شكرا لكم أستاذنا الفاضل دكتور
عزت السيد أحمد على ما طرحته من فكرة ثاقبة حول الاستبداد وملته الواحدة التي لا تتغير في كل أرجاء الأرض.
ولا ضير أن الأسباب الأربعة آنفة الذكر تعبّر تعبيرا صارخا عن نمطية الطغيان وعنجهية الحكم الاستبدادي اللعين. وأظن أنها مجتمعة في أنظمة حكمنا البائسة. إلا أن المثير للتأمل هو حالة شعوبنا وسلبيتها تجاه هؤلاء الحكام الذين تجبّر بعضهم واستكبر وذبح الناس وأصبح بعضهم الآخر خائنا عميلا بائعا لشرفه وعروبته ودينه. ولكننا لا نلوم هؤلاء الحكام لأنهم لم يجدوا من يوقفهم عند حدهم. ولدينا في الكويت مثل طريف يوافق معنى ما ذكره الأستاذ الفاضل
سامي علي أحمد، "
قال: من آمرك؟ قال: من نهاني؟" فهذه المسألة لا بد أن يكون فيها حدود وقيود معروفة ومنصوصة على كل حاكم، وألا تترك الأمور على غاربها لكل حاكم يتلاعب بمصير الأمة كيفما شاء.
ذكر المؤرخ الدكتور
فيليب حتّي في مقدمة كتابه "
العرب: تاريخ موجز" أن العربي، الذي عاش في جزيرة العرب آلاف السنين، حرّ ومتحرّر بطبعه، ولا يهوى القيود ويعشق الحرية. وهذا يفسر -بحسب الدكتور حتّي- عدم وجود ملكيات في الماضي في قلب جزيرة العرب بل فقط مشيخات غير متسلطة أو استبدادية، لأن العربي يرى نفسه يتساوى مع شيخ القبيلة ولا يختلف عنه سوى أن الشيخ هو الأكبر سنا وتجربة. إلا أن العربي له رأي معتبر وشخصية استقلالية لا تقبل التسلط أو فرض الرأي. والعجيب أن هذه الصفات الفذة نكاد لا نراها حاليا حيث شاع الخنوع والركوع لغير الله سبحانه وتعالى واقتربنا من المروق على الدين الذي أنزل على سيد البريّة عليه الصلاة والسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
لعل أحد مكامن إشكالية الركود والجمود تنبع من حالة تزييف التاريخ وتشويهه. فكثير من الناس مازالوا يعتقدون أن الصحابة رضوان الله عليهم تداولوا الحكم فيما بينهم وتناقلوه في خلافتهم الراشدة نظرا لمكانتهم من الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام أو لأنهم من قريش وحسب، وهذا خطأ فادح بالقراءة التاريخية التراكمية التي يفترض أن تتصف بالعمق والجدية بالتناول. فلا يمكن لأحد من أولئك الخلفاء الراشدين أن يغتصب حق الأمة وسلطانها، بل تم ذلك بالرضا والقبول العام والشواهد على ذلك كثيرة، ومنها خطبة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (اقرأها كاملة
من هنا) حين سمع من أحدهم أن البيعة لأبي بكر الصديق "
كانت فلتة". فذكر في خطبته الطويلة أمام جموع المسلمين في مسجد المدينة "أنها كانت كذلك" ولكن "لا يوجد رجل تدق له الأعناق كأبي بكر". وعندما نقارن الأمر بدقة سنجد أن ما حدث في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يعد افتئاتا على الأمة بل اجتمع الناس للشورى في أمرهم وتحديد من يخلف الرسول الأكرم، لكن عمر رضي الله عنه لا يكابر في أن ما حدث لم يكن بالصورة المأمولة أو الأقرب للمثالية المرجوة بسبب ظروف عديدة أهمها مصيبة وفاة الرسول وانقطاع الوحي وخشية ألا يتولى الأمر من هو عالم فقيه بأمور الدين والدولة والقوي الأمين، والحصيف هو من يقارن هذا بالوضع الحالي حيث تجاوز الأمر الفلتات الموزونة لتصل إلى النكبات الإجرامية. لكن عمر رضي الله عنه قرّر حقيقة هامة يجب أن تطبق في كل زمان، وهي
حرمة الانقلاب على إرادة الأمة حين قال "
من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا" وهو ما يشمل في عصرنا هذا الانقلابات العسكرية أو اغتصاب الحكم بقوة السيف بالليالي المظلمة وما شابه ذلك من أنواع الاغتصاب، كل هؤلاء ليس لهم شرعية ولا هم أهل لتولي الأمر.
لدينا في تراثنا كل ما يثري حياتنا السياسية وجميع المجالات الأخرى، وهو ما يساعد في تكوين منظومة متكاملة قائمة على الحريات العامة والعدالة الاجتماعية وترسيخ الاستقلال وعدم التبعية. لكننا آثرنا السير وراء الأمم الأخرى دون وعي أو إدراك لثراء منظومتنا. فقالوا شيوعية، وقلنا معهم، فقالوا اشتراكية وقلنا معهم، فقالوا ديمقراطية وقلنا معهم، فقالوا رأسمالية وقلنا معهم، فقالوا ليبرالية وقلنا معهم. ولو قالوا -مع الاعتذار- "حمورية أو جحوشية أو بهائمية" لقلنا معهم، فلا شيء يمنع ذلك طالما نحن ممسوخي الإرادة ومشوهي الفكر.
فلنستفق من الغفلة أيها الناس ولننتشل أنفسنا من هذه الورطة الكبرى وما حركة الربيع العربي إلا بداية خجولة في طريق الحرية المغتصبة، أما المجرمون والخونة فسيشعلون ثورتهم المضادة رغبة في بقاء عروشهم وانتفاخ إلياتهم وكروشهم وهم جاثمون على صدر الأمة.