المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحق يشرق دائماً



منى محمد محيي الدين
02/05/2007, 11:47 PM
الحقّ يشرق دائماً
منى محمد محيي الدين
كانت ليلة من ليالي الشتاء الباردة، وقد حان وقت النوم. وكان عليّ أن أحكم إغلاق الأبواب والنوافذ، فخيّل إليّ أنني أرى شخصاً يتحرّك في الفناء، فاختبأت، وبدأت أسترق النظر في حذر، لأنني توقّعت أن يكون لصاً.
تهيأت للقائه، وأنا أرصد تحرّكاته التي فاجأتني، إذ جثا على الأرض، وأخفى وجهه بين كفّيه اللتين أسندهما إلى مقعد الحديقة. إذاً، إنه ليس لصاً! فتحت الباب وخرجت إليه، ثمّ قلت له بعد أن سمعته يغرق في البكاء: هل تحتاج إلى مساعدة أقدّمها؟؟
انتفض واقفاً، ثمّ أشاح بوجهه، خوفاً من أن تلتقي عيناه عينيّ. وبعدها ولّى هارباً، فلم يكن منّي إلاّ أن رافقته بنظرتي مدهوشاً.
لم أدرِ سبب تأثّري بهذا المشهد أو ربما بذلك الفتى الذي حفر صورته في قلبي رغم عتمة اللّيل. ولم أنم إلاّ بعد أن غالبت النّعاس فغلبته, حتى قُرع جرس الباب عند الصباح الباكر, وإذا به أحد أبناء الجيران، واسمه شادي:
– هل رأيت أخي وئاماً يا سيد حسام؟ فهو لم ينم في البيت ليلة أمس, وأمي قلقة عليه.
– لا لم أفعل, لكن لمَ هي قلقة؟ لعلّه بات عند أحد أصدقائه وسها عنه إخباركم.
– المسألة يا سيدي أكبر من ذلك, فيوم أمس... صدر حكم القاضي على أبي بالسجن بسبب قضية الاختلاس التي اتّهم بها زوراً.
– ... ألم يأتِ الحكم سريعاً؟
– هذا ما حدث يا سيدي, أستأذنك.

بعد لحظات من التأمّل صرخ: لقد رأيته, أجل إنه هو الفتى الذي كان يبكي. وبسرعة هبّ هبوب الريح وأخذ مكانه خلف مقود سيارته، ودوره في البحث عن ابن جاره. وصار ينهب الأزقّة, ويقلّب الطّرف في الأحياء أثناء مروره, لعلّه يراه . وقلّب الأفكار إلى أن أوقف سيارته في أحد شوارع مدينة صيدا, وبالتّحديد بالقرب من المصنع الذي كان يعمل فيه أبو وئام. وساقت الأقدار خطاه، كما شاءت أن يراه يُخفي عينيه بساعده، ويتّكئ على جذع شجرة يضربها بيده الثانية, لكنها... أبت أن تهتزّ!!
ضمّ حسام الفتى إلى دفء صدره, ثم دعاه إلى ركوب سيارته, وعبر هاتفه الخلويّ طمأن أم وئام, وانطلق إلى مصيف صوفر, واختار أحد الأرصفة التي تطلّ من علٍ على العاصمة بيروت. وقفا يتأملان رهبة المنظر, وحَلُمَ كلّ منهما بأشياء وأشياء. لكن, وكما يحدث دائماً, لا بدّ أن تحين ساعة اليقظة, إذ لا مفرّ من المواجهة. قال حسام:
– إنّ هذا المنظر المهيب, وهذا المُنحدر السّحيق يُمثّلان الحياة, وأنت مَن يختار. فإمّا أن تُحصّن نفسك بالإيمان والإرادة الصلبة, وإمّا أن تهوي إلى القرار. وفي كلا الحالين تذكّر عائلتك وخصوصاً والدتك.
– ... إنّ ما حصل عظيم وما يترتّب عليه أعظم.
– كلّ الصّعوبات ستتخطّاها بإذن اللّه, فأنت ستنجح هذه السنة لتحصل على الشهادة الثانوية. وأمك ستعمل في مصنع للنسيج, رئيس العمال هناك صديقي ولن يخذلني. هكذا ستبدأ وسيتبع ذلك نجاحات بعون اللّه. وفي خضمّ كلّ هذا سنكون كلّنا معك, فأنت رجل البيت الآن, ويُفترض أن تتحمّل مسؤوليتك. أما أنا فسأتولّى متابعة المحامي الذي سأطلب منه أن يقدّم طعناً في الحكم.
– لا أعرف ماذا أقول لك يا سيد حسام... فأنت تكشف كلّ يوم عن رِفعة خُلُق نادرة.
وبالفعل صار يتردّد إلى المحامي, ويلحّ عليه في تبرئة هذا الأب. وذات مرّة دار بينهما هذا الحوار:
– ما كان ردّ محامي الشركة حول إمكانيّة تأمين المبلغ والتّنازل عن حقّهم؟
– لقد رفض أحد مسؤولي الشركة التّنازل عن حقّه، وبالتالي سينـزل العقاب ولو مُخفّفاً.
لم يكتفِ حسام بهذا كلّه, بل كان يعمل على إيصال أبناء جاره إلى المدرسة ويعيدهم منها, ويساعد وئاماً في دراسته.لكن ما كان يقضّ مضجعه شعور غريب بأنّ شيئاً ما لم يُحقّقه لهم. فخطر بباله أن يأخذهم في نزهة ليُسرّي عنهم, وهناك سأل وئاماً:
– أصدقني القول يا وئام, هل ينقصكم شيء؟
– لا أستطيع أن أقول لك إلاّ أنّك غمرتنا بلطفك, يا سيد حسام, لكن ...
– لكن ماذا؟
– ... إننا جميعاً اشتقنا إلى أبي.
هذه الكلمات أربكت حساماً فسكت. إنما لم يتنهِ تأثيرها عند هذا الحدّ, بل كان لها أثرها العميق في نفسه الطّاهرة, فولّدت تشويشاً على تفكيره لعدّة أيام متتالية .... وحان موعد الجلسة النّهائية للنّطق بالحكم, فكان حسام أوّل الحاضرين, وكان مضطرباً وخائفاً, أجل , لقد كانت يداه ترتعشان ونفَسه يتقطّع, خصوصاً حينما استشرف ضعف موقف جاره, فانتفض صارخاً, وسط الجلسة بعد أن سمع قاضي التحقيق يطلب له أقصى عقوبة يستحقّها, وقال:
– لا يا حضرة القاضي, ليس هو مَن يستحقّ أقصى عقوبة, ليس هو.
فسأله القاضي:
– مَن أنت؟ وما سبب مقاطعتك الجلسة؟
– ... اسمي حسام وأنا جار المتّهم وأعمل معه في نفس المصنع, وقد قاطعتكم لأنني أعرف المُذنب ....
فضجّت القاعة من شدّة التّعجّب, ثمّ انطلق صوت حسام يئنّ أنين جريح يحتضر, فأسكت القاضي بمطرقته الهيجان القائم، ليصعق الجميع، حين قال:
– ... أنا ... نعم, أنا المُذنب ... أنا مَن سرق الخزنة, وكنت أنوي أن أُعيد المبلغ, صدّقوني كنت أنوي ذلك, دون أن يتنبّه أحد إلى الأمر, لكنّ الظروف شاءت عكس ما شئت. هأنذا أمامكم, أمسكوني وأطلقوا سراحه. أسرعوا فما عدت أحتمل تأنيب الضمير. ما عدت أحتمل ...
ثم أجهش بالبكاء, أمّا وئام فلم يعرف ماذا يفعل؟ أيضمّه إلى صدره ويُعيد إليه الأمل كما سبق وفعل هو؟ أم يتركه يلقى جزاء آثامه؟؟؟