Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode_alt.php on line 1270

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode_alt.php on line 1270

Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode_alt.php on line 1270
منتديات واتا الحضارية - منتدى الدكتور إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/ ar Mon, 17 Jun 2024 16:56:17 GMT vBulletin 60 https://wata.cc/forums/1k/misc/rss.png منتديات واتا الحضارية - منتدى الدكتور إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/ محمد فى دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية - عرض ونقد ورد https://wata.cc/forums/showthread.php?109704-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%81%D9%89-%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D9%86%D9%82%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%AF&goto=newpost Mon, 17 Jun 2024 04:55:46 GMT
https://justpaste.it/fahvh
محمد فى "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية" - عرض ونقد ورد
إبراهيم عوض
]]>
منتدى الدكتور إبراهيم عوض إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/showthread.php?109704-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%81%D9%89-%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D9%86%D9%82%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%AF
محمد فى دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية - عرض ونقد ورد https://wata.cc/forums/showthread.php?109703-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%81%D9%89-%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D9%86%D9%82%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%AF&goto=newpost Mon, 17 Jun 2024 04:53:30 GMT محمد فى دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية عرض ونقد ورد إبراهيم عوض ينصبُّ الكلام هنا على مناقشة ما جاء فى المادة الخاصة بالرسول عليه السلام....
محمد فى دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية
عرض ونقد ورد
إبراهيم عوض
ينصبُّ الكلام هنا على مناقشة ما جاء فى المادة الخاصة بالرسول عليه السلام. وهذه المادة كتبها المستشرق بوهل أيضا[1]، وهو أشد مستشرقى الموسوعة إظهاراً لعداوته للإسلام وحقده على نبيه وكتابه[2]. وهو فى أول المادة يعلن أن المصادر التى تتعرض لحياة الرسول عليه السلام وسيرته لا يوثق بها ولا يعتمد عليها، أمَّا لماذا فإنه لا يُعَنّى نفسه بالجواب. ذلك أنه يرى أنه يكفى أن يصدر حكمه على شىء فنخر له على الأذقان سجداً. ولكن للأسف ليس هذا من البحث العلمى فى شىء، وإلَّا فكل إنسان قادر على أن يصدر من الأحكام ما شاء الله دون أن يشفعها بالدليل، بيد أن هذا لا يجعل من كلامه علماً ولا ما إلى العلم بسبيل.
والنقطة التى أثارها بوهل هنا هى نقطة منهجية. ولقد رأينا أنه لم يسق لنا سبباً واحداً يسوّغ به نظرته هذه للمصادر التى تتعرض لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه ثغرة خطيرة فى منهجه. وثمة ثغرة أخرى أخطر، إذ إن هذا الكاتب الذى رفض تلك المصادر هو نفسه الذى تكرر رجوعه لها واعتماده عليها وإحالته إليها على مدى مقاله، وهذا طبيعى، وإلا فمن أين سيأتى بالمعطيات التاريخية عن الرسول عليه السلام؟ أى أنه قد عاد فلحس دعواه العريضة تلك دون أن يشعر بشىء من الخجل. وقد بدا تناقضه عقيب هذه الدعوى مباشرة، إذ فى الوقت الذى رفض فيه الاعتماد على تلك المصادر فى تحديد المدة التى قضاها النبى عليه الصلاة و السلام فى مكة نراه يعتمد على بيت لحسان بن ثابت رضى الله عنة فى تحديد هذه المدة بعشر سنوات ونَيِّف[3]. أليس شعر حسان هذا أحد مصادر سيرة الرسول؟ فلماذا يثق به دونها؟ ثم أليس ما جاء فى بيت حسان هو ما تقوله سائر المصادر؟ فما الجديد الذى أتى به بوهل؟ وكيف قبل ضميره العلمى هذا التناقض وذاك الادعاء الفارغ؟
وهو يشكك أن يكون عمر الرسول عليه السلام عند تلقيه الوحى أربعين سنة ويصر على أنه ثلاثون فقط، وذلك دون أى مبرر، اللهم إلا أن كلمة "عُمُرا" فى قوله تعالى: "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" لا يمكن أن تعنى فى نظره إلا نحو ثلاثين عاماً فانظر بالله عليك إلى هذه الطريقة العجيبة فى رفض المعطيات التاريخية الثابتة والإتيان بدلاً منها بنتائج أخرى لا معنى لها ولا أساس تقوم عليه. من قال لبوهل إن "العمر" يعنى "ثلاثين" بالذات؟ وماذا يقول لو جاء آخر وقال إنها لا تعنى إلا "عشرين" أو "عشرا" أو "خمسين" أو "ستين"؟ هل يستطيع ذلك المستشرق أن يثبت لنا أن اللغة العربية حينما تستخدم كلمة "عمر" فى مثل هذا السياق لا تقصد إلا ثلاثين سنة؟ لقد وردت هذه اللفظة فى قوله تعالى مثلاً "وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ"، وواضح أن العمر هنا قد استغرق أجيالاً كثيرة؛ فماذا يقول بوهل فى ذلك؟ ثم إن القول بأن الوحى قد شرع ينزل على النبى فى الثلاثين من عمره سوف يترتب عليه أن يكون قد تزوج خديجة وهو فى الخامسة عشرة لا الخامسة والعشرين؛ فماذا يقول بوهل فى هذا أيضاً؟ لقد كان ينبغى عليه قبل المكابرة أن يستشرف النتائج التى ستؤدى إليها مكابرته هذه. لكن من الواضح أنه هو ورفاقه لا يبالون بشىء فى سبيل التشكيك فى الإسلام ونبيه وتاريخه. والتشكيك هنا لا هدف له سوى تحطيم الثقة بالمصادر الإسلامية، إلا أننا ما دمنا نجد فى المصادر أنه بُعث فى الأربعين أو بعد ذلك بقليل فلا داعى لرفض هذه المعطاة التاريخية دون دليل حاسم، وأين هو؟
وجرياً على سنته فى التشكيك نراه يقول إن الطبيعى، وقد كان محمد تاجراً وزوجاً لخديجة التاجرة، أن يظهر فى القرآن الاهتمام بالتجارة والتعبيرات التجارية، وهو يمثل لذلك بما جاء فى الآية ۱۰۸ من سورة "البقرة" والآية 9 وما بعدها من سورة "الجمعة".
وهذا كلام غير صحيح، فإن فى القرآن كلاماً عن الزراعة مثلاً وتعبيرات وتشبيهات من مجالها أكثر مما فيه عن التجارة[4]. ثم إنه لو كان كلام بوهل صحيحاً لكان المفروض أن يبرز هذا فى الوحى المكى أكثر من الوحى المدنى، إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم آنذاك قريب عهد بالتجارة فى أموال خديجة رضى الله عنها، وكانت خديجة لا تزال حية. ولكن العكس هو الصحيح بالنسبة للتعبيرات المستمدة من ذلك المجال. ثم إن الاهتمام فى القرآن عموماً بشؤون تلك الحرفة ليس بهذا الاتساع الذى يوحيه كلام بوهل[5]، وهو على أية حال راجع إلى أن مكة كانت مدينة تجارية لا زراعية، فالانحراف الذى كان يجترمه أهلها هو فى المقام الأول انحراف تجارى. وإن عدم استشهاد بوهل هنا إلا بالوحى المدنى متمثلاً فى نصَّىْ سورتى "البقرة" و"الجمعة" لدليل على ما نقول.
إن بوهل حينما يقول هذا إنما يقصد أن القرآن هو نتاج محمدى، ولهذا فهو يعكس ظروفه ونفسيته. وهو حر فيما يعتقد، بيد أن عليه أن يحترم قِيَم العلم وعقول القراء. ولسوف نبين فيما بعد عن طريق بعض المقارنات بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث أن القرآن لا يمكن أن يكون صادراً عن الرسول عليه الصلاة والسلام لأن أسلوبه غير أسلوب القرآن.
ويدعى بوهل أن الرسول قبل البعثة كان كسائر قومه وثنياً. ومن بين ما يستند إليه فى ذلك قول القرآن له عليه السلام: "وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى"، و "مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ ولا الإيمَانُ"، وأنه كما ذكر ابن الكلبى قد قدم مرة شاة للعُزَّى. كما يزعم أنه عليه السلام كان يعتقد فى الطيَرة، وأنه أخذ من الطقوس الوثنية شعيرة الذبح.
ومن المؤكد أنه لو كان الرسول يمارس الطقوس الوثنية ويعتقد اعتقادات الوثنيين قبل البعثة لهبَّ المشركون فى وجهه من اللحظة الأولى قائلين له: لقد كنت بالأمس تمارس هذا الذى تنكره اليوم علينا، فما عدا عما بدا؟ ومن جهة أخرى فالذى ذكرته المصادر التاريخية هو أنه كان يتحنث فى غار حراء قبل البعثة، ويمكث هناك بعيداً عن بيته وأسرته الليالى ذوات العدد. فلماذا يتجاهل بوهل هذا ويأتى بتلك الآراء الغربية؟ أما قوله تعالى: "وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى" فلا يعنى ما ذهب إليه الكاتب، بل هو يشير إلى فترة التحنث هذه التى طال فيها بحثه صلى الله عليه وسلم عن الحقيقة ولم يصل فيها إلى شىء قاطع تطمئن إليه نفسه اطمئناناً نهائياً. وقد قال أبناء يعقوب عليه السلام له عندما أخبرهم أنه يشم رائحة يوسف أثناء اقتراب البشير من بلدهم حاملاً قميص يوسف عليه السلام: "قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ". ولست أظن أحداً يفهم من هذا أنهم يرمونه بالوثنية. كما وَصَف موسى عليه السلام نَفْسَه عندما قتل مصرياً خطأ قبل بعثته بأنه كان "مِنَ الضَّالِّينَ"، فهل قصد ذلك النبى الكريم أنه كان وثنياً آنذاك؟ وبالنسبة لآية سورة "الشورى" فالنبى عليه السلام لم يكن يدرى فعلاً قبل بعثته شيئًا عن القرآن والإسلام. وكيف كان له أن يعرف ذلك وهو لم يكن قد اختير بَعْدُ رسولاً؟
وبالنسبة لابن الكلبى فإن عبارته هى: "قد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها يوماً فقال: لقد أهديتُ للعُزَّى شاة عفراء وأنا على دين قومى"[6]. ويلاحظ أنه لم يذكر من الذى أبلغه هذا الكلام، ولا فى أى ظرف أو لأى سبب تم تقديم القربان، ولا من كان مع الرسول عليه السلام من أبناء قومه حينذاك. ثم لماذا لم يَرْوِ ذلك غَيْرُ ابن الكلبى؟ إن مثل هذا الخبر الغريب الذى يصادم ما نعرفه عن رسول r ونبذه آنذاك الأصنام والوثنية وكل ما يتعلق بها لا يُقْبَل بمثل هذه السهولة. وقد قلت إنه لو كان الرسول قد مارس طقوس الوثنية فى يوم من الأيام لاحتج عليه بها المشركون وسجَّل القرآن ذلك ضمن اعتراضاتهم الكثيرة عليه وعلى الدين الذى جاءهم به.
أما دعوى بوهل فى اعتقاد الرسول عليه السلام فى الطيرة فإنها دعوى كاذبة، فقد كانت الطيرة من الأشياء التى حمل النبى عليه السلام عليها وعلى من يعتقدون فيها[7].
وبالنسبة لشعيرة الذبح فليس صحيحاً أن الرسول قد أخذها من الوثنية، بل هى من شعائر الحج كما وردت عن إبراهيم عليه السلام. ثم إنها فى الإسلام لا تقدَّم لصنمٍ أو وثنٍ أو تُعطَى للكاهن بل تعطى للفقراء والمساكين الجياع قُرْبَى إلى الله سبحانه وتعالى. فكل ما قاله المستشرقون إذن بهذا الصدد هو كلام سمج، إذ ليس فى تلك الشعيرة أية شائبه من الوثنية.
ثم يقول بوهل إن الرسول r قد أخذ أفكاره عن أهل الكتاب، وإن أعداءه كانوا على حق عندما اتهموه بأن له معلمين أجانب يتلقى عنهم ما يقوله فى القرآن.
والرد على ذلك جد سهل، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد خالف أهل الكتاب فى معظم ما عندهم (إلى الصواب بطبيعة الحال)، ولهذا فقد كفروا به. فكيف يكون قد تلقى عنهم أفكاره الدينية؟ ولماذا لم يتقدم واحد (واحد فقط!) من هؤلاء الذين قيل إنهم كانوا يعلمونه، مؤيداً مزاعم قريش، وبخاصة أن الرسول لم يكن له فى مكة حول ولا طول، ولم يكن فى يده آنذاك ما يبعث على الرغبة أو الرهبة، بل كان الحول والطول والرغبة والرهبة جميعاً عند القرشيين؟ وإذا كان الرسول يتعلم من بعض أهل الكتاب فلماذا كان المشركون واليهود يحرصون على توجيه الأسئلة إليه عمّا فى تلك الكتب وهم يعرفون أنه مطلع عليها من خلال أولئك المعلمين؟
وإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قول ذلك المستشرق إن "التزمُّل" و "التدثُّر" المشار إليهما فى الآية الأولى من كل من سورتى "المزمل" و"المدثر" قد يكونان استعداداً لتلقى الوحى على الطريقة القديمة عند الكهان العرب. ذلك أن الرسول إنما تزمَّل وتدثَّر فى بدايات الوحى من البرد الذى كان يشعر به بسبب الخوف الذى أصابه عند رؤيته جبريل وسماعه صوته وهو منفرد فى غار حراء، فالتزمُّل والتدثُّر كانا بعد الوحى لا قبله، وكانا فراراً منه لا استحضاراً له. ولكن ماذا نقول لبوهل وأمثاله، الذين يَقْلبِون أوجه الأمور إلى أقفائها؟ وإن الوحى عندما ناداه بـ "يا أيها المزمل" و "يا أيها المدثر" إنما كان يعلن رفضه لتزمله r وتدثره، فكيف يكون رد فعل الوحى هو إنكار هذا التغطى الذى أراد به الرسول استجلابه؟
ويحاول بوهل أن يقنع القارئ بأن الوحى لم يكن شيئًا آخر غير ما كان عند الكهان: فالسجع هنا وهناك، وكذلك القسم بمظاهر الطبيعة... إلخ. ولا أحب أن أقف طويلاً عند هذه الأمور الشكلية التى لا تقدم ولا تؤخر، والتى أرجح أن يكون الكهان قد أخذوها من بعض الأديان السابقة ثم انحرفوا بها نحو خداع الناس وإيهامهم أنهم قادرون على استشفاف الغيب، وهو الشىء الوحيد تقريبا الذى كان العرب يؤمون الكهان من أجله، والذى نفى القرآن عن الرسول عليه السلام القدرة عليه. وفوق ذلك فالكهان كانوا يأخذون أجراً على ما يقولون، أما الرسول فلا. وإنى لأستغرب كيف تجاهل بوهل كل القيم والمبادئ النبيلة التى جاء بها محمد عليه السلام والتى نقلت العرب من أُمّة نكرة متخلفة وجعلت منهم أصحاب إمبراطورية واسعة عريضة وقوّاداً عالميين وعلماء عظاماً فى كل مجالات المعرفة، ودفعت الحضارة البشرية إلى الأمام دفعة ليس لها مثيل، وركَّز على هذه المشابهات الشكلية وكأنها هى كل شىء؟ إن ذلك يشبه اعتراض الكفار على أن الرسول كان بشراً ولم يكن من الملائكة! كذلك يمكن بهذه الطريقة لأى معاند أن يعترض على القرآن لأنه أتى بلغة بشرية واستخدم نفس الألفاظ التى يستخدمها سائر العرب؟ إن اللغة هى مجرد وسيلة، والعبرة كل العبرة بالمضمون. ومع ذلك فاللغة فى القرآن لها خصائصها التى لا توجد فى أى كلام آخر بما فيه الحديث النبوى نفسه، مما سنشير إليه لاحقا فى موضعه بمشيئة الله.
ويشير بوهل إلى اتهام المؤلفين البيزنطيين له عليه السلام بالصَّرْع، قائلاً إن علماء التحليل النفسى المحدثين يوافقونهم على رأيهم هذا. وهو يتظاهر بالحياد والتواضع قائلاً فى مسكنةٍ: "إن علينا بطبيعة الحال أن نترك لأولئك المحللين مهمة تحديد الطبيعة الدقيقة لحالته"، وذلك دون أن يذكر لنا أسماء هؤلاء المحللين النفسانيين، ولا على أى أساس قالوا ذلك إن كانوا قالوه فعلاً، وهل عُرضت عليهم أعراض الوحى التى كانت تنتاب الرسول عليه السلام حين نزول القرآن عليه عرضا أميناً، وقد كان جيبون، المؤرخ الإنجليزى الشهير، حاسماً فى وصف هذا الاتهام للرسول عليه السلام بالصَّرْع بأنه "ادعاء سخيف من اليونانيين"[8]. كما رفض وليم موير تفسير ظاهرة الوحى بالصرع، قائلاً إن نوبة الصرع تمنع المصروع من تذكر ما مرَّ به أثناءها[9] ، وممن يرفضون أيضًا القول بالصَّرْع لامنس وفون هامر بورجشتال[10].
وعلى كل حال فهذه هى أعراض الصرع كما وردت فى: New Medical Dictionary لمحرّرَيْه F.M.Margerison و A.D. Banker فى مادة Epilepsy (أى الصَّرْع): الصرع هو مرض يصيب الجهاز العصبى، ويميزه فقدان الوعى، وكذلك التقلصات فى كثير من الأحيان... ويبدأ الصرع عادة فى الطفولة... والمصابون بالصرع هم أشخاص انفعاليون وغير متزنين، وهم مهيأون للتقوقع بعيداً عن الدنيا والعيش فى الأوهام. وعادة ما تنشأ نوبة الصرع عن الضغط الانفعالى أو التهيج اللاإرادى. أما عن أعراض الصرع ففى الحالات العنيفة... تحدث النوبة فجأة ويسقط المصروع كاللوح، وغالباً ما يؤذى نفسه أثناء ذلك إيذاء شديداً، وتنبسط العضلات وتنقبض بشدة. أما الوجه فيكون أولاً شاحباً ثم ينقلب إلى الازرقاق مع انسداد مجرى التنفس. وبعد بضع ثوان تأخذ العضلات فى الارتعاش والتشنج، وتدور حدقتا العين، وينقبض الفك ويرتخى، وقد يعض المصروع لسانه بقوة. كذلك ربما تبوّل أو تبرّز على نفسه، وتدريجياً يروح المريض فى غيبوبة فترتخى العضلات حينئذ وينام لعدة ساعات، ثم يستيقظ فى نهاية النوبة وعقله يعانى بعض التشويش. وفى بعض الحالات لا تنتهى النوبة بعد بضع دقائق بل تستمر مع ازدياد النبض وارتفاع درجة الحرارة... وقد يحدث أن يفيق المريض ظاهرياً فيمارس أموره من غير أن يكون واعيًا فعلاً بما يفعل، ومن غير المستبعد أن يرتكب مثل هذا الشخص جريمة قتل فى هذه الحالة... أما فى نوبات الصرع الخفيفة فقد يغيب الوعى لبضع ثوان دون أن تصاحبه أية تقلصات، وقد يُعْرَف عن مثل هذا المريض أنه عرضة لشحوب الوجه المفاجئ وفقدان خيط الحديث. وقد يظهر عليه أنه رجع إلى حالته الطبيعية بعد بضع ثوان، ومع ذلك فقد يرتكب هذا الشخص عملاً إجراميا فى هذه الثوانى القليلة ولكنه لا يُعَدُّ مسؤولاً عنه. وهناك الصرع الجاكسونى... وقد تأتى نوبته على هيئة تنميل فى أصابع إحدى اليدين أو إحدى القدمين ثم ينتشر التنميل فى سائر العضو، وغالباً ما يحتفظ المصاب بوعيه طوال مدة النوبة... وأثناء النوبة لا بد أن يُمْنَع المصروع من إيذاء نفسه بأن يُدَسّ شىء بين أسنانه حتى لا يعض لسانه".
وباستطاعة القارئ أن يكتشف بنفسه من غير أية مشقة زيف محاولة الربط بين عوارض الوحى وبين أعراض الصرع ونوباته، فلا الرسول كان شخصا انفعالياً غير متزن ولا هو كان يتقوقع داخل أوهامه بعيداً عن الدنيا والناس من حوله، بل كان يشارك بكل طاقته وانتباهه واهتمامه فى نشاطات الحياة راعياً وتاجراً وزوجاً وداعياً الناس إلى ربه، وحاكماً وقائداً عسكريا... إلخ. ثم إنه لم يحدث قط، حين كان ينزل عليه الوحى، أن سقط كاللوح أو آذى نفسه بعضّ لسانه مثلاً. كذلك لم يكن فكّه ولا عضلاته تنقبض وترتخى على نحو تشنجى. أما التبول والتبرز فلا مكان لهما هنا. كما أن عقله عليه السلام لم يعرف التشوش ولم يرتكب مرة عملاً خطيراً لا أثناء الوحى ولا بعد انقشاعه. وأيضاً لم يقع منه البتة أن فقد خيط الحديث وهو يتحدث مع أحد من أصحابه حين نزول الوحى عليه، أو شعر بتنميل فى أصابع يديه أو قدميه قط، أو ارتفعت درجة حرارته أو تسارع نبضه على العكس كان عليه السلام يحسُّ ببرد فى ثناياه[11]. أما وجهه الكريم فقد كان يحتقن حمرة (وقد يربدّ) ولكنه لم يكن يزرقّ. وكذلك لم يكن مجرى تنفسه ينسدّ. ولم يحدث أن صرخ عليه السلام عند مجىء الوحى. ثم إن أعراض الوحى من صلصلة الجرس وسماع مَنْ معه دوياً حول وجهه الشريف وثقل جسمه الشديد فجأة ليس لها فى نوبات الصرع أى تفسير. وفضلاً عن ذلك فإنه عندما كان الوحى يَفْصِم عنه كان يسأل عن صاحب السؤال ويجيبه فى التوِّ بحل مشكلته حسبما جاء به الوحى فى لغة أدبية هى أرقى ما عرف العربى. أى أنه لم يكن فى غيبوبة شأن المصروعين، بل كان وعيه منفتحاً على عالم الغيب يتلقى الوحى الذى ينزل عليه من السماء، بل إنه، عقب الوحى الذى نزل بتبرئة عائشة من الإفك الذى بُهتت به، قد أفاق وهو يضحك من البِشْر[12]، ولا يمكن أن تكون هذه من علامات الصرع.
كذلك هل يظن ظانٌّ أن الرسول كان مصاباً بالصرع ثم يسكت عنه أعداؤه من مشركين ويهود؟ إنه لم يحدث أن اتهمه أحد منهم بذلك، بل الذين أشاعوا هذا الإفك هم الكتاب البيزنطيون الذين لم يَرَوْه قط، ثم جاء المستشرقون فقبضوا على هذا السخف بأسنانهم وأظفارهم وحاولوا أن يُلْبِسوه ثوباً من العلم ملوحين بالتحليل النفسانى، لكى يلبّسوا على القراء ويوهموهم أنهم قد فسروا الوحى المحمدى التفسير الصحيح. وهيهات!
ويقفز بوهل عقيب ذلك إلى القول بأنه من الناحية العلمية فإن الصوت الذى كان محمد يسمعه (يقصد الوحى) لم يكن شيئًا آخر غير ما كان قد سبق له سماعه من هنا وههنا ثم طفا الآن من اللاوعى.
وسؤالنا هو هل المصروع يسمع شيئًا؟ ثم كيف تفسَّر الظاهرة نفسها بالصرع مرة وانبثاق الأفكار والأصوات من اللاوعى مرة أخرى؟ أليس هذا هو الخلط بعينه؟ كذلك فإن القرآن فى معظم الأشياء يخالف ما عند أهل الكتاب (وهو ما يتهم بوهل الرسول بأنه كان يسمعه من هنا وههنا ويختزنه عقله الباطن)، فماذا يقول بوهل فى هذه المسألة؟ ثم إن كثيراً جداً مما فى القرآن مرتبط بحوادث كانت تقع لتوها أو أسئلة كانت تلقى على الرسول ويحتاج أصحابها إلى إجابات فورية عنها، وكان الوحى ينزل فى الحال بالتعليق على الحادثة أو بالإجابة على السؤال المطروح. وهى حوادث وأسئلة لا علاقة لها فى الأغلب الأعمّ بما عند أهل الكتاب، فكيف تفسر ذلك نظرية اللاوعى، والوحى فى هذه الحالة لا علاقة له بما يزعم بوهل وأمثاله أن الرسول قد سمعه من هنا وههنا؟
كذلك ما أكثر الوحى الذى نزل يعارض رغبات الرسول صلى الله عليه وسلم أو يعاتبه ويخطئه! وهو ما يتعارض مع تفسيره بأنه طفو لأفكاره ومشاعره المختزنة فى لا وعيه صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك نَهْى القرآن له عليه السلام هو والمسلمين أن يستغفروا لأى مشرك: "مَا كَانَ لِلنَّبِيىِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ"، واستنكاره سبحانه إطلاق النبى سراح أسرى المشركين فى بدر فى مقابل مبالغ من المال بدلاً من قتلهم: "مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ". وقوله عز شأنه له بعد أن أذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة مؤتة: "عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ". وقريب منه توقف الوحى فى بداية الدعوة فترة من الزمن مما سبب للنبى عليه الصلاة والسلام آلاماً لا تُحتمل، وكذلك بطء الوحى الذى نزل يبرئ عائشة رضى الله عنها، التى كان يحبها ويحب أباها حباً شديداً، مما رُميت به من قِبَل المنافقين ومن انخدعوا بما قالوه زوراً وبهتاناً، فلم ينزل إلا بعد مرور شهر كان أثقل على نفسه r من سنوات طوال. وفضلاً عن ذلك كله فإن أفكار اللاوعى ومشاعره لا تتمثل لصاحبها فى هيئة صلصلة جرس أو شخص يُرَى ويُسْمَع كما كان يحدث فى الوحى المحمدى.
وعجيب أن يشهد الكاتب للرسول مع ذلك بالأمانة لصبره على معاداة قومه اللاهبة واقتناعه التام بنبوته وعدم وجود عرض شخصى له[13]. بالله كيف يمكن التوفيق بين هذا وبين اتهامه له قبيل ذلك بالصرع؟ ورغم هذا كله يتقلب بوهل على عقبيه كرة أخرى قائلاً إن الرسول كان فى بعض الأحيان يتصنع الوحى. إن ذلك فى الحقيقة لهو الخلل العقلى بعينه، فنحن بهذا لا نعرف ماذا كان الرسول بالضبط فى نظر بوهل: هل كان مصاباً بالصرع؟ هل كان الوحى عبارة عن انبثاق أفكار وأصوات من عقله الباطن؟ هل كان الرسول نبياً حقاً ما دام ذلك المستشرق يصفه بالأمانة والاقتناع التام برسالته وصلابته فى القيام بواجبات هذه الرسالة ثلاثة وعشرين عاما؟
كما يتهم هذا المستشرق المؤرخين وكتاب السيرة المسلمين بالمبالغة الشديدة فى الكلام عن الاضطهاد الذى تعرض له المسلمون على أيدى الكفار، ويعزو هذه المبالغة المزعومة إلى رغبة هؤلاء الكتاب فى تضخيم التضحيات التى قام بها المسلمون الأوائل وتلطيخ سمعة الأُسَر القرشية الكبيرة، وهو يذكر عروة (بن الزُّبَيْر) فى هذا السياق قائلاً إنه أشار إلى فتنتين اثنتين فقط اضطرتا المسلمين الأولين إلى الهجرة.
وإننا لنعجب أشد العجب من هذا الإصرار على اتهام الكتاب المسلمين بالمبالغة الشديدة فى كلامهم عن اضطهادات قريش للمسلمين الأوائل، إذ أين دليله على هذا؟ ومن أين له بذينك السببين اللذين ذكرهما؟ وهل قال المسلمون شيئًا عجباً غير معقول؟ الحق أن ما قالوه أقل مما يحدث عادة فى مثل هذه الظروف، فالمعروف أن الدعوات الجديدة تجلب على أصحابها وأتباعهم كثيراً جداً من ألوان الاضطهاد والتعذيب. فما بالنا بدين كالإسلام أتى فقلب الأوضاع الجاهلية رأساً على عقب، وذلك فى مجتمع وثنى يقدس التقاليد والأسلاف، وتسوده العصبية القبلية ويغلق قلبه وعقله فى وجه كل جديد؟ ثم ما حكاية الرغبة فى تلطيخ سمعة الأسر القرشية الكبيرة؟ إن بوهل يقصد أن الكتّاب فى عهد العباسيين قد أرادوا التقرب إليهم بتشويه بنى أمية. لكن ألم يذكر هؤلاء الكتاب أنفسهم أبا لهب مثلاً بين هؤلاء المضطهِدين، وهو هاشمى مثل العباسيين؟ بل ألم يذكروا أن أبا طالب، وهو هاشمى أيضاً، قد مات على الكفر على حين أسلم أبو سفيان وزوجته وابنه معاوية... الخ؟
أما عروة، الذى يحاول بوهل الإيحاء بأنه لم يذكر إلا فتنتين (وهل الفتنتان اللتان تدفعان قوماً إلى ترك بلادهم وأهلهم بالشىء القليل؟)، فإنه قد ذكر إلى جانب ذلك أنه لما عاد رسولا قريش خائبين من الحبشة أجمع المشركون مكرهم وأَمْرهَم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فكان أن انحاز به بنو هاشم إلى شِعْبهم ليحموه منهم، مما أثار غيظ المشركين ودفعهم إلى مقاطعتهم ومحاصرتهم فى ذلك الشعب حتى يهلكوا جوعاً أو يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم[14]. وهو يذكر ما كان أبو طالب يلجأ إليه حينذاك من تمويه ليضلل هؤلاء المشركين عن الفراش الذى كان يبيت فيه كل ليلة رسول الله r[15]. كما أنه قد تحدث عن البلاء الذى صُبَّ على رسول الله عليه السلام بالطائف عندما ذهب إليها يدعو أهلها إلى الإسلام فرموه بالحجارة التى أدمت قدميه واستهزأوا به أعظم الاستهزاء. ومما رواه أيضاً تآمر المشركين على أن يقتلوا الرسول أو يسجنوه أو يخرجوه، مما اضطره عليه السلام إلى الهجرة تاركاً وراءه وطنه وداره. وذلك غير ما لجأ إليه المشركون من خديعة عياش بن ربيعة، الذى كان قد هاجر إلى يثرب، إذ أرسلوا إليه من ضحكا عليه وأوهماه أن أمه حزينة لهجرته وأنها قد قاطعت طيب العيش حتى تراه، وأعطياه العهد والميثاق على صدقهما وأنهما لا يريدان شراً حتى صدَّقهما وخرج معهما فأوثقاه فى الطريق وحملاه إلى مكة. وانظر كذلك ما قاله عن تعذيب المشركين خُبَيْباً وزيد بن الدثنة وصَلْب الأول وقَتْل الثانى... وغير هذا. وكلام عروة إنما هو فى المغازى أصلاً، فمن الطبيعى ألا يتعرض للتعذيب الذى أوقعه المشركون بنبى الإسلام وأتباعه. ومع ذلك فإنه قد ذكر من ذلك أكثر جداً مما أراد بوهل أن يوهمنا بأنه فعل.
ويردد يوهل فرية قبول الرسول r لبعض الوقت ألوهية اللات والعزى ومناة وشفاعتهن (يقصد ما يقال من أنه كانت هناك آيتان عن هذه الأصنام تجریان هكذا: "إنهن الغرانيق العُلَا وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى"، ويؤكد أن هذه القصة لا يمكن أن تكون زائفة، لأنه لا يمكن أن يكون المسلمون اخترعوها، أى لما فيها من إساءة للرسول عليه الصلاة والسلام[16]. ويمضى قائلاً إن الآيتين ٥٦ و ٦٧ من سورة الأنعام[17]، والآية ٧٥ وما بعدها من "الإسراء"، والآية ١١٣ من "النساء" تبين لنا كيف أن ذلك من الوجهة النفسية ممكن جداً.
ونبدأ بالآيات المشار إليها. وهى تدل على عكس ما ذهب إليه بوهل، ففى الآية الأولى نقرأ قوله تعالى: "قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ"، وهى كما نرى تخبرنا أن الله سبحانه قد نهاه عن أن يعبد أى صنم أو وثن مما يعبده المشركون. أما الآية الثانية فإنها تأمره r بالإعراض عمن يخوضون فى آيات الله، وعن الجلوس معهم مجرد جلوس. ويقول المولى عز وجل فى الآية الثالثة: "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً". وبغض النظر عن مناسبة نزول هذا النص القرآنى الكريم فإنه ينفى أن يكون الكفار قد نجحوا فى فتنة النبى عليه السلام ودفعه إلى افتراء شىء لم ينزل الوحى به. ذلك أن الله سبحانه قد ثبته وعصمه من الاستجابة لأهوائهم، وإلا فلو وقع المستحيل واستجاب الرسول لهم لكان الله قد أوقع به ذلك العقاب الصارم الذى تصفه الآيات، وتبقى الآية الأخيرة، وهى قوله تعالى تعقيباً على محاولة بعض المنتسبين إلى الإسلام خداع النبى عليه السلام وتضليله بِعَزْو السرقة التى ارتكبها أحدهم إلى اليهود: "وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً"[18]. فهذه الآية تبين أن الله سبحانه قد حماه من أن يتأثر بكلام هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام الذى أرادوا به تبرئة صاحبهم وإلصاق التهمة ظلماً وافتراء بأحد اليهود. فماذا فيها أو فى الآيات السابقة مما يمكن أن يبين لنا، حسب زعم بوهل، أن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الوقت ألوهية اللات والعزى ومناة وشفاعتهن لدى الله ممكن جداً من الناحية النفسية؟
أما قوله إن المسلمين لا يمكن أن يكونوا اخترعوها فهذا صحيح، ولكن على معنى غير ما يقصده، فإن أغلب الروايات التى أشارت إلى هذه القصة تذكر أن الشيطان هو الذى قال ذلك لا الرسول عليه السلام. أما الرواية التى تقول إن لسان الرسول قد نطق به فإن ابن إسحاق (بن خزيمة) مثلاً قد نسبها إلى الزنادقة[19]، وجعلها القاضى عبد الجبار من روايات الحشوية ودسائس الملاحدة[20]، ويقول سيد أمير على إنه لما نزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسورة "النجم" وأخذ يتلوها عند الكعبة وبلغ قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى" خاف أحد المشركين أن يأتى النبى عليه الصلاة والسلام بشىء من ذمها فسبق إلى مدحها بالآيتين المذكورتين[21]، وهو تفسير وجيه لأن القرشيين كانوا يقولون ذلك فعلاً عند طوافهم بالكعبة فى الجاهلية[22]، كما لم يرد فى كتب الصحاح أن الرسول قد نطق بهذه الآيات. أما ابن هشام فإنه لا يذكر من هذه القصة أى شىء.
ثم كيف يقال إن الرسول عليه السلام قد قرأ هاتين الآيتين المزعومتين مع آيات سورة "النجم"، مع أن تلك السورة كلها من أول آية فيها إلى آخر آية (وليس الآيات التى تلى هاتين الآيتين فقط كما يقول د. محمد حسين هيكل) ترفضها بعنف ذلك أن مضمونها والجو الذى يخيم عليها من مفتتحها إلى مختتمها[23] يؤكّدان العداء المستحكم بين الرسول وقومه، فكيف يمكن أن يَرِد فى مثل هذا السياق آيات تمجد بعض أصنام قريش؟ إن ذلك لهو عين المستحيل!
كذلك فإن الآيتين المزعومتين تجعلان هذه الأصنام مناطاً للشفاعة من غير تعليق لذلك على إرادة الله وإذنه، وهو ما لم يسنده القرآن على هذا النحو لأى كائن مهما كانت منزلته عند الله، وفى سورة "النجم" ذاتها نقرأ قوله عز شأنه "وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى" بتعليق قبول شفاعة الملائكة أنفسهم على إذن الله ورضاه.
وإذا تناولنا هاتين الآيتين المزعومتين تناولاً أسلوبياً اتضح لنا أنهما ليستا من نسيج القرآن الكريم ولا تمتّان إليه بصلة. لقد بدأت آيات سورة "النجم" المتعلقة بالأصنام الثلاثة هكذا: "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى" وقوله: (أَفَرَأَيْتُمُ) قد ورد فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يحدث أن استُعْمِل هذا التعبير فى تلك المرات الإحدى والعشرين فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فى هذه المواضع كلها فى مواقف الخصومة أو التهكم أو التقريع والتهديد أو ما إلى ذلك بسبيل، فكيف يمكن إذاً أن يجىء هذا التعبير فى سورة "النجم" بالذات فى سياق التلطف للكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضاً غريبة عن أسلوب القرآن الكريم، إذ ليس فيه أى فعل من مادة "رجا" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية الأخيرة من الآيتين المزعومتين هو: "وإن شفاعتهن لتُرْتَضَى"[24] فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، فإنها لم تقع فى أى منها على الشفاعة، وإنما تستخدم مع الشفاعة عادة الأفعال الآتية: "تنفع" أو "تُغْنى" أو "يَمْلِك"[25].
مما سبق يتأكد لدينا على نحو قاطع أن الآيتين المزعومتين ليستا من القرآن وليس القرآن منهما فى شىء. وإن الإنسان على أية حال ليعجب من هذه الغيرة الاستشراقية على مبدأ التوحيد! هل نفهم من ذلك أن بوهل وزملاء من المستشرقين موحدون وأن توحيدهم أرقى من توحيد محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنهم إمَّا ملاحدة فليسوا مؤمنين فضلاً عن أن يكونوا موحدين، وإما يهود ونصارى، وفى اليهودية أشياء كثيرة من الوثنية والتجديف على الخالق عز وجل، والنصرانية أساسها التثليث فلا صلة بينها وبين التوحيد إلا على التعسف المجافى للمنطق السليم. وإن الإسلام هو أرقى ما يوجد على الأرض من أديان، وبالذات فى عقيدة التوحيد التى هى فيه صفية نقية لا تمازجها شائبة مهما تفهت، وما يقوله المستشرقون ليس له من غاية إلا الإساءة إلى الرسول ودينه، والإجلاب على المسلمين بخيل تشكيكهم ورَجِل تلفيقهم.
ويمضى بوهل فى بذر تشكيكاته فيدَّعى أن أهل يثرب عندما اتفقوا مع النبى عليه الصلاة والسلام على الهجرة إليهم لم يكونوا يريدون نبياً يوحى إليه بقدر ما كانوا يريدون زعيماً سياسياً لتسوية أوضاعهم السياسية التى حطمتها الصراعات القبلية التى بلغت ذروتها فى يوم بُعاث. وهذا كله خبط لا معنى له، فإن الاتفاق الذى تم بينهم وبينه عليه السلام قائم على أساس دينى لا سياسى. ثم إنهم لم يكن ينقصهم ذلك الزعيم السياسى متمثلاً فى عبد الله بن أُبَىّ، الذى كانوا على وشك تتويجه عشية اتفاقهم مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه[26] لولا أن الأمور قد أخذت مجرىً آخر بعد هجرته إليهم. كذلك فإن وضع الرسول عليه السلام فى ذلك الوقت لم يكن يوحى بأنه زعيم سياسى. ومن أين له ذلك وقد كان فرداً ضعيفًا مضطهداً هو وأتباعه أشد الاضطهاد فى مكة، ولم يكن قد نزل من القرآن شىء يتصل بالسياسة أو الحرب أو الإرادة؟ وفضلاً عن ذلك فالاتفاق الذى تم بينه عليه السلام وبين أهل يثرب إنما نصَّ على حمايتهم هم له لا على زعامته السياسية لهم[27].
ويعزو المؤلف عجز اليهود فى المدينة عن الرد على اتهام القرآن لهم بإخفاء ما فى كتبهم وتحريفه إلى أنهم حتى لو أظهروا هذه الكتب فلم يكن الرسول عليه السلام ولا المسلمون ليقدروا على قراءتها، ولكن هل كان هذا الاعتبار، لو صَحَّ، ليمنع اليهود من أن يقولوا للرسول إن اتهامك هذا اتهام باطل، ولقد فات بوهل أن من اليهود وأحبارهم من أسلم، وكانوا بطبيعة الحال يعرفون اللغة التى كُتِبت بها هذه الكتب، فكان بمستطاع اليهود أن يستشهدوا بهم فى قراءة ما يريدون قراءته على الرسول منها. بل إن من المسلمين من كان يعرف اللسان العبرى.
ويزعم بوهل أن الرسول عليه السلام عندما خابت آماله فى اليهود أعطى دينه السمة القومية، وذلك بقبول طقوس العبادة الوثنية فى الإسلام والاهتمام بمكة والكعبة.
لقد سبق أن رددت على الادعاء الخاص بالكعبة والطقوس الوثنية، فلا داعى من ثمَّ لإعادة القول فيه هنا. أما دعوى السمة القومية[28] فإن القرآن فى نصوصه المكية والمدنية يربط الإسلام والرسول عليه السلام بالأنبياء السابقين وأديانهم. ومن شواهد ذلك فى الوحى المكى قوله تعالى شأنه: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" "إِنَّ هَذِهِ أَمْتُكُمْ (أيها الرسل) أُمَّةً وَاحِدَةً"، "أُوْلَـئِكَ (أى إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع يونس ولوط...) الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ (يا رسول الله) اقْتَدِهْ". ومن شواهده فى الوحى المدنى: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً"، "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"، "قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"، فأين القومية فى هذا؟ كما أن عالمية الدعوة منصوص عليها فى مكة والمدينة معاً، وذلك مثل قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرا"، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، "هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ"، حتى الجن أُرْسل إليهم r: "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ". والإسلام فوق ذلك لم يجعل للعرب أى فضل على من سواهم من الأمم، بل جعل الناس كلهم سواسية كأسنان المشط، لا امتياز لعربى على أعجمى ولا لهذا على ذلك إلا بالتقوى والعمل الصالح. فمن أين للمؤلف بدعوى السمة القومية إذن؟
ويرتب بوهل على تحول القبلة إلى الكعبة نتائج ليس لها وجود إلا فى خياله، فهو يقول إن جعل مكة مركزاً للدين الجديد قد فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم واجبات جديدة، إذ إن فرض الحج على المسلمين وهم غير قادرين على تأديته لم يكن له من معنى إلا أن يستولوا على مكة والمسجد الحرام بقوة السلاح. وهذا، بالإضافة إلى رغبته عليه السلام فى تسوية الحساب مع القرشيين، قد أدى إلى فرض الجهاد وجعله عليه السلام يعمل على إشعال نار الحرب، وهو يدعى أن الرسول قد حاول ذلك بكل سبيل وعناد، بيد أن الأنصار كانوا قد ارتبطوا معه فى البداية بأن يحموه فقط إذا هوجم، وقريش لم تهاجمه، وذلك لعدم رغبتها فى القتال. كما يزعم أن قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرَهُ لَكُمْ"، وقوله عز وجل: "إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَانٍ كَفُورٍ، أُذنَ للَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير" يدلان على مدى المقاومة التى كان يبديها المهاجرون ضد قتال أقاربهم، ويعنفانهم تعنيفاً شديداً على ذلك. ثم يمضى فى مزاعمه فيقول إن المسلمين عندما وصلوا بدراً ووجدوا جيش المشركين بدل قافلة التجارة قد ملأهم الرعب.
وواضح ما فى كلام بوهل من تناقض، فهو يتهم الرسول عليه السلام بأنه كان متعطشاً إلى محاربة قريش بكل عناد، وذلك لكى يستولى على مكة بقوة السلاح... إلخ. وفى نفس الوقت يقول إن المسلمين قد فوجئوا بجيش المشركين في بدر بدل القافلة، أى أن قريشاً هى السبب فى الحرب لا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم لو كانت المسألة مسألة تسوية حسابات مع قريش فلم عفا الرسول صلى عليه وسلم عنهم يوم الفتح قائلاً لهم فى نبل ليس له نظير: "اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء" وفيهم من كانوا وراء قتل عمه وأخيه فى الرضاع حمزة رضي الله عنه وبقروا بطنه وأخرجوا أحشاءه وجدعوا أنفه وأذنيه؟[29]
أما الرعب الذى يدعى بوهل أنه ملأ قلوب المسلمين حين رأوا الجيش بدل القافلة فلا أدرى من أى وادٍ من أودية الوهم أتى به. وموقف المسلمين حينذاك والكلام الذى قالوه يعبرون به عن كامل استعدادهم للذهاب إلى أبعد مدى والتضحية بكل غال ونفيس فى سبيل الله والإسلام، كل ذلك قد أوردته كتب التاريخ والسيرة بمنتهى الوضوح، فلم الكذب إذن؟ ثم متى انتصر المرتعبون على أعدائهم الذين يبلغون ثلاثة أضعافهم عدداً والذين يتفوقون عليهم فى العُدّة تفوقاً رهيباً هذا الانتصار الباهر الذى يحاول المستشرق الحاقد أن يهون من شأنه فيسمى المعركة كلها insignificant fracas": مشاجرة تافهة"، محاولاً بذلك (وهيهات!) أن يطمس قيمتها التاريخية العظيمة التى ندر أن يكون لمعركة أخرى مثلها؟ لكأن نصرى سلهب (الكاتب النصرانى الذى يؤمن مع ذلك بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وجلال الكتاب الذى نزل عليه) كان يرد على بوهل حين كتب قائلاً إن "المعارك التى قادها محمد وخاضها على رأس المؤمنين لم تكن معارك كبرى بالمعنى التقليدى للكلمة. لم يكن عدد المشركين فيها كبيراً. لم يكن هنالك مئات ألوف تحارب مئات ألوف، بل لم يكن هنالك عشرات ألوف تحارب عشرات ألوف، كان هنالك مئات، وأحياناً آلاف. ولكن تلك المعارك كانت كبرى بمعنى للكلمة آخر. كانت كبرى بأسبابها ونتائجها. كانت مصيرية وتاريخية، لأنها أثرت فى مصير الإنسانية وأسهمت فى صنع التاريخ. وكانت بالإضافة إلى ذلك فى عداد المعارك القليلة الحاسمة التى خاضها البشر من أجل الله. ومن هنا من هذه الزاوية لا نظن أن التاريخ عرف معارك أكبر منها، ولربما لم يعرف إلا معارك قليلة جداً بحجمها"[30]. وعن غزوة بدر بالذات يقول: "تلك الغزوة... كانت من المعارك الكبرى فى التاريخ، ولئن تكن صغرى المعارك بالنسبة إلى عدد المشاركين فيها، كانت كبرى بأسبابها ونتائجها؛ فلو خسرها المسلمون وقُتل فيها محمد، لا سمح الله، لكان الإسلام مات فى مهده، ولكانت الإنسانية مُنِيَتْ بخسارة لا يعرف مداها وأهميتها إلا المطلعون على مدى وأهمية الإسلام فى الحضارة، حضارة الإنسانية جمعاء فى حقول الدين والروح والفكر والعلم والفن وسواها من الحقول... ولو لجأنا بالمخيلة إلى محو التراث الإسلامى من العالم... لكنا عدنا بالعالم خمسمائة سنة إلى الوراء"[31].
أما ما ادعاه بوهل من أن الأنصار لم يكونوا متحمسين لخوض معركة بدر وأن المهاجرين لم يكونوا يريدون قتال أقربائهم من قريش فهو كلام لا يساوى شيئًا فى ميدان البحث العلمى، إذ هو يعارض وقائع التاريخ، التى تقول إن المسلمين جميعا، أنصارهم ومهاجريهم، قد أبدوا حينذاك من الحماسة والاستعداد للتضحية ما لا مجال بعده للزيادة. كما أبلوا فى المعركة نفسها من ضروب الشجاعة والاستبسال ما لا نظير له، وإلا فكيف تم لهم ذلك النصر العظيم؟ وإن الآيتين اللتين أشار إليهما بوهل فى هذا السياق لتدلان دلالة ساطعة على أنه يتقول ويُنطق النصوص بغير ما فيها، إذ ليس هناك أى تعنيف فيهما للمهاجرين أو الأنصار، بل تشير أولاهما إلى أن الحرب بطبيعتها كريهة للنفس البشرية، وهو ما لا يمارى فيه أحد. ومع ذلك فإن الصحابة قد أثبتوا أنهم طراز آخر من البشر لا يتكرر، إذ إن إيمانهم العظيم بالله ولقائه وجنته قد أقدرهم على تخطى حاجز الكراهية هذا بمنتهى السهولة، فكان الواحد منهم يواجه الموت كأنه يشم النسيم[32]. أما ثانيتهما فتعلن انتهاء عهد الموادعة والصبر على أذى المشركين وبدء عهد الرد على العدوان بمثله. ومن هذا يتبين لنا أن بوهل يكذب على الله ويدعى على القرآن ما ليس فيه.
وكما سول لهذا المستشرق حقده وغيظه أن يُهَوِّن من شأن معركة بدر، فكذلك فعل مع غزوة "الخندق"، إذ وصفها بأنها "comedy: مسرحية هزلية": فالخندق تافه، فضلا عن أنه لم تقع معركة[33]، وعجيب أن يترك باحث علمى لأحقاده وضغائن قلبه أن تغشىِّ على بصره وبصيرته إلى هذا الحد، إذ أين وجه الهزل فى ذلك؟ لقد كانت غزوة الخندق معركة أراد بها الكفار محو الإسلام من الوجود. وكان عددهم عشرة آلاف محارب، وهو ما يبلغ ضعف محاربى المسلمين أكثر من ثلاث مرات، ولم يكن المسلمون يواجهون قريشاً وحدها بل قبائل شتى، ولذلك سميت الموقعة بـ "غزوة الأحزاب". كما أن اليهود (الذين يتباكى عليهم هذا الحقود) قد تنكروا فى هذه الظروف للاتفاقية التى كانت بينهم وبين المسلمين[34] ومدوا أيديهم إلى أعدائهم وهَمّوا بأن يطعنوهم بخنجر الغدر السام فى ظهورهم لولا لطف الله، الذى ساق إلى الإسلام فى ذلك الوقت رجلاً داهية أريباً أوقع بين اليهود والأحزاب وأفشل تلك المكيدة الشيطانية. وكأن هذا كله لا يكفى، فنرى المنافقين يتسللون من صفوف الجيش الإسلامى لائذين ببيوتهم مدّعين فى صفاقة أنها عورة (أى يخافون أن يهجم عليها العدو)، وما هى بعورة. "إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً" كما قال القرآن الكريم. أى أن كل الظروف قد تحالفت على المسلمين فأصبحوا بين فكى كماشة رهيبة لا ترحم.
والذى يقرأ الآيات 9 - ٢٦ من سورة "الأحزاب" يستطيع أن يدرك جو الفزع الذى كان يسود المدينة فى ظل هذه الظروف العصيبة. أما كتب السيرة والغزوات والتاريخ فإنها تحفل بالتفاصيل التى لا يوردها القرآن (مكتفياً بالخطوط العامة وحسب) والتى تجعل الإنسان يعيش الجو بنفسه كأنه واحد من المسلمين الأولين ويحس بالفزع من تكالب الأحزاب المتنمرين واليهود الغادرين فى حشود حاشدة على سكان المدينة، هذا الفزع الذى يلخّصه أحد الصحابة بقوله إن الواحد منهم لم يكن يأمن على نفسه أن يذهب وحده لقضاء حاجته. ومع ذلك كله يجىء هذا المستشرق السمج ويقول إن غزوة الأحزاب كانت مسرحية هزلية!
ويتابع المستشرق الموتور ما حدث بعد غزوة الخندق قائلاً إن الرسول عليه السلام قد استدار فحاصر بنى قريظة، وحاول الأوس استرحامه، ولكنه فى هذه المرة كان شديداً لا يلين، وصمم على تنفيذ ما كان قد هدد به فى الآية الثالثة من سورة "الحشر" فأصدر حكماً بقتلهم. وقد رفض بوهل ما ذكره التاريخ من أن سعد بن معاذ هو الذى أصدر هذا الحكم، قائلاً إن هناك أدلة متعددة على أن النبى صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذى اتخذ القرار.
أما أين تلك الأدلة فكعادة كتَّاب الموسوعة فى كثير من الحالات لا يكلف بوهل نفسه أن يجيب. ذلك أنهم يرون أنهم أكبر من أن يطالبهم أحد ببرهان، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب ذلك الحكم فماذا فى ذلك حتى يحاول المسلمون أن يلقوا بمسؤوليته على سعد بن معاذ كما يزعم الكاتب؟ وماذا يقول بوهل فى هذا الشعر لحسان وقد أشار إليه، وَهُوَ وزملاؤه يعتمدون على الأشعار أكثر مما يعتمدون على المرويات التاريخية:
فأنت الذى يا سعد أُبْتَ بمشهد كريم وأثواب المكارم والحمد
بحكمك فى حيَّىْ قريظة بالذى قضى الله فيهم ما قضيت على عَمْد[35]؟
أما الآية الثالثة من سورة "الحشر" فلست أفهم ما العلاقة بينها وبين عقاب بنى قريظة. ذلك أنها نزلت مع معظم السورة فى جلاء بنى النضير عن المدينة قبل ذلك بسنوات، وهذا هو نصها: "وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابُ النارِ"، وليس فيها، كما يرى القارئ، أى شىء عن بنى قريظة بل ولا تحتوى أى تهديد بالمرة.
واللافت للنظر فيما كتب بوهل عن هذه القضية أنه لم يشر قط إلى خيانة بنى قريظة لحلفائهم المسلمين، الذين كانت بينهم وبين اليهود معاهدة على التناصر والوقوف يداً واحدة فى وجه أى عدو يهاجم المدينة[36]. لقد كانوا جزءاً من الأمة التى كانت تلك المدينة وطناً لها، ولكنهم لم يكتفوا بالتقاعس عن الدفاع عن البلد بل زادوا فاستجابوا لاتصالات الأعداء بهم وانقلبوا على المسلمين فأصبحوا خنجراً ساماً مشهراً فى ظهورهم، والمسلمون من جانبهم لا يستطيعون شيئًا غير انتظار انغراسه فى لحمهم وعظامهم، لولا أن لطف الله بهم فساق إلى الإسلام فى هذه اللحظات الرهيبة رجلا داهية (هو نعيم بن مسعود الأشجعى)، استطاع بتوفيق الله وتخطيط رسوله أن يفسد هذا التحالف الإبليسى بين اليهود والأحزاب، فما الذى كان بوهل يريده من الرسول والمسلمين بعد تلك الخيانة العظمى؟ لقد كان حكم سعد بن معاذ أخف كثيراً من الحكم الذى نص عليه العهد القديم عند انتصار اليهود على أمة من الأمم المجاورة لهم، إذ أنه لم يُقْتَل من بنى قريظة إلا المحاربون فقط، على حين توجب الشريعة اليهودية استئصال كل فرد من الأعداء المهزومين فى مثل هذه الحالة[37]. ودعك من الخيانة العظمى التى اجترحها بنو قريظة قبل ذلك[38].
وقد نبّه المستشرق مارتن لنجز إلى أن الذى عفا عنهم الرسول من المشركين فى بدر قد عادوا إلى محاربة المسلمين فى أُحُد والخندق، وأن بنى النضير لو كانوا قُتِلوا بدلاً من العفو عنهم لقلت جيوش الأحزاب إلى النصف ولكان من الممكن ألا ينقلب بنو قريظة على المسلمين ويغدروا بهم، إذ إن بنى النضير كانوا وراء تجييش الأحزاب الذين اشتركوا هم أيضاً معهم، ووراء خيانة بنى قريظة[39].
لقد قال بوهل عن حرب الخندق إن هذه المسرحية الهزلية قد انقلبت مأساة دامية بالنسبة لبنى قريظة؛ فليكن، فعلى نفسها جنت براقش، فقد كان بنو قريظة يريدونها مأساة تستأصل شأفة الإسلام والمسلمين، فحق عليهم غدرهم، وارتد خنجر خيانتهم إلى رقابهم، وجرّعهم الله من ذات الكأس التى كانوا قد أعدوها للمسلمين!
ويشكك بوهل فى أن يكون الرسول عليه السلام قد بعث برسائل إلى الملوك المجاورين لدولته يدعوهم فيها إلى الإسلام[40]، وشبهته فى ذلك أنه من المستبعد أن يتعلق الرسول r، وهو السياسى الواقعى الحكيم، بفكرة مغرقة فى الخيال والوهم مثل إدخال هرقل أو كسرى فى الإسلام، وبخاصة فى الوقت الذى كان يعد فيه لفتح مكة، فضلاً عن أنه، كما يقول، لم يكن يملك القوة اللازمة لإجبارهما على اعتناق الإسلام ولا المغريات التى تجعلهما يفعلان ذلك من تلقاء نفسيهما. كما يقول إنه قد ثبت عدم صحة الرسالة التى عُثِر عليها وقيل إنها هى رسالته صلى الله عليه وسلم للمقوقس عظيم القبط، وحتى الآيات التى تدل على عالمية الإسلام يزعم أنها محدودة بسياقها، بل إنه يستبعد تماما أن يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد فكر فى أن يكون الإسلام ديناً عالمياً.
والحق أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الملوك إلى الإسلام هى أمر عادى جداً. وهل هناك أحد أكبر من الإسلام؟ لقد كان النبى عليه السلام مؤيَّداً من السماء، فَمَنْ كسرى وقيصر والمقوقس إذن؟ ولقد رأينا الرسول عليه السلام يرسل إلى حدوده مع دولة الروم قوات عسكرية مستعدة للاشتباك معها إذا دعت الظروف[41]، فكيف يقال إن مجرد دعوة هرقل وكسرى إلى الإسلام (والدعوة أخف من الحرب كثيراً جداً) هى فكرة مغرقة فى الوهم؟
وعجيبةٌ تركيبة ذلك المستشرق الذهنية والنفسية. إنه يظن أن دخول أى شخص فى الإسلام لا يمكن أن يكون نتيجة للتفكر فى هذا الدين وشخصية الرسول الذى أتى به، بل لا بد من إجباره بالقوة أو إغرائه بالمال، وما دام محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك فى ذلك الوقت هذا أو تلك، فلا معنى لأن يدعو أولئك الملوك إلى الدخول فى دينه. إن المسألة عند بوهل ليست مسألة حق أو باطل بل مسألة قوة باطشة أو رشوة مالية! وهذا هو المنطق الأوربى.
وإننا لنسأله: وهل كان أبو بكر وعمر يملكان أكثر مما كان يملك الرسول من قوة عسكرية أو إغراءات مادية؟ فلماذا أقدما، لا على دعوة كسرى وقيصر والمقوقس إلى الإسلام، بل على فتح بلادهم ذاتها وضمها إلى الدولة الإسلامية؟ هذا، وهما بَعْدُ ليسا إلا تابعين من أتباعه صلى الله عليه وسلم، ولم يكونا متصلين بالسماء يتلقيان منها الوحى والمدد الإلهى، أليس عند بوهل منطق؟
وعلى أية حال، فالرسول عليه السلام قد أراد تبليغ هؤلاء الملوك دعوة الإسلام وترك لهم قرار القبول أو الرفض، فلا إكراه ولا إغراء إذن، فما وجه الوهم فى هذا؟
أما احتجاج بوهل بأن هؤلاء الملوك لم يكن بمستطاعهم قراءة القرآن مثلما كان الرسول عاجزاً عن قراءة الكتاب المقدس وفهمه، فهو احتجاج مضحك، إذ هناك شىء اسمه ترجمة وتراجمة، وإلا فكيف كان هرقل وكسرى مثلاً يتعاملان مع الأمراء العرب التابعين لهما؟ ثم إنه ليس من اللازم أن يطّلعا على ترجمة القرآن كله إذا رغبا فى معرفة الإسلام، بل يكفى أن تُتَرْجَم لهما عقائده ومبادئه الأخلاقية مثلما فعل جعفر بن أبى طالب مع النجاشى، وإنى لا أظن أن كسرى وقيصر كانا فى ذلك الوقت يجهلان الإسلام ونبيه وأنه يدعو إلى التوحيد مثلاً (فى مقابل تثليث النصارى وثنوية الفرس) وإلى الإيمان باليوم الآخر والجنة والنار، وينهى عن شرب الخمر والربا وأكل الميتة والزنا.
ثم أليس مضحكاً أن يشير بوهل إلى الحاجز اللغوى الذى كان يفصل بين النبى صلى الله عليه وسلم والكتاب المقدس عند أهل الكتاب، وهو ورفاقه يتهمونه عليه السلام بمعرفة اليهودية والنصرانية والأخذ منهما ومن كتبهما؟
وقد رأيناه يشكّك فى صحة الرسالة التى عُثِر عليها وقالوا إنها رسالته صلى الله عليه وسلم للمقوقس. وكنا نحب لو أنه أورد الأسباب التى وراء هذا التشكيك، لكنه لم يفعل. كما كنا نحب أيضاً أن يوضح للقارئ أن هذه الرسالة قد وُجدت فى أحد الأديرة المصرية فى القرن الماضى فى عهد الخديوى سعيد، وأن الذى عثر عليها هو عالم فرنسى[42]. أى أنه ليست للمسلمين أية صلة بالعثور على هذه الرسالة، فلا وجه لتنطع هذا المستشرق فى الإقرار بصحتها. كما أن أحد المستشرقين، وهو بيلن Belin))[43] قد انتهى بعد فحص هذه الرسالة إلى أنها صحيحة، ويؤكد صحتها أيضا المستشرق بادجر (Badger)[44].
كذلك قد أكد جيبون، المؤرخ الإنجليزى الشهير، بَعْث النبى صلى الله عليه وسلم برسائل إلى ملوك عصره، ووقف بالذات عند رسالته إلى هرقل الذى ذكر استضافته، إثر عودته من حربه مع الفُرْس، للرسول الذى بعث به النبى عليه السلام إليه يدعوه إلى الإسلام، ساخراً من الغرور الذى سول للكتاب البيزنطيين أن يدّعوا أن النبى قد قام بزيارة هرقل بنفسه وأن العامل البيزنطى قد أكرم وفادته وأعطاه جزءاً من الأراضى الشامية[45]. ونزيد على ذلك أنه قد عُثِر أيضاً على رسالتى النبى صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوى ونجاشى الحبشة. وقد بحثهما محمد حميد الله وأثبت أنهما صحيحتان[46]. وقد نشرت صور هذه الرسائل الثلاث فى المجلات والكتب المختلفة[47].
وإذا كان بوهل وزملاء مهنته يشككون فى رسالة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، فكيف يفسرون إهداء مارية القبطية وأختها سيرين إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؟ أم تراهم سيشككون أيضاً فى وجودهما ومجيئهما إلى المدينة أصلاً، وبالتالى فى زواج الرسول عليه السلام من الأولى وإنجابه منها إبراهيم رضى الله عنه، وزواج حسان من الثانية وإنجابه منها ابنه عبد الرحمن؟ ولقد ذكر أبو صالح الأرمنى، وهو مؤلف قبطى عاش فى القرن السادس الهجرى، واقعة إرسال النبى صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى المقوقس يدعوه إلى الإسلام وأن المقوقس أهداه بعض الجوارى وفيهن مارية وسيرين[48].
إن المسلمين لو كانوا هم الذين زيفوا هذه الرسائل بعد وفاة نبيهم كما يريد المستشرقون منا أن نعتقد لكانوا قد جعلوها مملوءة بالتهديد والوعيد لمن أُرسلت إليهم، تمجيداً منهم للنبى والإسلام. لكننا بالعكس لا نرى فيها إلا مجرد عرض للإسلام فى عبارة هادئة موجزة، اعتماداً بطبيعة الحال على أن حامليها سوف يقومون بالشرح والتفصيل اللازمين. كذلك فإن ردود هؤلاء الملوك كانت كلها تقريباً سلبية، بل إن كسرى قد مزق رسالته وبعث إلى عامله على اليمن أن يأتيه بمحمد، الذى تجرأ وكتب اسمه فى الرسالة قبل اسمه. ثم إن أحد حملة هذه الرسائل قد قُتِل فى الطريق. ترى ما السبب الذى حدا بالكتاب المسلمين، لو كانوا هم مزورى هذه الرسائل، أن يجعلوها وردودها على هذا النحو[49]؟ ثم ما الهدف أصلاً من وراء عملية التزوير المزعومة؟
أما تشكيك بوهل فى عالمية الإسلام فلا معنى له، فالآيات القرآنية فى مكة والمدينة بهذا الخصوص أشهر وأوضح من أن يمارى فيها ممارٍ، وليس فيها مطلقا ما يدل على أنها محدودة بسياقها كما يزعم الكاتب، ومنها فى الوحى المكى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً". ومن نصوص الوحى المدنى: "هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ"[50]. وذلك علاوة على النصوص التى تدعو اليهود والنصارى إلى الدخول فى الإسلام ومتابعة محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، مثل قوله تعالى: "يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ، وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ"، وقوله عز وجل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ"، وقوله تبارك جده: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ"، وقوله جل شأنه: "وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ".
وهناك أحاديث نبوية متعددة تنص على عالمية الإسلام نصاً لا يقبل أى تأويل، وذلك مما فُضِّل به الرسول عليه السلام على سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وهى أحاديث معروفة للجميع. وهناك من المستشرقين من يقر على نحوٍ ما بعالمية الدعوة الإسلامية، مثل نولد كه وجولد تسيهر، وكذلك توماس أرنولد[51]، الذى عبر عن رأيه هذا بتأليف كتاب عن الدعوة إلى الإسلام بعنوان Preaching to Islam وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية والتركية والأوردية.
والطريف أن بوهل، بعد كل هذا الذى قاله فى حق الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، يستدير فى آخر المقال قائلاً إن إنجازات محمد راجعة إلى يقينه الراسخ بأنه رسول من عند الله. ونحن بدورنا نقول إن هذا الكلام لا يتسق بحال مع ما سبق أن قاله فى الرسول عليه السلام. كما أن ذلك اليقين الذى لم يهتز قط خلال ثلاثة وعشرين عاماً هو وحده برهان كاف على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول حقيقى لا مدع ولا مخدوع.
الهوامش:
1) هذا الفصل مستل من كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية أضاليل وأباطيل"، وهو متربط بالفصول التى قبله، لكن المادة مختلفة.
2) هذا واضح من آرائه التى سنناقشها هنا، وكذلك من آرائه التى ناقشناها فى مواضع متفرقة من كتابنا هذا، ومع ذلك يشيد به نجيب العقيقى (النصرانى) إشادة كبيرة واصفاً إياه بالبعد عن الهوى فى كتاباته عن الإسلام ودقة البحث وصدق المصادر. وبوهل مستشرق دانماركى، ولد فى كوبنهاجن ١٨٥٠م، وتخصص فى اللاهوت ثم تحول إلى الدراسات الاستشراقية، وقد زار مصر وفلسطين والشام وتركيا، وتوفى عام ۱۹۳۲م. انظر "المستشرقون" للعقيقى/ 2/ 522- 523.
3) 390/ 2، هذا، وأحب أن ألفت النظر إلى أننى عند إحالتى إلى الموضع الذى يجد فيه القارئ ما أناقشه من الأفكار الاستشراقية من "دائرة المعارف الإسلامية المختصرة"، أذكر رقم الصفحة ثم أضع شرطة مائلة بعدها رقم النهر، لأن صفحات ذلك الكتاب مقسمة إلى نهرين: ۱ و ۲ (هكذا مثلاً: 275/ 1).
4) انظر، فى "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم"، الآيات التى فيها مشتقات من مادة "زرع" و "حرث" و "حصد" و "نبت" و "فكه" و "مطر"... إلخ مثلاً. وكثيرة هى الآيات التى تتحدث عن النباتات والفواكه، وكذلك الحيوان فى القرآن الكريم.
5) إذ ينحصر فى تأثيم التلاعب فى الكيل والميزان.
6) ابن الكلبى/ "الأصنام"/ تحقيق أحمد زكى، ص 19.
7) انظر مثلاً أبو داود/ طب/ 24. وابن حنبل/ 1/ 257، و 2/ 22، 220، و 5/ 347، والبخارى/ طب/ 17، 19، ورقاق/ 21، ومسلم/ إيمان/ 372، وسلام/ 102، 107، 110، والترمذى/ قيامة/ 16، وابن ماجة/ مقدمة/ 10، وطب/ 43... إلخ.
8) Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire William Benton, Chicago - London, 1978, Vol. II, P.243 وانظر الترجمة العربية بعنوان "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" / ترجمة د. محمد سلیم سالم/ 3/ 77
9) Sir William Muir, Life of Mohammad, John Grant, Kedinburgh, 1912, pp. 14-29.
10) انظر د. بكرى شيخ أمين/ "التعبير الفنى فى القرآن/ ص 19
11) السيوطى/ "الاتقان فى علوم القرآن"/ 1/ 6
12) انظر صحيح البخارى/ تفسير سورة "النور".
13) 393/ 2
14) ومع ذلك يشكك بوهل فى حدوث هذه المقاطعة، وحجته أنها لم ترد فى القرآن ولا عند عروة (396/2). فأما أنها لم ترد عند عروة فمن الواضح أن ذلك كذب، وأما احتجاجه بأنها لم ترد فى القرآن فكم من حوادث السيرة مما لا يمارى فيه بوهل ولا غيره لم يرد فيه. خذ مثلاً إيمان خديجة وإنفاقها مالها فى سبيل الله، أو موتها وتسمية العام الذى توفيت هى وأبو طالب فيه بعام الحزن؛ هل ورد ذلك فى القرآن؟ أم هل ورد فيه إيمان حمزة أو عمر رضى الله عنهما، هذا الإيمان الذى كان فتحاً؟ كذلك على وردت فيه الهجرة إلى الحبشة؟ أم هل وردت فيه غزوة بنى قينقاع؟ وهل وردت فيه غزوة مؤتة؟ بل هل ورد فيه زواجه عليه السلام من عائشة أو حفصة أو أم سلمة مثلا؟
15) انظر "مغازی رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ جمع وتحقيق د. محمد مصطفى الأعظمى/ 114
16) ردد ألفرد جيوم أيضاً ذلك الكلام، وهذه الحجة فى كتابه: Islam""/ 30. وانظر كذلك Maxime Rodinson, Mohammed, translated into English by Anne Carter, P. 100، وجدير بالذكر أن بعض المستشرقين، مثل كايتانى، يرفضون قبول هذه الرواية، انظر: Joseph Hubby. Christus: Manuel d h Histoir des Religions, p. 785.
17) واضح أنه يقصد الآية 68 لا 67، لأنه ليس فى هذه شىء مما يشير إليه، إذ هى تجرى هكذا: "لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ".
18) المرجو أن يعود القارئ إلى مجموعة الآيات التى تتناول هذا الموضوع من سورة "النساء" وتفسيرها (وهى تبدأ بالآية ١٠٥) لتكون عنده فكرة كاملة عن هذه القضية. وفى سبب نزول هذه الآية يُرْجَع مثلاً إلى "لباب النقول فى أسباب النزول" للسيوطى، و "أسباب نزول القرآن" للواحدى.
19) د. محمد حسين هيكل/ "حياة محمد"/ 165
20) القاضى عبد الجبار/ "تنزيه القرآن عن المطاعن" / 274
21) Ameer Ali, The Spirit of Islam, p. 34
22) انظر ابن السائب الكلبى/ "الأصنام"/ تحقيق أحمد زكى/ ١٩
23) نزلت السورة كلها دفعة واحدة ما عدا الآية 32، التى يذكر بعض العلماء أنها مدنية.
24) انظر الصيغ المختلفة لهاتين الآيتين فى تفسير الطبرى للآية ٥٢ من سورة "الحج". و د. هيكل/ "حياة محمد"/ ١٦٤، ١٦٥، وشمس الدين الفاسى/ "آيات سماوية فى الرد على كتاب آيات شيطانية"/ ٦٢
25) يمكن للقارئ الرجوع إلى كتابىَّ: "مصدر القرآن - دراسة فى الإعجاز النفسى" ( ص/ ٢٢ وما بعدها)، و "ماذا بعد إعلان سلمان رشدی توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية" (ص/ 230 وما بعدها)، حيث يجد مناقشة مفصلة لهذه القضية.
26) ويسلم المستشرقون أنفسهم بهذا. انظر الموسوعة 410/2/ مادة "المنافقون". وقد عُرِضّ عليه (عليه الصلاة والسلام) الملك فأبى، وعَرَضَتْ عليه قريش الزعامة فأبى والمال فأبى؛ لأنه r ما هو إلا رسول من عند الله، وهذه أشرف من أى زعامة، وأغلى من أى ملك، وأنفس من أى مال أو سلطان.
27) انظر فى اتفاق العقبة الأولى والثانية وطبيعته الدينية وقيامه على حماية أهل يثرب للنبى عليه السلام "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ ١٢٥، وسيرة ابن هشام/ 1/ 433، 434، 443، و "جوامع السيرة" لابن حزم/ 72 – 74
28) ولا نجد فى التاريخ كله من يوم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا شيئاً حارب العصبية والقوميات بمثل ما جاء به خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل الدعوة إليها عصبية جاهلية. تحبط العمل وتغضب الرب جل وعلا، وقد تضع الإنسان فى دائرة الخطر إن لم يراجع إسلامه قال تعالى: "إنما المؤمنون أخوة" "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى... الحديث"، وقال صلى الله عليه وسلم "من دعا إلى عصبية أو قاتل على عصبية مات ميتة جاهلية"، وقال عنها أيضاً r... "دعوها فإنها منتنة"، وقال r (أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم) عند تداعى الأوس والخزرج بالمدينة إلى التفاخر بالأنساب. وقال الله تعالى: "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ". وقد وصف r أعمال الجاهلية أنها من جثى جهنم (من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم).
29) أرأيت فى التاريخ كله سعة صدر وسماحة قلب وعظيم عفو مثل ما فعله هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم؟
30) نصرى سلهب/ "فى خُطَا محمد"/ ۱۷۱
31) السابق/ ۱۷۲،۱۷۳. وفى بحث هذه الغزوة وأهدافها وسير القتال وأسباب انتصار المسلمين فيها من الناحية المعنوية والتخطيطية والتعبوية والدروس المستفادة منها والقضايا الحربية المتعلقة بها انظر اللواء الركن محمود شيت خطاب/ "الرسول القائد"/ 9٩ – ١٢٦، ومحمد فرج/ "المدرسة العسكرية الإسلامية"/ ٤٨٧ - ٤٩٩ وفى مواضع أخرى متفرقة.
32) حتى أن من إرهاصات النبوة أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أخبر بما سيقع آخر الزمان من تداعى الأمم وتكالبها على أمة الإسلام وهم يومئذ كثير، ولكنه كثير كغثاء السيل وبين السبب وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم ويضع فى قلوبكم الوهن... الحديث".
33) 400/2. ولدراسة هذه الغزوة من الناحية العسكرية، انظر اللواء الركن محمود شيت خطاب/ "الرسول القائد"، ومحمد فرج/ "المدرسة العسكرية الإسلامية" / ٥٤٤، 525، 551، ٦١٢ – ٦١٣.
34) فى المادة الخاصة ببنى قريظة (272/2) يشكك المستشرق فاكا فى الروايات التى تذكر خيانتهم، ويستبعد أن تكون هناك اتفاقية بينهم وبين المسلمين على التناصر فى الحرب، وشبهته فى ذلك أنه لا يُعقل أن تكون هناك اتفاقية خاصة بهم غير اتفاقية "الصحيفة"، وهذه الاتفاقية اتفاقية عامة. وهذا كذب، فنصوص الاتفاقية موجودة فى مصادر السيرة والتاريخ كما سبق بيانه، وفيها النص على التناصر فى الحرب بين الفريقين، وما يقوله هذا المستشرق لا صلة بينه وبين البحث العلمى، الذى ينبغى أن يخضع لحقائق التاريخ لا أن ينكرها ويشكك فيها بدافع الأهواء والنزوات. إن العلم لا يعرف هذا التعصب الاستشراقى ضد كل ما هو إسلامى.
35) دیوان حسان/ تحقيق د. سيد حنفى حسنين/ 114، وقد أورده ابن هشام فى سيرته/ 2/ 270
36) وهى معاهدة الصحفية. انظر نصها فى ابن هشام/ 1/ 501 – 504، ومختصر سيرة ابن كثير/ اختصار محمد على قطب/ 178 – 180
37) تثنية 20/ 16، وانظر كتابى "مصدر القرآن - دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى"، ٤٥ – ٤٦
38) انظر قصة غزوة الخندق وبنى قريظة والخيانة التى اجترحها هؤلاء والعقاب الذى نزل بهم عن استحقاق فى "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ 184 – 189، و "المغازي النبوية" لابن شهاب الزهرى/ ۷۹ - ۸۳، وسيرة ابن هشام/2/ 214 – 273، و "المغازى" للواقدى/ ٢/ ٤٤٠ - ٥٤١، و "جوامع السيرة" لابن حزم/ ١٨٥ - ١٩٨. و "الفصول فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن كثير/ تحقيق محمد العيد الخطراوى ومحيى الدين متو/ ١٦٣ - ١٧٦، و "حياة محمد" للدكتور هيكل/ ٣٢٧ – ٣٤٢، و "السياسة الإسلامية فى عهد النبوة" لعبد المتعال الصعيدى/ ۱۱۲ - ۱۱۳، 9۷ – ۱۰۳، و "سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم - صور مقتبسة من القرآن الكريم" لمحمد عزة دروزة/ 2/ ۱۹۸- ٢۰۲، 340- ٣٤٦، و "قيام الدولة العربية الإسلامية فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم" للدكتور محمد جمال الدین سرور/ ١١١ - ١١٧، ١٤٦ – ١٤٧، و "تاريخ العرب القديم وعصر الرسول للدكتور" نبيه عاقل/ ٤٩٠ - ٤٩٧، و "غزوة الأحزاب" للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، و "غزوة بنى قريظة" لمحمد أحمد باشميل، و "نظرة جديدة فى سيرة رسول الله" لكونستانس جيورجيو (ترجمة د. محمد التونجى)/ ۲۸۷ – 303، و H. M. Balyuzı, Muhammad and the Course of Islam, PP. 93-101; Ziauddin Kirmani, The Last Messenger and a Last Message, pp. 151-156, 169-170; Safdar Husain, Who Was Muhammed, pp. 65-68; Hafiz Ghulam Saewar, Muhammad the Holy prophet, pp. 23- 28 and Martin LINGS, Muhammad, pp. 220-233.
39) انظر كتابه/Muhammad" "/ 231
40) يتابع د. عون الشريف قاسم بوهل والمستشرقين الذين يشككون فى الرسائل التى بعث النبى صلى الله عليه وسلم بها إلى الملوك المجاورين لجزيرة العرب، ويردد شبهتهم القائلة بأنه فى ذلك الوقت لم تكن لديه من القوة ما يساعده على اتخاذ هذه الخطوة، ومع ذلك فهو يقرُّ بعالمية الإسلام (انظر كتابه "دبلوماسية محمد - دراسة لنشأة الدولة الإسلامية فى ضوء رسائل النبى ومعاهداته"/ ٥٧ - 92)، ومثل د. عون الشريف فى ذلك د. نبيه عاقل (انظر "تاريخ العرب القديم وعصر الرسول"/ ٥٢٧ - ٥٤٨)، كذلك فإن هــــ. م. بليوزی يبدو بوجه عام متشككاً فى هذه الرسائل (انظر Muhammad and the Course of Islam, pp. 114-117
41) ومن ذلك جيش مؤتة، الذى يدعى د. عون الشريف قاسم أن البيزنطيين قد أبادوه عن آخره ("دبلوماسية محمد"/ ۷۰). وهذا غير صحيح بالمرة، إذ لم تذكر المصادر القديمة إلا عدداً جد محدود من الشهداء لا يكاد يتجاوز أصابع اليدين (انظر "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ ٢٠٦، وسيرة ابن هشام/ 2/ 388، ۳۸۹، ومغازى الواقدى/ 2/ 769). وماذا يكون هذا العدد فى جنب ثلاثة آلاف، وهو عدد المحاربين المسلمين فى تلك الغزوة فى مقابل مائة ألف للروم أو مائتى ألف؟ (انظر مغازى عروة/ ٢/ (٧٥٦، 760). ولقد ذكرت هذه المصادر أيضاً أن خالد بن الوليد قد عاد بالجيش إلى المدينة عودة مشرفة بعد سقوط قادته الثلاثة كما هو معروف. فما معنى الزعم بأن الجيش قد أُبيد عن آخره؟ ومن أين أتى المؤلف بذلك؟
42) انظر جورجى زيدان/ "تاريخ التمدن الإسلامى"/ مراجعة وتعليق د. حسين مؤنس/ 1/ 61، 62، وحفنى ناصف/ "تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية"/ ٦٤، ومحمد حميد الله/ "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة"/ ٢٤، ود. عون الشريف قاسم/ "دبلوماسية محمد صلى الله عليه وسلم"/ 81، 82
43) وذلك فى مقال له فى مجلة "Islamic Review"/ مجلد عام ١٨٥٤م/ ٤٨٢ – 498
44) نفس المجلة/ مجلد عام 1917م/ 49 – 53
45) Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire, Vol Vol. II, P 242
46) وذلك فى مقالين له فى "مجلة عثمانية" الناطقة بالهندوستانية/ يونيو ١٩٣٦م، ومجلة "Islamic Culture" حيدر آباد/ أكتوبر ١٩٣٩م/ ٤٣٢ - ٤٣٤، على الترتيب (انظر كتابه "مجموعة الوثائق السياسية"/24)
47) انظر صوراً لها ولغيرها من الرسائل المشابهة فى "مجموعة الوثائق السياسية"/ 102، 108، 137، 141، 147، 162، و"Encyclopaedia of Seerah" لأفضل الرحمن/ 1/ الصفحات التالية لصفحة 848
48) انظر د. عون الشريف قاسم/ "دبلوماسية محمد"/ 80
49) انظر فى هذه الرسائل مثلاً ابن شهاب الزهرى/ "المغازى النبوية"/ ٥٨ - ٦١، وسيرة ابن هشام/ ٢/ 606، 607، وصحيح البخارى/ باب "كتاب النبى إلى كسرى وقيصر" وغيره، وصحيح مسلم/ باب "الجهاد" و"كتب النبى إلى هرقل" و "كتب النبى إلى ملوك الكفار"، ومسند ابن حنبل/ باب "حديث رسول قيصر إلى رسول الله"، وصحيح الترمذى/ باب "مكاتبة المشركين" و"وما جاء فى ختم الكتاب"، وطبقات ابن سعد/ ١/ ٢٥٨ وما بعدها، والطبرى/ 2/ 644-657، وابن حزم/ "جوامع السيرة"/ ٢٩ - 3١، ومختصر سيرة ابن كثير/ ٣٦٩ - ٣٧٥، والجزء الثانى من كتاب "المصباح المضىّ فى كتاب النبى الأمى ورسله إلى ملوك الأرض من عربى وأعجمى" لابن حديدة الأنصارى، وأحمد زكى صفوت/ "جمهرة رسائل العرب"/ 1/ 32 وما بعدها، ومحمد حميد الله/ "مجموعة الوثائق السياسية"/ 99 وما بعدها، ود. محمد حسين هيكل/ "حياة محمد"/ ٣٨٣ ٢٨٥، وعبد المتعال الصعيدى/ "السياسة الإسلامية فى عهد النبوة/ ١٣٩ - ١٦٢، وأحمد إبراهيم الشريف/ "مكة والمدينة فى عهد الرسول/ 109، 110، و د. محمد جمال الدين سرور/ "قيام الدولة العربية الإسلامية فى حياة محمد r 150- 154، و د. أحمد عبد الرحمن عيسى/ "كتَّاب الوحى"/ 105-134، ومقال د. عز الدين إبراهيم بعنوان/ "الدراسات المتعلقة برسائل النبى صلى الله عليه وسلم إلى الملوك فى عصره" فى المجلد السادس من "البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر العالمى الثالث للسيرة النبوية بالدوحة"/ ٢٤٩ - ٢٨٤، وكونستانس جورجيو/"نظرة جديدة فى سيرة رسول الله"/ ٢٤٢، ٣٤٣، و Ameer Ali, The Spirit of Islam, PP.89-91; Afzalur - Rahman, Enclyclopoedia of Seerah, Vol. I, PP. 845-851, and Martin Lings, Muhammad, PP. 259-260.
50) التوبة: ۳۳، والفتح: ۲۸ والصف: 9. وقد عالج أ. م. طيباوى هذه النقطة بشىء من التفصيل فى كتابه: Arabic and Islamic Themes، 54، 55.
51) انظر A.L. Tibawi, Arabic and Islamic Themes, p. 54، ود. عون الشريف قاسم/ "دبلوماسية محمد"/ ۸۹
]]>
منتدى الدكتور إبراهيم عوض إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/showthread.php?109703-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%81%D9%89-%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D9%86%D9%82%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%AF
<![CDATA[محمد فى "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية" - عرض ونقد ورد]]> https://wata.cc/forums/showthread.php?109702-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%81%D9%89-%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D9%86%D9%82%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%AF&goto=newpost Mon, 17 Jun 2024 04:46:50 GMT محمد فى دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية عرض ونقد ورد إبراهيم عوض ينصبُّ الكلام هنا على مناقشة ما جاء فى المادة الخاصة بالرسول عليه السلام....
محمد فى دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية
عرض ونقد ورد

إبراهيم عوض
ينصبُّ الكلام هنا على مناقشة ما جاء فى المادة الخاصة بالرسول عليه السلام. وهذه المادة كتبها المستشرق بوهل أيضا[1]، وهو أشد مستشرقى الموسوعة إظهاراً لعداوته للإسلام وحقده على نبيه وكتابه[2]. وهو فى أول المادة يعلن أن المصادر التى تتعرض لحياة الرسول عليه السلام وسيرته لا يوثق بها ولا يعتمد عليها، أمَّا لماذا فإنه لا يُعَنّى نفسه بالجواب. ذلك أنه يرى أنه يكفى أن يصدر حكمه على شىء فنخر له على الأذقان سجداً. ولكن للأسف ليس هذا من البحث العلمى فى شىء، وإلَّا فكل إنسان قادر على أن يصدر من الأحكام ما شاء الله دون أن يشفعها بالدليل، بيد أن هذا لا يجعل من كلامه علماً ولا ما إلى العلم بسبيل.
والنقطة التى أثارها بوهل هنا هى نقطة منهجية. ولقد رأينا أنه لم يسق لنا سبباً واحداً يسوّغ به نظرته هذه للمصادر التى تتعرض لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهذه ثغرة خطيرة فى منهجه. وثمة ثغرة أخرى أخطر، إذ إن هذا الكاتب الذى رفض تلك المصادر هو نفسه الذى تكرر رجوعه لها واعتماده عليها وإحالته إليها على مدى مقاله، وهذا طبيعى، وإلا فمن أين سيأتى بالمعطيات التاريخية عن الرسول عليه السلام؟ أى أنه قد عاد فلحس دعواه العريضة تلك دون أن يشعر بشىء من الخجل. وقد بدا تناقضه عقيب هذه الدعوى مباشرة، إذ فى الوقت الذى رفض فيه الاعتماد على تلك المصادر فى تحديد المدة التى قضاها النبى عليه الصلاة و السلام فى مكة نراه يعتمد على بيت لحسان بن ثابت رضى الله عنة فى تحديد هذه المدة بعشر سنوات ونَيِّف[3]. أليس شعر حسان هذا أحد مصادر سيرة الرسول؟ فلماذا يثق به دونها؟ ثم أليس ما جاء فى بيت حسان هو ما تقوله سائر المصادر؟ فما الجديد الذى أتى به بوهل؟ وكيف قبل ضميره العلمى هذا التناقض وذاك الادعاء الفارغ؟
وهو يشكك أن يكون عمر الرسول عليه السلام عند تلقيه الوحى أربعين سنة ويصر على أنه ثلاثون فقط، وذلك دون أى مبرر، اللهم إلا أن كلمة "عُمُرا" فى قوله تعالى: "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" لا يمكن أن تعنى فى نظره إلا نحو ثلاثين عاماً فانظر بالله عليك إلى هذه الطريقة العجيبة فى رفض المعطيات التاريخية الثابتة والإتيان بدلاً منها بنتائج أخرى لا معنى لها ولا أساس تقوم عليه. من قال لبوهل إن "العمر" يعنى "ثلاثين" بالذات؟ وماذا يقول لو جاء آخر وقال إنها لا تعنى إلا "عشرين" أو "عشرا" أو "خمسين" أو "ستين"؟ هل يستطيع ذلك المستشرق أن يثبت لنا أن اللغة العربية حينما تستخدم كلمة "عمر" فى مثل هذا السياق لا تقصد إلا ثلاثين سنة؟ لقد وردت هذه اللفظة فى قوله تعالى مثلاً "وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ"، وواضح أن العمر هنا قد استغرق أجيالاً كثيرة؛ فماذا يقول بوهل فى ذلك؟ ثم إن القول بأن الوحى قد شرع ينزل على النبى فى الثلاثين من عمره سوف يترتب عليه أن يكون قد تزوج خديجة وهو فى الخامسة عشرة لا الخامسة والعشرين؛ فماذا يقول بوهل فى هذا أيضاً؟ لقد كان ينبغى عليه قبل المكابرة أن يستشرف النتائج التى ستؤدى إليها مكابرته هذه. لكن من الواضح أنه هو ورفاقه لا يبالون بشىء فى سبيل التشكيك فى الإسلام ونبيه وتاريخه. والتشكيك هنا لا هدف له سوى تحطيم الثقة بالمصادر الإسلامية، إلا أننا ما دمنا نجد فى المصادر أنه بُعث فى الأربعين أو بعد ذلك بقليل فلا داعى لرفض هذه المعطاة التاريخية دون دليل حاسم، وأين هو؟
وجرياً على سنته فى التشكيك نراه يقول إن الطبيعى، وقد كان محمد تاجراً وزوجاً لخديجة التاجرة، أن يظهر فى القرآن الاهتمام بالتجارة والتعبيرات التجارية، وهو يمثل لذلك بما جاء فى الآية ۱۰۸ من سورة "البقرة" والآية 9 وما بعدها من سورة "الجمعة".
وهذا كلام غير صحيح، فإن فى القرآن كلاماً عن الزراعة مثلاً وتعبيرات وتشبيهات من مجالها أكثر مما فيه عن التجارة[4]. ثم إنه لو كان كلام بوهل صحيحاً لكان المفروض أن يبرز هذا فى الوحى المكى أكثر من الوحى المدنى، إذ كان محمد صلى الله عليه وسلم آنذاك قريب عهد بالتجارة فى أموال خديجة رضى الله عنها، وكانت خديجة لا تزال حية. ولكن العكس هو الصحيح بالنسبة للتعبيرات المستمدة من ذلك المجال. ثم إن الاهتمام فى القرآن عموماً بشؤون تلك الحرفة ليس بهذا الاتساع الذى يوحيه كلام بوهل[5]، وهو على أية حال راجع إلى أن مكة كانت مدينة تجارية لا زراعية، فالانحراف الذى كان يجترمه أهلها هو فى المقام الأول انحراف تجارى. وإن عدم استشهاد بوهل هنا إلا بالوحى المدنى متمثلاً فى نصَّىْ سورتى "البقرة" و"الجمعة" لدليل على ما نقول.
إن بوهل حينما يقول هذا إنما يقصد أن القرآن هو نتاج محمدى، ولهذا فهو يعكس ظروفه ونفسيته. وهو حر فيما يعتقد، بيد أن عليه أن يحترم قِيَم العلم وعقول القراء. ولسوف نبين فيما بعد عن طريق بعض المقارنات بين أسلوب القرآن وأسلوب الحديث أن القرآن لا يمكن أن يكون صادراً عن الرسول عليه الصلاة والسلام لأن أسلوبه غير أسلوب القرآن.
ويدعى بوهل أن الرسول قبل البعثة كان كسائر قومه وثنياً. ومن بين ما يستند إليه فى ذلك قول القرآن له عليه السلام: "وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى"، و "مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ ولا الإيمَانُ"، وأنه كما ذكر ابن الكلبى قد قدم مرة شاة للعُزَّى. كما يزعم أنه عليه السلام كان يعتقد فى الطيَرة، وأنه أخذ من الطقوس الوثنية شعيرة الذبح.
ومن المؤكد أنه لو كان الرسول يمارس الطقوس الوثنية ويعتقد اعتقادات الوثنيين قبل البعثة لهبَّ المشركون فى وجهه من اللحظة الأولى قائلين له: لقد كنت بالأمس تمارس هذا الذى تنكره اليوم علينا، فما عدا عما بدا؟ ومن جهة أخرى فالذى ذكرته المصادر التاريخية هو أنه كان يتحنث فى غار حراء قبل البعثة، ويمكث هناك بعيداً عن بيته وأسرته الليالى ذوات العدد. فلماذا يتجاهل بوهل هذا ويأتى بتلك الآراء الغربية؟ أما قوله تعالى: "وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى" فلا يعنى ما ذهب إليه الكاتب، بل هو يشير إلى فترة التحنث هذه التى طال فيها بحثه صلى الله عليه وسلم عن الحقيقة ولم يصل فيها إلى شىء قاطع تطمئن إليه نفسه اطمئناناً نهائياً. وقد قال أبناء يعقوب عليه السلام له عندما أخبرهم أنه يشم رائحة يوسف أثناء اقتراب البشير من بلدهم حاملاً قميص يوسف عليه السلام: "قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ". ولست أظن أحداً يفهم من هذا أنهم يرمونه بالوثنية. كما وَصَف موسى عليه السلام نَفْسَه عندما قتل مصرياً خطأ قبل بعثته بأنه كان "مِنَ الضَّالِّينَ"، فهل قصد ذلك النبى الكريم أنه كان وثنياً آنذاك؟ وبالنسبة لآية سورة "الشورى" فالنبى عليه السلام لم يكن يدرى فعلاً قبل بعثته شيئًا عن القرآن والإسلام. وكيف كان له أن يعرف ذلك وهو لم يكن قد اختير بَعْدُ رسولاً؟
وبالنسبة لابن الكلبى فإن عبارته هى: "قد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها يوماً فقال: لقد أهديتُ للعُزَّى شاة عفراء وأنا على دين قومى"[6]. ويلاحظ أنه لم يذكر من الذى أبلغه هذا الكلام، ولا فى أى ظرف أو لأى سبب تم تقديم القربان، ولا من كان مع الرسول عليه السلام من أبناء قومه حينذاك. ثم لماذا لم يَرْوِ ذلك غَيْرُ ابن الكلبى؟ إن مثل هذا الخبر الغريب الذى يصادم ما نعرفه عن رسول r ونبذه آنذاك الأصنام والوثنية وكل ما يتعلق بها لا يُقْبَل بمثل هذه السهولة. وقد قلت إنه لو كان الرسول قد مارس طقوس الوثنية فى يوم من الأيام لاحتج عليه بها المشركون وسجَّل القرآن ذلك ضمن اعتراضاتهم الكثيرة عليه وعلى الدين الذى جاءهم به.
أما دعوى بوهل فى اعتقاد الرسول عليه السلام فى الطيرة فإنها دعوى كاذبة، فقد كانت الطيرة من الأشياء التى حمل النبى عليه السلام عليها وعلى من يعتقدون فيها[7].
وبالنسبة لشعيرة الذبح فليس صحيحاً أن الرسول قد أخذها من الوثنية، بل هى من شعائر الحج كما وردت عن إبراهيم عليه السلام. ثم إنها فى الإسلام لا تقدَّم لصنمٍ أو وثنٍ أو تُعطَى للكاهن بل تعطى للفقراء والمساكين الجياع قُرْبَى إلى الله سبحانه وتعالى. فكل ما قاله المستشرقون إذن بهذا الصدد هو كلام سمج، إذ ليس فى تلك الشعيرة أية شائبه من الوثنية.
ثم يقول بوهل إن الرسول r قد أخذ أفكاره عن أهل الكتاب، وإن أعداءه كانوا على حق عندما اتهموه بأن له معلمين أجانب يتلقى عنهم ما يقوله فى القرآن.
والرد على ذلك جد سهل، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد خالف أهل الكتاب فى معظم ما عندهم (إلى الصواب بطبيعة الحال)، ولهذا فقد كفروا به. فكيف يكون قد تلقى عنهم أفكاره الدينية؟ ولماذا لم يتقدم واحد (واحد فقط!) من هؤلاء الذين قيل إنهم كانوا يعلمونه، مؤيداً مزاعم قريش، وبخاصة أن الرسول لم يكن له فى مكة حول ولا طول، ولم يكن فى يده آنذاك ما يبعث على الرغبة أو الرهبة، بل كان الحول والطول والرغبة والرهبة جميعاً عند القرشيين؟ وإذا كان الرسول يتعلم من بعض أهل الكتاب فلماذا كان المشركون واليهود يحرصون على توجيه الأسئلة إليه عمّا فى تلك الكتب وهم يعرفون أنه مطلع عليها من خلال أولئك المعلمين؟
وإن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قول ذلك المستشرق إن "التزمُّل" و "التدثُّر" المشار إليهما فى الآية الأولى من كل من سورتى "المزمل" و"المدثر" قد يكونان استعداداً لتلقى الوحى على الطريقة القديمة عند الكهان العرب. ذلك أن الرسول إنما تزمَّل وتدثَّر فى بدايات الوحى من البرد الذى كان يشعر به بسبب الخوف الذى أصابه عند رؤيته جبريل وسماعه صوته وهو منفرد فى غار حراء، فالتزمُّل والتدثُّر كانا بعد الوحى لا قبله، وكانا فراراً منه لا استحضاراً له. ولكن ماذا نقول لبوهل وأمثاله، الذين يَقْلبِون أوجه الأمور إلى أقفائها؟ وإن الوحى عندما ناداه بـ "يا أيها المزمل" و "يا أيها المدثر" إنما كان يعلن رفضه لتزمله r وتدثره، فكيف يكون رد فعل الوحى هو إنكار هذا التغطى الذى أراد به الرسول استجلابه؟
ويحاول بوهل أن يقنع القارئ بأن الوحى لم يكن شيئًا آخر غير ما كان عند الكهان: فالسجع هنا وهناك، وكذلك القسم بمظاهر الطبيعة... إلخ. ولا أحب أن أقف طويلاً عند هذه الأمور الشكلية التى لا تقدم ولا تؤخر، والتى أرجح أن يكون الكهان قد أخذوها من بعض الأديان السابقة ثم انحرفوا بها نحو خداع الناس وإيهامهم أنهم قادرون على استشفاف الغيب، وهو الشىء الوحيد تقريبا الذى كان العرب يؤمون الكهان من أجله، والذى نفى القرآن عن الرسول عليه السلام القدرة عليه. وفوق ذلك فالكهان كانوا يأخذون أجراً على ما يقولون، أما الرسول فلا. وإنى لأستغرب كيف تجاهل بوهل كل القيم والمبادئ النبيلة التى جاء بها محمد عليه السلام والتى نقلت العرب من أُمّة نكرة متخلفة وجعلت منهم أصحاب إمبراطورية واسعة عريضة وقوّاداً عالميين وعلماء عظاماً فى كل مجالات المعرفة، ودفعت الحضارة البشرية إلى الأمام دفعة ليس لها مثيل، وركَّز على هذه المشابهات الشكلية وكأنها هى كل شىء؟ إن ذلك يشبه اعتراض الكفار على أن الرسول كان بشراً ولم يكن من الملائكة! كذلك يمكن بهذه الطريقة لأى معاند أن يعترض على القرآن لأنه أتى بلغة بشرية واستخدم نفس الألفاظ التى يستخدمها سائر العرب؟ إن اللغة هى مجرد وسيلة، والعبرة كل العبرة بالمضمون. ومع ذلك فاللغة فى القرآن لها خصائصها التى لا توجد فى أى كلام آخر بما فيه الحديث النبوى نفسه، مما سنشير إليه لاحقا فى موضعه بمشيئة الله.
ويشير بوهل إلى اتهام المؤلفين البيزنطيين له عليه السلام بالصَّرْع، قائلاً إن علماء التحليل النفسى المحدثين يوافقونهم على رأيهم هذا. وهو يتظاهر بالحياد والتواضع قائلاً فى مسكنةٍ: "إن علينا بطبيعة الحال أن نترك لأولئك المحللين مهمة تحديد الطبيعة الدقيقة لحالته"، وذلك دون أن يذكر لنا أسماء هؤلاء المحللين النفسانيين، ولا على أى أساس قالوا ذلك إن كانوا قالوه فعلاً، وهل عُرضت عليهم أعراض الوحى التى كانت تنتاب الرسول عليه السلام حين نزول القرآن عليه عرضا أميناً، وقد كان جيبون، المؤرخ الإنجليزى الشهير، حاسماً فى وصف هذا الاتهام للرسول عليه السلام بالصَّرْع بأنه "ادعاء سخيف من اليونانيين"[8]. كما رفض وليم موير تفسير ظاهرة الوحى بالصرع، قائلاً إن نوبة الصرع تمنع المصروع من تذكر ما مرَّ به أثناءها[9] ، وممن يرفضون أيضًا القول بالصَّرْع لامنس وفون هامر بورجشتال[10].
وعلى كل حال فهذه هى أعراض الصرع كما وردت فى: New Medical Dictionary لمحرّرَيْه F.M.Margerison و A.D. Banker فى مادة Epilepsy (أى الصَّرْع): الصرع هو مرض يصيب الجهاز العصبى، ويميزه فقدان الوعى، وكذلك التقلصات فى كثير من الأحيان... ويبدأ الصرع عادة فى الطفولة... والمصابون بالصرع هم أشخاص انفعاليون وغير متزنين، وهم مهيأون للتقوقع بعيداً عن الدنيا والعيش فى الأوهام. وعادة ما تنشأ نوبة الصرع عن الضغط الانفعالى أو التهيج اللاإرادى. أما عن أعراض الصرع ففى الحالات العنيفة... تحدث النوبة فجأة ويسقط المصروع كاللوح، وغالباً ما يؤذى نفسه أثناء ذلك إيذاء شديداً، وتنبسط العضلات وتنقبض بشدة. أما الوجه فيكون أولاً شاحباً ثم ينقلب إلى الازرقاق مع انسداد مجرى التنفس. وبعد بضع ثوان تأخذ العضلات فى الارتعاش والتشنج، وتدور حدقتا العين، وينقبض الفك ويرتخى، وقد يعض المصروع لسانه بقوة. كذلك ربما تبوّل أو تبرّز على نفسه، وتدريجياً يروح المريض فى غيبوبة فترتخى العضلات حينئذ وينام لعدة ساعات، ثم يستيقظ فى نهاية النوبة وعقله يعانى بعض التشويش. وفى بعض الحالات لا تنتهى النوبة بعد بضع دقائق بل تستمر مع ازدياد النبض وارتفاع درجة الحرارة... وقد يحدث أن يفيق المريض ظاهرياً فيمارس أموره من غير أن يكون واعيًا فعلاً بما يفعل، ومن غير المستبعد أن يرتكب مثل هذا الشخص جريمة قتل فى هذه الحالة... أما فى نوبات الصرع الخفيفة فقد يغيب الوعى لبضع ثوان دون أن تصاحبه أية تقلصات، وقد يُعْرَف عن مثل هذا المريض أنه عرضة لشحوب الوجه المفاجئ وفقدان خيط الحديث. وقد يظهر عليه أنه رجع إلى حالته الطبيعية بعد بضع ثوان، ومع ذلك فقد يرتكب هذا الشخص عملاً إجراميا فى هذه الثوانى القليلة ولكنه لا يُعَدُّ مسؤولاً عنه. وهناك الصرع الجاكسونى... وقد تأتى نوبته على هيئة تنميل فى أصابع إحدى اليدين أو إحدى القدمين ثم ينتشر التنميل فى سائر العضو، وغالباً ما يحتفظ المصاب بوعيه طوال مدة النوبة... وأثناء النوبة لا بد أن يُمْنَع المصروع من إيذاء نفسه بأن يُدَسّ شىء بين أسنانه حتى لا يعض لسانه".
وباستطاعة القارئ أن يكتشف بنفسه من غير أية مشقة زيف محاولة الربط بين عوارض الوحى وبين أعراض الصرع ونوباته، فلا الرسول كان شخصا انفعالياً غير متزن ولا هو كان يتقوقع داخل أوهامه بعيداً عن الدنيا والناس من حوله، بل كان يشارك بكل طاقته وانتباهه واهتمامه فى نشاطات الحياة راعياً وتاجراً وزوجاً وداعياً الناس إلى ربه، وحاكماً وقائداً عسكريا... إلخ. ثم إنه لم يحدث قط، حين كان ينزل عليه الوحى، أن سقط كاللوح أو آذى نفسه بعضّ لسانه مثلاً. كذلك لم يكن فكّه ولا عضلاته تنقبض وترتخى على نحو تشنجى. أما التبول والتبرز فلا مكان لهما هنا. كما أن عقله عليه السلام لم يعرف التشوش ولم يرتكب مرة عملاً خطيراً لا أثناء الوحى ولا بعد انقشاعه. وأيضاً لم يقع منه البتة أن فقد خيط الحديث وهو يتحدث مع أحد من أصحابه حين نزول الوحى عليه، أو شعر بتنميل فى أصابع يديه أو قدميه قط، أو ارتفعت درجة حرارته أو تسارع نبضه على العكس كان عليه السلام يحسُّ ببرد فى ثناياه[11]. أما وجهه الكريم فقد كان يحتقن حمرة (وقد يربدّ) ولكنه لم يكن يزرقّ. وكذلك لم يكن مجرى تنفسه ينسدّ. ولم يحدث أن صرخ عليه السلام عند مجىء الوحى. ثم إن أعراض الوحى من صلصلة الجرس وسماع مَنْ معه دوياً حول وجهه الشريف وثقل جسمه الشديد فجأة ليس لها فى نوبات الصرع أى تفسير. وفضلاً عن ذلك فإنه عندما كان الوحى يَفْصِم عنه كان يسأل عن صاحب السؤال ويجيبه فى التوِّ بحل مشكلته حسبما جاء به الوحى فى لغة أدبية هى أرقى ما عرف العربى. أى أنه لم يكن فى غيبوبة شأن المصروعين، بل كان وعيه منفتحاً على عالم الغيب يتلقى الوحى الذى ينزل عليه من السماء، بل إنه، عقب الوحى الذى نزل بتبرئة عائشة من الإفك الذى بُهتت به، قد أفاق وهو يضحك من البِشْر[12]، ولا يمكن أن تكون هذه من علامات الصرع.
كذلك هل يظن ظانٌّ أن الرسول كان مصاباً بالصرع ثم يسكت عنه أعداؤه من مشركين ويهود؟ إنه لم يحدث أن اتهمه أحد منهم بذلك، بل الذين أشاعوا هذا الإفك هم الكتاب البيزنطيون الذين لم يَرَوْه قط، ثم جاء المستشرقون فقبضوا على هذا السخف بأسنانهم وأظفارهم وحاولوا أن يُلْبِسوه ثوباً من العلم ملوحين بالتحليل النفسانى، لكى يلبّسوا على القراء ويوهموهم أنهم قد فسروا الوحى المحمدى التفسير الصحيح. وهيهات!
ويقفز بوهل عقيب ذلك إلى القول بأنه من الناحية العلمية فإن الصوت الذى كان محمد يسمعه (يقصد الوحى) لم يكن شيئًا آخر غير ما كان قد سبق له سماعه من هنا وههنا ثم طفا الآن من اللاوعى.
وسؤالنا هو هل المصروع يسمع شيئًا؟ ثم كيف تفسَّر الظاهرة نفسها بالصرع مرة وانبثاق الأفكار والأصوات من اللاوعى مرة أخرى؟ أليس هذا هو الخلط بعينه؟ كذلك فإن القرآن فى معظم الأشياء يخالف ما عند أهل الكتاب (وهو ما يتهم بوهل الرسول بأنه كان يسمعه من هنا وههنا ويختزنه عقله الباطن)، فماذا يقول بوهل فى هذه المسألة؟ ثم إن كثيراً جداً مما فى القرآن مرتبط بحوادث كانت تقع لتوها أو أسئلة كانت تلقى على الرسول ويحتاج أصحابها إلى إجابات فورية عنها، وكان الوحى ينزل فى الحال بالتعليق على الحادثة أو بالإجابة على السؤال المطروح. وهى حوادث وأسئلة لا علاقة لها فى الأغلب الأعمّ بما عند أهل الكتاب، فكيف تفسر ذلك نظرية اللاوعى، والوحى فى هذه الحالة لا علاقة له بما يزعم بوهل وأمثاله أن الرسول قد سمعه من هنا وههنا؟
كذلك ما أكثر الوحى الذى نزل يعارض رغبات الرسول صلى الله عليه وسلم أو يعاتبه ويخطئه! وهو ما يتعارض مع تفسيره بأنه طفو لأفكاره ومشاعره المختزنة فى لا وعيه صلى الله عليه وسلم. ومن ذلك نَهْى القرآن له عليه السلام هو والمسلمين أن يستغفروا لأى مشرك: "مَا كَانَ لِلنَّبِيىِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِى قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ"، واستنكاره سبحانه إطلاق النبى سراح أسرى المشركين فى بدر فى مقابل مبالغ من المال بدلاً من قتلهم: "مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِى الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ". وقوله عز شأنه له بعد أن أذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة مؤتة: "عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ". وقريب منه توقف الوحى فى بداية الدعوة فترة من الزمن مما سبب للنبى عليه الصلاة والسلام آلاماً لا تُحتمل، وكذلك بطء الوحى الذى نزل يبرئ عائشة رضى الله عنها، التى كان يحبها ويحب أباها حباً شديداً، مما رُميت به من قِبَل المنافقين ومن انخدعوا بما قالوه زوراً وبهتاناً، فلم ينزل إلا بعد مرور شهر كان أثقل على نفسه r من سنوات طوال. وفضلاً عن ذلك كله فإن أفكار اللاوعى ومشاعره لا تتمثل لصاحبها فى هيئة صلصلة جرس أو شخص يُرَى ويُسْمَع كما كان يحدث فى الوحى المحمدى.
وعجيب أن يشهد الكاتب للرسول مع ذلك بالأمانة لصبره على معاداة قومه اللاهبة واقتناعه التام بنبوته وعدم وجود عرض شخصى له[13]. بالله كيف يمكن التوفيق بين هذا وبين اتهامه له قبيل ذلك بالصرع؟ ورغم هذا كله يتقلب بوهل على عقبيه كرة أخرى قائلاً إن الرسول كان فى بعض الأحيان يتصنع الوحى. إن ذلك فى الحقيقة لهو الخلل العقلى بعينه، فنحن بهذا لا نعرف ماذا كان الرسول بالضبط فى نظر بوهل: هل كان مصاباً بالصرع؟ هل كان الوحى عبارة عن انبثاق أفكار وأصوات من عقله الباطن؟ هل كان الرسول نبياً حقاً ما دام ذلك المستشرق يصفه بالأمانة والاقتناع التام برسالته وصلابته فى القيام بواجبات هذه الرسالة ثلاثة وعشرين عاما؟
كما يتهم هذا المستشرق المؤرخين وكتاب السيرة المسلمين بالمبالغة الشديدة فى الكلام عن الاضطهاد الذى تعرض له المسلمون على أيدى الكفار، ويعزو هذه المبالغة المزعومة إلى رغبة هؤلاء الكتاب فى تضخيم التضحيات التى قام بها المسلمون الأوائل وتلطيخ سمعة الأُسَر القرشية الكبيرة، وهو يذكر عروة (بن الزُّبَيْر) فى هذا السياق قائلاً إنه أشار إلى فتنتين اثنتين فقط اضطرتا المسلمين الأولين إلى الهجرة.
وإننا لنعجب أشد العجب من هذا الإصرار على اتهام الكتاب المسلمين بالمبالغة الشديدة فى كلامهم عن اضطهادات قريش للمسلمين الأوائل، إذ أين دليله على هذا؟ ومن أين له بذينك السببين اللذين ذكرهما؟ وهل قال المسلمون شيئًا عجباً غير معقول؟ الحق أن ما قالوه أقل مما يحدث عادة فى مثل هذه الظروف، فالمعروف أن الدعوات الجديدة تجلب على أصحابها وأتباعهم كثيراً جداً من ألوان الاضطهاد والتعذيب. فما بالنا بدين كالإسلام أتى فقلب الأوضاع الجاهلية رأساً على عقب، وذلك فى مجتمع وثنى يقدس التقاليد والأسلاف، وتسوده العصبية القبلية ويغلق قلبه وعقله فى وجه كل جديد؟ ثم ما حكاية الرغبة فى تلطيخ سمعة الأسر القرشية الكبيرة؟ إن بوهل يقصد أن الكتّاب فى عهد العباسيين قد أرادوا التقرب إليهم بتشويه بنى أمية. لكن ألم يذكر هؤلاء الكتاب أنفسهم أبا لهب مثلاً بين هؤلاء المضطهِدين، وهو هاشمى مثل العباسيين؟ بل ألم يذكروا أن أبا طالب، وهو هاشمى أيضاً، قد مات على الكفر على حين أسلم أبو سفيان وزوجته وابنه معاوية... الخ؟
أما عروة، الذى يحاول بوهل الإيحاء بأنه لم يذكر إلا فتنتين (وهل الفتنتان اللتان تدفعان قوماً إلى ترك بلادهم وأهلهم بالشىء القليل؟)، فإنه قد ذكر إلى جانب ذلك أنه لما عاد رسولا قريش خائبين من الحبشة أجمع المشركون مكرهم وأَمْرهَم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فكان أن انحاز به بنو هاشم إلى شِعْبهم ليحموه منهم، مما أثار غيظ المشركين ودفعهم إلى مقاطعتهم ومحاصرتهم فى ذلك الشعب حتى يهلكوا جوعاً أو يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم[14]. وهو يذكر ما كان أبو طالب يلجأ إليه حينذاك من تمويه ليضلل هؤلاء المشركين عن الفراش الذى كان يبيت فيه كل ليلة رسول الله r[15]. كما أنه قد تحدث عن البلاء الذى صُبَّ على رسول الله عليه السلام بالطائف عندما ذهب إليها يدعو أهلها إلى الإسلام فرموه بالحجارة التى أدمت قدميه واستهزأوا به أعظم الاستهزاء. ومما رواه أيضاً تآمر المشركين على أن يقتلوا الرسول أو يسجنوه أو يخرجوه، مما اضطره عليه السلام إلى الهجرة تاركاً وراءه وطنه وداره. وذلك غير ما لجأ إليه المشركون من خديعة عياش بن ربيعة، الذى كان قد هاجر إلى يثرب، إذ أرسلوا إليه من ضحكا عليه وأوهماه أن أمه حزينة لهجرته وأنها قد قاطعت طيب العيش حتى تراه، وأعطياه العهد والميثاق على صدقهما وأنهما لا يريدان شراً حتى صدَّقهما وخرج معهما فأوثقاه فى الطريق وحملاه إلى مكة. وانظر كذلك ما قاله عن تعذيب المشركين خُبَيْباً وزيد بن الدثنة وصَلْب الأول وقَتْل الثانى... وغير هذا. وكلام عروة إنما هو فى المغازى أصلاً، فمن الطبيعى ألا يتعرض للتعذيب الذى أوقعه المشركون بنبى الإسلام وأتباعه. ومع ذلك فإنه قد ذكر من ذلك أكثر جداً مما أراد بوهل أن يوهمنا بأنه فعل.
ويردد يوهل فرية قبول الرسول r لبعض الوقت ألوهية اللات والعزى ومناة وشفاعتهن (يقصد ما يقال من أنه كانت هناك آيتان عن هذه الأصنام تجریان هكذا: "إنهن الغرانيق العُلَا وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى"، ويؤكد أن هذه القصة لا يمكن أن تكون زائفة، لأنه لا يمكن أن يكون المسلمون اخترعوها، أى لما فيها من إساءة للرسول عليه الصلاة والسلام[16]. ويمضى قائلاً إن الآيتين ٥٦ و ٦٧ من سورة الأنعام[17]، والآية ٧٥ وما بعدها من "الإسراء"، والآية ١١٣ من "النساء" تبين لنا كيف أن ذلك من الوجهة النفسية ممكن جداً.
ونبدأ بالآيات المشار إليها. وهى تدل على عكس ما ذهب إليه بوهل، ففى الآية الأولى نقرأ قوله تعالى: "قُلْ إِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ"، وهى كما نرى تخبرنا أن الله سبحانه قد نهاه عن أن يعبد أى صنم أو وثن مما يعبده المشركون. أما الآية الثانية فإنها تأمره r بالإعراض عمن يخوضون فى آيات الله، وعن الجلوس معهم مجرد جلوس. ويقول المولى عز وجل فى الآية الثالثة: "وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً، وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً، إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً". وبغض النظر عن مناسبة نزول هذا النص القرآنى الكريم فإنه ينفى أن يكون الكفار قد نجحوا فى فتنة النبى عليه السلام ودفعه إلى افتراء شىء لم ينزل الوحى به. ذلك أن الله سبحانه قد ثبته وعصمه من الاستجابة لأهوائهم، وإلا فلو وقع المستحيل واستجاب الرسول لهم لكان الله قد أوقع به ذلك العقاب الصارم الذى تصفه الآيات، وتبقى الآية الأخيرة، وهى قوله تعالى تعقيباً على محاولة بعض المنتسبين إلى الإسلام خداع النبى عليه السلام وتضليله بِعَزْو السرقة التى ارتكبها أحدهم إلى اليهود: "وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً"[18]. فهذه الآية تبين أن الله سبحانه قد حماه من أن يتأثر بكلام هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام الذى أرادوا به تبرئة صاحبهم وإلصاق التهمة ظلماً وافتراء بأحد اليهود. فماذا فيها أو فى الآيات السابقة مما يمكن أن يبين لنا، حسب زعم بوهل، أن قبول الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض الوقت ألوهية اللات والعزى ومناة وشفاعتهن لدى الله ممكن جداً من الناحية النفسية؟
أما قوله إن المسلمين لا يمكن أن يكونوا اخترعوها فهذا صحيح، ولكن على معنى غير ما يقصده، فإن أغلب الروايات التى أشارت إلى هذه القصة تذكر أن الشيطان هو الذى قال ذلك لا الرسول عليه السلام. أما الرواية التى تقول إن لسان الرسول قد نطق به فإن ابن إسحاق (بن خزيمة) مثلاً قد نسبها إلى الزنادقة[19]، وجعلها القاضى عبد الجبار من روايات الحشوية ودسائس الملاحدة[20]، ويقول سيد أمير على إنه لما نزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسورة "النجم" وأخذ يتلوها عند الكعبة وبلغ قوله تعالى: "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى" خاف أحد المشركين أن يأتى النبى عليه الصلاة والسلام بشىء من ذمها فسبق إلى مدحها بالآيتين المذكورتين[21]، وهو تفسير وجيه لأن القرشيين كانوا يقولون ذلك فعلاً عند طوافهم بالكعبة فى الجاهلية[22]، كما لم يرد فى كتب الصحاح أن الرسول قد نطق بهذه الآيات. أما ابن هشام فإنه لا يذكر من هذه القصة أى شىء.
ثم كيف يقال إن الرسول عليه السلام قد قرأ هاتين الآيتين المزعومتين مع آيات سورة "النجم"، مع أن تلك السورة كلها من أول آية فيها إلى آخر آية (وليس الآيات التى تلى هاتين الآيتين فقط كما يقول د. محمد حسين هيكل) ترفضها بعنف ذلك أن مضمونها والجو الذى يخيم عليها من مفتتحها إلى مختتمها[23] يؤكّدان العداء المستحكم بين الرسول وقومه، فكيف يمكن أن يَرِد فى مثل هذا السياق آيات تمجد بعض أصنام قريش؟ إن ذلك لهو عين المستحيل!
كذلك فإن الآيتين المزعومتين تجعلان هذه الأصنام مناطاً للشفاعة من غير تعليق لذلك على إرادة الله وإذنه، وهو ما لم يسنده القرآن على هذا النحو لأى كائن مهما كانت منزلته عند الله، وفى سورة "النجم" ذاتها نقرأ قوله عز شأنه "وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِى السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى" بتعليق قبول شفاعة الملائكة أنفسهم على إذن الله ورضاه.
وإذا تناولنا هاتين الآيتين المزعومتين تناولاً أسلوبياً اتضح لنا أنهما ليستا من نسيج القرآن الكريم ولا تمتّان إليه بصلة. لقد بدأت آيات سورة "النجم" المتعلقة بالأصنام الثلاثة هكذا: "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى" وقوله: (أَفَرَأَيْتُمُ) قد ورد فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار، ولم يحدث أن استُعْمِل هذا التعبير فى تلك المرات الإحدى والعشرين فى ملاينة أو تلطف، بل ورد فى هذه المواضع كلها فى مواقف الخصومة أو التهكم أو التقريع والتهديد أو ما إلى ذلك بسبيل، فكيف يمكن إذاً أن يجىء هذا التعبير فى سورة "النجم" بالذات فى سياق التلطف للكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم؟ ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة "تُرْتَجَى"، وهى أيضاً غريبة عن أسلوب القرآن الكريم، إذ ليس فيه أى فعل من مادة "رجا" على صيغة "افتعل". أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية الأخيرة من الآيتين المزعومتين هو: "وإن شفاعتهن لتُرْتَضَى"[24] فالرد عليه هو أن هذه الكلمة، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات، فإنها لم تقع فى أى منها على الشفاعة، وإنما تستخدم مع الشفاعة عادة الأفعال الآتية: "تنفع" أو "تُغْنى" أو "يَمْلِك"[25].
مما سبق يتأكد لدينا على نحو قاطع أن الآيتين المزعومتين ليستا من القرآن وليس القرآن منهما فى شىء. وإن الإنسان على أية حال ليعجب من هذه الغيرة الاستشراقية على مبدأ التوحيد! هل نفهم من ذلك أن بوهل وزملاء من المستشرقين موحدون وأن توحيدهم أرقى من توحيد محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنهم إمَّا ملاحدة فليسوا مؤمنين فضلاً عن أن يكونوا موحدين، وإما يهود ونصارى، وفى اليهودية أشياء كثيرة من الوثنية والتجديف على الخالق عز وجل، والنصرانية أساسها التثليث فلا صلة بينها وبين التوحيد إلا على التعسف المجافى للمنطق السليم. وإن الإسلام هو أرقى ما يوجد على الأرض من أديان، وبالذات فى عقيدة التوحيد التى هى فيه صفية نقية لا تمازجها شائبة مهما تفهت، وما يقوله المستشرقون ليس له من غاية إلا الإساءة إلى الرسول ودينه، والإجلاب على المسلمين بخيل تشكيكهم ورَجِل تلفيقهم.
ويمضى بوهل فى بذر تشكيكاته فيدَّعى أن أهل يثرب عندما اتفقوا مع النبى عليه الصلاة والسلام على الهجرة إليهم لم يكونوا يريدون نبياً يوحى إليه بقدر ما كانوا يريدون زعيماً سياسياً لتسوية أوضاعهم السياسية التى حطمتها الصراعات القبلية التى بلغت ذروتها فى يوم بُعاث. وهذا كله خبط لا معنى له، فإن الاتفاق الذى تم بينهم وبينه عليه السلام قائم على أساس دينى لا سياسى. ثم إنهم لم يكن ينقصهم ذلك الزعيم السياسى متمثلاً فى عبد الله بن أُبَىّ، الذى كانوا على وشك تتويجه عشية اتفاقهم مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه[26] لولا أن الأمور قد أخذت مجرىً آخر بعد هجرته إليهم. كذلك فإن وضع الرسول عليه السلام فى ذلك الوقت لم يكن يوحى بأنه زعيم سياسى. ومن أين له ذلك وقد كان فرداً ضعيفًا مضطهداً هو وأتباعه أشد الاضطهاد فى مكة، ولم يكن قد نزل من القرآن شىء يتصل بالسياسة أو الحرب أو الإرادة؟ وفضلاً عن ذلك فالاتفاق الذى تم بينه عليه السلام وبين أهل يثرب إنما نصَّ على حمايتهم هم له لا على زعامته السياسية لهم[27].
ويعزو المؤلف عجز اليهود فى المدينة عن الرد على اتهام القرآن لهم بإخفاء ما فى كتبهم وتحريفه إلى أنهم حتى لو أظهروا هذه الكتب فلم يكن الرسول عليه السلام ولا المسلمون ليقدروا على قراءتها، ولكن هل كان هذا الاعتبار، لو صَحَّ، ليمنع اليهود من أن يقولوا للرسول إن اتهامك هذا اتهام باطل، ولقد فات بوهل أن من اليهود وأحبارهم من أسلم، وكانوا بطبيعة الحال يعرفون اللغة التى كُتِبت بها هذه الكتب، فكان بمستطاع اليهود أن يستشهدوا بهم فى قراءة ما يريدون قراءته على الرسول منها. بل إن من المسلمين من كان يعرف اللسان العبرى.
ويزعم بوهل أن الرسول عليه السلام عندما خابت آماله فى اليهود أعطى دينه السمة القومية، وذلك بقبول طقوس العبادة الوثنية فى الإسلام والاهتمام بمكة والكعبة.
لقد سبق أن رددت على الادعاء الخاص بالكعبة والطقوس الوثنية، فلا داعى من ثمَّ لإعادة القول فيه هنا. أما دعوى السمة القومية[28] فإن القرآن فى نصوصه المكية والمدنية يربط الإسلام والرسول عليه السلام بالأنبياء السابقين وأديانهم. ومن شواهد ذلك فى الوحى المكى قوله تعالى شأنه: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ" "إِنَّ هَذِهِ أَمْتُكُمْ (أيها الرسل) أُمَّةً وَاحِدَةً"، "أُوْلَـئِكَ (أى إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس وإسماعيل واليسع يونس ولوط...) الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ (يا رسول الله) اقْتَدِهْ". ومن شواهده فى الوحى المدنى: "إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً، وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً"، "قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"، "قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"، فأين القومية فى هذا؟ كما أن عالمية الدعوة منصوص عليها فى مكة والمدينة معاً، وذلك مثل قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرا"، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، "هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ"، حتى الجن أُرْسل إليهم r: "وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ، قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ، يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ". والإسلام فوق ذلك لم يجعل للعرب أى فضل على من سواهم من الأمم، بل جعل الناس كلهم سواسية كأسنان المشط، لا امتياز لعربى على أعجمى ولا لهذا على ذلك إلا بالتقوى والعمل الصالح. فمن أين للمؤلف بدعوى السمة القومية إذن؟
ويرتب بوهل على تحول القبلة إلى الكعبة نتائج ليس لها وجود إلا فى خياله، فهو يقول إن جعل مكة مركزاً للدين الجديد قد فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم واجبات جديدة، إذ إن فرض الحج على المسلمين وهم غير قادرين على تأديته لم يكن له من معنى إلا أن يستولوا على مكة والمسجد الحرام بقوة السلاح. وهذا، بالإضافة إلى رغبته عليه السلام فى تسوية الحساب مع القرشيين، قد أدى إلى فرض الجهاد وجعله عليه السلام يعمل على إشعال نار الحرب، وهو يدعى أن الرسول قد حاول ذلك بكل سبيل وعناد، بيد أن الأنصار كانوا قد ارتبطوا معه فى البداية بأن يحموه فقط إذا هوجم، وقريش لم تهاجمه، وذلك لعدم رغبتها فى القتال. كما يزعم أن قوله تعالى: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرَهُ لَكُمْ"، وقوله عز وجل: "إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَانٍ كَفُورٍ، أُذنَ للَّذِينَ يُقَاتِلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِير" يدلان على مدى المقاومة التى كان يبديها المهاجرون ضد قتال أقاربهم، ويعنفانهم تعنيفاً شديداً على ذلك. ثم يمضى فى مزاعمه فيقول إن المسلمين عندما وصلوا بدراً ووجدوا جيش المشركين بدل قافلة التجارة قد ملأهم الرعب.
وواضح ما فى كلام بوهل من تناقض، فهو يتهم الرسول عليه السلام بأنه كان متعطشاً إلى محاربة قريش بكل عناد، وذلك لكى يستولى على مكة بقوة السلاح... إلخ. وفى نفس الوقت يقول إن المسلمين قد فوجئوا بجيش المشركين في بدر بدل القافلة، أى أن قريشاً هى السبب فى الحرب لا الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم لو كانت المسألة مسألة تسوية حسابات مع قريش فلم عفا الرسول صلى عليه وسلم عنهم يوم الفتح قائلاً لهم فى نبل ليس له نظير: "اذهبوا فأنتم الطُّلَقاء" وفيهم من كانوا وراء قتل عمه وأخيه فى الرضاع حمزة رضي الله عنه وبقروا بطنه وأخرجوا أحشاءه وجدعوا أنفه وأذنيه؟[29]
أما الرعب الذى يدعى بوهل أنه ملأ قلوب المسلمين حين رأوا الجيش بدل القافلة فلا أدرى من أى وادٍ من أودية الوهم أتى به. وموقف المسلمين حينذاك والكلام الذى قالوه يعبرون به عن كامل استعدادهم للذهاب إلى أبعد مدى والتضحية بكل غال ونفيس فى سبيل الله والإسلام، كل ذلك قد أوردته كتب التاريخ والسيرة بمنتهى الوضوح، فلم الكذب إذن؟ ثم متى انتصر المرتعبون على أعدائهم الذين يبلغون ثلاثة أضعافهم عدداً والذين يتفوقون عليهم فى العُدّة تفوقاً رهيباً هذا الانتصار الباهر الذى يحاول المستشرق الحاقد أن يهون من شأنه فيسمى المعركة كلها insignificant fracas": مشاجرة تافهة"، محاولاً بذلك (وهيهات!) أن يطمس قيمتها التاريخية العظيمة التى ندر أن يكون لمعركة أخرى مثلها؟ لكأن نصرى سلهب (الكاتب النصرانى الذى يؤمن مع ذلك بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وجلال الكتاب الذى نزل عليه) كان يرد على بوهل حين كتب قائلاً إن "المعارك التى قادها محمد وخاضها على رأس المؤمنين لم تكن معارك كبرى بالمعنى التقليدى للكلمة. لم يكن عدد المشركين فيها كبيراً. لم يكن هنالك مئات ألوف تحارب مئات ألوف، بل لم يكن هنالك عشرات ألوف تحارب عشرات ألوف، كان هنالك مئات، وأحياناً آلاف. ولكن تلك المعارك كانت كبرى بمعنى للكلمة آخر. كانت كبرى بأسبابها ونتائجها. كانت مصيرية وتاريخية، لأنها أثرت فى مصير الإنسانية وأسهمت فى صنع التاريخ. وكانت بالإضافة إلى ذلك فى عداد المعارك القليلة الحاسمة التى خاضها البشر من أجل الله. ومن هنا من هذه الزاوية لا نظن أن التاريخ عرف معارك أكبر منها، ولربما لم يعرف إلا معارك قليلة جداً بحجمها"[30]. وعن غزوة بدر بالذات يقول: "تلك الغزوة... كانت من المعارك الكبرى فى التاريخ، ولئن تكن صغرى المعارك بالنسبة إلى عدد المشاركين فيها، كانت كبرى بأسبابها ونتائجها؛ فلو خسرها المسلمون وقُتل فيها محمد، لا سمح الله، لكان الإسلام مات فى مهده، ولكانت الإنسانية مُنِيَتْ بخسارة لا يعرف مداها وأهميتها إلا المطلعون على مدى وأهمية الإسلام فى الحضارة، حضارة الإنسانية جمعاء فى حقول الدين والروح والفكر والعلم والفن وسواها من الحقول... ولو لجأنا بالمخيلة إلى محو التراث الإسلامى من العالم... لكنا عدنا بالعالم خمسمائة سنة إلى الوراء"[31].
أما ما ادعاه بوهل من أن الأنصار لم يكونوا متحمسين لخوض معركة بدر وأن المهاجرين لم يكونوا يريدون قتال أقربائهم من قريش فهو كلام لا يساوى شيئًا فى ميدان البحث العلمى، إذ هو يعارض وقائع التاريخ، التى تقول إن المسلمين جميعا، أنصارهم ومهاجريهم، قد أبدوا حينذاك من الحماسة والاستعداد للتضحية ما لا مجال بعده للزيادة. كما أبلوا فى المعركة نفسها من ضروب الشجاعة والاستبسال ما لا نظير له، وإلا فكيف تم لهم ذلك النصر العظيم؟ وإن الآيتين اللتين أشار إليهما بوهل فى هذا السياق لتدلان دلالة ساطعة على أنه يتقول ويُنطق النصوص بغير ما فيها، إذ ليس هناك أى تعنيف فيهما للمهاجرين أو الأنصار، بل تشير أولاهما إلى أن الحرب بطبيعتها كريهة للنفس البشرية، وهو ما لا يمارى فيه أحد. ومع ذلك فإن الصحابة قد أثبتوا أنهم طراز آخر من البشر لا يتكرر، إذ إن إيمانهم العظيم بالله ولقائه وجنته قد أقدرهم على تخطى حاجز الكراهية هذا بمنتهى السهولة، فكان الواحد منهم يواجه الموت كأنه يشم النسيم[32]. أما ثانيتهما فتعلن انتهاء عهد الموادعة والصبر على أذى المشركين وبدء عهد الرد على العدوان بمثله. ومن هذا يتبين لنا أن بوهل يكذب على الله ويدعى على القرآن ما ليس فيه.
وكما سول لهذا المستشرق حقده وغيظه أن يُهَوِّن من شأن معركة بدر، فكذلك فعل مع غزوة "الخندق"، إذ وصفها بأنها "comedy: مسرحية هزلية": فالخندق تافه، فضلا عن أنه لم تقع معركة[33]، وعجيب أن يترك باحث علمى لأحقاده وضغائن قلبه أن تغشىِّ على بصره وبصيرته إلى هذا الحد، إذ أين وجه الهزل فى ذلك؟ لقد كانت غزوة الخندق معركة أراد بها الكفار محو الإسلام من الوجود. وكان عددهم عشرة آلاف محارب، وهو ما يبلغ ضعف محاربى المسلمين أكثر من ثلاث مرات، ولم يكن المسلمون يواجهون قريشاً وحدها بل قبائل شتى، ولذلك سميت الموقعة بـ "غزوة الأحزاب". كما أن اليهود (الذين يتباكى عليهم هذا الحقود) قد تنكروا فى هذه الظروف للاتفاقية التى كانت بينهم وبين المسلمين[34] ومدوا أيديهم إلى أعدائهم وهَمّوا بأن يطعنوهم بخنجر الغدر السام فى ظهورهم لولا لطف الله، الذى ساق إلى الإسلام فى ذلك الوقت رجلاً داهية أريباً أوقع بين اليهود والأحزاب وأفشل تلك المكيدة الشيطانية. وكأن هذا كله لا يكفى، فنرى المنافقين يتسللون من صفوف الجيش الإسلامى لائذين ببيوتهم مدّعين فى صفاقة أنها عورة (أى يخافون أن يهجم عليها العدو)، وما هى بعورة. "إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً" كما قال القرآن الكريم. أى أن كل الظروف قد تحالفت على المسلمين فأصبحوا بين فكى كماشة رهيبة لا ترحم.
والذى يقرأ الآيات 9 - ٢٦ من سورة "الأحزاب" يستطيع أن يدرك جو الفزع الذى كان يسود المدينة فى ظل هذه الظروف العصيبة. أما كتب السيرة والغزوات والتاريخ فإنها تحفل بالتفاصيل التى لا يوردها القرآن (مكتفياً بالخطوط العامة وحسب) والتى تجعل الإنسان يعيش الجو بنفسه كأنه واحد من المسلمين الأولين ويحس بالفزع من تكالب الأحزاب المتنمرين واليهود الغادرين فى حشود حاشدة على سكان المدينة، هذا الفزع الذى يلخّصه أحد الصحابة بقوله إن الواحد منهم لم يكن يأمن على نفسه أن يذهب وحده لقضاء حاجته. ومع ذلك كله يجىء هذا المستشرق السمج ويقول إن غزوة الأحزاب كانت مسرحية هزلية!
ويتابع المستشرق الموتور ما حدث بعد غزوة الخندق قائلاً إن الرسول عليه السلام قد استدار فحاصر بنى قريظة، وحاول الأوس استرحامه، ولكنه فى هذه المرة كان شديداً لا يلين، وصمم على تنفيذ ما كان قد هدد به فى الآية الثالثة من سورة "الحشر" فأصدر حكماً بقتلهم. وقد رفض بوهل ما ذكره التاريخ من أن سعد بن معاذ هو الذى أصدر هذا الحكم، قائلاً إن هناك أدلة متعددة على أن النبى صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذى اتخذ القرار.
أما أين تلك الأدلة فكعادة كتَّاب الموسوعة فى كثير من الحالات لا يكلف بوهل نفسه أن يجيب. ذلك أنهم يرون أنهم أكبر من أن يطالبهم أحد ببرهان، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو صاحب ذلك الحكم فماذا فى ذلك حتى يحاول المسلمون أن يلقوا بمسؤوليته على سعد بن معاذ كما يزعم الكاتب؟ وماذا يقول بوهل فى هذا الشعر لحسان وقد أشار إليه، وَهُوَ وزملاؤه يعتمدون على الأشعار أكثر مما يعتمدون على المرويات التاريخية:
فأنت الذى يا سعد أُبْتَ بمشهد كريم وأثواب المكارم والحمد
بحكمك فى حيَّىْ قريظة بالذى قضى الله فيهم ما قضيت على عَمْد[35]؟
أما الآية الثالثة من سورة "الحشر" فلست أفهم ما العلاقة بينها وبين عقاب بنى قريظة. ذلك أنها نزلت مع معظم السورة فى جلاء بنى النضير عن المدينة قبل ذلك بسنوات، وهذا هو نصها: "وَلَوْلا أَن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فى الآخِرَةِ عَذَابُ النارِ"، وليس فيها، كما يرى القارئ، أى شىء عن بنى قريظة بل ولا تحتوى أى تهديد بالمرة.
واللافت للنظر فيما كتب بوهل عن هذه القضية أنه لم يشر قط إلى خيانة بنى قريظة لحلفائهم المسلمين، الذين كانت بينهم وبين اليهود معاهدة على التناصر والوقوف يداً واحدة فى وجه أى عدو يهاجم المدينة[36]. لقد كانوا جزءاً من الأمة التى كانت تلك المدينة وطناً لها، ولكنهم لم يكتفوا بالتقاعس عن الدفاع عن البلد بل زادوا فاستجابوا لاتصالات الأعداء بهم وانقلبوا على المسلمين فأصبحوا خنجراً ساماً مشهراً فى ظهورهم، والمسلمون من جانبهم لا يستطيعون شيئًا غير انتظار انغراسه فى لحمهم وعظامهم، لولا أن لطف الله بهم فساق إلى الإسلام فى هذه اللحظات الرهيبة رجلا داهية (هو نعيم بن مسعود الأشجعى)، استطاع بتوفيق الله وتخطيط رسوله أن يفسد هذا التحالف الإبليسى بين اليهود والأحزاب، فما الذى كان بوهل يريده من الرسول والمسلمين بعد تلك الخيانة العظمى؟ لقد كان حكم سعد بن معاذ أخف كثيراً من الحكم الذى نص عليه العهد القديم عند انتصار اليهود على أمة من الأمم المجاورة لهم، إذ أنه لم يُقْتَل من بنى قريظة إلا المحاربون فقط، على حين توجب الشريعة اليهودية استئصال كل فرد من الأعداء المهزومين فى مثل هذه الحالة[37]. ودعك من الخيانة العظمى التى اجترحها بنو قريظة قبل ذلك[38].
وقد نبّه المستشرق مارتن لنجز إلى أن الذى عفا عنهم الرسول من المشركين فى بدر قد عادوا إلى محاربة المسلمين فى أُحُد والخندق، وأن بنى النضير لو كانوا قُتِلوا بدلاً من العفو عنهم لقلت جيوش الأحزاب إلى النصف ولكان من الممكن ألا ينقلب بنو قريظة على المسلمين ويغدروا بهم، إذ إن بنى النضير كانوا وراء تجييش الأحزاب الذين اشتركوا هم أيضاً معهم، ووراء خيانة بنى قريظة[39].
لقد قال بوهل عن حرب الخندق إن هذه المسرحية الهزلية قد انقلبت مأساة دامية بالنسبة لبنى قريظة؛ فليكن، فعلى نفسها جنت براقش، فقد كان بنو قريظة يريدونها مأساة تستأصل شأفة الإسلام والمسلمين، فحق عليهم غدرهم، وارتد خنجر خيانتهم إلى رقابهم، وجرّعهم الله من ذات الكأس التى كانوا قد أعدوها للمسلمين!
ويشكك بوهل فى أن يكون الرسول عليه السلام قد بعث برسائل إلى الملوك المجاورين لدولته يدعوهم فيها إلى الإسلام[40]، وشبهته فى ذلك أنه من المستبعد أن يتعلق الرسول r، وهو السياسى الواقعى الحكيم، بفكرة مغرقة فى الخيال والوهم مثل إدخال هرقل أو كسرى فى الإسلام، وبخاصة فى الوقت الذى كان يعد فيه لفتح مكة، فضلاً عن أنه، كما يقول، لم يكن يملك القوة اللازمة لإجبارهما على اعتناق الإسلام ولا المغريات التى تجعلهما يفعلان ذلك من تلقاء نفسيهما. كما يقول إنه قد ثبت عدم صحة الرسالة التى عُثِر عليها وقيل إنها هى رسالته صلى الله عليه وسلم للمقوقس عظيم القبط، وحتى الآيات التى تدل على عالمية الإسلام يزعم أنها محدودة بسياقها، بل إنه يستبعد تماما أن يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه قد فكر فى أن يكون الإسلام ديناً عالمياً.
والحق أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الملوك إلى الإسلام هى أمر عادى جداً. وهل هناك أحد أكبر من الإسلام؟ لقد كان النبى عليه السلام مؤيَّداً من السماء، فَمَنْ كسرى وقيصر والمقوقس إذن؟ ولقد رأينا الرسول عليه السلام يرسل إلى حدوده مع دولة الروم قوات عسكرية مستعدة للاشتباك معها إذا دعت الظروف[41]، فكيف يقال إن مجرد دعوة هرقل وكسرى إلى الإسلام (والدعوة أخف من الحرب كثيراً جداً) هى فكرة مغرقة فى الوهم؟
وعجيبةٌ تركيبة ذلك المستشرق الذهنية والنفسية. إنه يظن أن دخول أى شخص فى الإسلام لا يمكن أن يكون نتيجة للتفكر فى هذا الدين وشخصية الرسول الذى أتى به، بل لا بد من إجباره بالقوة أو إغرائه بالمال، وما دام محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن يملك فى ذلك الوقت هذا أو تلك، فلا معنى لأن يدعو أولئك الملوك إلى الدخول فى دينه. إن المسألة عند بوهل ليست مسألة حق أو باطل بل مسألة قوة باطشة أو رشوة مالية! وهذا هو المنطق الأوربى.
وإننا لنسأله: وهل كان أبو بكر وعمر يملكان أكثر مما كان يملك الرسول من قوة عسكرية أو إغراءات مادية؟ فلماذا أقدما، لا على دعوة كسرى وقيصر والمقوقس إلى الإسلام، بل على فتح بلادهم ذاتها وضمها إلى الدولة الإسلامية؟ هذا، وهما بَعْدُ ليسا إلا تابعين من أتباعه صلى الله عليه وسلم، ولم يكونا متصلين بالسماء يتلقيان منها الوحى والمدد الإلهى، أليس عند بوهل منطق؟
وعلى أية حال، فالرسول عليه السلام قد أراد تبليغ هؤلاء الملوك دعوة الإسلام وترك لهم قرار القبول أو الرفض، فلا إكراه ولا إغراء إذن، فما وجه الوهم فى هذا؟
أما احتجاج بوهل بأن هؤلاء الملوك لم يكن بمستطاعهم قراءة القرآن مثلما كان الرسول عاجزاً عن قراءة الكتاب المقدس وفهمه، فهو احتجاج مضحك، إذ هناك شىء اسمه ترجمة وتراجمة، وإلا فكيف كان هرقل وكسرى مثلاً يتعاملان مع الأمراء العرب التابعين لهما؟ ثم إنه ليس من اللازم أن يطّلعا على ترجمة القرآن كله إذا رغبا فى معرفة الإسلام، بل يكفى أن تُتَرْجَم لهما عقائده ومبادئه الأخلاقية مثلما فعل جعفر بن أبى طالب مع النجاشى، وإنى لا أظن أن كسرى وقيصر كانا فى ذلك الوقت يجهلان الإسلام ونبيه وأنه يدعو إلى التوحيد مثلاً (فى مقابل تثليث النصارى وثنوية الفرس) وإلى الإيمان باليوم الآخر والجنة والنار، وينهى عن شرب الخمر والربا وأكل الميتة والزنا.
ثم أليس مضحكاً أن يشير بوهل إلى الحاجز اللغوى الذى كان يفصل بين النبى صلى الله عليه وسلم والكتاب المقدس عند أهل الكتاب، وهو ورفاقه يتهمونه عليه السلام بمعرفة اليهودية والنصرانية والأخذ منهما ومن كتبهما؟
وقد رأيناه يشكّك فى صحة الرسالة التى عُثِر عليها وقالوا إنها رسالته صلى الله عليه وسلم للمقوقس. وكنا نحب لو أنه أورد الأسباب التى وراء هذا التشكيك، لكنه لم يفعل. كما كنا نحب أيضاً أن يوضح للقارئ أن هذه الرسالة قد وُجدت فى أحد الأديرة المصرية فى القرن الماضى فى عهد الخديوى سعيد، وأن الذى عثر عليها هو عالم فرنسى[42]. أى أنه ليست للمسلمين أية صلة بالعثور على هذه الرسالة، فلا وجه لتنطع هذا المستشرق فى الإقرار بصحتها. كما أن أحد المستشرقين، وهو بيلن Belin))[43] قد انتهى بعد فحص هذه الرسالة إلى أنها صحيحة، ويؤكد صحتها أيضا المستشرق بادجر (Badger)[44].
كذلك قد أكد جيبون، المؤرخ الإنجليزى الشهير، بَعْث النبى صلى الله عليه وسلم برسائل إلى ملوك عصره، ووقف بالذات عند رسالته إلى هرقل الذى ذكر استضافته، إثر عودته من حربه مع الفُرْس، للرسول الذى بعث به النبى عليه السلام إليه يدعوه إلى الإسلام، ساخراً من الغرور الذى سول للكتاب البيزنطيين أن يدّعوا أن النبى قد قام بزيارة هرقل بنفسه وأن العامل البيزنطى قد أكرم وفادته وأعطاه جزءاً من الأراضى الشامية[45]. ونزيد على ذلك أنه قد عُثِر أيضاً على رسالتى النبى صلى الله عليه وسلم للمنذر بن ساوى ونجاشى الحبشة. وقد بحثهما محمد حميد الله وأثبت أنهما صحيحتان[46]. وقد نشرت صور هذه الرسائل الثلاث فى المجلات والكتب المختلفة[47].
وإذا كان بوهل وزملاء مهنته يشككون فى رسالة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، فكيف يفسرون إهداء مارية القبطية وأختها سيرين إلى نبينا صلى الله عليه وسلم؟ أم تراهم سيشككون أيضاً فى وجودهما ومجيئهما إلى المدينة أصلاً، وبالتالى فى زواج الرسول عليه السلام من الأولى وإنجابه منها إبراهيم رضى الله عنه، وزواج حسان من الثانية وإنجابه منها ابنه عبد الرحمن؟ ولقد ذكر أبو صالح الأرمنى، وهو مؤلف قبطى عاش فى القرن السادس الهجرى، واقعة إرسال النبى صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى المقوقس يدعوه إلى الإسلام وأن المقوقس أهداه بعض الجوارى وفيهن مارية وسيرين[48].
إن المسلمين لو كانوا هم الذين زيفوا هذه الرسائل بعد وفاة نبيهم كما يريد المستشرقون منا أن نعتقد لكانوا قد جعلوها مملوءة بالتهديد والوعيد لمن أُرسلت إليهم، تمجيداً منهم للنبى والإسلام. لكننا بالعكس لا نرى فيها إلا مجرد عرض للإسلام فى عبارة هادئة موجزة، اعتماداً بطبيعة الحال على أن حامليها سوف يقومون بالشرح والتفصيل اللازمين. كذلك فإن ردود هؤلاء الملوك كانت كلها تقريباً سلبية، بل إن كسرى قد مزق رسالته وبعث إلى عامله على اليمن أن يأتيه بمحمد، الذى تجرأ وكتب اسمه فى الرسالة قبل اسمه. ثم إن أحد حملة هذه الرسائل قد قُتِل فى الطريق. ترى ما السبب الذى حدا بالكتاب المسلمين، لو كانوا هم مزورى هذه الرسائل، أن يجعلوها وردودها على هذا النحو[49]؟ ثم ما الهدف أصلاً من وراء عملية التزوير المزعومة؟
أما تشكيك بوهل فى عالمية الإسلام فلا معنى له، فالآيات القرآنية فى مكة والمدينة بهذا الخصوص أشهر وأوضح من أن يمارى فيها ممارٍ، وليس فيها مطلقا ما يدل على أنها محدودة بسياقها كما يزعم الكاتب، ومنها فى الوحى المكى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً". ومن نصوص الوحى المدنى: "هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ"[50]. وذلك علاوة على النصوص التى تدعو اليهود والنصارى إلى الدخول فى الإسلام ومتابعة محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، مثل قوله تعالى: "يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِىَ الَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاىَ فَارْهَبُونِ، وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ"، وقوله عز وجل: "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ"، وقوله تبارك جده: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ"، وقوله جل شأنه: "وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الأُمِّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ".
وهناك أحاديث نبوية متعددة تنص على عالمية الإسلام نصاً لا يقبل أى تأويل، وذلك مما فُضِّل به الرسول عليه السلام على سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وهى أحاديث معروفة للجميع. وهناك من المستشرقين من يقر على نحوٍ ما بعالمية الدعوة الإسلامية، مثل نولد كه وجولد تسيهر، وكذلك توماس أرنولد[51]، الذى عبر عن رأيه هذا بتأليف كتاب عن الدعوة إلى الإسلام بعنوان Preaching to Islam وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية والتركية والأوردية.
والطريف أن بوهل، بعد كل هذا الذى قاله فى حق الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، يستدير فى آخر المقال قائلاً إن إنجازات محمد راجعة إلى يقينه الراسخ بأنه رسول من عند الله. ونحن بدورنا نقول إن هذا الكلام لا يتسق بحال مع ما سبق أن قاله فى الرسول عليه السلام. كما أن ذلك اليقين الذى لم يهتز قط خلال ثلاثة وعشرين عاماً هو وحده برهان كاف على أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول حقيقى لا مدع ولا مخدوع.
الهوامش:
1) هذا الفصل مستل من كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية أضاليل وأباطيل"، وهو متربط بالفصول التى قبله، لكن المادة مختلفة.
2) هذا واضح من آرائه التى سنناقشها هنا، وكذلك من آرائه التى ناقشناها فى مواضع متفرقة من كتابنا هذا، ومع ذلك يشيد به نجيب العقيقى (النصرانى) إشادة كبيرة واصفاً إياه بالبعد عن الهوى فى كتاباته عن الإسلام ودقة البحث وصدق المصادر. وبوهل مستشرق دانماركى، ولد فى كوبنهاجن ١٨٥٠م، وتخصص فى اللاهوت ثم تحول إلى الدراسات الاستشراقية، وقد زار مصر وفلسطين والشام وتركيا، وتوفى عام ۱۹۳۲م. انظر "المستشرقون" للعقيقى/ 2/ 522- 523.
3) 390/ 2، هذا، وأحب أن ألفت النظر إلى أننى عند إحالتى إلى الموضع الذى يجد فيه القارئ ما أناقشه من الأفكار الاستشراقية من "دائرة المعارف الإسلامية المختصرة"، أذكر رقم الصفحة ثم أضع شرطة مائلة بعدها رقم النهر، لأن صفحات ذلك الكتاب مقسمة إلى نهرين: ۱ و ۲ (هكذا مثلاً: 275/ 1).
4) انظر، فى "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم"، الآيات التى فيها مشتقات من مادة "زرع" و "حرث" و "حصد" و "نبت" و "فكه" و "مطر"... إلخ مثلاً. وكثيرة هى الآيات التى تتحدث عن النباتات والفواكه، وكذلك الحيوان فى القرآن الكريم.
5) إذ ينحصر فى تأثيم التلاعب فى الكيل والميزان.
6) ابن الكلبى/ "الأصنام"/ تحقيق أحمد زكى، ص 19.
7) انظر مثلاً أبو داود/ طب/ 24. وابن حنبل/ 1/ 257، و 2/ 22، 220، و 5/ 347، والبخارى/ طب/ 17، 19، ورقاق/ 21، ومسلم/ إيمان/ 372، وسلام/ 102، 107، 110، والترمذى/ قيامة/ 16، وابن ماجة/ مقدمة/ 10، وطب/ 43... إلخ.
8) Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire William Benton, Chicago - London, 1978, Vol. II, P.243 وانظر الترجمة العربية بعنوان "اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها" / ترجمة د. محمد سلیم سالم/ 3/ 77
9) Sir William Muir, Life of Mohammad, John Grant, Kedinburgh, 1912, pp. 14-29.
10) انظر د. بكرى شيخ أمين/ "التعبير الفنى فى القرآن/ ص 19
11) السيوطى/ "الاتقان فى علوم القرآن"/ 1/ 6
12) انظر صحيح البخارى/ تفسير سورة "النور".
13) 393/ 2
14) ومع ذلك يشكك بوهل فى حدوث هذه المقاطعة، وحجته أنها لم ترد فى القرآن ولا عند عروة (396/2). فأما أنها لم ترد عند عروة فمن الواضح أن ذلك كذب، وأما احتجاجه بأنها لم ترد فى القرآن فكم من حوادث السيرة مما لا يمارى فيه بوهل ولا غيره لم يرد فيه. خذ مثلاً إيمان خديجة وإنفاقها مالها فى سبيل الله، أو موتها وتسمية العام الذى توفيت هى وأبو طالب فيه بعام الحزن؛ هل ورد ذلك فى القرآن؟ أم هل ورد فيه إيمان حمزة أو عمر رضى الله عنهما، هذا الإيمان الذى كان فتحاً؟ كذلك على وردت فيه الهجرة إلى الحبشة؟ أم هل وردت فيه غزوة بنى قينقاع؟ وهل وردت فيه غزوة مؤتة؟ بل هل ورد فيه زواجه عليه السلام من عائشة أو حفصة أو أم سلمة مثلا؟
15) انظر "مغازی رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ جمع وتحقيق د. محمد مصطفى الأعظمى/ 114
16) ردد ألفرد جيوم أيضاً ذلك الكلام، وهذه الحجة فى كتابه: Islam""/ 30. وانظر كذلك Maxime Rodinson, Mohammed, translated into English by Anne Carter, P. 100، وجدير بالذكر أن بعض المستشرقين، مثل كايتانى، يرفضون قبول هذه الرواية، انظر: Joseph Hubby. Christus: Manuel d h Histoir des Religions, p. 785.
17) واضح أنه يقصد الآية 68 لا 67، لأنه ليس فى هذه شىء مما يشير إليه، إذ هى تجرى هكذا: "لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ".
18) المرجو أن يعود القارئ إلى مجموعة الآيات التى تتناول هذا الموضوع من سورة "النساء" وتفسيرها (وهى تبدأ بالآية ١٠٥) لتكون عنده فكرة كاملة عن هذه القضية. وفى سبب نزول هذه الآية يُرْجَع مثلاً إلى "لباب النقول فى أسباب النزول" للسيوطى، و "أسباب نزول القرآن" للواحدى.
19) د. محمد حسين هيكل/ "حياة محمد"/ 165
20) القاضى عبد الجبار/ "تنزيه القرآن عن المطاعن" / 274
21) Ameer Ali, The Spirit of Islam, p. 34
22) انظر ابن السائب الكلبى/ "الأصنام"/ تحقيق أحمد زكى/ ١٩
23) نزلت السورة كلها دفعة واحدة ما عدا الآية 32، التى يذكر بعض العلماء أنها مدنية.
24) انظر الصيغ المختلفة لهاتين الآيتين فى تفسير الطبرى للآية ٥٢ من سورة "الحج". و د. هيكل/ "حياة محمد"/ ١٦٤، ١٦٥، وشمس الدين الفاسى/ "آيات سماوية فى الرد على كتاب آيات شيطانية"/ ٦٢
25) يمكن للقارئ الرجوع إلى كتابىَّ: "مصدر القرآن - دراسة فى الإعجاز النفسى" ( ص/ ٢٢ وما بعدها)، و "ماذا بعد إعلان سلمان رشدی توبته؟ دراسة فنية وموضوعية للآيات الشيطانية" (ص/ 230 وما بعدها)، حيث يجد مناقشة مفصلة لهذه القضية.
26) ويسلم المستشرقون أنفسهم بهذا. انظر الموسوعة 410/2/ مادة "المنافقون". وقد عُرِضّ عليه (عليه الصلاة والسلام) الملك فأبى، وعَرَضَتْ عليه قريش الزعامة فأبى والمال فأبى؛ لأنه r ما هو إلا رسول من عند الله، وهذه أشرف من أى زعامة، وأغلى من أى ملك، وأنفس من أى مال أو سلطان.
27) انظر فى اتفاق العقبة الأولى والثانية وطبيعته الدينية وقيامه على حماية أهل يثرب للنبى عليه السلام "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ ١٢٥، وسيرة ابن هشام/ 1/ 433، 434، 443، و "جوامع السيرة" لابن حزم/ 72 – 74
28) ولا نجد فى التاريخ كله من يوم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا شيئاً حارب العصبية والقوميات بمثل ما جاء به خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل الدعوة إليها عصبية جاهلية. تحبط العمل وتغضب الرب جل وعلا، وقد تضع الإنسان فى دائرة الخطر إن لم يراجع إسلامه قال تعالى: "إنما المؤمنون أخوة" "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربى على عجمى إلا بالتقوى... الحديث"، وقال صلى الله عليه وسلم "من دعا إلى عصبية أو قاتل على عصبية مات ميتة جاهلية"، وقال عنها أيضاً r... "دعوها فإنها منتنة"، وقال r (أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم) عند تداعى الأوس والخزرج بالمدينة إلى التفاخر بالأنساب. وقال الله تعالى: "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ". وقد وصف r أعمال الجاهلية أنها من جثى جهنم (من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثى جهنم وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم).
29) أرأيت فى التاريخ كله سعة صدر وسماحة قلب وعظيم عفو مثل ما فعله هذا الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم؟
30) نصرى سلهب/ "فى خُطَا محمد"/ ۱۷۱
31) السابق/ ۱۷۲،۱۷۳. وفى بحث هذه الغزوة وأهدافها وسير القتال وأسباب انتصار المسلمين فيها من الناحية المعنوية والتخطيطية والتعبوية والدروس المستفادة منها والقضايا الحربية المتعلقة بها انظر اللواء الركن محمود شيت خطاب/ "الرسول القائد"/ 9٩ – ١٢٦، ومحمد فرج/ "المدرسة العسكرية الإسلامية"/ ٤٨٧ - ٤٩٩ وفى مواضع أخرى متفرقة.
32) حتى أن من إرهاصات النبوة أن النبى صلى الله عليه وسلم قد أخبر بما سيقع آخر الزمان من تداعى الأمم وتكالبها على أمة الإسلام وهم يومئذ كثير، ولكنه كثير كغثاء السيل وبين السبب وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم ويضع فى قلوبكم الوهن... الحديث".
33) 400/2. ولدراسة هذه الغزوة من الناحية العسكرية، انظر اللواء الركن محمود شيت خطاب/ "الرسول القائد"، ومحمد فرج/ "المدرسة العسكرية الإسلامية" / ٥٤٤، 525، 551، ٦١٢ – ٦١٣.
34) فى المادة الخاصة ببنى قريظة (272/2) يشكك المستشرق فاكا فى الروايات التى تذكر خيانتهم، ويستبعد أن تكون هناك اتفاقية بينهم وبين المسلمين على التناصر فى الحرب، وشبهته فى ذلك أنه لا يُعقل أن تكون هناك اتفاقية خاصة بهم غير اتفاقية "الصحيفة"، وهذه الاتفاقية اتفاقية عامة. وهذا كذب، فنصوص الاتفاقية موجودة فى مصادر السيرة والتاريخ كما سبق بيانه، وفيها النص على التناصر فى الحرب بين الفريقين، وما يقوله هذا المستشرق لا صلة بينه وبين البحث العلمى، الذى ينبغى أن يخضع لحقائق التاريخ لا أن ينكرها ويشكك فيها بدافع الأهواء والنزوات. إن العلم لا يعرف هذا التعصب الاستشراقى ضد كل ما هو إسلامى.
35) دیوان حسان/ تحقيق د. سيد حنفى حسنين/ 114، وقد أورده ابن هشام فى سيرته/ 2/ 270
36) وهى معاهدة الصحفية. انظر نصها فى ابن هشام/ 1/ 501 – 504، ومختصر سيرة ابن كثير/ اختصار محمد على قطب/ 178 – 180
37) تثنية 20/ 16، وانظر كتابى "مصدر القرآن - دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى"، ٤٥ – ٤٦
38) انظر قصة غزوة الخندق وبنى قريظة والخيانة التى اجترحها هؤلاء والعقاب الذى نزل بهم عن استحقاق فى "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ 184 – 189، و "المغازي النبوية" لابن شهاب الزهرى/ ۷۹ - ۸۳، وسيرة ابن هشام/2/ 214 – 273، و "المغازى" للواقدى/ ٢/ ٤٤٠ - ٥٤١، و "جوامع السيرة" لابن حزم/ ١٨٥ - ١٩٨. و "الفصول فى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم" لابن كثير/ تحقيق محمد العيد الخطراوى ومحيى الدين متو/ ١٦٣ - ١٧٦، و "حياة محمد" للدكتور هيكل/ ٣٢٧ – ٣٤٢، و "السياسة الإسلامية فى عهد النبوة" لعبد المتعال الصعيدى/ ۱۱۲ - ۱۱۳، 9۷ – ۱۰۳، و "سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم - صور مقتبسة من القرآن الكريم" لمحمد عزة دروزة/ 2/ ۱۹۸- ٢۰۲، 340- ٣٤٦، و "قيام الدولة العربية الإسلامية فى حياة محمد صلى الله عليه وسلم" للدكتور محمد جمال الدین سرور/ ١١١ - ١١٧، ١٤٦ – ١٤٧، و "تاريخ العرب القديم وعصر الرسول للدكتور" نبيه عاقل/ ٤٩٠ - ٤٩٧، و "غزوة الأحزاب" للدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، و "غزوة بنى قريظة" لمحمد أحمد باشميل، و "نظرة جديدة فى سيرة رسول الله" لكونستانس جيورجيو (ترجمة د. محمد التونجى)/ ۲۸۷ – 303، و H. M. Balyuzı, Muhammad and the Course of Islam, PP. 93-101; Ziauddin Kirmani, The Last Messenger and a Last Message, pp. 151-156, 169-170; Safdar Husain, Who Was Muhammed, pp. 65-68; Hafiz Ghulam Saewar, Muhammad the Holy prophet, pp. 23- 28 and Martin LINGS, Muhammad, pp. 220-233.
39) انظر كتابه/Muhammad" "/ 231
40) يتابع د. عون الشريف قاسم بوهل والمستشرقين الذين يشككون فى الرسائل التى بعث النبى صلى الله عليه وسلم بها إلى الملوك المجاورين لجزيرة العرب، ويردد شبهتهم القائلة بأنه فى ذلك الوقت لم تكن لديه من القوة ما يساعده على اتخاذ هذه الخطوة، ومع ذلك فهو يقرُّ بعالمية الإسلام (انظر كتابه "دبلوماسية محمد - دراسة لنشأة الدولة الإسلامية فى ضوء رسائل النبى ومعاهداته"/ ٥٧ - 92)، ومثل د. عون الشريف فى ذلك د. نبيه عاقل (انظر "تاريخ العرب القديم وعصر الرسول"/ ٥٢٧ - ٥٤٨)، كذلك فإن هــــ. م. بليوزی يبدو بوجه عام متشككاً فى هذه الرسائل (انظر Muhammad and the Course of Islam, pp. 114-117
41) ومن ذلك جيش مؤتة، الذى يدعى د. عون الشريف قاسم أن البيزنطيين قد أبادوه عن آخره ("دبلوماسية محمد"/ ۷۰). وهذا غير صحيح بالمرة، إذ لم تذكر المصادر القديمة إلا عدداً جد محدود من الشهداء لا يكاد يتجاوز أصابع اليدين (انظر "مغازى رسول الله صلى الله عليه وسلم" لعروة بن الزبير/ ٢٠٦، وسيرة ابن هشام/ 2/ 388، ۳۸۹، ومغازى الواقدى/ 2/ 769). وماذا يكون هذا العدد فى جنب ثلاثة آلاف، وهو عدد المحاربين المسلمين فى تلك الغزوة فى مقابل مائة ألف للروم أو مائتى ألف؟ (انظر مغازى عروة/ ٢/ (٧٥٦، 760). ولقد ذكرت هذه المصادر أيضاً أن خالد بن الوليد قد عاد بالجيش إلى المدينة عودة مشرفة بعد سقوط قادته الثلاثة كما هو معروف. فما معنى الزعم بأن الجيش قد أُبيد عن آخره؟ ومن أين أتى المؤلف بذلك؟
42) انظر جورجى زيدان/ "تاريخ التمدن الإسلامى"/ مراجعة وتعليق د. حسين مؤنس/ 1/ 61، 62، وحفنى ناصف/ "تاريخ الأدب أو حياة اللغة العربية"/ ٦٤، ومحمد حميد الله/ "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى والخلافة الراشدة"/ ٢٤، ود. عون الشريف قاسم/ "دبلوماسية محمد صلى الله عليه وسلم"/ 81، 82
43) وذلك فى مقال له فى مجلة "Islamic Review"/ مجلد عام ١٨٥٤م/ ٤٨٢ – 498
44) نفس المجلة/ مجلد عام 1917م/ 49 – 53
45) Gibbon, The Decline and Fall of the Roman Empire, Vol Vol. II, P 242
46) وذلك فى مقالين له فى "مجلة عثمانية" الناطقة بالهندوستانية/ يونيو ١٩٣٦م، ومجلة "Islamic Culture" حيدر آباد/ أكتوبر ١٩٣٩م/ ٤٣٢ - ٤٣٤، على الترتيب (انظر كتابه "مجموعة الوثائق السياسية"/24)
47) انظر صوراً لها ولغيرها من الرسائل المشابهة فى "مجموعة الوثائق السياسية"/ 102، 108، 137، 141، 147، 162، و"Encyclopaedia of Seerah" لأفضل الرحمن/ 1/ الصفحات التالية لصفحة 848
48) انظر د. عون الشريف قاسم/ "دبلوماسية محمد"/ 80
49) انظر فى هذه الرسائل مثلاً ابن شهاب الزهرى/ "المغازى النبوية"/ ٥٨ - ٦١، وسيرة ابن هشام/ ٢/ 606، 607، وصحيح البخارى/ باب "كتاب النبى إلى كسرى وقيصر" وغيره، وصحيح مسلم/ باب "الجهاد" و"كتب النبى إلى هرقل" و "كتب النبى إلى ملوك الكفار"، ومسند ابن حنبل/ باب "حديث رسول قيصر إلى رسول الله"، وصحيح الترمذى/ باب "مكاتبة المشركين" و"وما جاء فى ختم الكتاب"، وطبقات ابن سعد/ ١/ ٢٥٨ وما بعدها، والطبرى/ 2/ 644-657، وابن حزم/ "جوامع السيرة"/ ٢٩ - 3١، ومختصر سيرة ابن كثير/ ٣٦٩ - ٣٧٥، والجزء الثانى من كتاب "المصباح المضىّ فى كتاب النبى الأمى ورسله إلى ملوك الأرض من عربى وأعجمى" لابن حديدة الأنصارى، وأحمد زكى صفوت/ "جمهرة رسائل العرب"/ 1/ 32 وما بعدها، ومحمد حميد الله/ "مجموعة الوثائق السياسية"/ 99 وما بعدها، ود. محمد حسين هيكل/ "حياة محمد"/ ٣٨٣ ٢٨٥، وعبد المتعال الصعيدى/ "السياسة الإسلامية فى عهد النبوة/ ١٣٩ - ١٦٢، وأحمد إبراهيم الشريف/ "مكة والمدينة فى عهد الرسول/ 109، 110، و د. محمد جمال الدين سرور/ "قيام الدولة العربية الإسلامية فى حياة محمد r 150- 154، و د. أحمد عبد الرحمن عيسى/ "كتَّاب الوحى"/ 105-134، ومقال د. عز الدين إبراهيم بعنوان/ "الدراسات المتعلقة برسائل النبى صلى الله عليه وسلم إلى الملوك فى عصره" فى المجلد السادس من "البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر العالمى الثالث للسيرة النبوية بالدوحة"/ ٢٤٩ - ٢٨٤، وكونستانس جورجيو/"نظرة جديدة فى سيرة رسول الله"/ ٢٤٢، ٣٤٣، و Ameer Ali, The Spirit of Islam, PP.89-91; Afzalur - Rahman, Enclyclopoedia of Seerah, Vol. I, PP. 845-851, and Martin Lings, Muhammad, PP. 259-260.
50) التوبة: ۳۳، والفتح: ۲۸ والصف: 9. وقد عالج أ. م. طيباوى هذه النقطة بشىء من التفصيل فى كتابه: Arabic and Islamic Themes، 54، 55.
51) انظر A.L. Tibawi, Arabic and Islamic Themes, p. 54، ود. عون الشريف قاسم/ "دبلوماسية محمد"/ ۸۹
]]>
منتدى الدكتور إبراهيم عوض إبراهيم عوض https://wata.cc/forums/showthread.php?109702-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%81%D9%89-%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D8%B1%D8%B6-%D9%88%D9%86%D9%82%D8%AF-%D9%88%D8%B1%D8%AF