شكسبير: وجهة نظر
قيل أن الإنسانية أجهدت ذاتها واستقطبت كل طاقاتها عندما أبرزت إلى الوجود أعظم شعراء العالم على مر الأجيال والعصور.
فكيف تمكنت من تجسيد ذروة الإبداع في هذا الشخص الذي بدا إنساناً عاديا إبان حياته التي لم يظهر تألقها ومجدها إلا بعد رحيله عن هذا العالم؟
وما سر عبقرية شكسبير وكيف تمكن من الغوص السهل الممتنع إلى أعمق أغوار النفس البشرية وتصوير أدق ما يعتمل فيها من عواطف وخواطر وأحاسيس وانطباعات؟
إن مثل هذا النبوغ ليس عشوائياً ولا بد من وجود تفسير لهذه الظاهرة النادرة التي لم يتوصل العلم بعد إلى تعليلها وإعطاء جواب مقنع عنها. ولم يكن شكسبير نفسه يجهل ما كان يتمتع به من قدرات غير عادية وهو القائل في مسرحية هاملت: ’قد يكون كياني محصوراً داخل حبة جوز ومع ذلك أعتبر نفسي مَلِكاً لفضاء غير متناه.‘ "
I could be bounded in a nutshell and count myself king of infinite space
يبدو أن كيان شكسبير المعنوي كان مستكملا وعقله كان مرآة صافية وصقيلة تعكس بوضوح وجلاء كل ما يدخل ضمن مجالها، مثلما كانت ذاكرته مستودعاً لا حد لاستيعابه، ومحتوياته منظمة ومرتبة في غاية الدقة والإحكام. كما كان يمتلك قدرة فائقة على التنقل ببراعة والوصول بيسر وسهولة إلى كل ما كان يختزنه عقله الجبار من معطيات ومعلومات.
لم يترك شكسبير موضوعاً واحداً لم يطرقه أو يلخصه تلخيصاً بليغاً ولو ببعض بارات مقتضبة. لقد دخل الأدب العالمي من أوسع أبوابه وصال وجال بثقة وتثبت كأنه الفارس الأوحد في ميدان بل في دنيا الثقافة على اختلاف فروعها وتباين صنوفها.
مستحيل أن تكون المدرسة هي التي فجّرت منابع عبقريته لأن المدارس النظامية في زمنه كانت مقتصرة على تدريس بعض مواد تقليدية لا تستحث تفكيراً عميقاً ولا توسع آفاق العقل.
لقد كان شكسبير مدرسة بذاته ولذاته، ويا لها من مدرسة تقوم مناهجها غير التقليدية على التنقيب في أعماق النفس ومناجم العقل التي تزخر بشتى كنوز التفرد والإبداع.
ولعل بلاغته ومعرفته الوثيقة بأسرار اللغة هو ما أسعفه في تجسيد أفكاره وإبرازها بحلل متعددة التصاميم والألوان تناسب كل الميول وترضي كل الأذواق.
هذا الرجل الفذ كان بحق متميزاً فيما يتعدى المعروف والمألوف وأفلح في ترك بصمات دائمة على الثقافة العالمية التي اقترن اسمه بها وسيظل مقترناً ما دام للأدب والأدباء مكان ومكانة بين البشر.
مجرد وجهة نظر.. والسلام عليكم
محمود عباس مسعود