المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كذا .. فليجلّ الخطبُ/ د. عثمان قدري مكانسي



نبيل الجلبي
18/05/2013, 10:51 AM
كذا .. فليجلّ الخطبُ

الدكتور عثمان قدري مكانسي



كنت أمس أجلس إلى جانب أم حسان أتابع دراستها لقصيدة الشاعر الفذ أبي تمام في رثاء القائد العباسي محمد الطوسي


كذا : فليجل الخطب ، وليفدَحِ الأمرُ * فليس لعين لم يفض ماؤها عذرٌ

، وكانت تستشيرني في بعض ما تكتب شرحاً ونقداً ، إلا في هذه القصيدة لأنني لم أكن أوافقها فيما تعلمناه قبل أربعين سنة من أستاذنا المرحوم " محمد صبري الأشتر" في شرح هذه القصيدة ونقدها ، إذ كان يدرسنا الأدب العباسي في أواخر الستينات من القرن الماضي في كلية اللغات " فرع اللغة العربية " في جامعة حلب .
أذكر أن أستاذنا إذ ذاك كان مندمجاً بشرح هذه القصيدة يحرك يديه ، ويغمض عينيه وهو يعيش جوّها ، ويدعوننا لنعيش معه هذا الحدث الحزين قائلاً : إن استشهاد القائد العربي البطل كان مصاباً جللاً ما بعده مصاب ، وخطباً فادحاً يقتلع القلوب ، وترتجف له الصدور ، تفجّرت العيون دموعاً غزيرة تفجّعاً عليه . وما ينبغي لأحد عرف هذا القائد العظيم ، وخَبـِرَ بطولاته إلا أن يبكيه بدل الدموع دماً .....

لا شك أن أبا تمام شاعر مجيد قل نظيره في عالم الشعر العربي قديمه وحديثه ، وما قصيدته في فتح عمورية إلا تحفة فنية راقية تتسنّم ذرا الشعر أسلوباً ومعانيَ وبلاغة ، أقف أمامها مبهوراً بصورها الحيّة الدفّاقة وألوانها المتداخلة الخلاّقة .
إلا أنه في هذا البيت ذكّرني بقول تلميذه البحتري حين قارن بين شعره وشعر أستاذه :
" جيّده خير من جيّدي ، ورديئي خير من رديئه " . فأبو تمام في هذا البيت يقول : إما أن تكون المصائب هكذا وإلا فلا ، وأقل ما نرتضيه من المحبين أن يبكوا لهذه الفاجعة كثيراً !!! وأقرب ما يكون التعبير بلغتنا العاميّة المحليّة " يا هيك مصيبة ، يابَلا " !! .

قلت – وأنا أجول بذهني في عالمنا العربي قديماً وحديثاً – لِماذا هذه المبالغة في التملق ولِمَ المزاودة في التهويل ، وعلامَ كل هذا التفخيم في أمور قد تكون على وجاهتها عادية ؟
مات إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " تدمع العين ويحزن القلب ، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا " .
والتحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى فما كان من خليله وصاحبه أبي بكررضي الله عنه إلا أن رفع الغطاء عن وجهه الشريف فقبله وقال : طبتَ حياً وميّتاً يا رسول الله ، ودمعت عيناه ثمّ شمّر عن ساعد الجد يُكمل بناء الدولة الإسلامية .
ويُقتل الإمام علي رضي الله عنه ، فيذرف ابناه سيدا شباب أهل الجنة دموع الرجال ، ثم يحمل الحسن – الخليفة الراشد الخامس - الأمانة بثبات .

إلا أننا اعتدنا التعظيم والتهويل في كل الأمور كبيرها وصغيرها ، جليلها وحقيرها . ، وهذا دليل الفراغ في القلوب والعقول ، ولا أزال أتندر وأصحابي كلما تذكرنا نشرات الأخبار في دولة خليجية كنا نعمل فيها حيث يستعرض المذيع الألقاب في كل خبر ، فتطول نشرات الأخبار بسبب هذا الصف الطويل من الألقاب التي لا بد من ذكرها قبل اسم صاحب الرفعة والسموّ!

مثال ذلك الترجيع والتكرار : أمر سموّ الـ... وليّ عهد ... نائب القائد العام للجيش والقوات المسلحة ، وزير الدفاع ، رئيس بلدية ... بتعبيد الطريق بين حيّ كذا وحي كذا ..
وكان الأولى أن تُذكر صفته فقط : رئيساً للبلدية في تعبيد الطرقات ، وصفته وزيراً للدفاع فيما يخص الجيش من تدريب وتسليح .. وصفته ولياً للعهد فيما يخص اللقب الأميريّ . أما أن يَرصف المذيع كل هذه الألقاب لرصف طريق وتعبيده - فإذا بالألقاب أطول من الطريق نفسه - فهذا امتهان لذلك الشخص ، وحَطّ من صفاته وألقابه - لو كان يدري –

أما في البلاد العربية كلها فإنك ترى الصورة نفسها في كل مكان ، ولعلك تسمع وترى شبيه القول التالي يتكرر في كل مكان من بلادنا المغلوبة على أمرها ، كأنْ تسمع هذا الأسطوانة المشروخة : بتوجيهاتٍ من صاحب العصمة والرفعة ( فخامة الملك أو جلالة الرئيس ) يأمر رئيس الوزراء برفع الرواتب والأجور - رفعاً رمزياً – بعد ارتفاع الأسعار الجنوني لكل السلع الرئيسة والفرعية . ولا ينسى المذيع أن يجعل رفع الرواتب ( مكرمة ملكية أو رئاسية أو أميرية أو قل ما شئت ) وينسى القول : إن رفع أسعار السلع ( خوازيق وصلت إلى النخاع ) ولن يرفعها من مكانها أبرع الأطباء الجرّاحين ، فقد أخذت مكانها وتجذ ّرت فيه .
لقد اعتاد العربي منذ عهد الجاهلية الأولى إلى عهدها الحالي أن يقول للمسؤول :


لك المرباع منا والصفايا * وحكمك والنشيطة والفضول

فالمرباع : ربع المغنم يأخذه رئيس القبيلة .
والصفايا : جمع صفي . وهو ما يصطفيه الشيخ لنفسه من المغنم ،
والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه ، فكان يختص به رئيس القبيلة دون غيره.
والفضول : ما يفضل من الغنيمة عند القسمة .
ولما جاء الإسلام منع هذا ، إلا أن العربي ما يزال يعشعش في قلبه وعقله وجسمه هذا القول : " كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر "