأعين النقاد فتقبل تحياتى.
دكتور/ محمد فؤاد منصور
الأسكندرية :fl:

ابراهيم درغوثي
02/09/2007, 11:41 AM
د . محمد فؤاد منصور
سعدت بأنك أعدت هذا النص للحياة
شكرا كبيرا على القراءة وعلى التقييم الجيد للنص

حنين حمودة
05/09/2007, 07:33 PM
أستاذي الدرغوثي
ممتع وصفك.. ممتع قلمك!
ادخلتني السجن.. وجعلتني أحك مكان القرص.. وأبحث عن منديل ورقي لأمسح البصقة و ...
قيدت نفسي في غرفة كل مساحتها متر في مترين، لم أعرف تماما العدد المحشور فيها معي!!
لم تقلها، لكن العرق كان يخنقني..
أحببت اللهجة التونسية، فأنا أحب معرفة لهجاتنا المختلفة، وأحاول تلمس المختلف فيها، وإرجاعه الى الفصحى لمعرفة اصله.
شكرا لك
تقديري

ابراهيم درغوثي
08/09/2007, 06:48 PM
أختنا الفاضلة حنين
سعدت بقراءتك لهذه القصة
وسعدت أكثر بحسك النفدي والانساني
دمت في ابداع

الحاج بونيف
10/09/2007, 08:03 PM
أخي إبراهيم درغوثي
تحية / لأ أعرف التهمة التي اقتادوك من أجلها وبخاصة وقد كنت قادما من الخارج.. ؟ تصوير رائع للمنظر والأشخاص بلغة كاتب متمكن من ناصيتها ..أسلوب متميز يشد القارئ ويجعله يلح على طلب المزيد.. رائع دائما يا إبراهيم..

خالد ابراهيم
11/09/2007, 11:04 AM
المبدع الجميل ابراهيم درغوثى
مما لا شك فيه كنت بارعا فى نقلك لنا لعالم نخشى دخوله
الحرية لدينا مسجونة داخل صدورنا وليس فى حجرة صغيرة فقط فى نهاية ألأمر
لدينا مثل فى مصر (( اللى لديه ظهر ما ينضربش على بطنه))
كنت محظوظا فى نهاية ألأمر وخرجت لكنك ستواجه سجنا أخر
أخى أحييك بالفعل نص جميل
خالد ابراهيم

ابراهيم درغوثي
11/09/2007, 06:28 PM
العزيز الحاج بونيف
مرحبا بك في " واتا " أولا
ثم أردت أن أقدم توضيحا صغيرا لا أظن أنه يخفى عليك
وهو أن سارد النص ليس بالضرورة هو الكاتب
فهذا النص ما هو بجزء من سيرة ذاتية وإنما هو نص تخييلي لا أكثر ولا أقل
مع الود الجميل يا صاحبي

ابراهيم درغوثي
11/09/2007, 06:30 PM
العزيز خالد
تحياتي لك
وامتناني على المثل المصري الحكيم
وعلى القراءة الحكيمة لهذا النص
مع المودة والتقدير

فيصل الزوايدي
16/09/2007, 01:06 AM
العزيز ابراهيم درغوثي مازال قلمك لاذعا سليطا في تصوير الواقع .. هذه المرة اللغة ايضا تواطأت من المضمون فكانت الحقيقة البائسة
دمتَ من تألق الى آخر
مع مودتي

ابراهيم درغوثي
16/09/2007, 11:12 AM
العزيز فيصل
نحاول قدر جهدنا يا صاحبي الكتابة عن واقع " سوريالي " بأدوات الواقع :
اللغة أساسا التي ليس بمقدورها أن تكون مهذبة وهي تصف واقعا وسخا أشبه بالقمامة
دمت متألقا يا صاحبي
ودامت لك روح المبدع الفنان

محمود عادل بادنجكي
09/10/2007, 09:51 PM
سلم قلمك أستاذ ابراهيم.

ابراهيم درغوثي
10/10/2007, 01:50 AM
أستاذ محمود
شكرا على القراءة والتعليق
مع الود و التقدير