سيد البحار خير الدين بارباروس

الدكتور محمد موسى الشريف

القسم الرابع والأخير



عقب انتصارات خير الدين العظيمة ، وإذلاله امبراطوراً كبيراً مثل شارل الخامس ، وغزواته الكثيرة في البحر ، وتمكينه للعثمانيين في البحر الابيض المتوسط تمكيناً لم يسبق من قبل اصاب الأوربيين الخوف الشديد من خير الدين - رحمه الله تعالى - ولنعرف مقدار الخوف الذي أصاب الأوروبيين من خير الدين عقب هزيمة شارل الخامس أو شارلكان أو كارلوس بتعبير خير الدين فإني أسوق هذا النص الوارد في مجلة تاريخ وحضارة المغرب العدد 6 :
"طغى شبح خير الدين على العامة والخاصة حتى أصبح الناس إذا رأوا ]... [([1]) عن بُعد نسبوه إلى خير الدين ، فيتصاعد الصراخ ويكثر العويل ، ويفر السكان من ديارهم ومن حقولهم ومتاجرهم ، وإذا حطمت الزوابع مركباً توهم الناس أن خير الدين بارباروس هو الذي أثار البحر وهيجه وأغراه على سفنهم ، وبلغ الخوف من قادة الجزائر – خير الدين ومن معه – أقصى درجة حتى أصبح أهل اسبانيا وإيطاليا إذا ما حدثت جريمة ، أو سرقة ، أو وقع فساد أو تخريب ، أو مرض أو وباء أو قحط قالوا : خير الدين وأصحابه هم السبب في ذلك !! وكانوا في عويلهم يرددون :

بربروسّه بربروسّة
أنت صاحب كل شر
ما كان من ألم أو عمل
مؤذ وجهنمي مدمر
إلا والسبب فيه
هذا القرصان الذي لا نظير له في العالم"

رضي الله تعالى عن خير الدين وأين مثله الآن فما أحوجنا إلى من يخيف أعداء الإسلام اليوم حتى لا يفعلوا بنا ما يفعلونه اليوم من انتقاص لأرضنا ، وانتهاك لعرضنا ، وسرقة لثرواتنا ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
- وهكذا أمضى خير الدين جُل حياته في البحر مجاهداً في سبيل الله تعالى ، فلله كم أرغم الله به أنوف الكفار من ملوك وأمراء وفرسان ونبلاء ، فلله الحمد والمنة.

صفات خير الدين :
كان خير الدين – رحمه الله تعالى – شجاعاً مقداماً لا يهاب الموت ولا يتردد في مهاجمة الكفار في البحر ، وقد سبق من أخباره ما يوضح هذا كل التوضيح.

- وكان كريماً ينفق من الأموال التي يأخذها من الكفار ، ينفقها في الفقراء والمحتاجين ، ولماّ زار أهله في جزيرة ميديلِّي بعد مدة طويلة فعل أفعالاً كريمة هو وأخوه عروج ذكرها بقوله :
"أقمنا وليمة كبيرة دامت سبعة أيام وسبع ليال أطعمنا خلالها فقراء الجزيرة ، وقمنا بتختين الأطفال ، وزوجنا العذارى اللاتي لم يكن لهن أزواج ، ولكي ندخل السرور على قلوبهن أقمنا لهن احتفالات كبيرة وخِطنا لهن أثواباً جديدة. أدخلنا السرور على قلوب الأرامل والعجزة والمعاقين".
وكان كثيراً ما يوزع القمح الذي استولى عليه من الكفار على الفقراء مجاناً في تونس وغيرها ، وتبرع مرة بسفينة قمح كاملة للفقراء.

وقال في نص آخر يوضح زهده في الدنيا هو وأخوه عروج :
"لم نكن نحب الاحتفاظ بالمال ، ولذلك فقد أنفقنا جميع ما ربحناه على تجهيز سفننا بشكل جيد ، والذي بقي قاسمناه بحارتنا ".

وقام مرة بجمع اليتامى والذكور والإناث في مدينة الجزائر وضواحيها الذين بلغوا سن الزواج فزوجهم ، وختن الأطفال ، وأعطى كل واحد ما يحتاجه من المال ، ومسكناً لمن لا بيت له ، وعملاً للعاطل منهم ، وكان يقول في إنفاقه هذا :
"لقد كنت موقناً بأن الله يكافئ عن كل إحسان نقوم به بأضعاف ما نبذله ، لقد رأيت هذا وعايشته بنفسي طوال حياتي ، فكلما أنفقت من ثروتي شيئاً كان الله يعجل بأضعاف مضاعفة لما أنفقه في سبيله".

- وقد كان من بارز صفاته الحزم في مواضع الحزم ، واللين والمداراة والتحمل في مواضعها ، وهذا من أبرز صفات القادة ، فقد كان لا يتردد في قتل المؤذين والمنافقين والخونة ، لكنه أيضاً يعفو إذا رأى مصلحة غالبة في العفو.

- وقد كان حسن التدبير لملكه ، فقد كان يسوس مملكته الواسعة في الجزائر سياسة حسنة ، ويطلع على أحوال أعدائه ، ومن حسن تدبيره ما ذكره في سياسته مع الأسرى الأوروبيين ، فقد قال :

"كان من عادتي أن أدعو ضباط الكفار والقباطنة – جمع قبطان – والولاة والرهبان والفنانين الذين وقعوا في الأسر للمثول بين يدي ، وأتبادل معهم أطراف الحديث ، ولم أكن أطرح عليهم الأسئلة لانتزاع المعلومات منهم بل كنت أتحدث معهم مثلما يتحدث الصديق إلى صديقه ، بهذه الطريقة كنت أحصل منهم على معلومات مهمة جداً ، بل كنت أقف على أسرار القصور التي لا تُعرف حتى في أوروبا ، والحقيقة التي يجب أن أشيد بها هنا هو أنه كان لي في كل بلدان البحر المتوسط جواسيس تابعون لي ، إلا أن الجلوس مع الأسير والتحدث معه أفيد في الحصول على المعلومات".

وفي سنة 952/1546 توفي خير الدين وقد قارب الثمانين من عمره المبارك ، بعد حياة حافلة بالجهاد وجلائل الأعمال ، ودفن في اسطنبول بمحاذاة مضيق البوسفور - الذي كان يحبه ويعجب به ويراه كأنه قطعة من الجنة !! - في باشكتاش في مكان اشتراه بنفسه وأوقفه لكي يدفن فيه ، وهو الآن معروف ماثل للعيان ، رحمه الله تعالى ورفع درجته في عليين.

- وقد أكمل خير الدين العمل العظيم الذي ابتدأه شقيقه عروج الذي بينت بعض معالم سيرته في الحلقتين السابقتين ، وما أحسن ما قاله المؤرخ شارل اندري جوليان في كتابه "تاريخ الشمال الأفريقي" في عروج وأخيه :

"هكذا انتهت هذه الحياة المجيدة في ميدان المغامرة ، إنه هو الرجل الذي أنشأ القوة العظيمة لمدينة الجزائر وللبلاد البربرية ، إنه بنظرة صادقة لا تخطئ وهي نظرته المعتادة – قد أدرك مدى ما تستطيع أقلية عاملة تحقيقه في وسط مليء بالمنافسات بين مختلف الإمارات المغربية لكي يؤسس على حساب تلك الإمارات دولة إسلامية قوية لا تستطيع أن تنالها بسوء هجمات النصارى... إنما كانت مأثرته هذه تتلاشى وتضمحل لو لم يتلقفها ويحتضنها باليمين شقيقه خير الدين الذي سار بها في طريق النجاح والكمال".

وقال المؤرخ بيشو في كتابه "تاريخ شمال افريقيا" :
كان للشقيقين عروج وخير الدين من الإقدام والجرأة مقدار يفوق المتعارف عند الرجال ، وكان لهما من الدهاء السياسي الخارق للعادة ما يجعل الناس مشدوهين من وجود مثله عند رجلين لم تؤهلهما ثقافتهما البدائية ليقوما بهذا الدور العظيم ؛ دور قيادة الشعوب".([2])

الهوامش:
([1]) كلمة لم يتبين لي معناها.
([2])المصدر الرئيس لهذه الدراسة هو مذكرات خير الدين بارباروس التي ترجمها إلى العربية د.محمد دراج ، وكذلك كتاب "خير الدين بارباروس والجهاد في البحر" للأستاذ بسام العسلي ، ومصادر أخرى.

المصدر : موقع التاريخ