المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا/د.عثمان قدري مكانسي



نبيل الجلبي
28/05/2013, 07:02 PM
إنه ـ سبحانه ـ ينادينــا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الأول



يقول تعالى في سورة الانفال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}

الخطاب للمؤمنين ( الذين آمنوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) وأذكر أنَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وردت في القرآن الكريم أكثر من ثلاث وثمانين مرّة يخاطب الله تعالى بها عباده معلّماً ومربّياً وهادياً ومبشّراً ومنذراً ...

تلتها { إِذَا } الدالة على المستقبل ، ولا شك أن الحرب بين الإيمان والكفر قائمة على مر العصور وكرّ الدهور : كلماتٍ ومواقفَ وتحدّياتٍ ومعاركَ. كلٌّ يسعى لكسب المعركة وإثبات ذاته وفرض رؤيته .

ولا يلقى المؤمنون الكافرين في المعارك إلا إذا شهدوها وخاضوا غمارها وأعدّوا قبل ذلك العدة المعنوية وفيها خمس مراحل تحويها بوضوح هذه الآيات الكريمة في سورة الأنفال:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45)وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) }.
والعدة المادية في قوله تعالى :
{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60)}.

والزحف الدنوُّ قليلا قليلا . وأصله الاندفاع، ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخَر زاحفا . والزحفُ إصرار وعزمٌ ، فإذا كان الكافر – على باطله- عازماً على فرض سيطرته ، يُعِدُّ العُدة لقتال أحل الحق ، كان اولى بأهل الحق أن يكونوا أشد عزماً وإصراراً ، فأولئك يقاتلون لدنيا فقط، والمؤمنون يقاتلون لها وللآخرة ، وفي كلتيهما الفوز والسيادة

وتولية الأدبار علامة التقهقر والخذلان ، وهذا ليس من سمات المؤمن الذي يرى الدنيا سبيلاً إلى الحياة الأبدية الخالدة، ولا يولّي دبُره إلا ضعيفُ الإيمان الذي يرى الحياة الدنيا حياته ونعيمه ، ولا يولّي دبُره إلا من انشغل بمتاع الدنيا الزائل فعاش لها وأنِس إليها، فذاب من أول اختبار وأسلم ساقيه للريح أمام لذّاته وسلّم لعدوّه صاغراً ورضي بالتبعية له ، ولعله في سبيل هذا ينحاز إليه ضد إخوانه من المسلمين فيبوء بغضب الله وسوء المصير.

والعبارة بـ(الدبُر) في هذه الآية متمكنة الفصاحة ; لأنها بشعة على الفارِّ , ذامة له .فمن فرَّ من اثنين فهو فارٌّ من الزحف . ومن فر من ثلاثة فليس بفار من الزحف , ولا يتوجه عليه الوعيد كما يؤكده الفقهاء، والفرارُ كبيرة موبقة بظاهر القرآن وإجماع أكثر من الأئمة . فإذا كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين جاز الانهزام , والصبر أحسنُ .فقد وقف جيش مؤتة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف , منهم مائة ألف من الروم , ومائة ألف من المستعربة .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( اجتنبوا السبع الموبقات - وفيه - والتولي يوم الزحف ) وقد ذكر القرآن الكريم فسحة الإدبار في المناورة والمداورة أو الانحياز إلى فئة مسلمة يتقوّى بها وتشد أزره ، أما أن يُطلق ساقيه للريح فمسبَّة وعارٌ في الدنيا، ولقاءٌ عسير يوم القيامة فيه غضب الديّان الذي يقذف صاحبه في النار، والعياذ بالله:
{ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}.

إن الله سبحانه وتعالى يوضح سبب وجوب ثبات المسلمين أمام العدوّ بأنهم ستار لقدرة الله تعلى وإرادته وأن النصر من عنده ، فالمسلم حين يقتل العدوَّ فالقاتلُ هو الله ، وحين يرمي فيصيب إن الصائب هو الله ، واللهُ غالب على أمره :{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}.

فالمسلم يقاتل ويسأل الله الثبات ، ويرمي ويسأله السداد ، ويرمي ببنفسه في أتون الموت ويسأل الله الشهادة والقبول . ولا يستطيع هذا الإقبالَ الرائعَ إلا المؤمنُ الذي شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ، فربح رضاه والجنّة وهذا هو البلاء الحسن الذي ينجح فيه من أخلص لله تعالى { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ }.

ويعجبني قولُ القاسم يعلق على الثبات في المعركة والصبر عليها (لا تجوز شهادة من فرَّ من الزحف , ولا يجوز لهم الفرار وإن فرَّ إمامُهُم) ..

إننا في ثورتنا ضد الإجرام الكافر والظلم القاهر في سورية الحبيبة أهل حق ودعاةُ حرّيّة ، فإذا أردنا النصر سعينا له بكل ما استطعنا من مال ورجال وإعلام سديد موَجّه وعتاد و... ولينصُرَنّ اللهُ من ينصرُه...

إنه – سبحانه- ينادينا ،،،،، فهل سمعنا النداء؟

يتبع

نبيل الجلبي
29/05/2013, 12:47 PM
إنّه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثاني



لو أمعنا النظر في هذه الآيات الكريمة من سورة الأنفال لوجدنا التسلسل المنطقي في ورودها ظاهراً في الترتيب المتناسق في تتابعها الذي يأخذك من آية إلى تاليَتِها بشكل بديع متوازن :

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) }

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) }

{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }

فماذا بعد النداء الرباني { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ }؟:

1- النداء ابتداءً للمؤمنين الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد رسولاً ، فمن آمن ( أطاع )، ومن أطاع ( استجاب )، ومن استجاب التزم و ( لم يخن الأمانة )، ومن ثبت والتزم كان ( تقياً ) فلا بدّ – إذاً- بعد الإيمان من الطاعة تتلوها الاستجابة ، يتبعها الثبات والعمل الصحيح ، فكانت سمة هؤلاء ( التقوى ) وبالتقوى النجاةُ والنصرُ والتكفير عن الذنوب يوم القيامة والسعادة يوم يقوم الأشهاد لرب العالمين ، ألم يقرر سبحانه وتعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28)}(الحديد) ؟

فمن أطاع بعد الإيمان ، فائتمر وانتهى وقال سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا ، وهذه سمات الطاعة الحقيقية كان على صراط مستقيم ، أما الإيمان القولي الذي يخلو من تبعاته الإيجابية ففيه قصور ودخن ويعتبر تولياً عن حقيقة الإيمان { وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } إن التلبية من الطاعة ، فمن سمع ونكص ثمّ خالف كان مثل الدوابّ التي تسمع دعاء ونداء فلا تعقله أو تعيه لأنها لم تفهم شيئاً مما أُمرتْ به. وما أتعس مَن شُبّه بالدوابّ في سيرتها !

2- والحياة في الاستجابة لله ورسوله ، فما يأمر الله تعالى ويبلّغ رسولُه إلا بما يجعل الحياة راقية هانئة سعيدة حين يعلم المخلوق سبب حياته ، ويعلم أن خالقه سبحانه خطّ له الطريق السليم في حياته الاختبارية هذه ليصل إلى رضوان الله وثوابه في الحياة الأبدية. فمن سلك السبيل القويم نجا، ومن عصا فلم يستجب عاقبَهُ الله بالحرمان. ألم يقل الله تعالى:
{ قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا ...(75)}(مريم).
إن مخالفة أمر الله ورسوله يوقع في فتن كثيرة يغرق فيها الصالح الذي يترك المجتمع يقع فيها فلا ينبههم ولا يصوب أفكارهم وخُطاهم، ويقع فيها الطالح الذي غاص فيها وشربها حتى الثُّمالة ، فاكتوى الجميع بنارها، فنزل عليهم – إذ ذاك – غضب الله الذي لا يُردّ والعياذ بالله.
وقد يرى بعضهم الفتنة غالبة لا يستطيع ردّها فتضعف نفسه ويتهاون في واجبه ويتكاسل. ولو كان إيمان هؤلاء قؤياً لأدركوا أن الله تعالى ينصر القِلّة الصابرة - حين يرى منهم إخلاصاً ودَأَباً - على الكثرة الطاغية مهما استعلت وانتفشت.

3- إنّ الخيانة – كما يذكر ابن كثير رحمه الله - تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية . أما قوله تعالى :{ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } فإنّ الأمانة هي الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد من آداب وفريضة ومنهاج حياة ، والخيانة ترك السنن وارتكاب المعاصي . ومن الخيانة إظهار الحق قولاً ومخالفته عملاً ،وهذا هلاكٌ للأمانات وللنفوس . ومن خان الله ورسوله فقد خان الأمانة .
كيف تكون الأموال والأولاد فتنة؟

يذكرنا الله تعالى بهذه حين يقول :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)}(المنافقون) .
فمن اشتغل بالدنيا من أموال وأولاد واهتم بها بل قدّمها على طاعة الله ورسوله فقد ضيّع كثيراً من الخير. فثواب الله وعطاؤه في الآخرة خير من الدنيا وما فيها من أموال وأولاد قد يكون منهم العدو والعاق العاصي ، { وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ ۥۤ أَجۡرٌ عَظِيمٌ۬ (28)})الأنفال) .
في الأثر يقول الله تعالى:
( يا ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فِتُّك فاتك كل شيء وأنا أحَبُّ إليك من كل شيء ) ،
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ) .

4- والتقوى نجاح وفلاح ، قال تعالى :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّٮٰهَا (10)}(الشمس) وقال سبحانه:
{ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}(المائدة) ،
فإذا كانت نتيجة التقوى : النصر وتكفير الذنوب والغفران تأهّلَ المرءُ لرضا الله تعالى والخلود في جنته ، وتلك هي الحياة الحقيقية التي يسعى لها المؤمنون العاقلون .
{ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ (61)}(الصافات)

إنه ـ سبحانه ـ ينادينا ..... فهل سمعنا النداء؟!

يتبع

نبيل الجلبي
30/05/2013, 03:42 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثالث




في سورة الصف ثلاثة نداءات متلازمات للذين آمنوا :

أولها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)}

قيل: إن نفراً من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلسٍ :لو نعلم أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله لعملنا به حتى نموت. فأنزل الله تعالى هذا فيهم فقال عبد الله بن رواحة لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيدا في مؤتة ،
ثم قال تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِۦ صَفًّ۬ا كَأَنَّهُم بُنۡيَـٰنٌ۬ مَّرۡصُوصٌ۬ (4) } فالله يحب من عباده الصافّين المواجهين لأعداء الله في حومة الوغى يقاتلون في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا.

وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( ثلاثة يضحك الله إليهم : ( والضحك هنا بمعنى الرضا والقبول)
1- الرجل يقوم من الليل
2- والقوم إذا صفّوا للصلاة
3- والقوم إذا صفّوا للقتال ).... رواه ابن ماجه

وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِۦ صَفًّ۬ا } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافَّهم التزاماً بقوله تعالى { كَأَنَّهُم بُنۡيَـٰنٌ۬ مَّرۡصُوصٌ۬ } يلتصق بعضه ببعض لا يختلفون ولا يتقهقرون فحياتهم وموتهم بيد الله مُقَدّر فممّ يخافون ومن أي شيئ يحترسون؟

وعلى هذا نرى شباب الأمة ينطلقون إلى معركة الحرية والكرامة لا يبالون بما قد يصيبهم يؤمنون بما كتبه الله عليهم ، ورغبتهم أن يقاتلوا في سبيل الله ،فإما أن يفوزوا بالشهادة وإما أن يؤوبوا بالنصر المبين. أما الخوف والجبن فسِمَة يمقتها رب العالمين ولا يريدها لعباده المؤمنين.

ثانيها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)}

وهذا سؤال تقريري ينبه المولى تعالى به المؤمنين إلى أن الإيمانَ بالله ورسوله والجهادَ في سبيله بالنفس والمال له فوائد عظيمة في الآخرة والدنيا ، أما فوائد الآخرة فمختصرها بما يلي:

1- النجاة يوم القيامة من العذاب الأليم في النار نعوذ بالله أن نكون من وقودها.
2- غفران الذنوب كلها .
3- الفوز بالجنة والخلود في النعيم المقيم .

أما في الدنيا فهناك ما يحبّه المؤمنون ويريدون أن يفوزوا به في الدنيا قبل الآخرة ، بل إن الفوز به في الدنيا مُقَدّمة للفوز بالآخرة:

1- نصرُ الله تعالى والعلوّ على الكفر وأهله والسيادةُ التي يطمح إليها المسلمون في حياتهم الدنيا .
2- فتحُ الممالك والامصار ، والحياةُ الكريمة تحت ظلال السيوف.
3- والبشرى من الله للمجاهد في سبيله بالنصر نوع رائع من أنواع الفوز والتمكين.
ومن لا يُحِبُّ التمكين في الدنيا والفوز بالآخرة؟

ثالثها: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ ......(14)}

ومن نصرَ اللهَ نصرهُ الله ،إنه بيع وشراء ، نبيع أنفسنا ومالنا لله تعالى – ونحن ابتداءً ملكُه وعباده- فيعطينا ثمناً رائعاً يتشوف إليه كلُّ عاقلٍ لبيب وفطِنٍ أريب ، ويسوق القرآن دليلاً على ذلك مما فعله حواريّو عيسى ، ونحن أحقّ أن نفعله ، فقد روى ابن كثير رحمه الله " أنّ أتباع عيسى عليه السلام قَالَوا { نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ‌ۖ }على ما أرسِلتَ به ومؤازروك على ذلك، فبعثهم دعاة إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين " وهذا ما فعله الأنصار من الأوس والخزرج في بيعة العقبة أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم ،فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه وفـّوا له بما عاهدوا الله عليه فسمّاهم الأنصار.

ونحن – معشر المسلمين في سورية وبقاع الأرض كلها – إذ نعاهد الله تعالى أن نكون أنصاره في الدفاع عن دينه وإعلاء كلمته نرجو ثوابه ونسأله نصره الذي وعدنا به وأن يُظهرنا على عدونا وعدوّه فنكون خير خلف لخير سلف { فَأَيَّدۡنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُواْ ظَـٰهِرِينَ (14)} .

إنه ـ سبحانه ـ ينادينا ..... فهل سمعنا النداء؟!

يتبع

نبيل الجلبي
30/06/2013, 11:27 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الرابع




للمعركة مع العدو إعدادان لا بدّ منهما :

إعداد معنويّ:
وهو الإعداد النفسي الأهم – فكم من جيش لديه عتاد كثير وأسلحة قاطعة لم يستفد منها شيئاً لأن الروح القتالية فيه ضعيفة ، وكم من مقاتلين تحلّوا بالمعنوية العالية كانوا أقل عدداً وعدة من عدوهم اقتحموا معاقلهم فأزالوهم عنها أوْ قضَوا عليهم { ....كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}(البقرة) .

وإعداد مادي :
لا بدّ منه ،يرهب العدوّ الذي يحسب للعدد والعدّة الحسابَ ويخاف منه، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لمن توكل على الله وضيّع ناقته حين تركها دون عقال: ( اعقلها وتوكّلْ ).
إن للإعداد المعنوي في سورة الأنفال خمسة أمور لا بد للنصر منها:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً :

1- فَاثْبُتُوا
2- وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
3- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
4- وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ
5- وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
6- وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

1- فالثبات : عنوان الإقدام والإصرار على الوصول إلى الهدف ، إن عدوّك يقارعك ويصاولك ويعمل جادّاً على قهرك ودحرك ، والثبات شجاعة وصمود وكسرٌ لمعنويات العدوّ وتيئيس له ، فإن فعلت ذلك وغالبتَه ضعفت حِدّتُه أولاً ثم بدأ ينهار، فعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
( لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت ).

2- وعن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال :
( يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ) ،
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال:
( اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم )
إن التوجه إلى الله تعالى في كل الأحوال وخاصة في ميدان المعركة دليل على أن المسلم يعتقد أن النصر من عند الله ، وأن اللجوء إليه والتذلل له سبحانه رجاءٌ وأمل يستجلب النصر ، فبيده سبحانه مقاليد الأمور .
وذكْرُ الله تعالى يرفع المعنويات ويدفعك إلى حصن حصين وملاذ أمين، والتكبير والتهليل والتسبيح شعار المؤمن ، رُوي عن زيد بن أرقم مرفوعاً :
( إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن وعند الزحف وعند الجنازة )
الصمتَ إلا عن ذكر الله تعالى والدعاء إليه أن يكون معك وينصرك على عدوّه وعدوّك . يؤكد هذا الحديث المرفوع : ( إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجزٌ قرنه ) لا يشغله المقارعة والحرب عن ذكر الله . روى ابن كثير عن عطاء قوله (قال وجب الإنصاتُ وذكر الله عند الزحف) فاجتمع الثبات والذكرُ عند قتال الأعداء والمبارزة ، فلا فرار ولا جُبن بل استعانة بالله وتوكل عليه ولجوء إلى قوته سبحانه.فالفلاحُ والنجاحُ والغلبة بذلك حصراً { لعلكم تُفلِحونَ } .

3- وذكر الله يستدعي طاعته وطاعة رسوله ، فإنك لا تذكر في ميدان المعركة إلا من تحبه وترجو نواله ،


فيا رب اكشف البلوى وسلّمْ * فمنك النصر والنهج القويمُ
وأنت الغايةُ القصوى إلهي * ومن قصد الكريمَ فلا يريمُ

والحب عنوان الطاعة ، وبالطاعة تبرهن على صدق الحب والتوجه، وهي – الطاعةُ- في وقت السلم عون على نيل النصر في زمن الحرب والشدّة .

4- إن صدق التوجه إلى الله يجعلك تحب إخوانك ، فتعاملهم برفق ويسر ، فتعفو عن زلاتهم ، وتصوّب أخطاءَهم وتتناسى هفواتهم، وتقف معهم صفاً واحداً في فعل الخير ودفع الشرّ، لا تستأثر بشيء دونهم ولا تتعالى عليهم ، بل تستشيرهم وتحاورهم وتنزل على رأيهم إن كان صائباً ، فإذا أنتم صف واحد قوي يصعب على الآخرين اختراقه ، ويقف سداً منيعاً أمام أمواج الخلاف والتواءات المشاحنة والبغضاء . والقوة في الوحدة ، والضعف في التفرق. وما نال العدو منّا وما يزال إلا بالأنانية والتنازع وتشتت الغايات وحب الذات.

5- إن الصبر مفتاح الثبات – أول هذه السمات التي ذكرناها، وقد مدح الله تعالى الصبر في مواطن كثيرة في القرآن الكريم وجعله سبب معيّته، وحضنا عليه ديننا العظيم ، ونبهنا إليه المربي الأول – رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم. ولا يكون الظفر إلا مع الصبر ، وقد قيل لعنترة ما الذي أخاف منك الأقران ؟ قال : الصبر على مقارعتهم.
وعدوّنا في محنتنا هذه يراهن على طول الزمن وصدع الوهن. والمصابرةُ دليل على الإيمان بقضيتنا ، ولا بد للشهد من إبر النحل .

6- لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف فأنزل الله تعالى :
{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } .
إن الأمان ورضا المولى سبحانه في الإخلاص والبعد عن الرياء والمفاخرة والتكبر. ذاك أبو جهل لما قيل له إن العير قد نجت فارجعوا قال (والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر فننحر الجُزُر ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبداً) فإذا بهم يردون الحِمام ويغيبون في قليب بدر أذلاء أشقياء في عذاب لا ينفك عنهم فجازاهم عليه شر الجزاء، وكانوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكبر والتعاظم على الحق ومجافاته.
أما الإعدادُ المادّيّ فنراه واضحاً وضوح الشمس في قوله تعالى :
{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60){(الأنفال).

فلا بدّ من الإعداد المادي للمعركة :

1- ( قدر المستطاع ) والاستطاعة أن يبذل المرء جهده ولو كان هذا الجهد قليلاً وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر:
"{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي " رواه مسلم .
إن الدربة على السلاح وصنعه والاعتناء به وتطويره وتقوية الجسم على تحمّل المشقة هو الإعداد ،

2- وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن وفرس للشيطان وفرس للإنسان فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله فعلفه وروثه وبوله - وذكر ما شاء الله - وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليها ،وأما فرس الإنسان فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها فهي له ستر من الفقر )
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، الأجر والمغنم "

3- إن القوة والإعداد يرفع معنويات المجاهدين ، ويخيف أعداءهم ، ولن يحسب العدو لنا حساباً ولن يخاف منا ويرتدع عن الإساءة إلينا إلا إذا رأى منا قوة وعلم أن مكره عائد عليه وعلى مَن يؤيده ويشد عضده ، ويعجبني قولُ عنترة ( أشد على الضعيف الجبان فأضربه الضربة ينخلع لها قلب القوي ، فألتفت إليه فأقتله) ، إن القوة ترهب العدوّ الظاهر والعدوّ المداجي سواء بسواء.

4- أما قوله تعالى : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } فهو الثواب الكامل الذي لا ينقص بل يُضاعف أضعافاً كثيرة لما للجهاد من ثواب عظيم ، ألم يقل الله تعالى في كثرة الثواب :
{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}(البقرة).

كرامة أمتنا في جهادها بالنفس والمال ، وثورتنا تطلب منا البرهان والدليل على صدق توجهنا فيها ،وشعبنا اليوم على المحك ، والنصر غال لا بد من دفع ثمنه لنكون أهله وصانعيه ، ولنلقى من ربنا الخير والفضل العميم .

إنه ـ سبحانه ـ ينادينا .... فهل سمعنا؟

يتبع

نبيل الجلبي
01/07/2013, 07:11 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس



يقول الله تعالى في سورة البقرة:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}.

تقول العرب لِما يَمُنُّ : يدٌ سوداء. ولما يعطى عن غير مسألة : يدٌ بيضاء . ولما يعطى عن مسألة : يد خضراء ،
وقال بعض الحكماء : منْ منَّ بمعروفه سقط شكره , ومن أعجب بعمله حبط أجره.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر - ثم تلا - { لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ } ) . وقال صلى الله عليه وسلم كذلك :
( لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق لوالديه ولا منـّان ) .
ورحم الله تعالى الشاعر الأريب إذ قال :


أفسدت بالمنّ ما أسديت من حَسنٍ * ليس الكريم إذا أسدى بمنـّانٍ

والقرآن الكريم جعل المنّ أذى ، فما المنّ؟:
قال الجوهريّ في صحاحه : القطعُ والنقص . قال تعالى : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } غير مقطوع ولا منقوص.
وقال الفيروزأبادي : غير محسوب ولا مقطوع. وعل هذا كان المنّ في العطاء ذمّاً ومنقصة وليس لأحد أن يمنّ غير الخالق العظيم سبحانه وتعالى فهو صاحب الفضل الحقيقيّ.

فالصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى فما بقي ثوابُ الصدقة بخطيئة المن والأذى، فهو كالمرائي ينفق أمواله دون أن يكسب أجراً ، وحين يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ أو يؤذي فإنه لا يقبلها ويمنع الملـَك أن يكتبها – كما ذكر علماؤنا- .
وقال أبو بكر الوراق :

أحسن من كل حسن * في كل وقت وزمن
صـنيعـة مربـوبـة * خـالـيـة من المـِنـَن

وسمع ابن سيرين رجلا يقول لرجل : فعلت إليك وفعلت. فقال له : اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي
قال القرطبي: قال علماؤنا رحمة الله عليهم : كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه لئلا يعتاض منهم الحمد والثناء , ويظهر منته عليهم ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله تعالى . واستحب أن يعطيها الأجانب , واستحب أيضا أن يولّي غيره تفريقها إذا لم يكن الإمام عدلا , لئلا تحبط بالمن والأذى والشكر والثناء والمكافأة بالخدمة من المعطى .

يقول القرطبيّ رحمه الله تعالى: مثـّلَ الله تعالى الذي يمن ويؤذي بصدقته بالذي ينفق ماله رئاء الناس لا لوجه الله تعالى , وبالكافر الذي ينفق ليقال جواد ، وليـُثـنى عليه بأنواع الثناء . ثم مثـّل هذا المنفقَ المنّانَ أيضا بصفوان عليه تراب فيظنه الظانُّ أرضا منبتة طيبة , فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب وبقي صلدا , فكذلك هذا المرائي . فالمن والأذى والرياء تكشف عن النية، فتبطل الصدقة كما يكشف الوابل( المطر الشديد) عن الصفوان (وهو الحجر الكبير الأملس الذي لا يثبت عليه الماء بل يكشف عنه التراب ) . فذهب ثوابُه باطلاً لا نفع له فيه , فالقاصد بنفقته الرياءَ غيرُ مثابٍ كالكافر لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى فيستحق الثواب .

ولقد تحدث الإِمام الرازي عن الآثار السيئة للمن والأذى فذكر أن المنّ مذموم لوجوه :

الأول :
إنكسار الفقير الآخذ للصدقة ، يُضاف إليها غلظة المنعم الفظ فينقلب الإحسان إساءة
والثاني :
والمنُّ يبعد أهل الحاجة عن إظهار حاجتهم فيصيبهم العنت .
والثالث :
يجب أن يعتقد المعطي أن ما يفعله نعمة من الله عليه ، فإن اعتقد غير ذلك زلّ وأساء.

إن الصدقة تربى لصاحبها حتى تكون أعظم من الجبل , فإذا خرجت من يد صاحبها خالصة على الوجه المشروع ضوعفت , فإذا جاء المن بها والأذى ذهبت أدراج الرياح .

إنه سبحانه ينادينا منبهاً وآمراً ومحذراً ..... فهل نسمع ونتعظ.

يتبع

نبيل الجلبي
02/07/2013, 12:59 PM
إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السادس



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}(البقرة)

نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يجتهدون في إيذاء الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم فقالوا : كنا تسُبُّ محمداً سراً ، فالآن نسبه جهراً لأنهم أرادوا بقولهم " راعنا " الرعونة { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } ، ويُهيّأ لمن يسمعهم أنهم إنما يريدون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يراعيهم ويسمع لهم. وهؤلاء قال فيهم الله تعالى :
{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَـٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّـهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}(النساء).

وهم الذين يقولون " السام عليكم " يوحون بالسلام ويقصدون الموت ، فالسام الموت.فأمرنا أن نرد عليهم بـ " وعليكم" وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا – كما جاء في الحديث الشريف الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

وفي الآية نجد نهيَ المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا ، وذيّلها بالعذاب الأليم لمن خالف. فمن تشبه بقوم فهو منهم ، ومن جميل ما رواه ابن مسعود أن رجلاً قال له: إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فأرعها سمعك ، فإنه خيرٌ يأمر به أو شرٌّ ينهى عنه .

وقال الحسن : { لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا } إنّ الراعن سخرية من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الإسلام .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول أرعنا سمعك فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له ،
وكان رجل من يهود بني قينقاع يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيكلمه قائلاً : أرعني سمعك واسمع غير مسمع وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخَّم بهذا ، فكان الناس يقلدونهم . فنبههم القرآن إلى حُسن مخاطبة النبي والتأدب في الحديث معه ،

ولعلنا نذكر في سورة الحجرات وجوبَ توقير النبي صلى الله عليه وسلم في النداء الرائع :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} ،
ليحذروا المنزلق الذي قد يقعون فيه دون أن يشعروا فيهلكوا، وقد كاد الخيّرانِ أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يهلكان حين ارتفعت أصواتهما أمام رسول الله في تأمير ركب من بني تميم ،فاختلفا فيمن يُؤمّر ، فنزل النهي في رفع الصوت أمام القائد العظيم ، فكان الصديق بعد هذا يقول : والله لا أكلمك إلا كأخي السرار - أي الهمس – وكان الفاروق يخفض صوته حتى يكاد لا يُسمع ، رضي الله عنهما ، ما أرْوَعَهما وأعظَمهما.

وما أشد شفافية قيس بن الشماس – وكان جهير الصوت – حين سمع آية الحجرات هذه ظنّ نفسه المقصودَ بها فلزم بيته يبكي خوفاً وحزناً أن يحبط عمله، فلما افتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم سبب احتجابه عنه طيّب خاطره وقال له: أنت من أهل الجنّة .

واقرأ معي قول سيد قطب رحمه الله تعالى في تعليقه على هذه الآية : لقد وعى المسلمون هذا الأدب الرفيع ، وتجاوزوا به شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كل أستاذ وعالم لا يزعجونه حتى يخرج إليهم ، ولا يقتحمون عليه حتى يدعوهم .
يُحكى عن أبي عبيد – العالم الزاهد- أنه قال : ما دقـَقـْتُ على عالم باباً قطّ حتى يخرج في وقت خروجه.
نحن بحاجة إلى أن يحترم المسلمون علماءهم وأن يُجل أحدنا الآخر ، فنضرب مثلاً في الأخلاق الإسلامية الحضارية التي جعلتنا سادة العالم ومربيه ، فننتشله من وهدة الجهل وعِمايته إلى ذروة السموّ والأدب الرفيع ..

إنه ـ سبحانه ـ ينادينا .... فهل سمعنا النداء ووعيناه؟!

يتبع

نبيل الجلبي
03/07/2013, 05:48 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السابع



بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}(البقرة).

أمر المسلم عجيب ، يربح في اليسر والعسر ،والسراء والضراء عندما يكون رضا الله سبحانه نصب عينيه، ولعلنا نذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه صهيب بن سنان" عجبًا لأمرِ المؤمنِ ، إنَّ أمرَه كلَّهُ له خيرٌ، و ليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ ، إن أصابتْهُ سرَّاءُ شكر وكان خيرًا لهُ ، و إن أصابتْهُ ضرَّاءُ صبرَ فكان خيرًا له" فما يُقضى له بشيء فيرضاه ويحتسب أجره عند الله تعالى إلا فاز وأفلح.

تقف في صلاتك بين يدي الله سبحانه تعلن الحب والإيمان والخضوع له ، وتسأله العون في أمورك فتلجأ إلى ملاذ أمين وحصن حصين، ولك أن تقف بباب الكريم في كل لحظة من حياتك لا يردّك عنه مانع ، إنما يحب الله سبحانه أن تلِحَّ في التقرب منه،على عكس صلتك بالمخلوق الذي يتأفف إن لزمته ويأنف أن يجيب سُؤلك ويضجر منك:


لا تسألنّ الناس أدنى حاجة * وسـل الـذي أبـوابُـه لا تُحجـبُ
فالله يغضب إن تركتَ سؤاله * وإذا سألت المرءَ يوماً يغضبُ


والصبر دليل عزم وقوة شكيمة ، وهو ثلاثة أنواع :

1- فصبر على ترك المحارم والمآثم،
2- وصبر على فعل الطاعات والقرُبات ،
3- وصبر على المصائب والنوائب ولعله المقصود الأول هنا.

قال أحدهم : الصبر في بابين : الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء ،فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله

وقال علي بن الحسين زين العابدين إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد: أين الصابرون؟ ليدخلوا الجنة قبل الحساب ؟
قال فيقوم عنق من الناس فيتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين يا بني آدم ؟
فيقولون إلى الجنة فيقولون وقبل الحساب ؟
قالوا نعم
قالوا ومن أنتم ؟
قالوا نحن الصابرون.
قالوا وما كان صبركم ؟
قالوا صبرنا على طاعة الله ،وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله .
قالوا أنتم كما قلتم ،ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين. ويشهد لهذا قولُه سبحانه { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿10﴾}(الزمر).

يذكر الطبري في تفسيره لهذه الآية : (فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي , وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قـِبَلي وتدركون حاجاتكم عندي ، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيّ , أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم حتى يظفروا بما طلبوا وأملوا قِبَلي) .

إننا بالصبر والصلاة نستعين على مصائب الحياة وننال الأجر العظيم { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴿10﴾}(الزمر).

قال سعيد بن جبير: الصبرُ اعترافُ العبد لله بما أصاب منه واحتسابه عند الله رجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر .

ولعل من أنواع الصبر ( الصيام) لقوله صلى الله عليه وسلم: ( والصبر ضياء ) وفسره العلماء بالصوم وترك الملذّات وأطايب الطعام والشهوات. والصيام من عزائم الصبر.

وما أروع الفاصلة التي أنهت الآية { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } فمعيّة الله سبحانه أعلى ما يرجوه المرء ، إنْ وصل إليها شعر بالطمأنينة والأمن والأمان ونال مبتغاه، والحكمة الرائعة تصف حال أهل الصبر وحال الضعفاء عنها (فمن صبر ظفِر ومن لجّ كفر) .

ونحن في مقارعتنا لعدو الله الذي دمر سورية الحبيبة واذاق أهلها المرار واستعان بالظلَمة أمثاله على الشعب المصابر نحتاجُ أيما حاجة إلى الصبر على قضاء الله وإعداد العدة للثبات أمام مكر العدو وفساده ، ولا يكون هذا إلا بالعودة إلى الله والإخلاص في العمل والنية وترك حظوظ النفس والسير في أقصر طريق وأسرعه إلى مرضاة الله تعالى .

أما الصلاة فهي الصلة الوطيدة بالمولى سبحانه ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال: ( أرِحنا بها يا بلال ) فالراحة أن تكون في كنَف الله ورعايته ، وقال بأبي هو وأمّي: ( وجعلتْ قرّةُ عيني في الصلاة ) والصلاة هُوّيّة المؤمن وزاده في الطريق ، إن قبلتْ منه قُبل سائر عمله .

هذا نداء الله ـ سبحانه ـ لنا .....

فهل سمعنا النداء ووعيناه؟

يتبع

نبيل الجلبي
10/10/2013, 07:50 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثامن




بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)(البقرة)

قال مالك: إن الطيب هو الحلال . وقال الشافعي : الطيب المستلذ.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال " يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ " وقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك ؟" ) ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة.

فالمؤمن يأكل من طيبات ما رزقه تعالى و يشكر الله تعالى على ذلك ، وهذه من سمات عباد الله . والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة كما مرّ آنفاً.
وسمي الحلال حلالا لانحلال عقدة الخطر عنه .

قال سهل بن عبد الله : النجاة في ثلاثة :
1- أكل الحلال ,
2- وأداء الفرائض ,
3- والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .

وروى القرطبيّ أن سعيد بن يزيد قال: خمس خصال بها تمام العلم , وهي :
1- معرفة الله عز وجل ,
2- ومعرفة الحق
3- وإخلاص العمل لله ,
4- والعمل على السنة ,
5- وأكل الحلال , ....فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل .

قال سهل : ولا يصح أكل الحلال إلا بالعلم , ولا يكون المال حلالاً حتى يصفو من ست خصال :
1- الربا
2- والحرام
3- والسحت (وهو اسم مجمل يقصد به الحرام كله)
4- والغلول
5- والمكروه
6- والشبهة .
فمن التزم أمر الله فقد عبده ، ومن عبده بالطريقة الصحيحة فقد شكره. وبالشكر تدوم النِّعم.

ولئن أمر الله تعالى المؤمنين بأكل الحلال فقد خصّهم بالخير تفضيلا ، وأمر غيرهم بذلك تحصيناً من المرض والأذى....والمقصود بالأكل الانتفاع به من جميع الوجوه.

ولما امتن تعالى على عباده برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا:
1- الميتة وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية (وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع). وقد خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه " .ولحديث سمك العنبر في الصحيح والسنن إذ قال عليه الصلاة والسلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعا " أحل لنا ميتتان ودمان (السمك والجراد) و(الكبد والطحال) .
2- والدم ( ما عدا الكبد والطحال وما خالط اللحم والعروق بعد تنظيفهما) لما فيه من ضرر.
4- وكذلك حرّم عليهم لحم الخنزير - قولاً واحداً - سواء ذكي أو مات حتف أنفه.
5- . وكذلك حرّم عليهم ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له .

ومن عظيم رحمة الله بعباده الإباحة على الإطلاق في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم حصر التحريم فيما ذكر سابقاً ، قال صلى الله عليه وسلم:
( الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )

فمن اضطر فلا بأس أن يتبلّغ ما يبقي عليه الحياة، ولا يُكثر، فالضرورة تبيح المحظور والاضطرار خوف الموت أو الإكراه .

يريد الله تعالى لعباده أن يطعموا الطيب فلا يتغوّلوا في الحرام ولا يطغوا في التزيّد ، ولا يعتدوا على حرمات الله ولا حقِّ العباد . إنه يريد لنا أبداناً صحيحة قوية ومجتمعاً يعرف فيه أفراده حقوقهم فيلتزموها وحقوق غيرهم فيدَعوها . أما الاعتداء والبغي والظلم فمنقصة تفتت الأمة ، وتؤدي إلى خرابها ، والمسلم حريصٌ على بناء أمته نقياً من الضعف والشوائب راغبٌ في قوته وكماله.

هكذا ينادينا الله تعالى ليرفع ذكرنا، ولنحيا في الدنيا أعزة وفي الآخرة كراماً .

فهل سمعنا النداء ووعيناه؟

نايف ذوابه
11/10/2013, 02:45 PM
في ميزان حسنات أستاذنا الدكتور عثمان مكانسي ما كتب وعبر سواء ما كان بخصوص الوضع السوري ووصف ما يجري من احتراب واقتتال بين فصائل الثوار وجيش النظام-جهادا، وأن الله قد دعانا فهل لبينا ..؟ أو بخصوص الإنفاق وعدم المن وسواه من الموضوعات .. قرأت ستة مقالات واستوقفني ما يستدعي النقاش والحوار حوله وكنت أتمنى أن يكون الدكتور مكانسي قد أودعها هذا المكان ليتم محاورته بصفته الكاتب والمتحمل مسؤولية ما كتب .. نسأل الله أن يحفظ بلاد المسلمين وأن يوحد كلمتهم وأن يجمع شملهم وأن يأخذ على أعدائهم .. ما جرى في البلاد العربيةمن ثورات تأملنا أن تكون فعلا ربيعًا لكن للأسف تحولت إلى فحط وجدب وصحراء تيه بسبب خيانة القوى السياسية وخاصة العلمانية والقومية التي تحالفت مع الاستعمار تحت يافطة الدولة المدنية والديموقراطية .. وعادت عهود الاستبداد والفساد بإهاب جديد وفي مصر عادت سافرة غير مقنعة .. على كل حال ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .. شكرا للأستاذ نبيل الجلبي الذي نقل المقالات وكنت أتمنى أن أقرأ تعليقه و تعقيبه عليها أو أن يقدمها لنا بما يبين قيمتها أو ينقدها...

نبيل الجلبي
10/11/2013, 12:58 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم التاسع

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ



ماإن سمعنا المؤذن يقيم الصلاة حتى كبر الإمام وتبعه المصلون و قرأ الإمام الفاتحة بصوته الشجي ثم هدأ قليلاً ليبدأ بعدها قراءة آيات مباركات ... يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ... وتوقف قليلاً .. قلت في نفسي : لم توقف ؟ هل نسي ما يود قراءته؟ ... فليبدأ بأية آية غيرها ، فلم يزل في البداية . لكنه كررها مرة أخرى وكأنه ينادينا بصوت يخرج من أعماق قلبه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ........ " كان قلبي يرتج كبناء أصيب بزلزال هزه هزاً شديداً فبدأ يترنح ، يكاد يسقط .... فالإمام إذاً كان بوقوفه هذا مع تكرار " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " يريد أن يوصل لنا النداء ، وأن نتفاعل مع كل كلمة بعده ، ولم يكن يريد لنا صلاة ميتة يسرح فيها الواقف هنا وهناك في هذه الدنيا الواسعة ، لا يدري كيف تنتهي الصلاة ولم يعِ منها شيئاً . ثم يظن أحدنا أنه أدى الصلاة وأرضى الله تعالى !! .. كان يريدنا أن نتلقى الرسالة و نفهم ما يتلوه على مسامعنا، وأن نكون فعلاً واقفين بخشوع أمام ملك الملوك ومالك الملك ، وأن نتدبر آياته بقلب حيّ ولبّ ذكي . فما بعد النداء أمر خطير جهله الناس على كثرة ما يتلى عليهم .

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ " : لبيك وسعديك – يارب – والأمر كله بين يديك . نحن – معشر المؤمنين – عبادك .... لك الأمر، وعلينا الطاعة والامتثال إن كنا مؤمنين . وسنكون بإذنك ومشيئتك مؤمنين دائما ً، تحبنا وترضى عنا ..... وتداعى إلى ذاكرتي بهذا النداء العلويّ الرائع الذي يرفعنا إلى مرتبة العبودية لله تعالى مدى حبه تعالى للمؤمنين ، إذ تكرر هذا النداء سبعاً وثمانين مرة يوضح الطريق المستقيم إلى مرضاته سبحانه ، ويبين السبيل الأقوم للحياة الطيبة في الدنيا والواعدة في الأخرى .

" لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ " والوليّ – إخوتي الأحبة – الصديق الوفي ، والأخ الصدوق ، والناصح الأمين . وهل يعقل أن يكون الكافر الذي يكرهنا ويسعى جاهداً للإيقاع بنا وإيذائنا ، والذي يعمل ليل نهار على استئصال شأفتنا والكيد بنا أخا وصاحباً ونصوحاً ؟!! إنهم كما قال تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}(التوبة) .. وهل يعقل أن ترى ذكياً لبيباً بعد ذلك يتخذهم أولياء يلقي إليهم بالمودّة ؟! إن من يفعل ذلك واحد من اثنين لا ثالث لهما : غافل لاهٍ غبيّ أو منافق أظهر الإسلام وأبطن الكفر .

أما الغافل اللاهي فقد أساء إلى نفسه دون أن يدري حيث استحق تتمة الآية " أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا " إنه حين يرضى لنفسه مصاحبة الكافر عدو الله فقد حكم على نفسه بالهلاك والويل والثبور وعظائم الأمور ، فضلاً عن غضب الله تعالى على من أسلم قياده وزمامه لعدو الله " إن الطيور على أشكالها تقع " وما يأمن لكافر إلا السفيه الغرّير .

وأما المنافق فله عذاب أليم جزاءً وفاقاً ، بل " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " و الدرْك منازل النار والدرجة منازل الجنة {... فَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ...(76)}(طه) . والدرك في النار سبع منازل أشدها : الهاوية ثم الجحيم ثم سقر ثم السعير ثم الحطمة ثم لظى ثم جهنّم .وللمنافقين أسفلها وهو "الهاوية " . لغلظ كفرهم وشدة غوائلهم ، وتمكنهم من المسلمين . نعوذ بالله أن نكون منافقين . ..

قال ابن مسعود رض الله عنه : للمنافقين في الهاوية توابيت من حديد ، مقفلة في النار تقفل عليهم . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة :

المنافقون : " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ "

من كفر من أصحاب المائدة : { قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ (115)}(المائدة)

آل فرعون : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)(غافر)

أما درجات الجنة فهي مئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض " .

وهل هناك من ينصر هؤلاء المنافقين ؟! حاشا وكلاّ .. إن الله خصيمهم .
" وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا " ومن يقف أمام الله تعالى ؟! بل { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } وهل يشفع أحد إلا لمن يريد الله تعالى له الخير ؟ { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } .

ومن رحمة الله تعالى بعباده أن يترك لهم باب الأمل مفتوحاً على مصراعيه ، ولو فعلوا ما فعلوا ، ألا نقرأ دائماً { بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } في كل لحظة من حياتنا فهو الرحيم بعباده ، الرؤوف بهم ، الغفور لزلاتهم . العطوف عليهم ، المسامح الكريم ، لا إله إلاّ هو ... يدعوهم إليه كل حين {... إِلاَّ الَّذِينَ ...
1- تَابُواْ

2- وَأَصْلَحُواْ

3- وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ

4- وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ

فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا .

فلا بد من التوبة النصوح التي لا رجوع بعدها إلى الكفر والشرك . والعمل الصالح الذي يجب ما قبله ويمحوه ، ويؤكد توبة صاحبه ويدل على صدق توجهه . واللجوء إلى الله تعالى أن يبدل السيئات حسنات ، ويغفر الذنب ويستر العيب ، ويعين على التوبة والعمل الصالح ، فبالله المستعان دائما . والإخلاص في الأمور كلها لله تعالى ، فبالنية الخالصة تقبل الأعمال " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " . وهنا يضمهم الله تعالى إلى ركب المؤمنين الصالحين الذين وعدهم الله عز وجل بالأجر العظيم .

قال مكحول رحمه الله تعالى : أربعٌ من كنّ فيه كنّ له ، وثلاثٌ من كنّ فيه كنّ عليه .

أما أربع الصفات التي إن كنّ فيه كنّ له ( أي كنّ في ميزان حسناته )

فالإيمان والشكر : { مَّا يَفْعَلُ اللَّـهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّـهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}(النساء).

والاستغفــــــار : { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}(الأنفال).

والدعــــــــــاء : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)}(الفرقان) " .

وأما ثلاث الصفات التي إن كن فيه كن عليه ( أي كنّ وبالاً عليه )

فالمكـــــــــــــر : { ... وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ....(43)}(فاطر) .

والبغــــــــــــي : { .... يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم....(23)}(يونس) .

والنكــــــــــــث : { ... فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ ...(10)}(الفتح) .

فهل سمعنا النداء ووعيناه؟

يتبع

نبيل الجلبي
16/11/2013, 10:54 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الحادي عشر



بسم الله الرحمن الرحيم

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}(البقرة).
اقتتل قبل الإسلام بقليل حيان من العرب ، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال فحلفوا أن لا يرضوا حتى يُقتل بالعبد منا الحرُّ منهم والمرأةِ منا الرجلُ منهم فنزل فيهم: { الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ }، ثم نسخت بقوله تعالى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)}(المائدة).

عن ابن عباس في قوله { وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ } وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل الله { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم .وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، وروى القرطبي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي بالمرأة
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يُقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وغيره ،قال البخاري وجماعة : يقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة ( من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن أخصاه أخصيناه ) وخالفهم كثيرون، فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجِبُ فيه قيمته .

وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يقتل مسلم بكافر ) ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد : قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع وخالفهم ابن الزبير ومروان بن الحكم والإمام أحمد وغيرهم.

وقوله تعالى { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } دعوة إلى العفو وقبول الدية بعد استحقاق الدم وهنا يأتي الاتباع بالمعروف والإحسان إلى القاتل
عن ابن عباس قال : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفوُ فقال الله لهذه الأمة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم { ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } فرحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم
فكان لأهل التوراة قصاصٌ وعفو ليس بينهم أرش ( أقلُّ من الدية ) وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش.
العفوُ: في اللغة البذل. قال تعالى :{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}(الأعراف) ولهذا يقول العلماءُ : خذ العفوَ وما سَهُل . والإحسان صدقة والصدقة هنا كفارة كما أن تساقط الديات بين الأطراف مقاصّة. فكانت الديّة تخفياً من الله تعالى عن المسلمين.

{ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إن من يقتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد. قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها ) روى الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية ) يعني لا أقبل منه الدية بل أقتله .
يذكر القرطبي رحمه الله تعالى: أن كثيراً من العلماء استدلوا على قتل المسلم بالذمي في أنه إذا سرق المسلم مال الذمي قطعت يده ولأن الذمّيّ آمن في البلد الإسلامي فحقوقه حقوق المسلم. وقال: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري , وهو يخصص عموم قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } الآية , وعموم قوله : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } .

ومن روائع بيان القرآن الكريم قوله { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } فقتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها فإذا علم القاتل أنه يقتل كفَّ عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس ، قالت العرب : (القتل أنفى للقتل) فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ }، قال أبو العالية جعل الله القصاص حياة ،فكم من رجل يريد أن يقتل فيمتنع مخافة أن يقتل وما ينتهي عن ذلك إلا أولو الألباب وأصحاب العقول.

يقول القرطبي أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر , مخافة أن يقتص منه فحيَيا بذلك معا . وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير , فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال , فلهم في ذلك حياة . كما أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقـَّه دون السلطان , وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض , وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك , وجعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض . كما يُقتص من السلطان نفسه إن تعدى على أحد من رعيته فهو واحد منهم , وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل , وذلك لا يمنع القصاص , وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل , لقوله جل ذكره : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } , وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه , وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل , فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه , فصاح الرجل , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعال فاستقد ) . قال : بل عفوت يا رسول الله .

وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه , فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين , لئن أدَّب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه , ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال : خطبنا عمر بن الخطاب فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم , فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه , وذكر الحديث بمعناه .

إن مِن أولي الألباب من يتفكر ويتدبر ويعمل بكتاب الله تعالى في نفسه وأهله ومجتمعه بتقوى الله ، ليبني مجتمعاً مسلماً يشهد التاريخ والعالم كله بعدله وحضارته.

إنه – سبحانه - ينادينا ، فهل نعي ذلك
يتبع

نبيل الجلبي
19/03/2014, 12:17 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثاني عشر*



في سورة آل عمران نداء لأهل الكتاب قبل نداء المؤمنين، فعلى أهل الكتاب إذا جاءهم رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام أن يتبعوه
يتجلى هذا النداء في ثماني آيات تدعو أولاها إلى توحيد الله تعالى وعبادته وحده ،{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)}.
وفي ثانيها ردّ على مزاعم أهل الكتاب من النصارى واليهود إذ يدّعي كل من الفريقين أن إبراهيم عليه السلام كان منه، وإبراهيم عليه السلام كان قبل موسى عليه السلام بألف وسنة وجاء عيسى عليه السلام بعد موسى بألف سنة ، فكيف يكون إبراهيم يهوديا أو نصرانياً ؟ ما يقول بهذا عاقل:
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)}.
وفي ثالثها يعيب على أهل الكتاب كفرهم وهم يشهدون الحق في كتبهم فيعرضون عنه :
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)}.
وفي رابعها تراهم يخلطون بين الحق والباطل ليفسدوا الأمور ويكتموا الحقيقة التي يعلمونها ضمناً فياتي النداء يتبعه الاستفهام يقرّعهم ويؤنبهم:
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)}.
ويوبخهم المولى تعالى في خامسها على كفرهم بآيات الله وتكذيبها ، دون أن يكترثوا بمتابعة الله تعالى لهم وإحصائه ما يفعملون، فالله تعالى يعلم كل صغيرة وكبيرة مما يعملون:
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا تَعْمَلُونَ (98)}.
وتراهم في آخر نداء أهل الكتاب يصدون الناس عن الإيمان بالله ورسوله ، ويحبذون حياة الغي والفساد على الرغم أن كتبهم تشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الرسل الذي بشرت به رسلهم.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)}.
ثم ينتقل القرآن الكريم إلى تنبيه المسلمين إلى وجوب التمسك بدينهم وعدم طاعة المشركين من اليهود والنصارى كي لا يرتدوا كفاراً مثلهم ، فالطاعة عبادة ، ومن أطاع غير الله ورسوله انحرف عن طريق الهداية وعبَدَ الطاغوت:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)}.
قد يتساءل بعضنا : فينا كتاب الله نغترف من معينه ونعمل بهديه ونعيش بنوره ، لكنْ كيف يكون رسول الله فينا وقد انتقل إلى ربه منذ قرون طويلة ؟
والجواب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا في سيرته المطهرة وحديثه العطر المدوّن حتى صار أحدُنا يعرف عن نبيّه دقائق حياته الشريفة اكثر بآلاف المرات مِمّا يعرف عن أبيه الذي عايشه وصاحبه ، إنه معنا بما تعلمْنا من أحواله التي أوصلها إلينا صحابتُه الكرام، نتابعه في سلمه وجهاده ،صباه وشبابه وكهولته ، طعامِه وشرابه، ليلِه ونهاره،مع ضيوفه وآل بيته ، وكأننا نراه صلى الله عليه وسلم بيننا:
{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)}.
روى البخاري عن مُرَّة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( حق تقاته أن يطاع فلا يُعصى وأن يُذكر فلا يُنسى وأن يُشكر فلا يُكفر ) .
وقال ابن عباس : ألا يعصى طرفة عين .
وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} ، قالوا : يا رسول الله , من يقوى على هذا ؟ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل : { فاتقوا الله ما استطعتم ...(16)}(التغابن) ، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
هل يجوز أن يركن المسلم إلى الكفار؟ . والجواب أنه : لا ، فلماذا؟ يقول الله تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا :
1- { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ } فالكفار والمنافقون لسنا منهم وليسوا منّا ،إنهم أصحاب أهواء وفساد دينيّ وخُلُقيّ، إن الطيور على أشكالها تقع ، قال الشاعر :

عن المرء لاتسل وسل عن قرينه,,,,, فكل قرين بالمُقارن يقتدي
و( المرء على دين خليله ، فلينظر أحدُكم من يخالل ) : هذا ما علّمَناه النبيُّ عليه الصلاة والسلام.

2- { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } والخبال الفساد، فهم إن لم يستطيعوا قتال المسلمين اجتهدوا في المكر والخديعة . جاء عمرَ كتابٌ فقال لأبي موسى : أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ؟ فقال : إنه لا يدخل المسجد . فقال لم ! أجنب هو ؟ قال : إنه نصراني ; فانتهره وقال : لا تُدنِهم وقد أقصاهم الله , ولا تكرمهم وقد أهانهم الله , ولا تأمنْهم وقد خوَّنَهُمُ الله ...

3- { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قد بدت البغضاء من افواههم } ، وهم يحبون أن يروا المسلمين في ضنك وحزن وألم وحياة تعيسة كما يفعلون الآن في دعم النظام الاسدي الكافر بالمال والسلاح والرجال ،وهم بعملهم هذا مكشوفون وإن كانوا يُظهرون غير ذلك ، ويسعَون بكل ما يستطيعون لإرهاق المسلمين ،وكثيراً ما ينِدّ عنهم زلة لسان أو عمل فاضح أو تصرّف شائن.

4- { وما تخفي صدورُهم أكبر } ولئن ظهر منهم بعض ما يُكِنّون من كره وبغضاء للمسلمين فإن ما يُخفونه أكبرُ مما يُظهرونه.
ويُذيّل القرآنُ هذه الاية محذّراً ومعلماً: { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)} ، فمن كان له قلب حيٌّ وفكرٌ سديد علم أنّ الحذر من غير المسلمين نجاة وحرز منهم.

- ثم تأتي هاتان الآيتان:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)} توضحان أن طاعة الكافرين تؤدّي إلى النكوص إلى الكفر، وما بعد الكفر إلا الخسارة الأبدية في الجحيم.

يحب المنافقون الحياة أيّاً كانت : ذليلة وعاديّة ويكرهون الموت ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم المقرئين إلى بئر معونة فقتلهم المشركون غيلة ادّعى المنافقون أنّ هؤلاء الشهداء لو حذروا فلم يخرجوا ما ماتوا. وبهذا ينكشف سترهم وتظهر دخيلتُهم ويبقى كلامهم حسرة في صدورهم في الدنيا إذ انكشفوا وفي الآخرة إذ هم من أهل النار ، ولو علموا أن لكل أجل كتاباً ما قالوا كلمتهم هذه . إن كل شيء بيد الله سبحانه فهو المحيي وهو المميت وهو الذي يعلم ما في الصدور فيثيب الصالح ويعاقب المسيء:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَٰلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)}.

ونرى نداء لا علاقة له ظاهرة بالجهاد والمجاهدة - يتحدث عن جريمة أكل الربا يتخلل- الايات الصريحة في حال المسلمين في غزوة أحد :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}.
فإذا علمنا أن عاقبة الربا حربٌ من الله ورسوله وجدنا المنحى العام – وهو الجهاد – يشمل الاية، وكان وجودها متسقاً مع الآيات الأخرى في الحذر من الوقوع في الخطأ الذي يغضب المولى سبحانه.
ويختم الله سبحانه وتعالى سورة آل عمران بوصية النجاحين ( نجاح الدنيا ونجاح الاخرة ) فحض على الصبر على الطاعات والبعد عن الشهوات ، وأمر بمصابرة الأعداء وانتظار الفرج من الله :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}.
فما بعد الصبر إلا الفرج ، وما بعد مقارعة الأعداء بثبات إلا النصر والفوز ، والرباط في الثغور في سبيل الله والجهاد ذروة سنام الإسلام ، وأهل الإسلام اليوم في رباط أمام الأعداء الذين لا يألون جهداً في اغتنام غفلة من المسلمين يدمّرون فيها بيوتهم ويقتلون رجالهم ونساءهم وأطفالهم ، إنها حرب إبادة يُطلب فيها المصابرة والرباط ، يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمِن الفتان )
كما أن ملاك الأمر كله التقوى ، ففيها الفلاح كله والنجاة أجمعها.
... إنه سبحانه ينادينا ، فهل سمعنا النداء؟!

* بتصرف بسيط جدا

نبيل الجلبي
14/09/2014, 01:34 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثالث عشر



جاء النداء في سورة النساء موجهاً إلى ثلاثة أنواع ، فقد:

أ- نادى الناس جميعاً ثلاث مرات ، في أول السورة وآخرها:
1- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
2- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}
3- { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174)}

لا بد من تنبيه البشر كلهم إلى الهدف الذي خلقهم الله تعالى له وإعلامهم بمهمتهم التي سوف يُسألون عن أدائها في اليوم الموعود ،فتُقام عليهم الحُجّة .فكانت الاية الأولى في هذه السورة للناس وكذلك الآية الأخيرة (عود على بدء) إنّ الخطاب الإيماني للجميع ، فما خلق الله تعالى الإنس والجن إلا ليعبدوه.ولا تكون العبادة إلا بتقوى الله الذي خلقنا من آدم وحواء ، ونبه إلى أن أصلنا واحد ،ينبغي أن تسوده المحبة والوئام ويتجلى ذلك – أولاً – في صلة الأرحام .
وحدد طريقَ الإيمان الحق الذي جاء به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ،فالدين عند الله الإسلام، ومن سلك غيره بعد أن بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم فقد ضل ، وبهذا نبهنا إلى الطريق الذي يجتمع فيه الأمم جميعاً في توجُّهها إلى الله تعالى : إنه الإسلام ليس غير.
فكان القرآن الكريم ذلك الضياء أنزله الله تعالى إلى البشرية ليهتدوا به في طريقهم إلى رضا الله وعفوه وغفرانه.
وعلى هذا كان واجبُ المسلمين – وما يزال- دعوةَ الأمم كلها إلى عبادة الله وحده والعمل بما أمر ولا ينجح الداعية في مهمته إلا إذا كان فيها القدوةَ الصالحة.

ب- ونادى أهل الكتاب مرتين :

1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47)}
2- { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (171)}

آمن أهل الكتاب بالله تعالى حين أُرسل إليهم الأنبياء الكرام ، فلما طال عليهم العهد انحرفوا وبدّلوا فلما جاء الإسلام يوحد البشرية في عبادة الله وحده دعا أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا الدين الذي ينقذهم من الضلال ويضعهم على الصراط المستقيم ، فما الإسلام إلا امتدادٌ وتأصيلٌ للشرائع التي سبقته وآمن بها اليهود ثم النصارى ، وكان عليهم – وهم أهل التوحيد – أن يسارعوا إلى فلاحهم في الدنيا والآخرة ، فلا يعادوه إنما يكونون جنوداً في نشره ، فإذا تنكّبوا وأبَواعوقبوا أشدّ العقاب جزاءً وفاقاً.
غالى أهل الكتاب في عقائدهم حين جعلوا المسيح عليه السلام – وهو عبد الله ورسوله – ابناً لله فاتخذوه إلهاً ، وجعلوه ثالث ثلاثة ، فضلوا ضلالاً بعيداً وكذلك فعل اليهود إذ اتخذوا عُزيراً ابناً لله تعالى ، ويضل الناس حين يًسقطون على ذات الله صفاتهم البشرية وهو الله الذي لا إله غيره تعالى عن الشبيه والمثيل والشريك.
وفي متابعة خطاب القرآن للناس جميعاً ولأهل الكتاب نجده يؤكد على وحدانية الله وإفراده بالألوهية والعبادة .

ج- ونادى المؤمنين تسع مرات:

1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)}
2- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}
3- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}
4- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)}
5- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا (71)}
6- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}
7- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)}
8- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (136)}
9- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (144)}

في خطاب القرآن للمؤمنين الموحدين نقف على أمور عدة ، منها :
1- الثبات على التوحيد
2- النزاهة في التعامل ، والحفاظ على حقوق الناس
3- طاعة الله ورسوله.
4- الجهاد في سبيل الله ، والحذر في قتال العدو.
5- الإيمان بالرسل كلهم.
6- التنزه عما يعيب المسلم
7- ( اسلوب تربوي مهم) التدرّج في التزام الشرائع
8- ديننا يسر يستوعب أحوال الناس وحاجاتهم.
من ذلك معاملة الزوجة بالحسنى ( استوصوا بالنساء خيراً ) فلها في الحياة حقوقٌ كما أنّ عليها واجبات .فلا يكرمهنّ إلا كريم ولا يظلمهنّ إلا لئيم . ولا يجوز إيذاؤهنّ وأكلُ مهورهنّ أو إيلاؤهنّ والتضييقُ عليهنّ ليتنازلن عن بعض حقوقهنّ.
والمسلم يحفظ حقوق جيرانه وأهله وأقاربه وشركائه فلا يعتدي على حق أحد منهم أكان مالاً أم عقاراً أم أمانة وغير ذلك . ولا يأكل الربا ولا مال اليتيم ولا ينتحر أو يستبيح دماء المسلمين وأهل الذمّة. يحافظ على حرية الآخرين وجمال الحياة في المجتمع.
ولعلنا نجد التدرّج في التزام الشريعة في قصة تحريم الخمر، وهذا دليل على بناء المجتمع المسلم بشكل صحيح يشد عراهّ ويقوي أساسه. وقد يُنكر بعضهم التدرّج في عودة إلى الشريعة هذه الأيام بعد أن استقرت الأحكام ،فالجواب انّ مجتمعنا الذي نعيشه جاهلي بعيد عن الدين فنأخذه إليه خطوة خطوة .منبهين إلى أن المسلم لا يكون مسلماً إلا إذا أسلم امره إلى شرع الله ونبذَ الكفر.
كما أن ذروة سنام الإسلام الجهادُ في سبيل الله والدفاع عنه ونشره بالحسنى في أرض الله والعملُ بنشاط ودأب لتحقيق ذلك ، وليس للمسلم أن يكفِّر المسلمين ويحكم عليهم بالردة لمجرد أنهم خالفوه في بعض المفاهيم المختلف فيها، وحادثة أسامة بن زيد حين قَتَل من نطق بالشهادتين دليل على حرمة دم المسلم.
وتدعو هذه الآيات الكريمة إلى الإيمان الكامل بالله ورسله واليوم الآخر والكتب السماوية كلها والملائكة ولا يتم الإيمان إلا إذا تحققت فيه كل أركان الإيمان ،
ولاء المسلم لله ورسوله وللمؤمنين فإن تغير الولاء إلى غيرهم من أهل الكتاب والمشرين سقط صاحبه في بؤرة الضلال وغضب الله عليه ووكله إلى فساده وضلاله .
هذا بعض ما أوحت به آيات النداء في سورة النساء ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه

....إنه سبحانه ينادينا ..فهل سمعنا النداء؟!

نبيل الجلبي
15/09/2014, 04:41 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الرابع عشر




خوطب أهل الكتاب في هذه السورة – سورة المائدة - خمس مرات أن يؤمنوا بالله الواحد ويصدّقوا النبي محمداً عليه الصلاة والسلام . وأن لا يغالوا في دينهم فيخرجوا إلى الإشراك، وأنهم بدلوا دينهم فغيّروا وغلبهم الهوى ، ولو ظلت كتبهم سليمة غير محرفة لعلموا أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم حقٌّ فاتبعوه، لكنهم فسقوا وضلوا ،وطغوا وبغوا.

1- { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15)}

2- { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)}

3- { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)}

4- { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)}

5- { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77)}

ونودي المؤمنون في سورة المائدة ست عشرة مرة راوحت بين :
ما فرض عليهم في الحج و وجوب الطاعة في ذلك ،
والطهارة للصلاة.
والامتناع عن الصيد في الحج، وعقوبة ذلك.
وأن يشهدوا بالقسط.
وأن يشكروا نعمة الله عليهم.
وأن يجاهدوا في سبيل الله .
وأن لا يأمنوا إلى أعداء الله .
وأن يثبتوا على الإيمان الحق
وأن يبتغوا الوسيلة إلى الله .
وأن يجاهدوا في سبيل الله .
وأن لايُلحوا في الاسئلة ، بل ينتظرون ما يقوله الرسول لهم.
وأن يكونوا دعاة إلى الله .
وأن يشهدوا بالحق فيصل المال لى أصحابه الشرعيين.

1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}

أتى رجلٌ عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إلي. فقال إذا سمعت الله يقول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } فأرِعْها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه . وهذه لفتة رائعة من مُرَبٍّ مشهود له بالفهم والدراية وحسن الصحبة .
وإذا سألنا عن العهود فهي ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حدَّ في القرآن كله ،فلا غدر ولا نُكثَ ثم شدد القرآن في ذلك فقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ...(25)}(الرعد) ويدخل فيها ما أحل الله وحرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم . وعلمنا الالتزام بالنظام من أوامر ونواهٍ ، فإذا سألنا عن السبب في هذه الأوامر والنواهي فالجواب أننا عباد لله نفعل ما نُؤمر وننتهي عما نُهينا عنه. وما يريد الله تعالى بنا إلا الخير سبحانه من لطيف بعباده.

2- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}

فإذا وفّينا بالعقود لزمنا حدود الله فلم نتعدّها وعملنا بما رسمه لنا من شعائرالله ومناسك ، فلا قتال في الأشهر الحرُم { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ...(217)}(البقرة) ، إلا إذا استبيحت بيضة المسلمين فيها. وهذا ما يفعله الكفار في المسلمين إذ لا عهد للمشركين ولا ذمّة
وعلى الحجاج أن لا يتركوا الإهداء إلى البيت الحرام فإن فيه تعظيم شعائر الله ويميزونها عما عداها من الأنعام ليُعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء وتشجعُ على الإهداء إلى البيت بمثلها ،لما حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعا ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين ثم أشعر هديه وقلده وأهلَّ للحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنوف على الستين من أحسن الأشكال فكان هذا تعظيماً لله : { ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)}(الحج).
كان أهل الجاهلية يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون فنهى الله عن قطع شجره. ومن امّ البيت الحرام من المشركين فلا يُستحل قتاله وقد نُسخ هذا الحكم بقوله تعالى تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا .. (28)}(التوبة) وقد أمّرَ رسولُ الله الصديق ثم أمر علياً أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان لقوله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } فنفى المشركين من المسجد الحرام ،فإذا فرغ المسلمون من إحرامهم وأحلّوا منه منه فقد أباح لهم ما حرّم عليهم في الإحرام ،
ولما منع المشركون المسلمين في الحديبية من العمرة أراد المسلمون بعد فتح مكة أن يقتصوا منهم فنهاهم الله تعالى عن ذلك : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه والعدل به قامت السموات والأرض.
ويأمرنا الله تعالى أن نتعاون على فعل الخيرات من البر وترك المنكرات يأمرنا بالتقوى وينهانا عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم.
ومن التناصر قولُه صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما)
قيل يا رسول الله هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟
قال : ( تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره ) .
وما أروع قوله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) . ورأس الأمر في هذا التقوى ، وقد افلح من كان تقياً.

3- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}

يريد الله تعالى بنا اليسر ويحضنا على الطهر، فنشكره، فيتم نعمته علينا. ولا بدّ للصلاة من طهارة ووضوء فإذا عزَ الماءُ فالتيمم يجزئ ولكل مريض يؤذيه الماء أن يتيمم أو يمسح على الجبيرة ،وملامسة النساء غير لمسهنّ فالملامسةُ أكثر عرضة لنقض الوضوء ففيه التفاعل بين الطرفين وللمسافر أن يمسح على الخفين ثلاثة أيام غير المقيم فله المسح خمس صلوات ، وشُرع التيمم ليُزل المولى سبحانه الحرج عن عباده ، فيبقى المسلم على اتصال بخالقه في صلاته المكتوبة وقراءته القرآنَ.

4- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)}

من سمات المسلم أن يحكّم الحق في كل تصرفاته وانفعالاته حتى مع أعدائه أو ظاميه، ويريد المولى لنا أن نكون قوامين بالحق للحقّ لا للسمعة والرياء وأن نشهد بالعدل وننبذ الجور حتى في صغار الأمور وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نحلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه ليشهده على صدقتي فقال : (أكل ولدك نحلت مثله ؟)
قال لا
قال : ( اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ) - وقال - (إني لا أشهد على جور)
قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة ، إن التقوى تتجلى في إحقاق العدل بين الناس جميعاً أحببتَهم أم كرهتَهم ، لذا قال تعالى : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } والتقوى سمة المؤمنين وعنوان الرجال العاملين.

5- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}

عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا ( للقيلولة) وتفرق الناس في العضاه (شجر الصحراء) يستظلون تحتها وعلق النبي سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسله ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعك مني قال : الله عز وجل قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الله قال فشام الأعرابي السيف ،(تركه) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه.
أما بنو النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم لرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحش بن كعب بذلك وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تمالؤوا عليه فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية أنّ من توكل على الله كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدوا إليهم فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم .
فإذا عرفنا نعمة الله وحفظناها ،وتوكلنا على الله كان معنا وكفّ أيدي الناس عنا.وما أحوجنا هذه الأيام إلى ذلك.

6- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)}

يأمرنا الله تعالى في هذه الآية بثلاثة أمور :
أ - تقوى الله سبحانه وتعالى ، والأمر بالتقوى يتكرر دائماً لأنه السبيل السليم الصحيح لرضا الله تعالى
ب - وأمر بعدها بطاعته فهي الوسيلة إلى مرضاته { وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } وهي التقرب إليه { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } وهذا الذي قاله الأئمة والوسيلة ما يُتوصل بها إلى تحصيل المقصود ،والوسيلة أيضا أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداره في الجنة وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش ،وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم القيامة )
ج - وأمر بالجهاد ،قال ابن كثير :لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم والتاركين للدين القويم ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة : من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة الآمنة الحسنة مناظرها الطيبة مساكنها التي من سكنها ينعم لا ييأس ويحيا لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه.

7- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)}

موالاة اليهود والنصارى الذين –و هم أعداء الإسلام وأهله – انحراف خطير،يقع فيه من لم يخالط الإيمان قلبه ،فهؤلاء اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فمن تولهم وأطاعهم فقد دخل في زمرتهم وباء بالخسران ، إنه تهديد ووعيد يقصمان الظهر ويؤديان إلى غضب المولى { وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
وقد أمرعمرُ أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد (كتاب واحد) وكان لأبي موسى كاتب نصراني فرفع إليه ذلك فعجب عمر وقال : إن هذا لحفيظ هل أنت قارئ لنا كتابا في المسجد جاء من الشام فقال : إنه لا يستطيع فقال عمر : أجنب هو قال لا بل نصراني قال : فانتهرني وضرب فخذي ثم قال : أخرجوه ثم قرأ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء } وأبو موسى استعمله ولم يوالِه ، فماذا نقول بمن أحبهم وأطاعهم وأعانهم على المسلمين وكان في صفوفهم يضرب بسيوفهم؟!

8- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)}

إنّ من يودُّ أهل الكتاب على ودّ المسلمين ويخدم مصالحهم ويعمل بامرهم خائن لله ولرسوله وللمؤمنين ، نصرَ غيرَ المسلمين ووالى أعداءهم ، فماذا بقي له من الإسلام ؟ ، لقد جاءت هذه الآية بعد أختها مباشرة لتوضح أن أمثال هؤلاء في خانة المرتدين ،فمن تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خيرٌ لها منه وأشد منعة وأقوم سبيلا يحبهم الله تعالى ويبادلونه سبحانه حباً بحب وينصرونه وينصرون دينهم وإخوانهم ويعملون لخدمتهم بكل إخلاص ويدفعون عنهم أذى أعدائهم ويجاهدون في سبيل الله
هذه صفات الكمال في المؤمنين، أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليه متعززا على خصمه وعدوه ،وصدق فيهم قولُه تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ..(29)}(الفتح) وفي صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه الضحوك القتال فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه وقوله عز وجل : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ } .
قال ابن كثير رحمه الله: لا يردهم - عما هم فيه من طاعة الله وإقامة الحدود وقتال أعدائه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - راد ولا يصدهم عنه صاد ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل. عن الحسن عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : ( ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم ) تفرد به" أحمد وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنا سفيان عن زبيد عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ( لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقالٌ فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول مخافة الناس فيقول إياي أحق أن تخاف ) ورواه ابن ماجه
إن الثبات على الحق والعمل به والدفاع عنه ورفع رايته سمات المؤمن الذي هداه الله إليه ورزقه الخير ، نسأل الله أن يزينّا بالحق ويجعلنا من أهله.

9- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57)}

وكيف يوالي المسلم – لوكان مسلماً حقاً – من يهزأ بدينه ويسخر منه ويظهر عداوته للإسلام وأهله جهاراً نهاراً إلا إذا كان مسخاً ليس في قلبه ذرة من إيمان ، ألم يصفهم المولى سبحانه بالغدر وسوء الطوية ( لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة ،وأولئك هم المعتدون) إن التقيّ من يوالي الله ورسوله والمؤمنين ، فهل نعي هذا؟ وقد فعل اليهود ما نُهينا عنه ونُهوا عنه فعجّل الله تعالى لهم العقوبة في الدنيا فجعلهم قردة وخنازير فكانوا عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قال تعالى :
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60)}

10- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}

عن عائشة رضي الله عنها أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في الدنيا فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ) فنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ }.
إن الله تعالى أعلم بنا منا فهو خالقنا وفرض علينا ما ينفعنا ونهانا عمّا يضرنا، والعمل بشرعه إرضاء له سبحانه والبعد عن ذلك اعتداء على أمره وعصيان له فمن بالغ في التضييق على نفسه بتحريم المباحات فحرم الحلال فقد اعتدى على حق الله تعالى
بل نأخذ من الحلال ما يكفينا، ولا نتجاوز فيه الحد ،إن الله تعالى يقول: {... وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}(الأعراف) ومدح المقسطين فقال: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)}(الفرقان) فلا إفراط ولا تفريط بل يسر وتسهيل ما لم نتجاوز ذلك.

11- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91)}

وللحفاظ على الإنسان ، عقله وصحته وماله ودينه وضح الله تعالى ضرر الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وقال : إنه من عمل عدوّنا وعدوّ الإنسانية ( الشيطان ) الذي نذر نفسه أن يضل الناس جميعاً فيدخلوا معه جهنّم والعياذ بالله . فالخمر يُذهب العقل – والعقل زينة ابن آدم- ومن ضيّع عقله استوى والحيوان ، فآذى نفسه وغيره ، والميسر يبذر العداوة ويزرع الكره والبغضاء في المجتمعات ، فيأكل الناسُ بعضُهم أموال بعض ، وتأخذهم حُميّا الميسر للاستمرار في تضييع الوقت – وهو العمر الذي ينبغي الحفاظ عليه واستغلاله بما يفيد ، فتضيع الصلاة ويضيع العمل المفيد . والأنصاب تبعد البشر عن خالقهم وتدعوهم إلى عبادة غيره ، والأزلام تعوّدهم على حياة الوهم والتواكل .
وكان تحريم الخمر والميسر على سبيل التدرّج بعد أن كان المجتمع غارقاً فيهما لا يكاد يتركهما .وهذا اسلوب تربوي رائع يستل من نفوس القوم ما اعتادوا عليه ، إنه الانتقال خطوة خطوة إلى سبيل الهداية والنور ، فلما جاء السؤال المشوب بالنهي قالوا : انتهينا ، انتهينا .

12- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)}

لا بدّ من الابتلاء والاختبار ، هكذا الحياة ، وهكذا يعيش المرء إلى أن يلقى ربّه، وكان الصيد دَيدَن العرب وسمة حياتهم، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم , كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت , ابتلاهم ببعض الصيد وهو الصيد البريُّ فقط فمن التزم أثبت تقواه حين خاف ربه فأطاعه ، ومع الطاعة يربح المرء رضا الكريم ، ومع العصيان العقوبة .لا بدّ من الثواب والعقاب.

13- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}

عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ) وما عدا ذلك فلا يجوز مما يُؤكل ويدخل في الكلب العقور الحيوانات المفترسة ، ويدخل مع العقرب الحيّةُ يقتلها المحرم في الحرم. فإن فعل قدّم هدياً مثليّاً في الحرم أو وزّع ثمنه بين فقرائه، يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من المسلمين ، فإن لم يجد صام وللعلماء آراء في الصيام حسب حجم الحيوان المرميّ { عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف } في ايام الجاهلية ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه وعليه مع ذلك الكفارة ، ونلاحظ التشديد في العقوبة فالله عزيز ذو انتقام يفعل ما يشاء .

14- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)}

من الأدب الذي أدب الله تعالى به عباده المؤمنين أن لا يسألوا عن أشياء لم تُذكر لهم ولم تُفرض عليهم ، فقد تسوءهم إن ظهرتْ ويشق عليهم سماعها ،فعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال : (لا تسألوني اليوم عن شيء إلا بينته لكم )
فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعى إلى غير أبيه فقال يا نبي الله من أبي ؟
قال : ( أبوك حذافة )
قال ثم قام عمر أو قال فأنشأ عمر فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله أو قال أعوذ بالله من شر الفتن قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط ) أخرجاه من طريق سعيد ورواه معمر عن الزهري عن أنس بنحو ذلك أو قريبا منه .
قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة ما رأيت ولدا أعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رءوس الناس فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته .
ولما نزلت هذه الآية : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ...(97)}(آل عمران) قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي كل عام ؟ فسكت قال : ثم قالوا أفي كل عام ؟
فقال : (لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم ) فأنزل الله هذه الآية تنبه المسلمين إلى عدم اللجاجة في السؤال

15- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}

واجب المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير ما وسعهم ، فمن أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس. كل امرئ بما كسب رهين، إن خيرا فخير وإن شرا فشر وعلى المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكنا .
قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودعِ العوام فإن من ورائكم أياما ،الصابرُ فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم )
وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فلا يضرك من ضل إذا اهتديت . رواه ابن جرير .
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لازم إلى يوم القيامة.

16- { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ (106)}

قد يدرك الموتُ الرجل في طريق سفره أو تجارته ، فيعطي المال لرجلين يظنهما قادرين على إيصال المال إلى ورثته فإذا ارتاب أهل الميت بكلامهما ساءلوهما بعد صلاة العصرعند اجتماع المصلين، فيحلفان بالله أنهما ما خانا ولاغلاّ فيحلفان حينئذ باللهأنهما لا يبيعان الآخرة الباقية بالدنيا الزائلة وأنهما لا يكتمان شهادة الله، فإن فعلا فإنهما آثمان، ولن يكونا كذلك.
فلا بدّ من التمحيص واستجلاء الأمور ، كما أن المسلم يحسب للآخرة حسابها ويحرص على رضا الله وعفوه وغفرانه حيث لا ينفع - هناك - مال ولا بنون.

إنه سبحانه وتعالى ينادينا ، ويحثنا على طاعته فهل سمعنا النداء؟!

نبيل الجلبي
20/09/2014, 11:24 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس عشر



في سورة الأعراف ينادي الله سبحانه بني آدم مبيناً فضله عليهم، داعياً إياهم إلى التقوى ، ويحذرهم من الشيطان وأحابيله ،ويأمرهم بالتزام آداب زيارته في بيوته، وأنه سبحانه لم يكن ليتركهم يعيشون الحياة الدنيا دون توجيه وتربية وتعليم فأرسل إليهم أنبياءه الكرام.
ثم ينبه الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وطاعة نبيه ليكونوا من المهتدين .
ليس في هذه السورة نداء خاص للمؤمنين إنما هو نداء للناس جميعاً دون استثناء أن يكونوا عباده الصالحين ، فهو سبحانه يريد الخير لهم في الدنيا والآخرة وسيجزيهم – إن لبّوا وأطاعوا خير الدنيا والآخرة.

وفي هذه السورة الكريمة أربعة نداءات لبني آدم ونداء واحد للناس كلهم :
يا بني آدم :

1- { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}
إن الله تعالى يمُنُّ على عباده بما جعل لهم من لباس يسترعوراتهم من ضرورات الحياة وزينتها.
لبس أبو أمامة ثوبا جديدا فلما بلغ ترقوته قال الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ، ثم قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من استجَدَّ ثوبا فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حيا وميتا ) . إلاّ أن لباس التقوى والإيمان أعظم ما يتزين المرء به وبه يتجمّل ويُعرف.
وما أروع ما رواه عثمانُ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في لباس التقوى : ( والذي نفس محمد بيده ما أسرَّ أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر ) فمهما أراد الإنسان أن يتزيا بما ليس فيه فضحه الله وعرّاه. ثم قرأ هذه الآية { وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ }
فقد جمّلنا المولى بالثياب المادية على اجسادنا وجمّلنا بالأخلاق والأعمال الحسنة التي تكتب في صحائفنا وتتجلّى في حركاتنا وسكناتنا إن كنّا صالحين عاملين بما نقول .

2- { يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27)} .
قال ابن كثير رحمه الله : يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه وما هذا إلا عن عداوة أكيدة وهذا كقوله تعالى { ...#أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)}(الكهف) "كما أن الشيطان نفسه قال موضحاً ما في نفسه من عداوة لبني البشر : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}(الحجر) وإذا كان الشيطان عدوَّنا الأول مصرحاً وملمحاً أفلالا ينبغي الحذر منه والناي عنه؟.ولئن استطاع أبليس أن ينزع عن أبوينا لباسهما فتظهر سوءاتهما إنه في الارض ينزع الإيمان والشرف زالمروءة والطهر والعفاف من قلوب البشر وعقولهم وصدورهم.ومما يساعده على تنفيذ مهمّته العدائية أنه يرانا ولا نراه فهو يوسوس لنا إذ يجري في ابن آدم مجرى العروق من الدم. ويلتقم قلوب اتباعه ويخدّر عقولهم ويجثم على صدورهم أعاذنا الله من إبليس وذريته وأتباعه.

3- { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}.
هي دعوة لعمارة المساجد أولاً والحفاظ على نظافتها الظاهرة ثانياً مع التنبّه إلى نظافة القلوب والافئدة مما يسيء إلى الأهل الإيمان ، فلا غلّ ولا كراهية ولا حقد ولا حسد. يدخلها المسلم بثياب نظيفة متعطّراً لا يشم أخوه منه غير الرائحة الطيبة ، والثياب زينة وستر، والتجمل في الصلاة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه من تمام ذلك ومن أفضل اللباس البياض
كان المشركون يطوفون بالبيت عراة :الرجال نهاراً والنساء ليلاً وكانت المرأة تقول :

اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم ،وكفنوا فيها موتاكم ،وإن خير أكحالكم الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر )
قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ#} وقال البخاري قال ابن عباس : كل ما شئت والبس شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده )
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت ) . ولعلنا نقع في هذا كثيراً غذ نهتم بالمأكل والمشرب اكثر مما ينبغي.

4- { يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}.
لا يُترك البشر يعيشون على غير هدى ، يقودهم الشيطان وتدفعهم الشهوات إلى المهالك، فبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، ورغَّب وحذَّر، وعلّم وبيّن كيلا يكون لهم حجة يوم القيامة .
والناجح في سعيه من كان تقياً (عَلِم وعمل) وأصلح ما كان أخطأ فيه فإن فعل ذلك نجى من العقوبة وفاز بالثواب فكان من أهل الجنة يعيشون أبد الدهر في أمن وأمان وسعادة ورخاء.

دعوة النبي صلى الله عليه وسلم:
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)} .

1- لا بد من التصريح بدعوة الله ، وهذا ما فعله الحبيب المصطفى إذ أمره المولى سبحانه أن يدعو إلى عبادة الله وحده وطاعته.

2- وهو – صلى الله عليه وسلم- رسول الله إلى البشر كافّة، وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين.

3- يستحق الله تعالى العبادة لان الأمر كله بيده ، فهو الخالق المحيي ، وهو القابض المميت ، بيده الحياة والرزق ، والنفع والضرّ

4- والرسول أو الداعية قدوة يؤمن بما يدعو إليه وكلما كان الداعية مخلصاً لله كان قريباً إليه أثيراً لديه.

5- إن اتباع القدوة الصالحة طريق معبّدة إلى الله تأخذ بيده على هدى مستقيم إلى الغاية والهدف .
وعلى هذا نسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ) .

6- ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامّة عرّف بالله تعالى فقال: ( إن الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة وله الحكم ) فإذا عرف الإنسان الغاية وفهمهما ، وتعرّف إلى ربه سبحانه أحبّه وأطاعه ..اللهم اتجعلنا من عبادك هؤلاء.

إنه سبحانه ينادينا ، ويأخذ بايدينا إلى مرضاته لنكون من السعداء الناجين ...

فهل سمعنا النداء؟.

نبيل الجلبي
22/09/2014, 12:39 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السادس عشر



نجد القرآن الكريم – في سورة التوبة – ينادي المؤمنين سبع مرات، فيها :
1- البراءة من موالاة الكفار.
2- ومنعهم عن المسجد الحرام بعد فتح مكة .
3- فضح للذين يأكلون الدنيا بالدين والتحذير منهم.
4- والحض على الجهاد في سبيل الله ، ووجوب قتال الكفار.
5- التعامل مع المشركين بالقوة الرادعة.
6- التقرب إلى الصادقين والتحبب إليهم.
فقال سبحانه:
1 - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}

أهناك أقرب من الأب والولد والأخ ؟ وهل تكون ولايةٌ ومناصرة إلا بين الأقارب أولاً ؟ إن الولاء يكون – عادة - بين المتحابين المتقاربين ولاتكون الولاية بين المؤمنين والكافرين .
كان العرب قبل الإسلام يتناصرون على الحق والباطل يلتزمون القريب ضد عدوّه أكان محقاً أم غير ذلك ،ولعلنا نتذكر المقولة المشهورة بينهم " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، فلم يكن اعتبار الحق والعدل قائماً ، إنما هي المصلحة القبلية في التناصر ، حتى قيل : "أنا وأخي على ابن عمي ، وأنا وابن عمي على الغريب" فجاء الإسلام يهذب هذا المثل ويشذب هذه القاعدة فغير مفهومها إلى نصرة الحق وأهله بغض النظر عن القرابة الظالمة التي لا تعرف – في كثير من الأحيان- للحق حرمة.
نفى الإسلامُ الموالاة الخاطئة ، بينهم كما نفاها بين المسلمين والمشركين عامّة والمشركين من أهل الكتاب بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء ...}(51)}(المائدة) ليبين أن القربَ قربُ الأديان لا قرب الأبدان . ويعجبني قول الشاعر:

يقولون لي دار الأحبة قد دنت * وأنت كئيب ،إنَّ ذا لعجيب
فقـلت وما تغـني ديـارٌ قريبـة * إذا لم يكن بين القلوب قريب
فكم من بعيد الدار نال مراده * وآخرَ جار الجنب فيه كئيب
قالت أسماء بنت ابي بكر الصديق: يا رسول الله , إن أمي قدمت عليَّ راغبة وهي مشركة أفأصلها ؟ قال : ( صلي أمك ) . إنها صلةٌ لا موالاة ، والفرق بينهما كبير.
إن من والى الكافر وناصره على المؤمن ظلمَ نفسه فبرئت منه ذمّة الله تعالى وخرج عن الإيمان.ولا يعي هذا إلا المؤمنُ الفطنُ الذي رُبّيَ على حب الإيمان وأهله.

2 - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}

لا يقربُ المسجدَ الحرامَ إلا المؤمنُ ، إنَّ الطاهر لا يقربه إلا الطاهر أما المشرك فنجس القلب والعقل ، والمسجد لله سبحانه الذي لا يقبل شريكاً . نزلت هذه الآية في سنة تسع للهجرة ،ولهذا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى أبي بكر رضي الله عنهما عامئذ وكان أبو بكر أميرَ الحجّ إذ ذاك وأمره أن ينادي في الناس : أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فأتم الله بذلك أمر الدينَ وحكم به شرعا وقدرا .
قال بعض الناس ممن تقومُ تجارتهم على أمثال هؤلاء : (لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن التجارة وليذهبن عنا ما كنا نُصيب فيها من المرافق) فأنزل الله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء ..." فعوّضهم الله تعالى ما تخوّفوه من قطع تلك الأسواق وفتح عليهم أبواب الرزق تفتح لهم خيراً وبركة ، إن الرزق من عند الله ، الم يقل الله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)}(الذاريات).

3 - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ،وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}

كان شداد بن أوس رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات :اللهم إنى أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ،وأسألك حسن عبادتك ،وأسألك قلبا سليما ،وأسألك لسانا صادقا ،وأسألك من خير ما تعلم ،وأعوذ بك من شر ما تعلم ،وأستغفرك لما تعلم ،إنك أنت علام الغيوب ) .
ويحذر الله تعالى من علماء السوء من اليهود والنصارى الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ، يفسُد بفسادهم الكثيرُ من العوام وضعاف الإيمان .
قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شَبهٌ من اليهود، ومن فسد من عُبّادنا كان فيه شبهٌ من النصارى وفي الحديث الصحيح : ( لتركبن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة )
قالوا اليهود والنصارى ؟
قال : ( فمن ؟) .
إنهم يأكلون الدين بالدنيا من رياسة ظالمة تفرض على الناس المكوس والضرائب والهدايا وما شابه ذلك.
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى :وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ويلبِّسون الحق بالباطل ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعونهم إلى الخير وليسوا كما يزعمون بل هم دعاة إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ، فإذا فسدت العلماء فكنزوا المال ولم ينفقوه في وجوهه الصحيحة فسدت أحوال الناس، ((وهل أفسد الدين إلا الملوكُ وأحبار سوء ورهبانها)) كما قال ابن المبارك رحمه الله. ولا يكون المال مكنوزاً – على كثرته إذا أُدّيت زكاتُه وتُصًدِّق منه
حين قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( تبا للذهب تبا للفضة ) يقولها ثلاثا شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا فأي مال نتخذ ؟
فقال عمر رضي الله عنه أنا أعلم لكم ذلك ، فقال : يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم ،وقالوا فأي المال نتخذ ؟
قال : ( لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه ) .
ولا يملأ عينَ ابن آدم إلا التراب، ياتيه المال كثيراً فيجمعه ويكدسه وينسى حق الله وحق العباد فيه ، إنّ الذين يكنزون المال من حل ومن حرام ويتمتعون بجمعه ولا ينفقونه في سبيل الله تعالى وعلى مستحقيه يجدون عقوبة ذلك في الآخرة ، إذ يُحمى هذا الكنز الذي جمعه فتكوى به أجسادهم - جباههم وجنوبهم وظهورهم - وهذه عقوبة بدنية ، يصاحبها العقوبة النفسيّة من لوم وتقريع ( هذا ما كنزتم لأنفسكم ، فذوقوا ما كنتم تكنزون ) ، فهل من عاقل يعلم ما ينفعه في دنياه وآخرته، فيغلق باب الشر ويفتح أبواب الخير؟

4 - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)}

إنه عتابٌ من الله تعالى لمن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارّة القيظ إذ دعاهم رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد في سبيل الله " فتثاقل بعضهم وتكاسل ومال إلى حياة الدعة والاسترخاء،وإلى حياة الخفض وطيب الثمار ، فكأنهم زهدوا في الآخرة وفضَّلوا الدنيا عليها.
ثم رغبنا المولى في الآخرة فقال رسوله صلى الله عليه وسلم: ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بما ترجع ؟) وأشار بالسبابة .أخرجه مسلم .
قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الوهبي حدثنا زياد يعني الجصاص عن أبي عثمان قال : قلت يا أبا هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة ) قال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة ) ثم تلا هذه الآية : { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } فالدنيا ما مضى منها وما بقي منها ، هي عند الله قليل .
وقال الثوري عن الأعمش في الآية: { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال كزاد الراكب ،
وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كبير ما أخلِّف من الدنيا إلا هذا ؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار إنَّ كثيرك لقليل وإنَّ قليلك لقصير وإن كنا منك لفي غرور .

5 - { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}

وحين يخاطب المولى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فالخطاب موجّه إلى أتباعه من المؤمنين ، إن الله يأمر نبيه الكريم أن يجاهد الكفار والمنافقين وأن يغلظ عليهم وأمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة
إنّ الله تعالى أمر بجهاد الكفار بالسيف وأغلظ على المنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم ، فإذا كانت النار – في الآخرة – مأواهم فلعل التشديد عليهم في الدنيا يدفعهم إلى الحق ويأطرهم عليه. ولعل بعضهم يؤوب إلى اللحق ويلتزمه.

6 - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}

إنّ الصادقين مع الله صادقون من خلقه ، فمن كان معهم ولزم غرزهم كان منهم ونجا بنجاتهم وفرّج الله عنهم ،وأوصلهم إلى بر الأمان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) أخرجاه في الصحيحين
ذكر ابن كثير رضي الله عنه أنّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل اقرءوا إن شئتم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } ثم قال : فهل تجدون لأحد فيه رخصة ؟
وعن عبد الله بن عمر في قوله : { اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } قال مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ،
وقال الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة .
فإذا كنا مع الصادقين كانت حبالنا موصولة بالله تعالى ، والله تعالى يحب الصدق والصادقين ويكره الكذب والكاذبين . ومن كان مع الصادقين كان على نور من ربه وهدى ، ومن كان مع الكاذبين فكأنه يحتطب بليل يجره إلى حفرة فيها هلاكُه.

7 - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}

قال ابن كثير رحمه الله : بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب الأقربَ فالأبعد ثم فتح مكة والمدينة والطائف وجنوب الجزيرة وشرقها وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا
ثمّ شرع في قتال أهل الكتاب فكان الرومُ أقرب الناس إلى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام ، أنهم أهل الكتاب، فقاتلهم في مؤتة ثم قاتلهم في تبوك .
ثم قام خليفتُه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فثبّت الله به الإسلام في جزيرة العرب ، فوطد القواعد وثبت الدعائم وردَّ شارد الدين وهو راغم ورد أهل الردة إلى الإسلام وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغاة ، وبيَّنَ الحق لمن جهله . وأدى عن الرسول ما حمله ، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم النصارى وإلى الفرس المجوس ففتح الله عليه وكان النصر مبيناً .

وتمَّ الأمر على يدي الفاروق شهيد المحراب أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين ، وقمع الطغاة والمنافقين ،واستولى على الممالك شرقا وغربا . وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا . ففرقها على الوجه الشرعي والسبيل المرضي, فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ،وعلت كلمة الله وظهر دينه ،وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها ،وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ، ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار.
إن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقا بأخيه المؤمن غليظا على عدوه الكافر كقوله تعالى " وقد وصف المولى سبحانه رسوله الكريم وصحبه في سورة الفتح فقال: { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ ...(29)} .
وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أنا الضحوك القتـّال )" يعني أنه ضحوك في وجه وليّه قتـّال لِهامَة عدوه " وما يفعل ذلك إلا التقيُّ الذي يجعل العمل بشرع ربه ديدنه وهدفَه .

اللهم نبرأ إليك من ضعفنا وقلة حيلتنا ، ونسألك أن تردنا إلى ديننا ردّاً جميلاً ، وأن تصلحنا وتنصر الإسلام على أيدينا ، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

إنه سبحانه ينادينا – معشر المؤمنين- فهل سمعنا النداء؟!

نبيل الجلبي
28/09/2014, 07:52 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السابع عشر



نداء واحد للمؤمنين في سورة الحج :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) }

يأمرنا الله تعالى فيه- إن كنا متصفين بالإيمان- أن نصلي ساجدين راكعين ،لله عابدين ، للخير فاعلين . مجاهدين في سبيله ، فمن آمن بالله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وجاهد حقَّ الجهاد ، واعتمد على الله في سعيه واعتصم به كان من أهل الفلاح .
ولكن ما صفات المؤمنين المفلحين ؟
إنها كثيرة في القرآن الكريم بيدَ أننا سنقف على صفاتهم في سورة ( المؤمنون) لقرب هذه الصفات من الآية ، بل إننا ننتقل إلى سورة ( المؤمنون ) مباشرة فصفات المؤمنين هنا تتمة لما سبق ، وهذا دليل على (وحدة الموضوع القرآني).

عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة أم المؤمنين كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فقرأت " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حتى انتهت إلى - وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ " قالت هكذا كان خلُقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ وحشيشها الزعفران ثم قال لها انطقي قالت " قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ " فقال الله وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "
وقوله تعالى :{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } يعني أنهم فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف .

أول هذه الصفات :
الخشوع في الصلاة : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } والقلب مركز الخشوع لله والخوف منه سبحانه ومن خشع ، فكّر وتدبّر وفهم، ثم عمل . والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " حبب إلي الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة " . وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: " يا بلال أرحنا بالصلاة "

ثاني هذه الصفات :
الإعراض عن الباطل من شرك ومعاصٍ من أفعال وأقوال { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } ومن اللغو ما لا فائدة فيه من أقوال وأفعال ألم يقل الله تعالى : { وَإذَا مَرُّواْ بِاْلَّلغْوِ مَرُّواْ كِرَامَا (72)}(الفرقان). وما يتصف بهذه الصفات إلا ذوو الأفئدة الحية والقلوب الزكية.

وثالث هذه الصفات:
زكاة المال وزكاة النفس :{ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } ومن أدّى الزكاة عن إيمان ويقين شرح الله صدره وقبل عمله وهداه غلى كل خير :
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)}(الشمس)} ، ولعلنا نجد الوعيد والتهديد لمن تقاعس عن الزكاة فكان شحيحاً في قوله تعالى: {...وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ...(7)}(فصلت) ": ولن يكون الخاشع في صلاته بخيلاً .

ورابع هذه الصفات:
العفة والطهارة والحفاظ على أعراض المسلمين وغيرهم : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}
والمسلم غيور على شرف المجتمع المسلم ينأى بنفسه عما يسيء إليه من زنا أو لواط غير أن التسرّي بالإماء والجواري في هذا الزمن قد انتهى ولم يعد له وجود ".وإننا لنرى الشاب في هذا الزمن الرديء يرى اللحوم البشرية تُعرض كأرخص سلعة فيأباها ولسان حاله يقول : إني أخاف الله رب العالمين ، ولعله من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظلَّ إلا ظله.

وخامس هذه الصفات :
أداءُالأمانة وحفظ العهد نراها في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)} والمسلم إذا عاهد وفّى وإذا قال صدق ولا يخون أبداً وينأى بنفسه أن يكون منافقاً ، قال صلى الله عليه وسلم:
" آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان "

وسادس هذه الصفات:
المواظبة على الصلاة في وقتها لقوله سبحانه { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)}
سأل ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله ؟
قال " الصلاة على وقتها "
قلت ثم أي ؟
قال " بر الوالدين "
قلت ثم أي ؟
قال " الجهاد في سبيل الله " أخرجاه في الصحيحين .ويتجلى ذلك في حسن أدائها من قيام وركوع وسجود واطمئنان في كل أركانها،

وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال رسول الله " استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " .

فمن اتصف بهذه الشمائل الحميدة والأفعال الرشيدة نال الفردوس الأعلى ، قال تعالى :{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" ما منكم من أحد إلا وله منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله " فما المنزل الذي يسعى له المؤمن يا تُرى؟.

يقول ابن كثير رحمه الله : فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا أيضا وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يجيء ناس يوم القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى " وفي لفظ قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقال هذا فكاكك من النار " فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال فحلف له قلت وهذه الآية كقوله تعالى : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا (63)}(مريم)" وكقوله سبحانه : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72)}(الزخرف).

ولمّا وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} .

مهما عاش المرء في دنياه فإن نسبة حياة الدنيا إلى الآخرة الخالدة كنقطة في مستقيم لا نهاية له، فمن باع آخرته بدنياه معتوه لايدري من أمره شيئاً ولو حاز علوم الدنيا كلها.ومن باع دنياه بآخرته فاز بالنعيم المقيم ،
نسأل الله تعالى حسن الختام

إنه سبحانه ينادينا ، فهل سمعنا النداء ووعيناه؟!

نبيل الجلبي
30/09/2014, 09:22 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثامن عشر

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ



يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

سُمّيَت سورة النور لما فيها من أحكام اجتماعية دينية راقية ،من التزمها كانت حياته نوراً وعلى هذا نجد في السورة آيتين تقول إحداهما :
{ وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (34)}وتقول الثانية :
{لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)}
فآيات الله نزلت تبيّن للناس ما ينبغي أن يفعلوه في حياتهم ليسعدوا ويحيَوا بأمان.
ولو نظرنا في القرآن الكريم وهو يحذر من الشيطان لوجدنا التحذير من ( خطواته) . لا من الشيطان مباشرة فالشيطان خبيث في طرائق إغوائه البشرَ ، يعرف ضالته منهم ، فيدخل لكل واحد من الباب الواهي الذي تقوى فيه أهواؤه ورغباته ، فيدغدغ مشاعره ، ويمنّيه ، ويلبّس عليه الأمور ، فإذا رآه صد عليه باباً لم يمل منه ولم ينصرف عنه ، إنما بحث عن باب آخر ينفذ منه إليه ، ولا ينفك عنه مادام حياً . ألم يخبرنا الله تعالى عن دأب الشيطان في بذل كل الطرق لإغواء الإنسان ، فقال في سورة الأعراف : { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} فعن سبرة بن أبي الفاكه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك ؟ قال فعصاه وأسلم ، " قال " قعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر وتدع أرضك وسماءك ؟ وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال : تقاتل فتقتل فتُنكحُ المرأة ويُقسم المالُ ؟، قال فعصاه وجاهد ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصَتْه دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة ). من كتاب عمدة التفسير ( غريب ) .

فالشيطان لا يألو يكيد للإنسان فهم عدوه الأول وبسببه خرج من الجنة ، ويسعى بكل ما يستطيع هو وأتباعه أن يأخذ الإنسان معه إلى النار : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)}(ص) .

وحذّر القرآن من خطوات الشيطان أربع مرات
1- في سورة البقرة : {*يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)} .
* تنبه للأكل الحلال والبعد عن الحرام .
2- في سورة البقرة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)} .
تحث على الدخول في الإسلام ونبذ وسوسات الشيطان .
3- في سورة الأنعام : { وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا ۚ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)} .
توضح أن الله خلق الأنعام لنأكل من لحومها ونشرب من ألبانها ، فهي رزق سخره الله تعالى للناس .
4- وفي الآية التي بين أيدينا في عنوان المقال.

والملاحظ :
1- أنّ الآيات الثلاث الأولى انتهت بتنبيه مهم جداً ومباشر هو ملاك الفكرة في الآيات : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } فعداوته واضحة بيّنة لكل ذي عينين .
2- أما الآية الرابعة في سورة النور فنبهت بطريق غير مباشر لعداوة الشيطان لنا ، وكأنه لوضوح التحذير مباشر ، { فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ } أفلا يكون عدواً مبيناً ؟ .
الشيطان - لعنه الله - مُربٍّ ، نعمْ هو مُرَبٍّ ، ولكنه شرّير يُربّي أتباعه على الكفر والفساد ، ويشدهم بالتدرّج إلى المهالك لينكسوا على رؤوسهم في جهنم معه ، ثم يتبرّأ منهم كعادة الخبيثين في كل زمان ومكان . يدّعي الإصلاح ليوقع أصحاب الأهواء في حبائله . يتابعهم خطوة خطوة ويمنّيهم مّرة وراء مّرة ، ويقسم لهم أغلظ الأيمان ليضلهم عن سبيل الله
وإليك هذا المثال في الإغواء بـ ( خطواته المتدرجة ) :
فالشيطان لا يأمرك بالزنا مباشرة لأنك ستعرف مقصده وتتعوّذ منه فوراً . وهو يريد ابتداء أن يكسب ثقتك ،
ـ انظر إلى هذه الفتاة الجميلة .
ـ أعوذ بالله ، إنه الفساد بعينه .
ـ ولم يا صاحبي ؟
ـ إن النظرة سهم قاتل من سهامك يا إبليس .
ـ هل تراني أسدد السهام إلى قلبك؟!
ـ إن النظرة بريد الزنا ، يشغل القلب ، ويبعده عن الله .
ـ أنا لا أريد أن تصل إلى هذا صدّقني .
ـ كيف أصدّقك وأنت تأمرني أن أنظر إليها ، والعين تزني ، وزناها النظر .
ـ إن الله جميل يحب الجمال ، وأنت رجل مؤمن يزيدك النظر إلى صنع الخالق الجميل إيماناً ، ويزيدك تقوى فانظر إليها يا رجل واذكر الله تعالى ... ينظر إبليس إليها ، ويذكر الله مظهراً الخشوع .
ـ ينظر الفتى إليها فيشدَهُهُ جمالها ، ويذكر الله بقلبه ، ثم بلسانه فقط لأن إبليس يتمثل بها ، ويبدأ بإغوائه ابتسم لها يا رجل .
ـ أعوذ بالله منك ، كيف ابتسم لها ؟
ـ كيف تبتسم لها؟ ! أتجهل طريقة الابتسام؟!
ـ لست أقصد هذا ولكن الابتسامة دعوة لها أن تجاملني . وبدء بحديث .
ـ أنسيت أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة؟
ـ هي ليست رجلاً ، إنها امرأة ، وقد أتقدم بالابتسامة خطوة أخرى .
ـ إنها أختك في الله . بل إن تبسمك في وجهها جزء من الدعوة إلى الله تعالى .
ويبتسم لها . فتبادله الابتسام ويحييه إبليس المتمثل بها بابتسامة عريضة تأسره وتستجِرّ قلبه وعقله .
ـ أرأيت الحب الأخويّ الطاهر أيها المتزمّت؟
ـ نعم إنه لطاهر حقاً – يقولها مشدوداً إليها راغباً بها ، منعطفاً إليها .
ـ ألا تسلم عليها أيها الأبله ؟! إنني أدعوك إلى شعيرة إسلامية ضاعت منك .
ـ يا أيها الشيطان تكاد توقعني في حبائلك .
ـ أنسيت يا رجل قوله تعالى { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } وهي منكم معشر المسلمين ، ومن أنفسكم .
يسلم عليها و.. و.. و..

قال شوقي :

نظرة فابتسامة فسلام * فكلام فموعد فلقاء

هذه واحدة من خطوات الشيطان ، والقياس واضح بيّن أخي الحبيب .
ولقد رأينا فضل الله تعالى علينا في هذه الآية ، فهو – سبحانه- الذي أرسل رسوله يدلنا على طريق النجاة ويأخذ بأيدينا إلى رضاه سبحانه، ولولا فضله لما نجا أحد من شباك الشيطان ودهائه ومكره وفساده. فإذا دعوناه فهو قريب منا يسمع دعاءنا ويجيبه،

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
من الآداب شرعية التي أدب الله بها عباده المؤمنين (الاستئذانُ)

1- فلا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده ،يستأذن ثلاث مرات فإن أذن له وإلا انصرف كما ثبت في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن ؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب فلما جاء بعد ذلك قال : ما أرجعك ؟ قال : إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف " فقال عمر : لتأتيني على هذا بينة وإلا أوجعتك ضربا فذهب إلى ملإ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر فقالوا : لا يشهد لك إلا أصغرنا فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك فقال : ألهاني عنه الصفق بالأسواق .

واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة فقال " السلام عليك ورحمة الله فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه سعد فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمتَ تسليمة إلا وهي بأذني ، ولقد رددت عليك ولم أسمِعك وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل نبي الله فلما فرغ قال " أكل طعامَكم الأبرارُ وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون "

2- وينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول " السلام عليكم السلام عليكم " وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور ; انفرد به أبو داود .
وقال صلى الله عليه وسلم:" لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح "

3- أن يذكر المرء اسمه حين يُسأل عن القادم، قال جابر:أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال " من ذا ؟" فقلت أنا قال " أنا أنا ؟ " كأنه كرهه وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها فيُعرف.

4- والاستئناس المأمور به في الآية أعظم من الاستئذان ، فقد يطرق أحدُنا الباب فيخجل منه صاحبه ويُدخله وقد يكون تعباً أو يريد أن لا يدخل عليه أحد أو مشغولاً أو متأزماً فيسمح بالدخول وأماراته تدلُّ على غير ذلك ، أما الاستئناس فيظهر في حسن القبول والابتسام ، وما يدلُّ على الرغبة في الاستقبال .وبهذا نجد بلاغة القرآن قدّمت الاستئناس لدقته في جلاء المعنى وأهمّيته.

5- ولا بدّ من السلام قبل الاستئذان فعن ربعي قال أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه " اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له : قل السلام عليكم أأدخل ؟ فسمعه الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل ؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

في الآية السابقة وقفنا على استئذان الأجانب ، وفي هذه الآيات الكريمة يتوضّح استئذان الأقارب بعضهم على بعض، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال :
" الأول " من قبل صلاة الفجر لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم
" والثاني" وقت القيلولة لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله
" والثالث" بعد صلاة العِشاء وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال أن يستأذنوا فهي عورات ثلاث ، ولا حرج في غير هذه الأوقات الثلاث أن يدخل الخدم والأطفال دون استئذان. فإذا بلغ الأطفال الحلم كان حكمهم حكمَ غيرهم .
وقد تتبذل النساء الكبيرات في سويّة الحجاب فلا بأس أن يظهرن بثيابهنّ الساترة لأجسامهنّ وشعورهنّ بثياب البيت وقد يكون مزركشاً بحجّة أنّهنَّ كبرنَ ولم يعدن يرغبن في الرجال أو يرغب الرجال فيهنّ ودون زينة .إلا أن العلماء قالوا: (لكل ساقطة في الحي لا قطة).فكانت العفة تامرهنّ أن يستعففن ، فهذا خير لهنّ وللرجال الذين يرونهنّ.
وما أروع الفاصلة القرآنية : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يسمع ما يقال وما يمكن أن يحرك الغرائز وعليم بنفوس الناس فيُشرّع لهم ما يناسبهم ويحفظ عليهم دينهم وشرفهم .

إنه سبحانه ينادينا ويدلنا على صالح أمرنا ...

فهل سمعنا النداءَ ووعيناه؟

يتبع

نبيل الجلبي
03/10/2014, 10:40 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

بقلم الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم التاسع عشر


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)(الأحزاب)




من نعم الله على المسلمين أن الله تعالى – إن نصروه – أن ينصرهم على عدوهم ، فما النصر إلا من عند الله ، والحول والطّوْلُ والقوة له سبحانه ، وما المسلمون إن أخلصوا له وجاهدوا في سبيله إلا صورة لنصره : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ غڑ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّـهَ رَمَى...(17)}(الأنفال) " وما الملائكة ولا الريح إلا جنود من جنود الله يحركها متى شاء كيف شاء"{... وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ...(31)}(المدثر) " والله سبحانه يعلم المخلص من غيره فهو العليم بما نعمل ، البصير بأحوالنا.

اجتمع المشركون من عباد الأوثان وأهل الكتاب على المسلمين - فملّة الكفر واحدة –يريدون استئصالهم كما يفعلون في كل زمان ومكان ويرصدون لهم ويمكرون بهم ، ولما كان المسلمون في غزوة الخندق مع الله كان الله معهم ونصرهم وأعلى قدرهم ، ولعلنا نقتفي خطاهم ونسير على صراطهم ،علّ الله تعالى يكتب لنا ما كتب لهم من النصر . فهيّا إلى غزوة الخندق لعلنا نقطف من بريق نورها هدى الصالحين من مجاهديها .
غزوة الخندق وإجلاء بني قريظة بدَتْ معاناة شديدة للمسلمين في المدينة ،أعقبها نعمة ورخاء وانتصار رائع حصل سنة أربع للهجرة على المشركين وبني قريظة في يوم واحد ,. فقد جاء المشركون يحاصرون المدينة من كل أطرافها : { إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا (10)}(الأحزاب) . جاء بنو قريظة من فوقهم , ومن أسفل منهم قريش وغطفان .
وكان سببها : أن نفرا من اليهود, هم الذين حزبوا الأحزاب وألبوا وجمعوا , ودعَوا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم , وواعدوهم من أنفسهم بعون من انتدب إلى ذلك ; فأجابهم أهلُ مكة وغطفانُ إلى ذلك، فخرجت قريش يقودهم أبو سفيان بن حرب , وخرجت غطفان يقودهم عيينة بن حصن والحارث بن عوف .
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم باجتماعهم وخروجهم شاور أصحابه , فأشار عليه سلمان بحفر الخندق فرضي رأيه . وقال المهاجرون يومئذ : سلمان منا . وقال الأنصار : سلمان منا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلمان منا أهل البيت ) . وكان الخندق أول مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ حر . فقال : يا رسول الله , إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا ; فعمل المسلمون في الخندق مجتهدين , ومن يفرغ من حصته أعان غيره فالمسلمون يد واحدة، حتى كمل الخندق . ونكص المنافقون وجعلوا يتسللون لواذاً، فنزلت فيهم آيات من القرآن فضحتهم وعرّتْ نفاقهم .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المقدمة ،وفي البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عنه الغبارُ جلدةَ بطنه , وكان كثير الشعر , فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ويقول :

يا ربّ لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنـزلـَنْ سـكيـنـة عليـنـا * وثبت الأقدام إن لاقينا

عن البراء قال : لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحفر الخندق عرض لنا صخرة لا تأخذ فيها المعاول , فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى ثوبه وأخذ المعول وقال : ( باسم الله ) فضرب ضربة فكسر ثلث الصخرة ثم قال : ( الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام ،والله إني لأبصر إلى قصورها الحمراء الآن من مكاني هذا ) قال : ثم ضرب أخرى وقال : ( باسم الله ) فكسر ثلثا آخر، ثم قال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ) . ثم ضرب الثالثة وقال : ( باسم الله ) فقطع الحجر ،وقال : ( الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر باب صنعاء ) . صححه أبو محمد عبد الحق .

ثمّ أقبلت قريش في نحو عشرة آلاف بمن معهم من كنانة وأهل تهامة , وأقبلت غطفان بمن معها من أهل نجد حتى نزلوا إلى جانب أحد , وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع في ثلاثة آلاف وضربوا عسكرهم والخندق بينهم وبين المشركين , واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم .
وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي , وكان صاحب عقد بني قريظة ورئيسهم , وكان قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاهده ; فلما سمع كعب بن أسد حيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه وأبى أن يفتح له ; فقال له : افتح لي يا أخي ; فقال له : لا أفتح لك , فإنك رجل مشئوم تدعوني إلى خلاف محمد وأنا قد عاقدته وعاهدته , ولم أر منه إلا وفاء وصدقا , فلست بناقض ما بيني وبينه . فقال حيي : افتح لي حتى أكلمك وأنصرف عنك ; فقال : لا أفعل ; فقال : إنما تخاف أن آكل معك جشيشتك (والجشيشة أَن تُطْحَن الحِنْطةُ طَحْناً جَلِيلاً ثم تُنْصَب به القِدْر ويُلْقى عليها لَحْم أَو تَمْر فيُطْبخ); فغضب كعب وفتح له ; فقال : يا كعب ! إنما جئتك بعز الدهر , جئتك بقريش وسادتها , وغطفان وقادتها ; قد تعاقدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه ; فقال له كعب : جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه ! ويحك يا حيي ؟ دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه ; فلم يزل حيي بكعب يعده ويغُرُّه حتى رجع إليه وعاقده على خذلان محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن يسير معهم , وقال له حيي بن أخطب : إن انصرفت قريش وغطفان دخلت عندك بمن معي من اليهود .
فلما انتهى خبر كعب وحيي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج , وسيد الأوس سعد بن معاذ , , وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( انطلقا إلى بني قريظة فإن كان ما قيل لنا حقا فالحنا لنا لحنا ( أخبراني تلميحاً لا تصريحاً) ولا تفتّا في أعضاد الناس . وإن كان كذبا فاجهرا به للناس ) فانطلقا حتى أتياهم فوجداهم على أخبث ما قيل لهم عنهم , ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لا عهد له عندنا ; فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ; وكانت فيه حدة فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم , فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك ,

ثم أقبل سعد وسعد حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة المسلمين فقالا : عضل والقارة - يعرضان بغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع خبيب وأصحابه - فقال النبي صلى الله عليه وسلم . ( أبشروا يا معشر المسلمين ) وعظم عند ذلك البلاء واشتد الخوف , وأتى المسلمين عدوهم من فوقهم ; يعني من فوق الوادي من قبل المشرق , ومن أسفل منهم من بطن الوادي من قبل المغرب , حتى ظنوا بالله الظنون ; وأظهر المنافقون كثيرا مما كانوا يسرون , فمنهم من قال : إن بيوتنا عورة , فلننصرف إليها , فإنا نخاف عليها ; وقال قائلهم : يعدنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر , وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط !، وأخذوا يرجفون في المدينة.

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام المشركون بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر لم يكن بينهم حرب إلا الرمي بالنبل والحصى . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اشتد على المسلمين البلاء بعث إلى عيينة بن حصن الفزاري , وإلى الحارث بن عوف المري , وهما قائدا غطفان , فأعطاهما ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا ويرجعا بقومهما عنهم . وكانت هذه المقالة مراوضة ولم تكن عقدا ; فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا أتى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر ذلك لهما واستشارهما فقالا : يا رسول الله , هذا أمر تحبه فنصنعه لك , أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع , أو أمر تصنعه لنا ؟ قال : ( بل أمر أصنعه لكم , والله ما أصنعه إلا أني قد رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ) فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله , والله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان , لا نعبد الله ولا نعرفه , وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة إلا شراء أو قرى , فحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ! ! فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال : ( أنتم وذاك ) . وقال لعيينة والحارث : ( انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف ) . وتناول سعد الصحيفة وليس فيها شهادة ( ختم رسول الله ) فمحاها .
ثم إنَّ فوارس من قريش وشجعانهم , أقبلوا حتى وقفوا على الخندق , فلما رأوه قالوا : إن هذه لمكيدة , ما كانت العرب تكيدها . ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق , فضربوا خيلهم فاقتحمت بهم , وجاوزوا الخندق وصاروا بين الخندق وبين سلع , وخرج علي بن أبي طالب في نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها ، فبارز عليٌّ عمرو بن ود العامري فقتله فهرب الباقون. وكان على سعد بن معاذ درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه , فرُميّ ذراعُه بسهم فقطع منه الأكحل .

وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي فقال : يا رسول الله , إني قد أسلمت ولم يعلم قومي بإسلامي , فمرني بما شئت ; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أنت رجل واحد من غطفان فلو خرجت فخذلت عنا إن استطعت كان أحب إلينا من بقائك معنا فاخرج فإن الحرب خدعة ) . فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان ينادمهم في الجاهلية - فقال : يا بني قريظة , قد عرفتم ودي إياكم , وخاصة ما بيني وبينكم ; قالوا : قل فلست عندنا بمتهم ; فقال لهم : إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم , البلد بلدكم , فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم , وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه , وقد ظاهرتموهم عليه فإن رأوا نهزة أصابوها , وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل , ولا طاقة لكم به , فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا .
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لهم : قد عرفتم ودي لكم معشر قريش , وفراقي محمدا , وقد بلغني أمر أرى من الحق أن أبلغكموه نصحا لكم , فاكتموا علي ; قالوا نفعل ; قال : تعلمون أن معشر يهود , قد ندموا على ما كان من خذلانهم محمدا , وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا , فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم , ثم نكون معك على ما بقي منهم حتى نستأصلهم . ثم أتى غطفان فقال مثل ذلك .وأرسل أبو سفيان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان يقول لهم : إنا لسنا بدار مقام , قد هلك الخف والحافر , فاغدوا صبيحة غد للقتال حتى نناجز محمدا ; فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت , وقد علمتم ما نال منا من تعدى في السبت , ومع ذلك فلا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا ; فلما رجع الرسول بذلك قالوا : صدقنا والله نعيم بن مسعود ; فردوا إليهم الرسل وقالوا : والله لا نعطيكم رهنا أبدا فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم .
فقال بنو قريظة : صدق والله نعيم بن مسعود . وخذل الله بينهم , واختلفت كلمتهم , وبعث الله عليهم ريحا عاصفا في ليال شديدة البرد ; فجعلت الريح تقلب آنيتهم وتكفأ قدورهم .
فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمرهم , بعث حذيفة بن اليمان ليأتيه بخبرهم , فأتاهم واستتر، فسمع أبا سفيان يقول : يا معشر قريش , ليتعرف كل امرئ جليسه . قال حذيفة : فأخذت بيد جليسي وقلت : ومن أنت ؟ فقال أنا فلان . ثم قال أبو سفيان : ويلكم يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام , ولقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة , ولقينا من هذه الريح ما ترون , ما يستمسك لنا بناء , ولا تثبت لنا قدر , ولا تقوم لنا نار , فارتحلوا فإني مرتحل ; ووثب على جمله فما حل عقال يده إلا وهو قائم . قال حذيفة : ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لي إذ بعثني , قال لي : ( مر إلى القوم فاعلم ما هم عليه ولا تحدث شيئا ) - لقتلته بسهم ; ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رحيلهم , فأخبرته فحمد الله .
فقال حذيفة يروي قصته: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه منا أحد , ثم قال : ( ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة ) ؟ فسكتنا فلم يجبه أحد . فقال : ( قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم ) فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم . قال : ( اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي ) (لا تُعْلِمْهُمْ بنفسك وامْشِ في خُفْيَةٍ لئلاَّ يَنْفِروا منك ويُقْبِلوا عَلَيَّ ) قال : فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام (دفئ جسمه وكان قبل ذلك بردان)حتى أتيتهم , فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار , فوضعت سهما في كبد القوس فأردت أن أرميه , فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ولا تذعرهم علي ) ولو رميته لأصبته : فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام , فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قرَرْتُ ( أصابه البرد), فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها , فلم أزل نائما حتى أصبحت , فلما أصبحت قال : ( قم يا نومان ) . ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذهب الأحزاب , رجع إلى المدينة ووضع المسلمون سلاحهم , فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في صورة دحية بن خليفة الكلبي , على بغلة عليها قطيفة ديباج فقال له : يا محمد , إن كنتم قد وضعتم سلاحكم فما وضعت الملائكة سلاحها . إن الله يأمرك أن تخرج إلى بني قريظة , وإني متقدم إليهم فمزلزل بهم حصونهم .:

فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين : لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة ; فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة . وقال آخرون : لا نصلي العصر إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت . قال : فما عنف واحدا من الفريقين . وهذا من أبواب الاجتهاد .. وكان سعد بن معاذ إذ أصابه السهم دعا ربه فقال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش فأبقني لها ; فإنه لا قوم أحب أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك وأخرجوه . اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة , ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة . فلما حكم في بني قريظة توفي ; ففرح الناس وقالوا : نرجو أن يكون قد استجيبت دعوته .

وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية علي بن أبي طالب , واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم , ونهض علي وطائفة معه حتى أتوا بني قريظة ونازلوهم , فسمعوا سب الرسول صلى الله عليه وسلم , فانصرف علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله , لا تبلغ إليهم , وعرض له . فقال له : ( أظنك سمعت منهم شتمي . لو رأوني لكفوا عن ذلك ) ونهض إليهم فلما رأوه أمسكوا . فقال لهم : ( نقضتم العهد يا إخوة القرود أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ) فقالوا : ما كنت جاهلا يا محمد فلا تجهل علينا ; وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وعشرين ليلة. وعرض عليهم سيدهم كعب ثلاث خصال ليختاروا أيها شاءوا : إما أن يسلموا ويتبعوا محمدا على ما جاء به فيسلموا . قال : وتحرزوا أموالكم ونساءكم وأبناءكم , فوالله إنكم لتعلمون أنه الذي تجدونه مكتوبا في كتابكم . وإما أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يتقدموا ; فيقاتلون حتى يموتوا من آخرهم . وإما أن يبيتوا المسلمين ليلة السبت في حين طمأنينتهم فيقتلوهم قتلا . فقالوا له : أما الإسلام فلا نسلم ولا نخالف حكم التوراة , وأما قتل أبنائنا ونسائنا فما جزاؤهم المساكين منا أن نقتلهم , ونحن لا نتعدى في السبت .

ثم بعثوا إلى أبي لبابة , وكان في الجاهلية حليفهم , فأتاهم فجمعوا إليه أبناءهم ونساءهم ورجالهم وقالوا له : يا أبا لبابة , أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ فقال نعم , - وأشار بيده إلى حلقه - إنه الذبح إن فعلتم . ثم ندم أبو لبابة في الحين , وعلم أنه خان الله ورسوله , وأنه أمر لا يستره الله عليه عن نبيه صلى الله عليه وسلم . فانطلق إلى المدينة ولم يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في سارية وأقسم ألا يبرح من مكانه حتى يتوب الله عليه فكانت امرأته تحله لوقت كل صلاة . قال ابن عيينة وغيره : فيه نزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّـهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}(الأنفال) . وأقسم ألا يدخل أرض بني قريظة أبدا لأنه أصاب به ذنباً . فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من فعل أبي لبابة قال : ( أما إنه لو أتاني لاستغفرت له وأما إذ فعل ما فعل فلا أطلقه حتى يطلقه الله تعالى ) فأنزل الله تعالى في أمر أبي لبابة : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ غڑ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)}(التوبة) . فلما نزل فيه القرآن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطلاقه ,

فلما أصبح بنو قريظة نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم , فتواثب الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله , وقد علمت أنهم حلفاؤنا , وقد أسعفت عبد الله بن أبي بن سلول في بني النضير حلفاء الخزرج , فلا يكن حظنا أوكس وأنقص عندك من حظ غيرنا , فهم موالينا . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر الأوس ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم - قالوا بلى . قال - : فذلك إلى سعد بن معاذ ) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضرب له خيمة في المسجد , ليعوده من قريب في مرضه من جرحه الذي أصابه في الخندق . فحكم فيهم بأن تقتل المقاتلة , وتسبى الذرية والنساء , وتقسم أموالهم . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة ) . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجوا إلى موضع بسوق المدينة ، فحفر بها خنادق , ثم أمر عليه السلام فضربت أعناقهم في تلك الخنادق , وقتل يومئذ حيي بن أخطب وكعب بن أسد , وكانا رأس القوم , وكانوا من الستمائة إلى السبعمائة . وكان على حيي حلة فقاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة , أنملة أنملة لئلا يسلبها . فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل قال : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك . ولكنه من يخذل الله يخذل ثم قال : يا أيها الناس , لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل , ثم جلس فضربت عنقه .وقتل من نسائهم امرأة , طرحت الرحى على مسلم فقتلته . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل كل من أنبت منهم وترك من لم ينبت .
وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة وأول ذي الحجة من السنة الخامسة ، فلما تم أمر بني قريظة أجيبت دعوة الرجل الفاضل الصالح سعد بن معاذ , فانفجر جرحه , وانفتح عرقه , فجرى دمه ومات رضي الله عنه . قال يحيى بن سعيد: لقد نزل لموت سعد بن معاذ سبعون ألف ملك , ما نزلوا إلى الأرض قبلها ، ولم يستشهد يوم الخندق من المسلمين إلا أربعة أو خمسة .

إن الله تعالى ينادينا أن نحفظ نعمته علينا بالإخلاص في العمل والتوجه إليه ...

فهل وعينا هذا..وهل سمعنا النداء؟....

يتبع

نبيل الجلبي
05/10/2014, 02:08 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

بقلم الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم العشرون

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)سورة الأحزاب.


صلاة الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم : الرحمة والثناء ورفع المقام، وإخبار البشر بمكانته صلى الله عليه وسلم عند ربه، وصلاة الملائكة استغفار أهل السماء له ، فلما أمر المسلمون بالصلاة عليه اجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والأرضيّ جميعا .

وعن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام هل يصلي ربك ؟ فناداه ربه عز وجل : يا موسى سألوك هل يصلي ربك فقل نعم .أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ".
وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى " إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " الآية وقال تعالى :
{ ...وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّـهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}(البقرة) .
فالله تعالى يصلي على عباده المؤمنين ويرفع بصلاته عليهم ذكرَهم ودرجاتهم.

وفي الحديث: ( إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف ) وفي الحديث الآخر ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر وقد سألته أن يصلي عليها وعلى زوجها ( صلى الله عليك وعلى زوجك ) .
وقد كثرت الأحاديث الشريفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه وكيفية الصلاة عليه ،منها:

ما ذكره البخاري عن كعب بن عجرة قال : قيل يا رسول الله ؛أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة ؟ قال : ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ) .
ومعنى قولهم أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد إذ كان يعلمهم إياه كما كان يعلمهم السورة من القرآن وفيه السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

وعن أبي مسعود الأنصاري قال : أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن سعد أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك ؟ قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسلام كما قد علمتم ) وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث مالك وقال الترمذي حسن صحيح

وعن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجَّلَ هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره : ( إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله عز وجل والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعدُ بما شاء ).

وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة ) .تفرد بروايته الترمذي رحمه الله ثم قال هذا حديث حسن غريب.

وعن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : ( يا أيها الناس اذكروا الله ،اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ،جاء الموت بما فيه،جاء الموت بما فيه )
قال أبي قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي ؟
قال ما شئت.
قلت الربع ؟
قال ما شئت ،فإن زدت فهو خير لك.
قلت فالنصف
؟قال ما شئت ،فإن زدت فهو خير لك.
قلت فالثلثين؟
قال ما شئت ،فإن زدت فهو خير لك.
قلت أجعل لك صلاتي كلها ؟
قال إذن تكفى همَّك ،ويغفرُ لك ذنبك. رواه الترمذيُّ ثم قال هذا حديث حسن.

وعن عبد الرحمن بن عوف قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدفته (محرابه ومكان تبتله) فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها فدنوت منه ثم جلست، فرفع رأسه فقال من هذا ؟
قلت عبد الرحمن
قال ما شأنك ؟
قلت يا رسول الله سجدت سجدة خشيت أن يكون الله قبض روحك فيها
فقال : ( إن جبريل أتاني فبشرني أن الله عز وجل يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله عز وجل شكرا ) . ورواه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه عن يحيى بن عبد الحميد عن الدراوردي عن عمرو بن عبد الواحد عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف به .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحدا يتبعه ففزع عمر فأتاه بمطهرة من خلفه فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا في مشربة فتنحى عنه من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه ،فقال : ( أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني. إن جبريل أتاني فقال من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشر صلوات ورفعه عشر درجات ).وقد اختار هذا الحديث الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج على الصحيحين .

وعن أبي طلحة الأنصاري قال أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما طيب النفس يُرى في وجهه البشرُ. قالوا يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر قال:
( أجل أتاني آت من ربي عز وجل ،فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات ، ورَدَّ عليه مثلها ) ، قال القرطبي في تفسيره: وهذا أيضا إسناد جيد

وعن عبد الله بن عمرو يقول : من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله عليه وملائكته لها سبعين صلاة فليقل عبدٌ من ذلك أو ليكثر .

وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل علي ).

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رغِم أنفُ رجل ذكرت عنده فلم يصل عليَّ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ،ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبرَ فلم يدخلاه الجنة ) ، رواه الترمذيُّ وقال حسن غريب.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم تِرَة يوم القيامة،فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم ) رواه الترمذي.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا سمعتم مؤذنا فقولوا مثل ما يقول ،ثم صلوا علي، فإنه من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ،وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة ) ، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي .

وعن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ،ثم قال : اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك "

و يستحب ختم الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ،فعن عمر بن الخطاب قال : الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك. رواه الترمذيُّ

وعن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة .فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليَّ.
قالوا يا رسول الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرَمْت ؟ يعني وقد بليت.
قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء "رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ،وصححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والنووي في الأذكار .

وتستحب الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم. فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " رواه أبو داود وصححه النووي في الأذكار

قال النووي إذا صلى أحدُكم على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول صلى الله عليه فقط ،ولا عليه السلام فقط ، إن الله تعالى جمعهما في قوله:" إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم .
والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم :

1- شعارُ المسلمين .
2- وفيه قُربى ودليلُ الحب.ودعاءٌ له صلى الله عليه وسلم.
3- مدحٌ له عليه الصلاة والسلام وتكريمٌ ،فهو الهادي الذي به هدانا الله تعالى إليه سبحانه.
4- شهادةٌ بنبوّته ورسالته.
5- التزامٌ بأمر الله وطاعته. والمحبُّ مطيعٌ لمحبوبه.
كنت في محاضرة أكثرَ فيها المحاضرُ من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان أحد العلمانيين حاضراً، فتساءل في نهاية المحاضرة معترضاً على ( تضييع الوقت) بكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم .
فقال له المحاضر :أتغسل وجهك إن شعرت بالنعاس وأنت بين أصحابك لا تريد الانصراف عنهم؟
قال: نعم.
قال المحاضر : أتغسل وجهك إن شعرت بالعرق يملؤه ويحرق عينيك في حر الصيف ؟
قال : نعم .
قال المحاضر : أتغسل وجهك حين تستيقظ من النوم؟
قال : نعم .
قال المحاضر : لمثل هذا كله ولغيره ( أغسل وجهي) بالصلاة على الحبيب صلى الله عليه وسلم.

إنه سبحانه يدعونا إلى طاعته بالصلاة على حبيبه وتعظيمه ، فما جاءنا الخير إلا عن طريقه صلى الله عليه وسلم .....

فهلاّ استجبنا للنداء ، فصلينا وأحببنا وأطعنا؟..

يتبع

نبيل الجلبي
07/10/2014, 11:29 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الحادي والعشرون



يقول الله تعالى في سورة الأحزاب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}
أمر الله تعالى عباده بأن يذكروه ويشكروه , ويكثروا من ذلك على ما أنعم به عليهم . وذكر الله وتسبيحه سهل على الإنسان ميسر له ، وقد قال تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }؟ .
ولعظم الأجر فيه قال ابن عباس : لم يعذر أحد في ترك ذكر الله إلا من غلب على عقله .
وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ) . والذكر الكثير المقبول الذي يثقل الميزان ما كان صادراً عن القلب ,

ومن معنى الذكر الصلاةُ بكرة وأصيلا , والصلاة تسمى تسبيحا . وخص الفجر والمغرب والعشاء بالذكر لما فيها من آيات بينات تراها يومياً في تغيُّر الليل والنهار ، وهذا من عظيم قدرة الله تعالى، قال تعالى {.. وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)}(طه). وقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)}(الأعراف)
ويشمل الذكرُ التفكرَ كما جاء فى سورة آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ...(195)،
يتفكر الإنسان العاقل بتقلبات الليل والنهار، فمن قدَر على ذلك قدَر على إعادتنا يوم القيامة وقت يشاء وأن الله ما خلقنا إلا لأمر جلل (عبادته سبحانه) فأرسل النبي عليه الصلاة والسلام ينادينا إلى الإيمان بالله والعمل بما يرضيه، فمن استجاب نجا ،ومن أمعن في الجهالة خاب وخسر

بل يشمل الذكرُ مع التسبيح الكفَّ عن المعصية خشيةً الله جل وعلا حين يتذكر المتّقى ربه فيكثر من الاستغفار ويسارع إلى العمل الصالح ويتقرب إلى الناس يرضي - بالإحسان إليهم - خالقهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)}(الاعراف) ،
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135)}(آل عمران).
ولا بد فى الذكر من الخشوع القلبي والتضرع خفيَة- فالذكر الخفي يدل على الإخلاص ، يقول ربنا فى سورة الاعراف : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}

كما أن التضرع إلى الله يكسب الخوف منه والحب فيجتمعان ليرقيا بالمرء إلى العمل الصالح: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ (205)}(الاعراف)، فالخشوع والتضرع إلى الله في كل وقت يملآن القلوب إيماناً وعلماً ومعرفة ويزرعانه يقيناً وثباتاً على الصراط المستقيم، ويبعدانه عن الغفلة ، أما الغافل فتسيّره أهواؤه وتطغيه .

والدعاء من الذكر لِما جاء فى وصف دعاء النبى زكريا عليه السلام { ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً (6)}(مريم)

إن الذكر الكثير دليل على تعلق المرء بمن أحب ، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره وأطاعه فعمل بما أمر وانتهى عما نهى . والذكر الكثير يرفع الدرجات ويمحو السيئات ،ويُربي الحسنات ،ويحيي القلب ويقرّب إلى الحق، ويسمو بالنفوس فتترفع عن الدنايا ، ومن ذكر اللهَ ذكره اللهُ .

والتسبيح لله أمر مطلوب في كل الأوقات ،إلا أنه يتجلى أثرُه في ساعات معينة منصوص عليها في القرآن الكريم عند طلوع الشمس وعند غروبها، وفي الليل حيث يخلو المحبون بحبيبهم والناس غُفْل نائمون، وفي قيام الليل وفي أول الليل وآخره حين تغيب النجوم استعداداً لاستقبال النهار :
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)}(طه)
{ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}(الطور)
{ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)}(ق).

- إن مخلوقات الله كلها إلا الكفار من الإنس والجن تسبح ربها ،فالرعد يسبح والملائكة ، قال تعالى : { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلآئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ...(13)}(الرعد). وقالت الملائكة { وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ (166)}(الصافات)
ومن الملائكة المسبحين حمَلَةُ العرش الذين يستغفرون للمؤمنين ..وما أجمل أن يستغفر لنا – معشر المؤمنين – الملائكةُ حملة العرش { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ واتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيم (7)}(غافر).
والطير تسبح مع أهل السموات : { ألَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ والطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ واللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)}(النور).

وهذه الجبال العظيمة تسبح الله تعالى والطيور كذلك: {... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)}(الأنبياء) .
من روائع ما فعله سيدنا زكريا وقد فقد النطق ثلاثة أيام أنه لم يمنعه ما هو فيه من عدم القدرة على الكلام أن يدعو الناس إلى تسبيح ربهم :{ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمُ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)} (مريم) .

وهذا سيدنا محمد رسول الله يأمره المولى أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وان الله مؤيده وما عليه في أداء رسالته إلا أن يسبح الله فينال القوة والثبات في سعيه { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)}(الطور) .
ولما سال موسى عليه السلام مشاركة أخيه هارون بالرسالة علل ذلك بقوله: { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)}(طه) .
وكلما نادى الكافرون بالباطل كان التسبيحُ الجوابَ بلسان العزة والجبروت.

أ- فحين زعموا أن لله شركاء أبطل زعمهم وأمرنا بتسبيحه عظم شأنه، فقال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ ءالِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)}(الأنبياء). وقوله تعالى: { أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}(الطور) .

ب- وحين زعموا لله ولداً وحّد ذاته وأمرنا بتسبيحه جل شأنه: { وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26)}(الأنبياء) ،
{ مَااتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}(المؤمنون) .

ج- وحين نسي المسلمون أن يظنوا الخير بإخوانهم وخاضوا في بهتان عريض دون بينة نبههم إلى العودة إلى الحق وأمرهم بتسبيحه جل شأنه.

د- وفي رد الملائكة على من اخطأ فعبدهم دون الله أنكروا ذلك وسبحوا بحمد الله : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجِنِّ أَكْثَرُهُمْ بِهِم مُؤْمِنُونَ (41)}(سبأ) .

هـ- إن التسبيح نجّى المؤمنين من مصائب كثيرة ومنها نجاة سيدنا يونس في بطن الحوت: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)}(الصافات). وينجيهم مما يخافون ،
ومن الأمثلة على ذلك هذا الدعاء الرائع الذي يصل العبد بربه ، فيرجو النجاة :
{ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُواْ عَلَىَ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}(الزخرف).
إن من سمات المؤمنين أنهم كلما ذكروا الله تعالى سجدوا لعزته وسبحوا بحمده فقرنوا بين الذكر والتسبيح وثابروا على ذلك. فأجمل اللحظات حين يكون المرء قريباً من ربه.
{ إنَّمَا يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (15)}(السجدة) .
إنه ليس اقرب إلى الله تعالى من ذكره وتسبيحه ،والقرآن الكريم والحديث الشريف مزدانان بهذين الكنزين الرائعين.

فهل وعينا ذلك وتقربنا إلى الله بهما ؟

إنه سبحانه ينادينا .. فهل سمعنا النداء ووعيناه؟

يتبع

نبيل الجلبي
10/10/2014, 08:24 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثاني والعشرون

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)(الأحزاب)


أدب اجتماعي رائع في هذه الآية الكريمة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة بنائه بأمنا زينب بنت جحش رضي الله عنها التي تولى الله تعالى تزويجها بذاته العليّة، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب هذه.
ولعل من الشفافية التي امتاز بها الفاروق رضي الله عنه كما ثبت ذلك في الصحيحين عنه أنه قال وافقت ربي عز وجل في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فأنزل الله تعالى :{ وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب ،وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم - لمّا تمالأنَ عليه في الغيرة - { عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ } فنزلت كذلك وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة

قال أنس رضي الله عنه: فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فإذا هو يتهيأ للقيام يريد أن يدخل على زوجته الجديدة ،فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ،فلما قام قام من قام، وقعد ثلاثة نفر .فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا وقد شعروا أنهم أثقلوا، فانطلقوا فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقي الحجابَ بيني وبينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية .

وفي رواية أنّ ثلاثة رهط ظلوا يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : ( السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ) قالت وعليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك يا رسول الله بارك الله لك ؟ فتقرّى حُجَر نسائه كلهن (مرّ عليهنّ جميعاً) يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة. فما أدري أخبرته أم أخبِر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب (عتبته) داخلة والأخرى خارجة أرخى الستر بيني وبينه ،وأنزلت آية الحجاب .

وقال أنس بن مالك : أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه فصنعت أم سليم حيسا (التمر المعجون بالسمن)ثم جعلته في تور (إناء كبير قد يُتوضأ منه) فقالت اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل. قال أنس - والناس يومئذ في جهد- فجئت به فقلت يا رسول الله بعثت بهذا أم سليم إليك وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل فنظر إليه قال ضعه فوضعته في ناحية البيت ثم قال اذهب فادع فلانا وفلانا فسمى رجالا كثيرا وقال ومن لقيت من المسلمين فدعوت من قال ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس فقلت يا أبا عثمان كم كانوا ؟
فقال كانوا زهاء ثلاث مائة
قال أنس فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم جئ به فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال : ( ما شاء الله ) ثم قال : ( ليتحلق عشرة عشرة وليسموا، وليأكل كل إنسان مما يليه ) فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ارفعه ) قال فجئت فأخذتُ التور فنظرت فيه فما أدري أهو حين - وضعت - أكثرُ أم حين أخذت.
قال وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حُجَره وعلى نسائه فلما رأوه (الذين تأخروا في البيت) قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب ،فخرجوا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا وأنزل الله عليه القرآن، فخرج وهو يتلو هذه الآية : { ا يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآيات
قال أنس فقرأهن عليَّ قبل الناس فأنا أحدَثُ الناس بهن عهدا رواه مسلم والترمذي

1- يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم حين يدعوهم وبإذنٍ منه
2- يدخلون بعد نضج الطعام ،فلا يأتون مبكّرين.
3- يدخلون للطعام فإذا انتهوا منه انصرفوا غير مستأنسين لحديث
4- فإن سأل الرجالُ زوجات النبي صلى الله عليه وسلم متاعاً فلا ينظروا إليهنّ ولا يسألْهن المرءُ حاجة إلا من وراء حجاب ،فعن عائشة قالت : كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قعب فمر عمر فدعاه فأكل فأصاب أصبعه أصبعي فقال حسن أو أوه لو أطاعُ فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } فالحجاب أطهر لقلوب الجميع.
5- همَّ بعض الصحابة يفكرون أن يتزوجوا بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده ،فأجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوُّجها من بعده لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين ،أما من لم يدخل بهنّ فلسن من نسائه صلى الله عليه وسلم ، وكان صلى الله عليه وسلم قد ملك قيلة ابنة الأشعث بن قيس فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك فشق ذلك على أبي بكر الصدّيق مشقة شديدة .فقال له عمر يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنها لم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحجبها وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها . فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه وسكن وقد عظَّم الله تبارك وتعالى ذلك وشدد فيه وتوعد عليه بقوله : { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا }.

كثير من الناس يطرقون الباب فإن اعتذرتَ إليهم وردَدْتهم لأمرٍ ما عتبوا ،وربّما قطعوا علائقهم معك ، ولو تداركوا أمرهم لقرءوا قوله تعالى : { ...وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)}(النور) 28 فلكل خصوصيته وحالته النفسية والاجتماعية ومن يعتذرْ إليك مرة يدعُك أخرى راغباً .
وكان ابن عباس رضي الله عنه يرغب أن يُقال له إذا طرق الباب واستأذن (ارجع) لكنّهم يستقبلونه لأنه ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنّ مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين عظيمة ، علّنا نقرأ سيرته العطرة فنقتدي بهديها ونجعلها نبراساً يضيء دربنا : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا (21)}(الأحزاب ).

إنه سبحانه وتعالى يدعونا لنتعلم سيرة حبيبه صلى الله عليه وسلم فنتمثلها في حياتنا ونسعد باتباعه صلى الله عليه وسلم فهل وعينا هذا ، فجعلناه - صلى الله عليه وسلم - قدوتنا نسير على هديه ونحقق في دنيا العمل تعاليمه الربّانية ؟..

يتبع

نبيل الجلبي
18/10/2014, 11:40 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم العاشر*



في سورة الحجرات آداب اجتماعية جلّاها القرآن الكريم نبراساً للمسلمين يعيشون بضيائه ويأنسون بنوره، لقد أراد الله تعالى ان يبني المسلمون مجتمعهم الطيب النبيل على أسس أدبية واخلاقية عالية يتفيّئون ظلالها ويسعدون بوارفها ، فإذا الجميع في أمن وحب وسلام.
في هذه السورة نداءات خمسة تشير بمرتكزاتها الأخلاقية إلى الطريق السليم للمعاملات بينهم أولها:

أ‌- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}
فكان أول أدب احترام القائد المسلم والتأدب في الحديث معه ، ومثال هذا القائد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ امر الله تعالى المسلمين أن يعاملوا الرسول صلى الله عليه وسلم بما يجب من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام فقال تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ومن معاني هذه الآية :
1 ـ أن لا تسرعوا في الأشياء قبله بل كونوا تبعا في جميع الأمور وقد أحسنَ معاذ رضي الله عنه الأدب مع الحبيب القائد
حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن : ( بم تحكم ؟ )
قال بكتاب الله تعالى
قال صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تجد ؟ )
قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال صلى الله عليه وسلم : ( فإن لم تجد ؟ )
قال رضي الله عنه أجتهد رأيي .
فضرب في صدره وقال : ( الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله ).
فكان من أدب معاذ أنه أخّر رأيه ونظرَه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله

2 ـ لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة وقال العوفي عنه : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه صلى الله عليه وسلم.

3 ـ لا تفتئِتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه .

4 ـ لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم وقال سفيان الثوري{ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } بقول ولا فعل

5 ـ وقال قتادة ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون لو أنزل القرآن في كذا وكذا لو صح كذا.. فكـَرِه الله تعالى ذلك ، فعقّب القرآن منبهاً { وَاتَّقُوا اللَّهَ } فيما أمركم به فهو سميع لأقوالكم،عليم بنياتكم.

وتجلّى الأدب الثاني في الحديث بصوت خفيض في حضرته صلى الله عليه وسلم وعدم الاختصام فيما بينهم أمامه صلى الله عليه وسلم:

ب‌- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)}
وقد روي أنها نزلت في الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقد روى قال البخاري عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على النبي صلى
الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه أمِّرِ القعقاعَ بن معبد وقال عمر رضي الله عنه بل أمِّرِ الأقرع بن حابس فقال أبو بكر رضي الله عنه ما أردت إلا خلافي فقال عمر رضي الله عنه
ما أردت خلافك. فتماريا ،حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك هذه الآية.
ويروى عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...} قلت يا رسول الله والله لا أكلمك إلا كأخي السرار.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } كان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت فقال أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا من أهل النار حبط عملي .وجلس في أهله حزينا. ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له تفقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم، مالك ؟ قال أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول، حبط عملي أنا من أهل النار. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
( لا بل هو من أهل الجنة ) ، قال أنس رضي الله عنه فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعضُ الانكشاف فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنط ولبس كفنه فقال بئسما تعوّدون أقرانكم فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه .

وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء فقال أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال من أين أنتما ؟ قالا من أهل الطائف فقال لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا . وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام لأنه محترم حيا وفي قبره صلى الله عليه وسلم دائما
وأُمِر المسلمون أن يخاطبوا رسول الله بسكينة ووقار وتعظيم ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } كما قال تعالى : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا ... (63)}(النور) فمن فعل ذلك خٌشي أن يحبط عملُه إنْ غضب منه النبي صلى الله عليه وسلم .
فماذا نقول للذين يسبونه صلى الله عليه وسلم ويشتمونه ودينـَه وزوجاته وخلفائه ويعتبرون أنفسهم مسلمين ، بل ماذا نقول لمن يتحدثون عنه دون أدب واحترام ؟ ويقولون : هو رجل ونحن رجال؟!!.
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض ) ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك وأرشد إليه ورغب فيه فقال : { وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } فمقام الرسول عليٌّ سامق صلى الله عليه وسلم.

ونرى الأدب الثالث في هذه السورة يتضح بالتثبّت من خبر الفاسق لئلا يحكم بقوله فيُخطئ في الحكم. وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين :

ج- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)}.
ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق وقد روى الإمام أحمد القصة التالية عن الحارث بن ضرار الخزاعي:
قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت يا رسول الله أرجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة ،فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبّانَ الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس عليه الرسولُ ولم يأته وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله فدعا بسروات قومه (وجهائهم) فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقَّت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلفُ ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة ،فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق خاف فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم إلى من بعثتم ؟ قالوا إليك قال ولم ؟ قالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله.قال رضي الله عنه لا والذي بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( منعتَ الزكاة وأردتَ قتل رسولي ؟ ) ،
قال لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله ، فأكدت الآية الشريفة صدق الحارث وكَذِب الوليد.
لا بد إذاً قبل اتخاذ أي قرار في حق الآخرين أن نتثبت من الخبر كي لا يُظلم أحدٌ ، والظلم ظُلُماتٌ نربأ بأنفسنا الوقوع فيه.

أما الأدب الرابع فيتجلّى في حب الناس واحترامهم وإنزالهم منازلهم من التقدير والمكانة ، أما السخرية والاستهزاء بعباد الله فمنقصة يقع فيها الفاعل ليس غير.وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
( الكبر بطر الحق وغمط الناس )
د- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)}.
قد يكون من تحتقره وتسخر منه خيراً منك عند الله تعالى وأعظم قدراً فنبهنا الله تعالى إلى ذلك وحذّرنا من الوقوع فيه
ولمّا ذكر القومَ دخل فيهم النساء ، لكنّ الله تعالى خص النساء بالذكر لكثرة ما يحدث ذلك منهنّ وقالت العرب : إذا ذُكر القومُ قُصد الرجال والنساء، فإذا ذُكرت النساءُ بعدُ فالقومُ إذ ذاك للرجال "
إن هذه الآية تحذر من أمور عدة :

1 ـ السخرية تدل على الكبرياء والمتكبر خاوي القلب والفكر حين يظن نفسه خيراً من غيره.

2 ـ من اللمز والهمز ( قيل اللمز باليد والهمزُ باللسان ، وقيل غير ذلك ، والهمز واللمز ذكرك أخاك بما يكره أن يوصف به.الم يقل الله تعالى : { وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1)}(الهُمَزَة) وقال سبحانه : { هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (11)}(القلم) يحتقر الناس ويهمزهم طاغيا عليهم ويمشي بينهم بالنميمة وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا يطعنْ بعضُكم على بعض .

3 ـ التنابز بالألقاب والتداعي بما يسوء الشخص سماعها روى ابن الضحاك قال فينا نزلت- في بني سلمة – { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا يا رسول الله إنه يغضب من هذا فنزلت { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ }
التنابز بالألقاب يحزن المدعُوَّ ويكرّهُه بالداعي ، ويورث البغض والشحناء في المجتمع المسلم ، وكم نعاني من هذه العادة الخبيثة التي انتشرت – لجهلنا – بين الناس ففرّقتهم.

إن الادب الخامس في هذه السورة ينهى عن الظنّ والتجسس والغيبة وهي أمراض تصيب المجتمع حين يركن لهواه
هـ - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)}

أ- ينهى الله عباده عن كثير من الظن وهو التهمة والتخوين للأهل والأقارب والناس في غير محله لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثيراً منه احتياطا ، يقول عمر رضي الله عنه : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا وأنت تجد لها في الخير محملا ،

ويقول ابنه عبد الله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول :
( ما أطيبكِ وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفسُ محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك ماله ودمه وأن يُظنَّ به إلا خيرا ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم :
( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) ،
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ثلاث لازمات لأمتي الطيرة والحسد وسوء الظن )
فقال رجل وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟
قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا حسدْتَ فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض ) ، ويقول صلى الله عليه وسلم :
( إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم )

ب- والتجسس غالبا يطلق في الشر ومنه الجاسوس وأما التحسس فيكون غالبا في الخير كما قال عز وجل إخبارا عن يعقوب عليه السلام: { يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)}(يوسف) ، وقد يستعمل كل منهما في الشر ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ) .
وقال الأوزاعي التجسس البحث عن الشيء والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبوابهم .

ج- حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغِيبة سئل عن معناها فقال صلى الله عليه وسلم :
( ذكرك أخاك بما يكره )
قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟
قال صلى الله عليه وسلم : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) ورواه الترمذي.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا قال غير مسدد تعني قصيرة فقال صلى الله عليه وسلم : ( لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ).
ولا غيبة في التحذير كقوله صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر( ائذنوا له بئس أخو العشيرة )، وحذرالعائد في هبته : ( كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه ) ، ولا غيبة في النصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم ( أما معاوية فصعلوك وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ) ، (الصعلوك : الفقير الذي لامال له (لسان العرب)) ولهذا شبه تبارك وتعالى الغيبة بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عز وجل : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ }
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) ، ورواه الترمذي ، وكم نقف أمام هذا الحديث : ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته ) ، فنشعر ببعدنا عن الأب الإسلامي في تعامل المسلمين بعضهم مع بعض.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم قلت من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) ،
روى أبوهريرة أن ماعزا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني قد زنيت فأعرض عنه حتى قالها أربعا فلما كان في الخامسة قال: ( زنيت ؟)
قال نعم
قال ( وتدري ما الزنا ؟)
قال نعم أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من امرأته حلالا
قال : ( ما تريد إلى هذا القول ؟)
قال أريد أن تطهرني
قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أدخلت ذلك منك في ذلك منها كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر ؟)
قال نعم يا رسول الله قال فأمر برجمه فرجم فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال : ( أين فلان وفلان انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار)
قالا غفر الله لك يا رسول الله وهل يؤكل هذا ؟
قال صلى الله عليه وسلم : ( فما نلتما من أخيكما آنفا أشد أكلا منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها ) ،
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حمى مؤمنا من منافق يغتابه بعث الله تعالى إليه ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ومن رمى مؤمنا بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال ) ،
وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الله وهو ابن المبارك به بنحوه وقال أبو داود أيضا حدثنا إسحاق بن الصباح حدثنا بن أبي مريم أخبرنا الليث حدثني يحيى بن سليم أنه سمع إسماعيل بن بشير يقول سمعت جابر بن عبد الله وأبا طلحة بن سهل الأنصاري رضي الله عنهما يقولان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من امرىء يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته وما من امرىء ينصر امرأ مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته ) تفرد به أبو داود . (من تفسيرابن كثير بتصرف) .

وبما أن التربية للمؤمنين حين يناديهم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فالناس حين يعقلون هناءتهم وراحتهم ويُعملون العقل يجدون في الإسلام الخير كله ، فتؤدي النداءات الخمسة إلى نداء الناس جميعاً :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)}.
يشرف الناس بانتمائهم إلى أبيهم آدم وامهم حواء ، لكنّهم يتفاضلون بطاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ; بَعدَ النهي عن الغيبة واحتقار بعض الناس بعضا نبّه القرآن إلى تساويهم في البشرية ليتعارفوا بينهم فيرجع كلٌّ إلى قبيلته ، وينبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فيقول:
( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر )
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبه إلى فضيلة التقوى التي ترفع صاحبها :
( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ) ،
ولمّا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده قال :
( يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها فالناس رجلان: رجلٌ بر تقي كريم على الله تعالى ورجلٌ فاجر
شقي هين على الله تعالى إن الله عز وجل يقول يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ )
إنه سبحانه ينادينا ، فهل وعينا النداء؟!

* بتصرف بسيط جدا
* هذا القسم لم ينشر حسب التسلسل سهوا

يتبع

نبيل الجلبي
18/10/2014, 11:43 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الرابع والعشرون

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) الاحزاب


ذكِرَ فعل الأمر ( اتقِ ) المقترن بواو الجماعة – في القرآن الكريم- تسعاً وستين مرة ،لكننا نستعرض في هذا المقال بعض هذه الأفعال التي سبقت بالنداء { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ،إن موضوعاتنا السابقة واللاحقة تركز على النداء { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }.
التقوى : التقوى في اللغة..
الوقاية. والتقوى بمعنى الستر والصون والحذر. وقاية وصيانة ، ويُقال : درهم وقاية خير من قنطار علاج.
اما في الشرع.
فهي حفظ النفس من الوقوع في الزلل والإثم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي فيصون المسلمُ نفسه من غضب المولى وسوء العقاب، بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.

من الآيات التي تبدأ بـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وفيها الأمر بالتقوى:
1- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}(الحشر) ، فالتحلي بالتقوى يقود إلى التفكير فيما عمِلهُ المرء في أمسه ويومه ، هل ينفعه ليوم الدين حين يقف بين يدي الله تعالى، وهل ينجيه من غضبه وعقابه؟

2- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّـهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)}(الحجرات) ،من أساس الإيمان بالله ورسوله أن نقول إذا علمنا أمراً أو نهياً أن نقول : سمعنا وأطعنا ، فلا نخالف بالقول ولا العمل ، فما الإيمان إلا التزام وطاعة .

3- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ .. (28)}(الحديد) ،لا بدَّ لكمال الإيمان أن يتلازم القول مع العمل، فتقوى الله وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وإحياء سنته دليل على ذلك ، وقد قال تعالى { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7 )}(الحشر) وضوح في العمل وضوحَ الشمس في رابعة النهار.

4- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}(التوبة) ،فمن ملازمة التقوى اختيارُ الصحبة الصالحة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ومن سار في ركاب الصالحين أمن على نفسه وكان لبنة في بناء المجتمع المسلم ثم ،إن الطيور على أشكالها تقع، ومن الحكمة العربية قولهم: قل لي من تصاحب أقلْ لك من أنت.

5- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278)}(البقرة) ،فمن اتقى ظهرت آثار التقوى عليه، فتحاشى الربا ، ولن يكون المرء مؤمناً ما لم يستجب لنداء ربه وأعلن الطاعة ونبذ العصيان.

ولو ذهب القارئ يستعرض فعل الأمر ( اتَّقُوا ) لانتبه إلى أن التقوى تدفع إلى العمل الإيجابي وتدعمه وتقوّيه فيطمئن إلى أن التقوى والعمل الصالح متلازمان فلا تقوى دون عمل صالح ولا صلاح دون تقوى.
وقد سمى القرآن المتقين ( أولي الألباب) حين ناداهم قائلاً : { فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}(المائدة) ، ولن يؤمن إلا أولو الألباب ، هذا ما قررته الآية الكريمة وأكدته ، فأصحاب العقول الواعية والقلوب الحية يؤمنون الإيمان المرجوّ { ...فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)}(الطلاق)

وفي هاتين الايتين اللتين التي نعيش في ظلالهما: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}(الاحزاب)
نجد ظلالاً عدة ، من أهمها:

1- القول السدّ من مستلزمات الإيمان ولا يتم إلا به ، والسِدُّ : الصواب الذي يوافق ظاهره باطنه ، وأريد به وجه الله تعالى ، ولعل في القول السداد جِماع الخيرات ،
2- وثواب القول الصالح والعمل الصالح
أ- أن يصلح الله أحوالنا ويزيد في تصويبها .
ب- أن يغفر ذنوبنا .
ج- الإيمان بالله وبرسوله والطاعة لهما دليل الفوز والنجاح العظيم.

فإذا كنا من أهل الطاعة لله ورسوله نقول الصواب ونفعله كنا من الفائزين .
فهل وعينا ذلك وعملنا فكنا سادة الأمم ومعلميها الخير ؟!

يتبع

نبيل الجلبي
20/10/2014, 11:18 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس والعشرون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) الأحزاب


عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :
( لا يبلغْني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئا ،فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) ،
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه قال فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة، قال فثبتُّ حتى سمعت ما قالا، ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فقلت يا رسول إنك قلت لنا : ( لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا ) وإني مررت بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ،ثم قال: ( دعنا منك لقد أوذي موسى بأكثر من هذا فصبر ).

قد يخطئ المرء في تقييم أمر مّا لرجل يحبه ويقدّره في نفسه ،ثم يسترجع ما قاله فيعلمُ أن أخطأ فيستغفر الله تعالى ، وقد ينفعل لشيء يراه فيتكلم بالكلمة يسمعها آخرون ، إما أن ينقلوها فتكون النميمة وإما ان ينساها – وهذا ما ينبغي ان يكون – وإما أن يراجع من سمعها منه يلطِّفُ الجو ويوضح المراد ،ويدافع فيه عن غيبة أخيه ،فيشكره الله على ذلك ويقيض من يدافع عنه في غيابه ، فالحياة دين ووفاء!.

فإن كان سيد البشر الذي رباه الله تعالى على عينه وجعله أكمل البشر وأنقاهم – على زعم أهل الحمق – لا يعدلُ فمن يعدل ؟! يفعل هذا من في قلبه دخن ، وفي عقيدته ضعف.وفي أخلاقه شللٌ.

وقد روى مسلم رحمه الله في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :
لما كان يومُ حُنينٍ آثرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ناسًا في القسمةِ . فأعطى الأقرعَ بنَ حابسٍ مئةً من الإبلِ . وأعطى عُيينةَ مثلَ ذلك . وأعطى أناسًا من أشرافِ العربِ . وآثرهم يومئذٍ في القِسمةِ . فقال رجلٌ : واللهِ ! إنَّ هذه لَقِسمةٌ ما عُدِلَ فيها ، وما أُريد فيها وجهُ اللهِ . قال فقلتُ : واللهِ ! لأُخبرَنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ . قال : فأتيتُه فأخبرتُه بما قال . قال : فتغيَّر وجهُه حتى كان كالصَّرفِ (لونُ الذهب) . ثم قال : ( فمن يعدلْ إن لم يعدلِ اللهُ ورسولُه )!
قال : ثم قال : ( يرحمُ اللهُ موسى . قد أُوذِيَ بأكثرَ من هذا فصبرَ ).
قلتُ : لا جَرَمَ لا أرفعُ إليه بعدَها حديثًا .

وحين يُعطى هؤلاء هذا الخير الكثير فلأنهم سادة قبائلهم ، بإسلامهم يسلم خلق كثير ، ويُصرف هذا العطاء عليهم فتزداد لُحمة القبيلة ، إنها لسياسة حكيمة تؤلف القلوب ، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابياً حلالاً كثيرة فعاد هذا سريعاً إلى قومه يقول لهم : يا قوم آمنوا بمحمد فإن يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .

ويجب على المرء أن لا يوغر صدور المسلمين بعضهم على بعض فإن فعل فضعف في تربيته وخطأ في سلوكه يُنتج ضغينة وحقداً وينشر العداوة والبغضاء بين المسلمين .

قال البخاري عند تفسير هذه الآية : في أحاديث الأنبياء عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن موسى عليه السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة ( انتفاخ في الخِصية ، وتقول العامة : قَيلة) وإما آفة ، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر ( أخذه الحجر) حتى انتهى إلى ملإ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله عز وجل وأبرأه مما يقولون وقام الحجر (توقف) فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثة أو أربعا أو خمسا قال فذلك قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا }.

ولعل في تفسير هذه الآية وجهاً آخر يعضد الفكرة ويقوّيها ، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال :صعِد موسى وهارون الجبلَ، فمات هارون عليه السلام فقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته. كان ألين لنا منك وأشد حياء فأذوه من ذلك ،فأمر الله الملائكة فحملته ، فمروا على مجالس بني إسرائيل فتكلمت (الملائكةُ) بموته

ومن كان وجيها- مثل سيدنا موسى - عند الله كان مستجاب الدعوة لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه. ومن بعض وجاهته العظيمة عند الله أنه سأل اللهَ تعالى النبوّة لأخيه فأجابه وهذه من أعظم المنن التي يهبها الله موسى في أخيه أنْ جعله نبيّاً .لقد حقق الله سُؤلَه فقال { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)}(مريم) .وما أروع أن يدافع الله تعالى عن موسى عليه السلام لأنه من وجهاء الأنبياء ، ولا يرضى الله تعالى للكرام أن يُتحدث عنهم بغير ما يليق بهم. فماذا تقول في الأنبياء الكرام بل في سادة الأنبياء وأولي العزم منهم { إِنَّ اللَّـهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)}(الحج).

ولعلنا نطلب الوجاهة عند الله بالعمل والقول معاً ونسأله للمسلمين الخير والنصر والعزة فيجيبنا غلى هذا ويدافع عنّا .

أيها المؤمنون هذا ربنا العظيم الكريم – سبحان- يدعونا إلى التحلي بالشمائل الحميدة والخصال المجيدة كي نكون من خاصته سبحانه ،
فهلّا وعينا هذا واستجبنا ؟

يتبع

نبيل الجلبي
21/10/2014, 01:39 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السادس والعشرون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)}(الزمر).



قلنا نقف في مقالاتنا هذه على الآيات التي تخاطب المؤمنين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وقد يتساءل أحدنا بناء على هذا : أين الآية أو الآيات التي تبدأ بهذا النداء هنا؟ فأقول : حين بدأت هذه الآية بقوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا } ،فكأنه سبحانه قال { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } وكان الخطابُ لهذه الفئة الطيبة تحديداً، { الَّذِينَ آمَنُوا }.

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالاستمرار على طاعته وتقواه : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَـٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ } فمن أحسن العمل في دنياه نال الأجر فيها وفي أخراه ومن رأى المعصية تنتشر في بلده ويُدعى إليها بالقول الفاسد والعمل السيء ، ولم يستطع أن يُصلِح لقوة الفساد آنئذٍ ، ولم يجد أعواناً على الخير ، بل خاف على نفسه فليهاجر إلى أرض أقلَّ شروراً أو أرضٍ صالحة يعبد الله فيها ، فأرض الله واسعة لا ينبغي أن يظل المرء في مكان يخاف فيه على نفسه وأهله وعياله، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‘إذ هاجروا إلى المدينة حين رأوا الظلم يستفحل في مكة . أرض الله واسعة فإن ضاقت الأرض في مكان فقد يجد في غيرها الأمن والأمان .

وما ينبغي لحبِّ لأرض أن يكون سبباً في بقاء المسلم على الضيم أو يُضيّع دينه ويخسر آخرته ، وما أروع قوله سبحانه وتعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } ، فالأجر مضاعف يناله المسلم الذي فرَّ بدينه إلى ربه ، فيغرف الله تعالى له الثواب بما لا يتوقع – بغير حساب – وحين يرى الكريم من عبده إليه إقبالاً ، وعن الدنيا إدباراً، ووجد فيه صبراً عن حطام الدنيا وترفعاً عن سفسافها أجزل له العطاء وزاد في إكرامه أن يدخله الجنة خالداً فيها منعماً، ويُنعم عليه برضاه.

وتعال معي إلى رحمة الله تعالى وحبه لعباده الذين أنابوا إليه بعد بعدهم عنه، وقربِهم منه بعد نأي وجفوة ،بل ينادي الغارقين في الذنوب علَّهم يثوبون إلى رشدهم ، فهو – سبحانه – يناديهم نداء المحب على الرغم من كثرة ذنوبهم وإسرافهم فيما لا ينبغي أن يفعلوه ينادي على مسمع الزمان : { يَا عِبَادِي }

{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّـهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّـهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}(الزمر).

إنهم أسرفوا في ذنوبهم فابتعدوا عن درب الهداية ، ولربما رغبوا في التوبة فقال لهم شياطين الإنس والجن : لن يقبل الله توبتكم وقد تماديتم في الضلال ، فيسمعون النداء العلويّ يبعث فيهم الأمل ويزرع في نفوسهم التفاؤل : لا يقنط المرء من رحمة الله وعفوه ،ولا ييئس من غفرانه ورضاه ،
فهو سبحانه غفار الذنوب ستار العيوب ، من دنا منه شبراً دنا منه باعاً ومن دنا منه باعاً دنا الله منه ذراعاً ، وهو سبحانه لَيفرحُ بالعبد التائب المقبل بكليته عليه مادام فيه نفَسٌ يراوح، وقلب ينبض ولسانٌ يذكر ، باب التوبة مفتوح ما دام المرء حياً لم يغرغر، فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى النبي صلى لله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصا له فقال : يا رسول الله إن لي غدراتٍ وفجرات فهل يُغفرُ لي ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : ( ألست تشهد أن لا إله إلا الله ؟)
قال : بلى وأشهد أنك رسول الله ،
فقال صلى الله عليه وسلم : ( قد غفر لك غدراتك وفجراتك ) رواه أحمد.

يتوب الله تعالى على عبده حين يؤوب إليه ويسلك درب الإيمان ويعمل بما يرضيه ، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى رحمة الله حين نظر الصحابة إلى امرأة من السبي لزقَتِ ابنها في صدرها وأرضعته فقال :
( لَلهُ ارحمُ بعباده من هذه بولدها ) .

وروى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَه صلى الله عليه وسلم : ( ما أحِبُّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ })، ولأنّ باب الرحمة والتوبة واسع قال الله تعالى " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ...؟"
نقول : بلى : إنه هو الغفور الرحيم بعباده .

خلقنا الله تعالى ناقصين :{ خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}(الأنبياء) وهو العالم بضعفنا يعيننا على التوبة ،ويهيء لنا سبل الهداية .وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : ( والذي نفس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عز وجل بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم ) رواه الإمام أحمد.
ومن رحمة الله أنه أرسل رسله لمدّعي الألوهية أن يتوبوا ومثالهم فرعون ،ولمن قتلوا العشرات والمئات ومثالهم الذي قتل تسعة وتسعين فأكمل بالعابد المئة. قال الحسن البصري رحمة الله عليه انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه ،وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.

وما أروع ما رواه الفاروق رضي الله عنه إذ قال: كنا نقول: ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفا ولا عدلا ولا توبة ،عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاء أصابهم ، وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم :{ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ...} الآيات . قال عمر رضي الله عنه فكتبتها بيدي في صحيفة وبعثت بها إلى هشام بن العاص، فقال هشام لما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعِّد بها فيه وأصوِّت ،ولا أفهمها حتى قلت :اللهم أفهمنيها. قال فألقى الله عز وجل في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا ويقال فينا، فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة .

ويظل باب الأمل والرجاء بعفو الله تعالى وغفرانه مفتوحاً إلى أن يموت المرء ، والندمُ كفارة الذنب ، ولا ينفع الندم بعد الموت. ولا الحسرة – إذ ذاك- والاعتراف بالذنب ولا الرغبة في العودة إلى الدنيا ، فهذا محال ، نسأل الله تعالى كمال الإيمان والعمل بما يزين حياتنا في الدارين .

يروي القرطبي في شرح هذه الآية حواراً بين رب العزة وإبليس اللعين وأبينا آدم عليه السلام :
" إن إبليس - لعنه الله تعالى - قال يا رب إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإني لا أستطيعه إلا بسلطانك .
قال فأنت مسلط .
قال يا رب زدني .
قال : لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله .
قال يا رب زدني .
قال : أجعل صدورهم مساكنَ لكم وتَجرون منهم مجرى الدم .
قال :يا رب زدني .
قال : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)}(الإسراء) .
فقال آدم عليه الصلاة والسلام : يا رب قد سلطته علي وإني لا أمتنع إلا بك.
قال تبارك وتعالى : لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه من قرناء السوء.
قال يا رب زدني .
قال : الحسنة عشر أو أزيد، والسيئة واحدة و أمحوها .
قال يا رب زدني .
قال :باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد .
قال يا رب زدني.
قال : { يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .

إنه سبحانه ينادينا للعودة إلى رحابه والتوبة والإنابة إليه .....

فهل سمعنا النداء ووعيناه؟

يتبع

نبيل الجلبي
23/10/2014, 12:49 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السابع والعشرون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴿68﴾ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴿69﴾ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ﴿70﴾ يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿71﴾ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿72﴾ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ ﴿73﴾(الزخرف)


ما أروع موقف عباد الله المؤمنين في هذا اليوم – يوم القيامة الرهيب - وهم خائفون من عذاب الله يسمعون النداء { يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } فيرفع الخلائق رؤوسهم ويقولون : نحن عبادُ الله ، فإذا قال: { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ } نكَّس الكفارُ رؤوسهم ويبقى الموحدون رافعي رؤوسهم، فإذا قال الثالثة : { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)}(يونس) نكّس أهل الكبائر رؤوسهم وبقي أهل التقوى رافعين رؤوسهم وقد زال عنهم الخوف والحزن ، فقد وعدهم الله تعالى بالنجاة والكرامة ولن يخذلهم الله أبداً ،فوعده الحق ،وقوله الحق سبحانه
يدخلون الجنة مع أمثالهم ونظرائهم ممن كانوا مثلهم في التقوى يتنعمون ويسعدون فقد كانوا يؤمنون ويعملون ،قال صلى الله عليه وسلم :
( إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لَرجلٌ لا يدخل الجنة بعده أحدٌ، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمورٌ يغدى عليه ويراح بسبعين ألف صحفة من ذهب ليس فيها صحفة إلا فيها لون ليس في الأخرى مثله ،شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطي لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا ).

ذكر القرطبي رحمه الله أن أبا أمامة رضي الله عنه ذكرأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
( والذي نفس محمد بيده ليأخذن أحدكم اللقمة فيجعلها في فيه ،ثم يخطر على باله طعامٌ آخر فيتحول الطعام الذي في فيه على الذي اشتهى ) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ،

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن أدنى أهل الجنة منزلة من له لسبع درجات وهو على السادسة وفوقه السابعة وإن له ثلاثمئة خادم، ويغدى عليه ويراح كل يوم بثلاث مئة صحفة - ولا أعلمه إلا قال من ذهب - في كل صحفة لونٌ ليس في الأخرى وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره ومن الأشربة ثلثمائة إناء في كل إناء لون ليس في الآخر وإنه ليلذ أوله كما يلذ آخره، وإنه ليقول يا رب لو أذنت لي لأطعمت أهل الجنة وسقيتهم لم ينقص مما عندي شيء وإن له من الحور العين لاثنين وسبعين زوجة سوى أزواجه من الدنيا وإن الواحدة منهن لتأخذ مقعدها قدر ميل من الأرض ) ومن دخل الجنة لم يخرج منها ، {... لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)}(الكهف) .

عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لن يدخُلَ الجنَّةَ أحدٌ إلَّا برحمةِ اللهِ ،
قالوا : ولا أنت يا رسولَ اللهِ ؟
قال : ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدنيَ اللهُ برحمتِه ، وقال بيدِه فوق رأسِه
رواه المنذري في الترغيب والترهيب ، لكنْ يقال لهم على وجه الفضل والمنّ { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، فأعمالهم الصالحة كانت سببا لشمول رحمة الله إياهم ودخولهم الجنة ولعل تفاوت الدرجات بحسب الأعمال الصالحات ، والله أعلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافرُ يرث المؤمنُ منزله من النار والمؤمنُ يرث الكافرُ منزله من الجنة ) وذلك قوله تعالى : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }.

هذه صورة مشرقة لحالة المؤمنين الأتقياء الذين رضي الله عنهم وأرضاهم فأكرمهم في الدنيا بقوة الإيمان ويرضيهم في الآخرة برضوانه وكرمه وجنانه سبحانه

أما المجرمون فهم في عذاب مستمر لا يهدأ ولا يضعف : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ﴿74﴾ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)}(الزخرف) والمبلس من طرد من رحمة الله وحق عليه العذاب الدائم جزاء كفره واجترائه على الله واستكباره عن الحق، وهم الذين ظلموا أنفسهم حين كفروا وسخروا من الدعاة وعذبوهم وقتّلوهم ، فحين يطول عليهم العذاب ويرون الموت غايتهم وفيه انتهاء عذابهم يطلبون من مالك خازن النار أن يسأل ربه سبحانه أن يميتهم ،فإذا بالجواب قاصمة الظهر ودائمة الأحزان { ...قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77)} (الزخرف). ويالشدة فزعهم وطول أحزانهم حين يُزجرون ، كل ذلك العذاب أنهم كرهوا الحقّ وحاربوه وناصبوه العداء، ومكروا بالمؤمنين ودمّروا عليهم وكذّبوا الرسل والدعاة وآذوهم ..
{ فَهَلْ مِن مُّدَّكِر } ؟

إن الله تعالى ينادينا لنكون من عباده الصالحين الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ،

فهل نحن فاعلون؟

يتبع

نبيل الجلبي
25/10/2014, 08:06 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثامن والعشرون



لكل شيء ثمنٌ ،غالياً كان أم رخيصاً ، وكلما غلا الشيء ونفُس ارتفع ثمنُه. ونصرُ الله غالٍ لا يدفع ثمنه إلا المجاهدون العاملون الذين يبذلون الروح والنفس والمال والوقت في سبيل الله .ومن نصرَ الله َ في العمل الصالح والبعد عن الزلل أعزّه الله ورفع قدره وجعل الدنيا لخدمته والآخرة مأواه ، والمؤمن يعلم علم اليقين أن الناصر هو الله { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}(الأنفال)، وما نحن في جهادنا إلا ستارٌ لقدرة الله { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}(الأنفال). فأنا أرمي والله تعالى يأذن بإصابة الهدف ، وأنت أطلقتَ القذيفة نحو العدو، فجعلها الله جلت قدرته في مركز الإصابة ومنتصف الهدف ، فنلنا – إذ ذاك - بفضل الله أجر المجاهدين الذين أثبتوا عبوديتهم لله وإيمانهم به ،فقوّى عزيمتهم وثبّت قلوبهم ، وجعل نصره على أيديهم.
وما أروع القاضي الفاضل – وزير الناصر صلاح الدين يزف إلى الأمة الإسلامية نصر الله على أيديهم فيحمده أن جعلهم أهلاً لذلك النصر وأجراه على أيديهم..

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّـهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)} سورة محمد صلى الله عليه وسلم.

ونرى الكفار الذين يحاربون الله تعالى ويمكرون بعباده ويعملون ليل نهار للقضاء على الإسلام وأهله ولإطفاء نور الحق يبذلون ما يستطيعون للوصول إلى هدفهم ، فيخزيهم الله { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّـهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}(الانفال)، فهم يخططون ويصرفون الأموال في خدمة مآربهم فلا يصلون إليها،حين يكون المسلمون واعين متحدين متمسكين بشرع الله وحبله المتين، فيصيب الكافرين اليأسُ والقنوط ، وتدور الدائرة عليهم، هذا في الدنيا ، ومن حلّت عليه التعاسة لم يُفلح وخاب تخطيطه وضل مسعاه ، ثم مأواهم النار خالدين فيها جزاءً وفاقاً.
وقد نرى في عالمنا نصراً للعدو علينا ، فنعلم أننا خرجنا من دائرة الإيمان الكامل ووقعنا في المحظور الذي يؤخر النصر، وما علينا إلا أن نؤوب سريعاً إلى الطريق المستقيم.
فالمولى تعالى - في هذه الآية - يأخذنا إلى طريق الصلاح ويهدينا إليه ويعرّفنا كيفية الوصول إلى الهدف المنشود في هذه الحياة.
ثم ينادينا مولانا قائلاً :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)} (سورة محمد صلى الله عليه وسلم).
إنّ دربَ الهداية الإيمانُ بالله تعالى وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وفي طاعتهما ، فمن آمن أحبَّ ، ومن أحبّ أطاع، وما أحكم قول الشاعر :

تعصي الإله وأنت تزعم حبَّه ! * هذا لَعمري في القياس بديعٌ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتَه * إنّ المحبَّ لمن يُحبُّ مطيعٌ

وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كلُّ أمتي يدخلون الجنةَ إلا من أبى .
قالوا : يا رسولَ اللهِ ، ومن يأبى ؟
قال : من أطاعني دخل الجنةَ ، ومن عصاني فقد أبى ، (رواه البخاري رحمه الله في صحيحه).

ولن يُقبل العمل إلا بطاعتهما فمن حاد عن شرع الله لم يُقبل منه عمله ولا إيمانه :
{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّـهِ الْإِسْلَامُ (19)}(آل عمران ).
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)}(آل عمران)،
قواعد ربّانية تاخذ بيد المؤمن الواعي إلى حيث النجاحُ والفلاحُ بأقصر الطرق وأحكَمِها.
وغير ذلك الخسارة والبُطلانُ ، وما أسوأ موقف من ظنَّ أنه ينجح في مسعاه بعيداً عن أمر الله وشرعته ، وسنة رسول الله وإرشاده. ولْنتمعّنْ في قوله سبحانه : { وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فكل منّا يعمل، والعاقل يبني عمله على أساس متين فيرتفع بناؤه عالياً مكيناً ، والجاهل المكابر يبنيه على شفا جُرُف هار، فينهار به – باطلاً- في قعر جهنّم حيث يسترحم فلا يُرحم ، ويستجدي فلا يُؤبه له،

إنه سبحانه ينادينا ، فهل سمعنا النداء يقلوبنا ووعيناه بأفئدتنا ، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور.

يتبع

نبيل الجلبي
30/10/2014, 07:21 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم التاسع والعشرون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)}(سورة الحديد ).


يربي أحدنا ولده على الأدب والتحلّي بالشمائل الحميدة ، فإن أخطأ مرة وحاد عمّا رُبّي عليه نظر الأب إليه نظرة عتاب دون أن يكلمه ، فلعلَّ النظرة – في هذه الحالة – خير مُربٍّ. فإن عاد فأذنب واستمرأ الخطأ قال له والده مؤنباً مستأخراً توبته :أهكذا ربّيتك ياولدي، أما آن لك أن تقلع عن خطئك وتتوب عن زلاّتك،وقد ربيتك على فضيلة وغذَوتك العملَ الصالح ومكارم الأخلاق؟!
ومن ربّى تابع مهمّته وقوّم الاعوجاج بالنصح والإرشاد ثم بالعتاب واللوم ، ثم بالتوبيخ والتقريع، ثم بالعقوبة المناسبة تعليماً وزجراً.

وقوله تعالى { أَلَمْ يَأْنِ } عتاب واستعجال للكمال في العباد الذين رباهم رسوله صلى الله عليه وسلم على التزام الصراط القويم ، ولا بدّ من التذكير كل فترة، فالإنسان خُلق من ضعف وشبّ على نقص ، ويحتاج إلى شحذ الهمة والدفع إلى الخيرات والتحذير من الوقوع في الآثام والمعاصي.

وفي معنى قوله تعالى { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا } خطاب غير مباشر للذين آمنوا حين تحدث عن الغائبين لفظاً، الحاضرين حالاً ،وكان أول ما أمروا به أن تخشع القلوب للخالق جل وعلا ، والقلبُ لب الجسم بخشوعه تخشع الجوارح ، وكلما كان القلب خاشعاً لله خائفاً منه محباً لذاته أكثرَ من ذكره ،وارتبطت حياته بطاعته سبحانه . إنَّ ذِكرَ الله علامة الإيمان وسبيلُ العفو والمغفرة ، (وأفضل الذكر لا إله إلا الله). ومن وهب لله حياته عمل بمقتضى إيمانه ونال رضا مليكه ،ففاز بثوابه ونجا من عقابه.

والغفلة تورث البعد ، والبعد يورث الضلال، والضلال سمة الضالين من أهل الكتاب الذين قست قلوبهم حين فرغت من ذكر الله وعبادته، وضعف اتصالها به.

وكما يحيي الله الأرض بماء المطر يحيي القلوب بفيض عطائه ونور شريعته ،وكما يحيي الأرض بماء السماء يعيد إحياء المخلوقات يوم الدين. إنها معادلة واضحة لكل ذي عينين.
يذكر القرطبي رحمه الله في شرح هذه الاية أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترَفَّهوا بالمدينة , فنزلت هذه الآية , فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يستبطئكم بالخشوع ) فقالوا عند ذلك : خشعنا.

وسمي الفاسق فاسقاً لخروجه عن الفطرة واتباعه الهوى والشيطان ،وركونه إلى الدنيا ورغبته فيها ونسيانه الآخرة والعملَ لها.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (28)}(الحديد ).

من النصارى قومٌ ظلوا على دين التوحيد يؤمنون بعيسى عليه السلام نبياً، وهؤلاء صبروا على التوحيد حتى بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا من التقوى بمكان مكين ،فلهم حين يؤمنون برسالة الإسلام ويعملون لها :

1- أجرٌ مضاعفٌ،يُؤتَون أجرهم مرتين بما صبروا وآمنوا .والكِفل : الحظ والنصيب الوافي من الأجر والثواب فينجّيهم الله تعالى ، في دنياهم من الضلال وفي الآخرة يدخلهم الجنة .
2- ويغدق المولى سبحانه عليهم من رحمته وينير قلوبهم وحياتهم في دنياهم ويضيء لهم آخرتهم حين لا شمس إذ ذاك ولا نجوم ولا قمر.
3- تُغفر ذنوبُهم ، ومن غُفر ذنبُه كان من أهل الرضوان والسعادة الأبدية.

كثير ممن كانت لهم رياسة النصرانية أو اليهودية وخدموها بما أوتوا ثم تبيّن لهم الهدى من الضلال ، فأسلموا قيادهم لله تعالى رفعَ الله سبحانه أقدارهم في الدنيا بإيمانهم ودعوة الناس إلى الإسلام والتفاني بهذه الدعوة ،وبشّرهم بنعيم الآخرة وخلود الحياة فيها في جواره – سبحانه- وكرمه.
ولا تسل عن عقاب أهل الكتاب الذين حرّفوا وبدّلوا فقست قلوبهم وزاغوا عن درب الهداية وباعوا نفوسهم للشيطان فكانوا ادوات في الإفساد والصد عن سبيل الله ، هؤلاء ظلموا أنفسهم ورموا بها في مهاوي الدركات السفلى من النار .
إن لكلٍّ من عمله واجتهاده نصيباً، فأنعم بمن باع حياته لله ، وأبئِس بمن باع نفسه للشيطان وغوايته،
إنه سبحانه يدعونا إلى خشيته والخشوع في عبادته والتقرّب إليه لنيل مرضاته ..
هل نعد بذلك ونسعى إليه ؟!
اللهم اهدنا لأحسن الأحوال ، لا يهدينا لأحسنها إلا أنت ،
وأبعد عنّا سيئها ، لا يُبعد عنّا سيئها إلا انت .

يتبع

نبيل الجلبي
30/10/2014, 07:23 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ۖ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) سورة المجادلة


ذكرت أمنا السيدة عائشة رضي الله عنها أنها كانت قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرأة التي ظاهرها زوجها تشتكي إليه فلم تسمع ما قالت ، وسمع الله –سبحانه- شكواها : { قَدْ سَمِعَ اللَّـهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّـهِ وَاللَّـهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)}(المجادلة).
فسبحانك يارب من إله عظيم تسمع كل شيء وترى كل شيء ، فسبحانك ، سبحانك ( إن الله يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء ).
فهو محيط بخلقه ،مطّلع عليهم يسمع كلامهم ويرى مكانهم حيثما كانوا وأينما حلّوا ، يعلم السرَّ وأخفى ،ومع ذلك تكتب رسُلُه من الملائكة ما يتناجى به عباده لتوثيقه ،فيُعرض عليهم يوم القيامة بتفاصيله كاملة وقد نبهنا الله تعالى محذراً : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)}(الزخرف) ، فلا يغيب عنه من أمورهم شيء { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال الإمام أحمد رحمه الله : افتتح الآيةَ بالعلم واختتمها بالعلم .

يقول ابن كثير رحمه الله: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة وكانوا إذا مر بهم الرجل، من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم ،فترك طريقه عليهم ،فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ،فلم ينتهوا وعادوا إليها ،فنزل قولُه تعالى:
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّـهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّـهُ بِمَا نَقُولُ ۚ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)}(المجادلة) .

والنجوى تَسارُّ اثنين بينهما ثالث لا يسمع ما يقولان ، فيُهيّأ إليه أنهم يقصدان به الشرَّ ، وقد نهى القرآن والسنّة عنه ، وما نُهي عنه عُدَّ في الإثم. وأما العدوان فتجاوز الحقوق مما يورث الخوف والكراهية .
أما معصية الرسول ومخالفته فقد اصر اليهود عليها فحين يرونه صلى الله عليه وسلم يحيونه بقول فيه ظاهره تحية وفي باطنه سبٌّ ودعاء عليه ، فقال تعالى فاضحاً سرّهم وموبخاً : { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّـهُ } ، فعن عائشة قالت :
دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم ( والسامُ: الموتُ)
فقالت عائشة : وعليكم السام والذامّ واللعنة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش )
قلت ألا تسمعهم يقولون السام عليك" ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أوما سمعت أقول: وعليكم ) ، وقال ( إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا ) .

وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي فسلم عليهم فردوا عليه ،فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تدرون ما قال ؟ )
قالوا :سلَّمَ يا رسول الله .
قال : ( بل قال سام عليكم ) أي تسامون دينكم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ردوه )
فردوه عليه فقال نبي الله : ( أقلت سام عليكم )؟
قال نعم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك ) ، أي عليك ما قلت.
والذي أتعجب منه أنه لم يُخف ما قاله ولا أنكره ، إنما قاله متحدياً ، وهذا دأبهم وسوء أدبهم يتكرر ويستمرّ.

يفعل اليهود هذا ويظنون أن الله تعالى سيعاجلهم بعذاب الدنيا لو كان محمد نبياً ، وإذ لم يعاجلهم بالعقوبة الدنيوية السريعة فهو – سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم – ليس نبياً بزعمهم.وهذا تجرّؤٌ فاجر على الله تعالى فقال الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا ۖ فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)}(سورة المجادلة)

نُهي المسلمون عن التناجي المؤذي الذي اتصف به المنافقون وغيرهم من كفار أهل الكتاب وأمرهم أن يتناجّوا بفعل الخير وقوله، وأن تكون تقوى الله نصب أعينهم ومرضاتُه هدفَهم. فهو سبحانه مطّلع عليهم – ظاهرهم وسرائرهم- ويوم القيامة يعرضها عليهم .

عرض رجل لعمر رضي الله عنه فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنْ قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون { وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَـٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)}(هود). أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.

{ إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۚ وَعَلَى اللَّـهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} (سورة المجادلة).

إنَّ المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءا إنما تصدر من المتناجين بتسويل من الشيطان وتزيينه ليسوء المسلمين، وبما أن النفع والضر بيد الله وحده فليستعذ المسلم بالله وليتوكل عليه ،ومن توكل على الله لم يضرَّه أحد. فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه ) أخرجه مسلم.

من الآداب الإسلامية العالية أن لا يحدث التناجي الذي يورث حزناً وألماً للمسلم، فإن كان الحضور في المكان نفسه كثيراً وتناجى كل اثنين أو ثلاثة بأمر خاص بهم وانشغلوا عن الآخرين فلا تناجيَ إذاً . وينبغي أن تسود في المجتمع المسلم سمات الود والمحبّة والأُلفة ، نمتنع عما يسيء إلى إخواننا ونفعل ما يسرهم ويقرّب بعضهم من بعض.ويزرع السعادة والأمان في ربوعهم .

إنه سبحانه ينادينا إلى آفاق حياة الطيبة ويدعونا إلى سلامة الصدر ، فهل نحن واعون منتبهون؟

يتبع

نبيل الجلبي
01/11/2014, 07:56 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الحادي والثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّـهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۚ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) سورة الحشر


جاءت هذه الآيات تتويجاً للآيات التي سبقتها ، فقد عاقب الله تعالى يهود بني النضير حين أرادوا قتل نبيه الكريم غيلة بالخوف يغزو قلوبهم ، فأجلاهم عن المدينة وجعل ديارهم للمسلمين ، ثم مدح المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم جميعاً ،فالمهاجرون تركوا ديارهم للحفاظ على دينهم ، والأنصار احتضنوهم وقدموهم على أنفسهم. ثم فضح المنافقين وجبنهم ، واليهود وخوفهم ، ووصف المنافقين -الذين وعدوا اليهود بمنعهم والدفاع عنهم ثم نكولهم السريع عن ذلك خوف المسلمين -بالشيطان الذي زيّن للمرء الكفر ودعاه إليه ، فلما وقع فريسة لوسوسته تبرّاَ منه، فهما معاً في جهنّم.
هكذا كان عقاب من نسي الله تعالى وجاهره بالعداوة ،فكان النداء للذين آمنوا أنْ :

1- يتقوا الله في أنفسهم قولاً وعملاً.
2- أن يعملوا للآخرة حين لا ينفع مالٌ ولا بنون، والنجاح فقط لأهل الإيمان الذين كان خوف الله تعالى وإرضاؤه زادهم إليه.
3- التنبيه إلى علم الله بما بعمل المرء وما يقول ، فلا يخفى على الله شيء،والإنسان محاسب على كل صغيرة وكبيرة .
4- من نسي الله وأوامره ونواهيه ضل وسقط في سعيه، وفُضح أمرُه كما فُضح المنافقون في وعدهم لليهود بمساعدتهم ضد المسلمين ،فباءوا جميعاً بالخزي والهوان. فمن نسيَ أو تناسى ما كُلّف به عامله الله بالمثل فتناساه،
5- ومن تعامى عن دين الله وهجَرَه كان فاسقاً ، والفاسقون من أهل النار، والعياذ بالله .
6- المؤمنون يفوزون برضاء الله وجنته ، والفاسقون يبوءون بغضب المولى وناره ، وشتان ما بين النهايتين فأصحاب الجنة أهل النعيم المقيم والحياة الرغيدة الخالدة.

إن القرآن هو الهادي إلى الخير المحض وما عداه سراب لا حقيقة له:
{ إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)}(سورة الإسراء) .
وفي سورة الحشر هذه نجد المعنى نفسه يُضاف إليه المثال الذي يُثبت في النفس الفكرة ويؤيدها :
{ لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} .
فإذا كانت الجبال تعي حقيقة كتاب الله وتتمثله فهماً وتطبيقأ ، ومعنىً ولفظاً فتخشع له، وتكاد صخوره الصمّاء تتشقق وتتهاوى من خشية الله ووعِظَمِ جلاله سبحانه، أفلا تتطامن نفوس البشر فتعلمَ المهمة الملقاة على عاتقها وتعمل ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار؟!

لقد ذكر التفكر في القرآن في صيغ متعددة يأمر بها الناسَ أن يتفكروا في أنفسهم وفيما حولهم زهاء أربع عشرة مرة ، إن الفرق بين الإنسان والحيوان الأعجم ( التفكر والتدبّر ) ثم العمل السليم الذي يحقق الهدف ويصل بالمرء إلى شاطئ السلامة
فإذا فكر المرءُ وتدبّر وصل إلى اليقين بأنّ الله تعالى :

{ هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ (22)
هُوَ اللَّـهُ الَّذِي لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّـهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
هُوَ اللَّـهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}(سورة الحشر)

إنه سبحانه يدعونا إلى النأي عن وسوسة الإنس والجنّ وإلى التفكر في الحياة وسببها ومآل الإنسان بعد الموت .. وإلى العمل الصالح .فهل نعي ونتدبر؟ ..

من فعل ذلك كان من الناجين وفي عِداد الفائزين.

يتبع

نبيل الجلبي
03/11/2014, 07:52 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثاني والثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) سورة الممتحنة


نداء للمؤمنين أن يكونوا حذرين في التعامل مع الأعداء الذين إن رأوا من المسلمين قوة أظهروا لهم من طرف اللسان حلاوة وهم يمكرون بهم ويعملون جهدهم للإيقاع بهم ،

كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة فقد كان رجلا من المهاجرين وكان من أهل بدر أيضا وكان له بمكة أولاد ومال ولم يكن من قريش أنفسهم ،بل كان حليفا لعثمان فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال " اللهم عمِّ عليهم خبرنا " فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يدا ،فأطلع الله تعالى على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه فبعث في أثر المرأة، فأخذ الكتاب منها قال عليٌّ رضي الله عنه : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال " انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها " فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا أخرجي الكتاب قالت ما معي كتاب .قلنا لتخرجِّن الكتاب أو لنلقين الثياب. قال فأخرجت الكتاب من عقاصها فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا حاطب ما هذا ؟ " قال لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه صدقكم " فقال عمر دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه قد شهد بدرا ما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فأنزل الله سورة الممتحنة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ...}

1- فالولاية للذين آمنوا، وأما العدو فلا ولاية له على المسلمين، بل الحذر والتاهب لما قد يبدر منه.
2- ومن كان عدوّاً لله فهو عدوٌّ لأولياء الله المسلمين ، قولاً واحداً، فلا ينبغي أن نأمن جانبهم.
3- يمكن أن يعاملوا بحذر أما المودّة والحب والتآخي فللمؤمنين ليس غير .
4- سبب العداوة الكفرُ بالله ومحادّتُه ومحادّة أوليائه والغدرُ والإيقاع بهم .
5- ومن الدلائل على كرههم للمسلمين أنهم عذّبوهم في مكة وحاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فاضطر المسلمون إلى الهجرة جنوباً ( الحبشة) ثم شمالاً ( المدينة المنوّرة) والحروب التي شنوها على المسلمين في بدر وأحد والخندق وغيرها رغبة في استئصال الإسلام وأهله. وما يفعلونه بالمسلمين من حقد وإيذاء على مدى التاريخ وإلى أن تقوم الساعة أكبر دليل على مكرهم بالمسلمين وغدرهم بهم.
6- والمجاهد في سبيل الله لا يتخذ من الكفار أصدقاء يُسِر لهم بالمودّة بل يتقرب إلى الله بمحبته وطاعته ومجاهدة الكفار والمنافقين .
7- والله تعالى بعلمه لما نخفي وما نعلن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فينبهنا إلى العمل الصالح الذي يرضيه ، ومن نأى عن ذلك فقد ضل الطريق الصحيح إلى مرضاته سبحانه.
فبِم يتصف هؤلاء الأعداء الذين حذَّرَنا الله منهم؟ يقول تعالى :
{ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)}(الممتحنة)

1- إن تمكنوا من المسلمين ففاقوهم قوة وعدداً أظهروا العداوة التي أضمروها في ضعفهم .
2- وبطشوا بالمسلمين قتلاً وذبحاً وتنكيلاً فساموهم الذل والإهانة وسبوهم وشتموهم وعابوا دينهم وأظهروا خبيئة أنفسهم { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}(التوبة).
3- ويودون أن يرتدّ المسلمون عن دينهم ، ويعملون لذلك ليكونوا في الكفر مثلهم.

{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ ۚ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)}(الممتحنة)

ليس للقرابة والنسب عند الله تعالى قيمة ما لم يشفعها إيمان وعمل صالح،ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ،ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ولو كان قريبا إلى نبي من الأنبياء . فعن أنس رضي الله عنه أن رجلا قال يا رسول الله أين أبي ؟
قال " في النار" فلما قفّى دعاه فقال " إن أبي وأباك في النار" ورواه مسلم وأبو داود.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)}(الممتحنة).

البَون بين المؤمنين والكفار واسع ، لا لقاء في الهدف الأصيل ، إنما نلتقي في بعض المصالح الدنيوية المؤقتة ، ثم يستمر الصراع بين الطرفين ، أحدهما الحقُّ والثاني الباطل ،وكل يسعى إلى الانتصار على الآخر ويحشد له كل القوى.
وفي هذه الآية الأخيرة من السورة يأتي النهي واضحاً عن موالاة الكافرين كما نهى عنها في أولها وليسوا سوى اليهود والنصارى والملاحدة ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق الطرد والإبعاد فكيف يواليهم المسلمون ويتخذونهم أصدقاء وخُلاّناً وقد جحدوا الآخرة حين أنكروا الحساب والعقاب والثواب !
إن الكفار بإنكارهم يوم الدين اقتنعوا أنهم لن يروا آباءهم ومن سبقهم إلى الموت ،وأنه لا بعثَ ولا نشور،كما أن الكفار من أصحاب القبور حين عاينوا الحقيقة ورأوا أنهم من أصحاب النار يئسوا من النجاة منها وايقنوا أنهم من أهلها .
فما ينبغي للمسلم – إذاً – أن يتولى الكافر فيقدم مصلحته على المسلمين وإلا كان منهم .
إننا نرى كثيراً ممن يُحسبون على المسلمين والَوا الكفار وعملوا في خدمتهم واندمجوا فيهم واتخذوهم قدوة وكانوا جنوداً يخدمون مصالحهم ، هؤلاء على خطر كبير ينزع الإيمان من نفوسهم ويودي بهم في ما لا يُحمد عقباه من غضب الله ومقته، والعياذ بالله.

إنه سبحانه ينادينا منبهاً ومحذّراً ،

فهل وعينا الأمر واصلحنا أمرَنا وسرنا على هدى الحكيم الخبير؟

يتبع

نبيل الجلبي
05/11/2014, 12:13 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثالث والثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّـهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ۚ ذَٰلِكُمْ حُكْمُ اللَّـهِ ۖ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّـهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12) سورة الممتحنة


من بين ما اتفق عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمر في صلح الحديبية أنّ من جاء المسلمين وقد آمن ردّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى قريش ، ومن جاء قريشاً قد ارتد عن الإسلام فلا يُردُّ إلى المسلمين .

فلمّا هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط إلى المدينة قَدِم أخواها عمارة والوليد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه في ردّها ، فمنع القرآن المسلمين أن يرُدّوا النساء إلى المشركين وأنزل آية الامتحان، فكان صلى الله عليه وسلم يسألُهنَّ بالله : ما خرجَتْ بُغضاً لزوج ، ولا رغبة عن أرضٍ لأرض، ولا التماساً لدنيا ،ولا رغبة في زوج آخر، إنما خرجت حبّاُ لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام. وكنَّ يشهدنَ أنه لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسولُ الله.

هذه الآية حرَّمت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ، فكان أبو العاص ابن الربيع زوج زينب رضي الله عنها ابنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسرى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين :
إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا
ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه، فبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة في السنة الثانية للهجرة إلى أن أسلم زوجها سنة أربع فردها عليه بالنكاح الأول ولم يُحدِثْ لها صَداقا ، فقد كان إسلامه قبل تحريم المسلمات على المشركين بسنتين .

فإذا انقضت عدّةُ المهاجرة ولم يُسلم زوجها انفسخ نكاحهما – إن أرادت- وتزوجت مسلماً. ويعاد للمشرك ما دفعه من مهر. ومن تزوج المهاجرة مَهَرَها صَداقَها،
كما أنه لا يجوز للمسلم أن يحتفظ بزوجته المشركة ، وله أن يُطالب بمهرها الذي دفعه ، فإن أبى وليُّها المشركُ أخذه من بيت مال المسلمين ،أوْ من غنيمة يغنمها المسلمون
وكانت بيعة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة :

1- أن يوحدنَ الله فلا يُشركن به شيئاً
2- ان يكُنّ عفيفات فلا يسرقنَ ولو مِن أزواجهنّ ولا يأخذْنَ من أموال أزواجهن إلا بالمعروف .
3- وأن يحفظن فروجهنّ فلا يزنين ، إن المرأة الحرة لا تزني والمؤمنة تحفظ شرفها وشرف أهلها وشرف زوجها .
4- أن يعتنين بأولادهنّ وينشِئنَهم نشأة إسلامية طيبة ، فهم أمانة في أعناقهنّ.
5- لا كذب ولا نميمة ولا غيبة ويُعفِفن السنتهنّ عن قالة السوء،
6- أن يُطِعْنَ النبي صلى الله عليه وسلم في أوامره ، وينتهين عن نواهيه ويعملن الخير الذي يأمرهنّ به.

فلما بايعنه على ذلك قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعَتَهُنَّ واستغفر لهنّ الله تعالى ،
وما أسرع قبولَ رب!ِ العزة استغفارَ نبيه للمؤمنين والمؤمنات، إن الله تعالى غفور رحيم يحب عباده التائبين، ويقبل توبتهم ويتجاوز عن سيئاتهم ، ويقلب سيئاتهم حسنات ...سبحانه من ربٍّ كريم.

إن الله تعالى ينادينا – معشر المؤمنين- ليدخلنا رحمته ويجازينا رضوانَه

فهل ترانا نسرع إلى ذلك ؟ اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك.

يتبع

نبيل الجلبي
07/11/2014, 12:45 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الرابع والثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّـهِ وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا ۚ قُلْ مَا عِندَ اللَّـهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّـهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّـهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) (سورة الجمعة)


في يوم الجمعة ، وكان يُسمّى يومَ العروبة:
1- كمُلَت جميع الخلائق.
2- خُلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرِج منها
3- وفيه تقوم الساعة
4- وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل فيها الله خيرا إلا أعطاه إياه كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح .
5- وثبت أن الأمم قبلنا أمِروا به فضَلّوا عنه ،واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق ،واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة ،
روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
نحن الآخِرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ،ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه ،فهدانا الله له ،فالناس لنا فيه تبعٌ.اليهود غداً والنصارى بعدَ غد ( لفظ البخاري) ، وفي لفظ لمسلم :
أضلَّ الله عن الجمعة من كان قبلنا ،فكان لليهود يومُ السبت وكان للنصارى يومُ الأحد، فجاء الله بنا ،فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد وكذلك هم تبعٌ لنا يوم القيامة ،نحن الآخِرون من أهل الدنيا والأوَّلون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق
6- وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ } والسعيُ القصدُ والعَمدُ والاهتمام ، وهذا ما نفهمُه من قوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19)}(الإسراء) وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرآنها " فامضوا إلى ذكر الله "
فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نُهي عنه لِما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة ،وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا ،فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا . رواه البخاري ،
وقال الحسن البصريُّ :أمَا والله ما هو بالسعي على الأقدام ،ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة في قوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ } أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشْيُ إليها ،وكان يتأول قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ...(102)}(الصافات) أي المشْيَ معه .وروي عن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وغيرهما نحو ذلك .( عن تفسير ابن كثير بتصرُّف)
ويستحب لمن جاء إلى الجمعة :

1- أن يغتسل قبل مجيئه إليها لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا جاء أحدُكم الجمعة َ فليغتسل . ولهما عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : غُسلُ يوم الجمعة واجب على كل محتلم ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حقٌ لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ،يغسل رأسه وجسده ، رواه مسلم وعن جابر رضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسلُ يومٍ، وهو يوم الجمعة . رواه أحمد والنسائي وابن حِبّان .

2- أن يكون ليوم الجمعة أثرٌ إيجابي على الأهل ، فعن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من غسَّل واغتسل يوم الجمعة ،وبكَّر وابتكر، ومشى ولم يركب ،ودنا من الإمام واستمع ،ولم يَلْغُ كان له بكل خطوة أجرُ سنةِ صيامِها وقيامِها . وهذا الحديث له طرق وألفاظ ،وقد أخرجه أهل السنن الأربعة ،وحسنه الترمذي .

3- ان يأتي للجامع مبكِّراً زيادة في الثواب والأجر: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بدنة ،ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ،ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشا أقرن ،ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ،ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر . والمقصود بالساعة هنا التبكير وقصْدُ الثواب ورضا الله تعالى .

4- أن يلبس أحسن ثيابه – إن أمكنَ- ويتطيبَ ويتسوَّك ويتنظف ويتطهر. فعن ابي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواكُ وأن يمس من طِيب أهله . وروى ابو أيوب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:
من اغتسل يوم الجمعة ومسَّ من طيب أهله إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد ،فيركعَ إن بدا له ،ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت إذا خرج إمامُه حتى يصلي كانت كفارةً لما بينها وبين الجمعة الأخرى .
وروى ابو داود وابن ماجة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر : ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبَي مهنته .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثيابَ النمار فقال : ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته . رواه ابن ماجه . وكثيراً ما نرى بعض المصلين يدخلون المسجد بثياب العمل فيوسخون المسجد ويؤذون المصلين .

5- الانصراف إلى متابعة الخطيب والانشغالُ بما يقول عن الدنيا ، فقد كان لأحدهم تجارة قدمت والمسلمون يسمعون خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم ظهر الجمعة فانصرف اكثرهم إليها وبقي مع النبي صلى الله عليه وسلم القليل من المصلين، فنزل العتاب على ذلك في قوله تعالى : { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا .
لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم سوى نداءٍ واحد ( أذان)يُؤَدّى بين يديه وهو على المنبر ، واستمرّ هذا على عهد الصديق والفاروق رضي الله عنهما، فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس زاد النداءَ الثاني على أرفع بناء قرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ( الزوراء) ،إذ أمر عثمانُ رضي الله عنه أن ينادى قبل خروج الإمام ،حتى يتذكر الناسُ صلاة الجمعة مبكرين فيجتمعون . واتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني ، واختلفوا هل يصح إذا تعاطاه متعاطٍ أم لا ؟ على قولين وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه ،والله أعلم . إن الاهتمام بصلاة الجمعة خير كثيرٌ لا تدانيه الدنيا ولو اجتمعتْ .

آداب ما بعد صلاة الجمعة:

1- ينتشر الناس في الأرض ويعودون إلى ممارسة أعمالهم بعد أن أطاعوا الله تعالى في السعي إلى الجمعة. كان أحد الصالحين إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.

2- ذكرُ الله تعالى وشكره على تمام نعمة العبادة { وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فما عند الله من الثواب في الدار الآخرة { خَيْرٌ مِّنَ اللَّـهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ۚ وَاللَّـهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته ..
كانت العرب تسمّيه العروبة وقيل سمّاه كعب بن لؤي لاجتماع الناس فيه وإليه، وقال الزمخشري في كشّافه : « قيل إن الأنصار قالوا : لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر اللّه فيه ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكَّرهم فسمّوه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه ، فأنزل اللّه آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام .
وأما أول جمعة جمعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فهي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباءَ على بني عمرو بن عوف، وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسّس مسجدهم ،ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ،فخطب وصلّى الجمعة ،

وعن بعضهم : أبطل اللّه قول اليهود في ثلاث :

1- افتخروا بأنهم أولياء اللّه وأحباؤه فكذبهم في قوله : { ... فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6)}(الجمعة
2- وبأنهم أهل الكتاب ،والعربُ لا كتاب لهم فشبّههم بالحمار يحمل أسفارا
3- وبالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع اللّه لهم الجمعة.

إنه سبحانه ينادي عباده ليقيموا شعيرة الجمعة ويجعلوا من صلاة الجمعة منبراً فكريا سياسياً اجتماعياً ، ويجتمعوا على العبادة والحب في الله ،والإخلاص لله سبحانه

فلعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

يتبع

نبيل الجلبي
09/11/2014, 10:36 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الخامس والثلاثون



سورة ( المنافقون) فضيحة كبرى لهم فقد شهد المولى سبحانه أنهم كاذبون في دعواهم ( الإيمان)، فهم يعترفون للرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوّة لساناً ، وقلوبهم منكرة لذلك ،فوصفهم الله تعالى بالكذب :
{ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّـهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)}.
وما أكثر الذين يكذبون فيحلفون الأَيمان الغليظة إنهم لعلى حق ، يُظهرون الموافقة بلسان عسليٍّ ينقط منه سمُّ الأفاعي القاتل.

ولكِن نتساءل : هل دخل الإيمان إلى قلوبهم ثم ارتدّوا أو ظلوا – ابتداءً من الكافرين؟
والجواب صريح في هذه السورة : { ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) ،فقد دخل الإيمان قلوبهم فترة ،ثم انقلبوا على أعقابهم كافرين ، فكانت قلوبهم أظلم من قلوب الكفار الذين لم يؤمنوا أبداً . هؤلاء عرفوا الحقيقة وأنار الإسلامُ قلوبهم ،ثم انقطع النور فجأة فعاشوا في ظلام أشد مما كانوا عليه قبل إسلامهم.

من صفات هؤلاء المنافقين في هذه السورة الفاضحة:
1- أنهم كاذبون ، يستمرئون الكذب ليُضلوا الناس عن الحق.
2- قلوبهم – بسبب ارتدادهم مُربَدَّة سوداءُ، موسومة بوسم الجهل وسوء التصرّف.
3- حبهم للحياة – أيّةِ حياة – يخافون الموت ويفرون من المعركة
4- منظرهم غير مخبرهم ، يعجبك منظرهم وحديثهم ،ويفضحهم جبنهم وخوفهم.
5- يستكبرون على الإيمان ويكرهون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .
6- يدْعون عملياً إلى مقاطعة المسلمين والتضييق عليهم مادياً ومعنوياً لصرفهم عن الدين.
7- يصرحون في فلتات ألسنتهم بالكره العميق للإسلام واهله ، ويودون للمسلمين الذلة والانكسار.

يأتي النداء الإلهي - بعد فضح المنافين :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّـهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}.
يحض المؤمنين على :

1- ذكر الله تعالى الدائم ، بل ينبغي أن يكون من أولويات الحياة الدنيا . ولن ينفع المرءَ ولدُه ولا ماله إن قصر في عبادته لله تعالى
2- الإنفاق في سبيل الله علامة الإيمان به سبحانه فالله تعالى هو الرزاق ، والمال فضلٌ منه وخير ، وما يكون شكر الله إلا بالإنفاق في سبيل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}(البقرة) ، وعند الموت ولقاء الله يُحس المسلم أنه كان بخيلاً شحيحاً ويتمنّى لو كان كريماً ، ويسأل الله أن يُعيده للحياة ليكون من أهل البرّ والجود ، وهيهات هيهات .كان ما كان وأتى ما هو آتٍ
وتابعْ معي هذه الصورة متدبراً حال الكفار يستجْدون العودة إلى الدنيا ليؤمنوا ويُصلحوا ما كان ، { وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44)}(إبراهيم) ،
وتأمل الصورة الأخرى المشابهة في قوله تعالى : { حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)}(المؤمنون).
فهل يستجيب الله لهم ، حاشا وكلاّ، لقد سبق السيفُ العذلَ،

فهل وعينا نهايتنا فعملنا لما يُنجينا .. اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك.

ملاحظة نحويّة توضح المعنى:
قوله تعالى: { رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ }
المقصود : ربِّ: لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ، فإنْ أصَّدَّقْ أفُزْ وأكن من الصالحين.
أكُن معطوفة على جواب شرط محذوف ( أفُز) أمّا (المصدر المؤول من أنْ و أصَّدَّق الأولى فمعطوفة على مصدر متصيد من أخّرتني) وكأنك تقول: ( هلاّ تأخيرٌ فتَصَدُّق ) ... والله أعلم .

يتبع

نبيل الجلبي
10/11/2014, 11:59 AM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السادس والثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)سورة التغابن


يوم التغابن : يوم القيامة، فيغبن أهل الجنّة أهلَ النارِ حين يدخلون الجنّة ،ويرثون خيرات من كانت النار نصيبه ، ويرث الكفارُ في جهنم نصيبَ أهل الجنة في النار ، في هذا اليوم يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، قال تعالى : { قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَىٰ مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (50)}(الواقعة) ، وقوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } ، وقال مقاتل بن حيان لا غُبْنَ أعظمُ من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ويذهب بأولئك إلى النار . وفي الحديث :
( ما من عبد يدخل الجنة إلا أُرِيَ مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخلُ النار إلا أرِيَ مقعدَه من الجنة لو أحسَنَ ليزداد حسرة ).

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
" إن الله تعالى يقيم الرجل والمرأة يوم القيامة بين يديه فيقول الله تعالى لهما قولا فما أنتما بقائلين ، فيقول الرجل : يا رب أوجبت نفقتها علي فتعسفتها من حلال وحرام ، وهؤلاء الخصوم يطلبون ذلك ، ولم يبقَ لي ما أوفي به . فتقول المرأة : يا رب وما عسى أن أقول : اكتسبَه حراما وأكلتُه حلالاً ، وعصاك في مرضاتي ولم أرضَ له بذلك ، فبُعدا له وسُحقا ، فيقول الله تعالى : قد صدقت . فيؤمر به إلى النار ويُؤمر بها إلى الجنة ، فتطلع عليه من طبقات الجنة وتقول له : غبنَّاك غبنَّاك ، سعِدنا بما شقيتَ أنت به " فذلك يومُ التغابن .

تبدأ السورة الكريمة بتسبيح الله وحمده فهو الإله العظيم الذي يستحق التسبيح والحمدَ ، خلقنا وهدانا إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، فآمن السعداء وكفر الأشقياء.
ومن قدرته أنْ خلق السموات والأرض وصوَّر البشر في في أجمل هيئة ، وعظّمَ الله ذاته العلية حين ذكر في هذه السورة بعض صفاته ، فهو الله الحميد القديرُ الخالقُ المُصوِّرُ العليمُ، عالم الشهادة ، العزيزُ الحكيم...
وردّ على منكري البعث والنشور قصور نظرهم وضعفَ تفكيرهم.ونبّهنا إلى مصارع الأمم الكافرة ،وأمرنا بالإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم ليغفر لنا ويرزقنا رضاه والجنّة في نعيم أبديٍّ خالد، وهدد الكافرين بالنار وبئس المصير،
ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله هدى الله قلبَه وعوَّضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه أو خيرا منه .
ثم نادانا سبحانه منبهاً إلى :

1- أن بعض الزوجات والأولاد يُبعدون المرء عن القيام بواجباته في صلة الرحم وطاعة الله ، إذ يستاثرون به عن وأمه وأبيه وأهله وأقاربه .
رُوِيَ أنَّ رجالاً أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدَعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم – بعدَ لأيٍ - رأوا الناس قد فقهوا في الدين فَهَمُّوا أن يعاقبوهم لأنهم كانوا السبب في ابتعادهم وتأخرهم ،فأنزل الله تعالى هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)}
2- والحذرُ بمعنى تقديم طاعة الله ورسوله على حب النساء والذرية - وإن كان عليه أن يسعى في خدمتهم-إلا أنَّ مطالب الاسرة تكثر وتتتابع فيقصر المرء في واجبه نحو دينه وقد ينسى او يتناسى كثيراً من الواجبات فيخسر الثواب ويستحق العقاب.
3- قد يؤدي التشاغل في خدمة الأسرة إلى الشحِّ والبخل فتقلُّ الصدقات أو تنعدم ، ويستغرق الرجل في تأمين مستلزمات الحياة الرغيدة لأسرته وينشغل بها عن كثير من واجباته الدينية ، فيُستهلك في تنفيذها .
4- لئن انتبه الرجل إلى خطئه فليتحمّلْ مسؤوليته وحده ، فلا يعاقب غيره لأنه كان صاحب القرار فتخلّى عنه ، فإن رأى أنهم ضغطوا عليه –وقد يكون- فليَعفُ وليغفر وليتصف بما أراد الله تعالى له من حِلم وصفح وعفو.
5- فتنة النساء والأولاد والمال كبيرة لا يتعدّاها إلا أولو العزم الذين ينالون الثواب الكبير والأجر العظيم.
6- لا يكلف الله نفساً إلا وسعَها فلنتَّق الله ما استطعنا ، ولنبذُل جهدنا في تقواه ورضاه سامعين مطيعين متصدّقين ، فإن فعلنا ذلك فزنا بالفضل والقرب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه ).
7- إن الصدقة تطفئ غضب الربِّ ، وهو سبحانه ينمّيها كما ينمّي الرجل فُلُوّه ، فيصير مثل الجبل، وما يُنفق المرء من شيء فهو – سبحانه- يخلفه ومهما تصدقنا من شيء فعليه جزاؤه ونزل ذلك منزلة القرض :
{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّـهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}(البقرة)، ثم يحوطنا فضله بمغفرته ويكفر عنا السيئات ، فهو الحليم الشكور.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ۚ وَاللَّـهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِن تُقْرِضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّـهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}(سورة التغابن).

فهل سمعنا نداء الملك العليم العلاّم الذي يصفح ويغفر ويستر ويتجاوز عن الذنوب والزلات والخطايا والسيئات الذي يعلم كل شيء ويرى كل شيء ولا يغيب عنه شيء، إنه عزيز حكيم.

يتبع

نبيل الجلبي
12/11/2014, 08:36 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم السابع والثلاثون


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّـهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّـهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا (1) سورة الطلاق.


في هذه السورة نجد قواعد الطلاق التي تحكم مسار المسلمين في حياتهم الزوجية وتنير لهم درب الأسرة المسلمة .

1- خوطب النبي صلى الله عليه وسلم { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ }ربما لأن المناسبة نزلت في تطليقه – صلى الله عليه وسلم - حفصة بنتَ عمر رضي الله عنهما وهي حائض ، ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرة قبل أن يمسها ،فتلك العِدة التي أمر بها الله عز وجل، كما خوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفا وتكريما ثم خوطبت الأمة تبعاً ،
2- وتبقى المطلقة في بيت مطلقها ما لم تجترحْ فاحشة واضحة، ومن طرَدَ امرأته وهي في عدتها فقد أساء إلى نفسه بعصيان أمر الله وتعدّي حدوده. ولعل بقاءها في البيت يحنِّنُ قلبه فيراجعها، فتبقى الأم ويبقى الأب على رأس أولادهما يربيانهم بحب وحنان، وتعود الأمور إلى مجاريها .
3- كان الناس في الجاهلية يطلقون نساءهم مرات عديدة ويراجعونهنَّ فجعلها القرآن ثلاث طلقات ،
4- لا يفرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً ،إن كره منها خُلُقاً رضي منها خُلُقاً آخر ، فإن طلقها فليسرِّحها بالمعروف ، وهذا من التقوى التي أُمِرَ بها المسلم.ومن اتقى الله أعانه الله في حياته ورزقه الخير العميم لا يدري كيف يأتيه.
5- التوكل على الله باب الوصول إلى المراد فيما يرضي الله ، ومن توكل على الله فهو حسبُه وكافيه، ، ومن توكل على الله أكرمه الله تعالى القادر على كل شيء الفاعل لما يريد ( عبدي أنت تريد ، وأنا أريد ، وأنا أفعل ما أريد ، فإن سلّمْتَ لي فيما أريد كفيتُك ما تريدُ ، وإن لم تسلّم لي فيما أريد أتعبتُك فيما تريد ،ولا يكون إلا ما أريد.)
6- عدّة الحامل تنتهي حين تضع حملها ، وعِدّةُ غير الحامل ثلاثة قروء ، وكذلك عدّة المرأة التي يئست من الحيض وعدة الفتاة الصغيرة التي لم تبلغ الحيض.
7- اهتمامٌ رائعٌ بالتقوى في كل آية فيها قاعدة بيّنة {.. وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)} وقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)} .
8- تسكن المطلقة في بيتها الذي طُلِّقتْ فيه، ولا ينبغي التضييق عليها ، ويُنفقُ على الحامل حتى تضع حملها، ويُحدد لها أجر إرضاع ولدها، فإن أبت إرضاعه لم تُكرَه على ذلك ، وترضعه غيرها.
9- لا يكلف الله الرجل أن يصرف على مطلقته وهي في بيته أو ترضع ولدها إلا بما يستطيع.ولعل الله تعالى يرزقه بطاعته أمر الله رزقاً وفيراً .
10- تحذير من عصيان أمر الله، وإلا نال المجتَمعَ عذابٌ شديد يضاهي عقابَ الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم لوط وقوم شعيب ..

ثمَّ ينادي الله تعالى المؤمنين في سورة الطلاق :
{..فَاتَّقُوا اللَّـهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّـهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّـهُ لَهُ رِزْقًا (11)}:

1- من صفات المؤمنين أنهم من أولي الألباب ، وأصحاب الفهم والدراية والقلوب الذكية الزكية ، وقليل ما هم.
2- فضل الله على الناس أنه لم يخلقهم ويتركهم، إنما أرسل لهم الرسل الكرام وأنزل عليهم الكتب الهادية إلى الصراط المستقيم .ألم يقل الله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)}(الحجر)؟
3- الانبياءُ رسلُ الله إلى عباده وشهداؤهم عليهم.يهدي بهم الله تعالى عباده إلى العمل الصالح ويخرجهم بهم من الظلمات إلى النور . فجزاهم الله عنا الخير كله وجازى سيدنا محمداً خير ما جازى نبياً عن أمته.
4- إنه من يعمل مثقال ذرة خيراً يره..وان جزاء الله للمتقين الطائعين جزيلٌ يدل على واسع عفوه وكرمه.

... إنه سبحانه كريم وعفوّغفور، يدعونا إلى سُبُلِ الخير وجنة المأوى ، وإلى رضاه أولاً وآخراً ..فهل نرى أولي الألباب من المؤمنين يسارعون إلى مرضاته سبحانه؟.

يتبع القسم الأخير

نبيل الجلبي
14/11/2014, 09:54 PM
سلسلة إنه ـ سبحانه ـ ينادينا

الدكتور عثمان قدري مكانسي

القسم الثامن والثلاثون /الأخير


بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) سورة التحريم


يقول المثل العربي : درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج. والوقاية من النار بالتأديب والتعليم والعمل بطاعة الله واتقاء المعاصي وبذكر الله المتواصل لساناً وقلباً ، ومساعدتهم على ذلك ، ويعلم أهله وقرابته وما له عليه دالَّةٌ ما فرض المولى سبحانه وما نهى.

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين فإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها ، رواه ابو داود وقال الترمذي هذا حديث حسن يؤمر بهذا تدريباً و تمرينا له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعاصي وترك المنكر.

إنها النار التي تصهر كلَّ ما يلقى فيها ووقودها الكفار من البشر وأصنامُهم وما كانوا يعبدون من دون الله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)}(الأنبياء) قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الاية وفي اصحابه شيخ يسأله: يا رسول الله حجارة جهنم كحجارة الدنيا ؟
فقال النبي صلي الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لصخرةٌ من صخر جهنم أعظم من جبال الدنيا كلها " قال فوقع الشيخ مغشيا عليه فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو حي فناداه قال " يا شيخ قل لا إله إلا الله " فقالها ، فبشره بالجنة قال : فقال أصحابه يا رسول الله أمن بيننا ؟
قال " نعم يقول الله تعالى : { ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}(إبراهيم) هذا حديث مرسل غريب .

أما الملائكة الغلاظ الشدادُ فطباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله وتركيبهم في غاية الشدة والمنظر المخيف.
قال عكرمة : إذا وصل أول أهل النار إلى النار وجدوا على الباب أربعَ مئة ألف من خزنة جهنم سودٌ وجوهُهم كالحة أنيابُهم ،قد نزع الله من قلوبهم الرحمة ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة ،لو طار الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر، ثم يجدون على الباب التسعةَ عشرَ، عرضُ صدر أحدهم سبعون خريفا ثم يهوون من باب إلى بابٍ خمسَ مئة سنة ،ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها هؤلاء { لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } يبادرون إليه لا يتأخرون عنه طرفة عين وهم قادرون على فعله ،ليس بهم عجز عنه . وهؤلاء هم الزبانية – لا مفرّ للكافر منهم، نعوذ بالله أن نكون من أهل النار . ولن يُقبل من الكافر اعتذارُه ولن يُرحم بكاؤُه، نسأل الله العافية وحُسْنَ الختام.

وقد مدح الله تعالى سيدنا إسماعيل إذ ربَّى أهله على الأخلاق الحميدة ،وتابعهم في توجههم إلى الله فوصفه بصدق الوعد ومتابعة صلاة أهله ،وتأديبِهم على مكارم الأخلاق ودفع الزكاة ، ومساعدة المحتاجين ، فكان عند ربه في مكانة رضيّة { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)} (سورة مريم).

ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا ...(8)}(التحريم) والتوبةُ النصوح هي الصادقة التي تمحو ما قبلها من السيئات ومن شروطها
1- (أن يتوب من الذنب، ثمّ لا يعود فيه)
2- ويندم على ما سلف منه في الماضي .ويبغض الذنبَ كما أحبَّه من قبل.
3- ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل ما كان يفعله قبل أن يتوب.ويستغفر منه كلما ذكره.
4- وفي حق الآدمي لا بد من إعادة الحق إليه وكشف الظلامة عنه.

عن عبد الله بن مسعود أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الندم توبة "
عن أبي بن كعب قال : قيل لنا أشياء تكون في آخر هذه الأمة عند اقتراب الساعة .
1- منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها وذلك مما حرم الله ورسولُه ويمقت اللهُ عليه ورسوله
2- ومنها نكاح الرجل الرجلَ وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله .
3- ومنها نكاح المرأة المرأة وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله .
وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إلى الله توبة نصوحا قال زر : فقلت لأبيِّ بنِ كعب فما التوبة النصوح ؟ فقال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال :
" هو الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبدا " .

والإسلام يجُبُّ ما قبله ، فيعود التائب كأنه لم يكن فعل شيئاً ، وبما أن الإنسان خطّاء وخير الخطّائين التوابون ، فقد يعود المرء إلى الوقوع في الذنب فعليه أن يستغفر الله ويسأل اللهَ سبحانه العفو والمغفرة ،
روى ابو هريرة عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فيما يحكي عن ربِّه عزَّ وجلَّ قال " أذنَب عبدٌ ذنبًا . فقال : اللهمَّ ! اغفِرْ لي ذنبي .
فقال تبارك وتعالى : أذنَب عبدي ذنبًا ، فعلم أنَّ له ربًّا يغفر الذنبَ ، ويأخذ بالذَّنبِ . ثم عاد فأذنب . فقال : أي ربِّ ! اغفرْ لي ذنبي .
فقال تبارك وتعالى : عبدي أذنب ذنبًا . فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذُ بالذنبِ . ثم عاد فأذنب فقال : أي ربِّ ! اغفرْ لي ذنبي .
فقال تبارك وتعالى : أذنبَ عبدي ذنبًا . فعلم أنَّ له ربًّا يغفرُ الذنبَ ، ويأخذ بالذنبِ . اعملْ ما شئت فقد غفرتُ لك " . قال عبدُالأعلى : لا أدري أقال في الثالثةِ أو الرابعةِ " اعملْ ما شئت "رواه مسلم .

من فوائد التوبة:

1- تكفير السيئات ، ومن كُفّرت سيئاته وبقيت حسناته ناد منادٍ أن سعد فلان بن فلان سعادة لا شقاء بعدها.ولعلنا بفضل الله نكون من هؤلاء.
2- ومن ذابت سيئاته وانقلبت حسنات بفضل المليك وعفوه استحق الجنة ، وصار من أهلها إنها جنات عدن أو جنة المأوى أو الفردوس الأعلى أو غيرها، والله كريم يهب عباده الصالحين ما لا يخطر على البال.
3- ويحشر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان صاحب الحبيب في المحشر لا يُخزيه الله أبداً .
4- نور المؤمنين يملأ الوديان والبطاح ويسير أمامهم يضيء لهم ماهم فيه يومَ لا شمس ولا قمر. يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نورَ المنافقين قد طفئ،
فعن أبي ذر وأبي الدرداء قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم وأنظر عن يميني فأعرف أمتي من بين الأمم وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم "
فقال رجل يا رسول الله وكيف تعرف أمتك من بين الأمم ؟
قال : " غُرٌّ محجَّلون من آثار الطهور ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم "

هذه أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يكرمها الله تعالى بالنور الكامل يوم القيامة ..

إن الله تعالى ينادينا ليجعلنا من المقرّبين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

انتهى بحمد الله