طرائف ومناظرات وكلمات .. من تراث المعتزلة


كان أبو الهذيل العّلاف كبير المعتزلة في زمانه، وله شهرته وتمكّنه في المناظرات والجدل وقطع المخالف بأقلّ الألفاظ ، والتآليف التي زادت عن الستين كتابا في دقيق الكلام، وهو أحد الأعلام الأفذاذ وبحور العلم، أسلم على يده الآلاف كما يقال, عاش ما يقارب مئة عام، وفيه يقول الخليفة المأمون أظلّ أبو الهذيل على الكلامِ ... كإظلال السحاب على الأنام .. هذه بعض أخباره:

- جاء رجل إلى أبي الهذيل العلاف فقال له: أشكل عليّ أشياءٌ من القرآن فقصدتُ هذا البلد، فلم أجد عند أحدٍ ممن سألته شفاءً لما أردته، فلما خرجتُ في هذا الوقت قال لي قائل: إن بُغيتك عند هذا الرجل، فاتق الله وأخبرني، فقال أبو الهذيل: فماذا أشكل عليك ؟؟ قال: آياتٌ من القرآن توهمني أنها متناقضة، أو آيات توهمني أنها ملحونة، قال: فماذا أحبّ إليك، أجيبك بالجملة أو تسألني عن آية آية ؟؟ قال: بل تجيبني بالجملة، فقال أبو الهذيل: هل تعلمُ أن محمدا كان من أوسط العرب وغير مطعون عليه في لغته، وأنه كان عند قومه من أعقل العرب فلم يكن مطعونا عليه ؟؟ فقال: اللهم نعم، فقال أبو الهذيل: فهل تعلم أن العرب كانوا أهل جدل ؟؟ قال: اللهم نعم، قال أبو الهذيل: فهل اجتهدوا في تكذيبه ؟؟ قال: اللهم نعم، قال: فهل تعلم أنهم عابوا عليه بالمناقضة أو باللحن ؟؟ قال: اللهم لا، قال أبو الهذيل: فتدع قولهم مع علمهم باللغة، وتأخذ بقول رجلٍ من الأوساط ؟؟! قال: فأشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. قال أبو الهذيل: كفاني هذا، إنصرف وتفقه في الدين !

- ناظر أبو الهذيل بعض الحنابلة في مسألة قدم القرآن، وأخذ الحنبليّ لوحا وكتب عليه " الله " وقال: أفتنكر أن يكون هذا هو الله وتدفع المحسوس ؟؟ فأخذ أبو الهذيل اللوح من يده، وكتب بجانبه " الله " كتابة أخرى، وقال للحنبلي: أيّهما الله إذن ؟؟ فانقطع الحنبلي.

- وحضر أبو الهذيل مشهد دفن، وعندما وُسِّد الميت في القبر قال له أحد أصحابه: الإيمان ببعث هذا صعب، فأجاب أبو الهذيل: والإيمان بإهماله أصعب !.

- مات ابْن لصالح بْن عَبْدِ القدوس ، فمضى إليه أَبُو الهذيل ومعه النظام وَهُوَ غلام حدث كالمتوجع لَهُ فرآه منحرفا ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الهذيل : لا أعرف لجزعك وجها إذا كان الناس عندك كالزرع ، فَقَالَ لَهُ صالح : يا أبا الهذيل إنما أجزع عَلَيْهِ ، لأنه لم يقرأ كتاب الشكوك ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الهذيل : وما كتاب الشكوك ؟ قَالَ : هو كتاب وضعته من قرأه يشك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن ، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان ، فَقَالَ لَهُ : النظام فشك أنت فِي موت ابنك ، واعمل عَلَى أنه لم يمت ، وإن كان قد مات فشك أيضا فِي أنه قد قرأ الْكِتَاب ، وإن كان لم يقرأه "

وحكى أَبُو القاسم البلخي المعتزلي ، أن رجلا من السوفسطائية كان يختلف إِلَى بعض المتكلمين من المعتزلة، فأتاه مرة فناظره فأمر المتكلم بأخذ دابته ، فلما خرج لم يرها فرجع ، فَقَالَ : سرقت دابتي ، فَقَالَ : ويحك لعلك لم تأتي راكبا ، قَالَ : بلى ، قَالَ : فكر ، قَالَ : هَذَا أمر أتيقنه فجعل يَقُول لَهُ : تذكر ، فَقَالَ : ويحك ويحك مَا هَذَا موضع تذكر أنا لا أشك أنني جئت راكبا ، قَالَ : فكيف تدعي أنه لا حقيقة لشيء ، وإن حال اليقظان كحال النائم فوجم السوفسطائي ورجع عَنْ مذهبه .

- وقال أبو الهذيل للبطيخي المجبّر غلام جهم: أتزعم أن الله تعالى يعذّب عباده على ما خلقه فيهم ؟؟ قال: لا، ولكن أقول إنهم في النار يتنعّمون كدود الخلّ في الخلّ . ثم قال: كيف تجيب يا أبا الهذيل ؟؟ قال: نعم ، ولكن قال تعالى " إنك من تدخل النار فقد أخزيته ".

- ومرّ أبو الهذيل راكباً دابة من أمام الحسين النجار وهو قاعد على باب دار المهالبة ، فقال النجّار : انزل حتى أسألك . قال : أتقدر أن تسألني ؟ قال: لا . قال : أفأقدر أن أجيبك ؟ قال: لا . قال : فبم أعنّي نفسي .؟ ( الحسين النجار جبري يرى أن الإنسان لا يقدر على شيء من الأفعال وإنما القدرة لله عز وجل فقط).

- وقال أبو الهذيل للنجّار : أخبرني عن رجل في الشمس أمره الله تعالى أن ينتقل إلى الظل ، متى تحصل له استطاعة الانتقال ؟ قال: مع النقلة . قال : فأعطي استطاعة النقلة وهو في الشمس أو أعطي وهو في الظل ؟ فإن قلت بالأول تركت مذهبك، وإن قلت بالثاني فقد انتقل بغير استطاعة . فانقطع .( ومذهب المعتزلة أن الاستطاعة قبل الفعل).

- وسأل مجبرٌ أبا الهذيل: هل تقدر أن تفعلَ شيئا ؟؟ قال: نعم أقدر على أشياء أقدرني الله عليها باستطاعة ركّبها فيّ . قال: خذ تلك الصعوة من رأس ذلك الحائط (أي العصفور من رأس الحائط) . قال: ذلك من استطاعة الباشق (أي الصقر). !


ـ بلغ أبا الهذيل في حداثة سنّه أنّ رجلاً يهوديّاً قدم البصرة و قطع جماعة من متكلّميها، فقال لعمّه: «يا عمّ امض بي إلى هذا اليهودي حتّى اُكلّمه. فقال له عمّه: يا بنيّ كيف تكلّمه وقد عرفت خبره، وأنّه قطع مشايخ المتكلّمين! فقال: لا بدّ من أن تمضي بي إليه. فمضى به.قال: فوجدته يقرّر الناس على نبوّة موسى ـ عليه السلام ـ، فإذا اعترفوا له بها قال: نحن على ما اتّفقنا عليه إلى أن نجمع على ما تدّعونه، فتقدّمت إليه، فقلت: أسألك أم تسألني؟ فقال: بل أسألك، فقلت: ذاك إليك، فقال لي: أتعترف بأنّ موسى نبيّ صادق أم تنكر ذلك فتخالف صاحبك؟ فقلت له: إن كان موسى الّذي تسألني عنه هو الّذي بشّر بنبيّي ـ عليه السلام ـ وشهد بنبوّته وصدّقه فهو نبيّ صادق، وإن كان غير من وصفت، فذلك شيطان لا أعترف بنبوّته; فورد عليه ما لم يكن في حسابه، ثمّ قال لي: أتقول إنّ التوراة حقّ؟ فقلت: هذه المسألة تجري مجرى الاُولى، إن كانت هذه التوراة الّتي تسألني عنها هي الّتي تتضمّن البشارة بنبيّي ـ عليه السلام ـ فتلك حقّ، وإن لم تكن كذلك فليست بحقّ، ولا أقرّ بها. فبهت و اُفحم ولم يدر ما يقول. ثمّ قال لي: أحتاج أن أقول لك شيئاً بيني و بينك، فظننت أنّه يقول شيئاً من الخير، فتقدّمت إليه فسارّني فقال لي: اُمّك كذا وكذا واُمّ من علّمك، لا يكنّي، وقدّر أنّي أثب به، فيقول: وثبوا بي وشغبوا عليّ، فأقبلت على من كان في المجلس فقلت: أعزّكم الله، ألستم قد وقفتم على سؤاله إيّاي وعلى جوابي إيّاه؟ قالوا:بلى، قلت: أفليس عليه أن يردّ جوابي أيضاً؟ قالوا: بلى، قلت لهم: فإنّه لـمّا سارّني شتمني بالشتم الّذي يوجب الحدّ، وشتم من علّمني، وإنّما قدّر أنّني أثب عليه، فيدّعي أنّنا واثبناه وشغبنا عليه، وقد عرّفتكم شأنه بعد الانقطاع فانصروني، فأخذته الأيدي من كلّ جهة فخرج هارباً من البصرة»


أما إبراهيم بن سيّار النظام فهو أحد أعاجيب الزمان ذكاء وعلما ونبوغا، وقوة عارضة في الجدال، وخاصة ضدّ الثنوية المجوسية والملحدين والدهريين .. وهو رجل لا يتكرّر إلا كل ألف عام وفق مقولة الجاحظ : " الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحا فهو أبو إسحاق إبراهيم النظّام " . وكان الجاحظ تلميذ النظام، وكان يكثر من الرواية عنه ونقل أقواله في كتبه، وخاصة كتاب " الحيوان " الذي سرد فيه كثيرا من آراء النظام وملاحظاته على سلوك الحيوان وطبائعه، وفي المباحث الطبيعية وخصائص المادّة .. ويقول فيه أيضا أبو الحسين الخيّاط (المعتزلي) في كتابه (الانتصار):" لولا إبراهيم وأشباهه من علماء المسلمين الذين شأنهم حياطة التوحيد ونصرته والذبّ عنه عند طعن الملحدين فيه، الذين شغلوا أنفسهم بجوابات الملحدين ووضع الكتب عليهم إذ شُغِل أهل الدنيا بلذاتها وجمع حطامها " .

ودونك طرفٌ من أخبار النظّام:

- وروي أن الخليل بن أحمد قال له وهو شابٌّ ممتحنا له وفي يد الخليل قدح زجاج: يا بنيّ صف لي هذا !، قال: أمدحٌ أم ذم ؟؟، قال: بل امدح ! ، قال: نعم, يريك القذى، ولا يقبل الأذى، ولا يستر ما ورا . قال: فذمّها، قال: سريعٌ كسرها، بطيءٌ جبرها . قال: فصف لي هذه النخلة ! ، فقال مادحا: حلوٌ مجتناها، باسقٌ منتهاها، ناضرٌ أعلاها، وقال في ذمّها: بعيدة المجتنى، محفوفةٌ بالأذى . فقال الخليل: يا بنيّ ! نحنُ إلى التعلّم منك أحوج.

- واجتمع النظام والنجّار للمناظرة، وكان الحسين بن محمد بن عبدالله النجّار من متكلّمي المجبّرة،وله مع النظّام مناظرات، فقال النجّار: لِمَ تدفع (أي تمنع) أن الله كلّف عبّاده مالا يطيقون ؟؟ فسكت النظّام . فقيل له لمّ سكتّ ؟؟ قال: كنتُ أريد بمناظرته أن أُلزمه القول بتكليف مالا يطاق، فإذا التزم بذلك ولم يستحِ فما الذي أُلزِمه بعد ذلك ؟؟! (ومذهب الأشعري والمجبّرة أيضا هو جواز التكليف بمالا يطاق)

- وكان إبراهيم النظام هو السبب في وفاة أحد المتكلّمين متأثرا بهزيمته أمامه في إحدى المناظرات ..وهو الحسين النجّار السابق ذكره .. فقد اجتمع مع إبراهيم النظام عن بعض إخوانه،فسلّم الحسين، فقال له إبراهيم: تجلس حتى أكلّمك ؟؟ فجلس ، فقال له إبراهيم: يجوز أن تفعل خلق الله ؟؟ فقال الحسين: يجوز أن أفعل الذي هو خلق الله، فقال إبراهيم: فالذي هو خلق الله خلق الله أو ليس بخلق له ؟؟، قال الحسين: هو خلق الله، قال إبراهيم: فقد فعلتَ خلق الله، فلم لا يجوز أن تخلق خلق الله كما جاز أن تفعل خلق الله ؟؟، قال الحسين: لم أفعل خلق الله، وإنما فعلتُ الذي هو خلق الله !، قال إبراهيم: والذي هو خلق الله أليس بخلقً له ؟؟، قال الحسين: فهو خلق الله !، فرفسه إبراهيم وقال: قم أخزى الله من ينسبك إلى شيء من العلم والفهم ! ، وانصرف محموما وكان ذلك سبب علّته التي مات فيها.

- وعندما حضرت الوفاة النظام قال وهو يجود بنفسه:" اللهم إن كنت تعلم أني لم أقصّر في نصرة توحيدك، ولم أعتقد مذهبا من المذاهب اللطيفة إلا لأشدّ به التوحيد، فما كان منها يخالف التوحيد فأنا منه بريء، اللهم فإن كنت تعلم أني كما وصفتُ ذلك فاغفر لي ذنوبي وسهّل عليّ سكرة الموت " فمات من ساعته.

- ومن المناظرات التي خاضها أبو عليّ الجُبّائي شيخ معتزلة البصرة في زمانه، وهو غلام صغير، مع أحد أعلام الجبرية آنذاك ويدعى صقر، وهي مواجهة غير متكافئة في نظر الحاضرين، فقد اقتحم عليه الجبّائي مجلسه، فعجب منه لجرأته وصغر سنّه، وسأل عنه من يكون، فقيل له :" غلام من أهل جُبَّى " . فقال أبو عليّ: أتقول إن الله تعالى يفعل العدل " ؟؟ قال: نعم ، قال: أتسمّيه بفعل العدل عادلا ؟؟ قال: نعم، قال: أتقول إنه يفعل الجور ؟؟ قال: نعم ، قال: فما أنكرتَ أن يكون بفعله الجور جائرا ؟؟ قال: لايصحّ ذلك ، قال: فما أنكرت ألا يكون بفعله العدل عادلا ؟؟ فانقطع صقر, الذي علق قائلا لمن حوله:" شاهت الوجوه، هذا صبيٌّ يلعب بنا وهؤلاء( أي أصحابه) يعظّمونني ! "

- وكان لبشر بن المعتمر زعيم معتزلة بغداد مناظرات مع المجبّرة هو وأصحابه، وقد قال بعض المجبّرة ذات مرّة لأصحاب بشر: أنتم تحمدون الله على إيمانكم ؟؟ قالوا: نعم ، قال المجبّر: فكأنه يحبّ أن يُحمَد على مالم يفعل وقد ذمّ ذلك في كتابه . فأقبل ثمامة ( بن أشرس) وهومن تلامذة بشر فقال: هؤلاء أجابوك، وهذا أبو مضر فاسأله ! ، فسأله فقال: لا، بل هو يحمدني على الإيمان لأنه أمرني به ففعلته، وأنا أحمده على الأمر به والتقويه عليه، فانقطع المجبّر، فقال بشر: شنعت المسألة فسهلت !

- قال ثمامة بن أشرس يوما للمأمون: أنا أبيّن لك القدر بحرفين، وأزيد حرفا للضعيف، قال: ومن الضعيف ؟؟ قال: يحيى بن أكثم (القاضي)، قال: هات ! ، قال ثمامة: لا تخلو أفعال العباد من ثلاثة أوجه، إما كلّها من الله , ولا فعل لهم, لم يستحقوا ثوابا ولا عقابا ولا مدحا ولاذمّا، أو تكون منهم ومن الله, وجب الذمّ والمدح لهم جميعا، أو منهم فقط كان لهم الثواب والعقاب والمدح والذمّ . قال المأمون: صدقت !

- وقال أبو العتاهية يوما للمأمون: أنا أقطع ثمامة، فقال: عليك بشعرك فلست من رجاله، فلما حضر ثمامة قال أبو العتاهية وقد حرّك يده: من حرّك يدي ؟؟ قال ثمامة: من أمّه زانية !، قال: يا أمير المؤمنين شتمني !، قال ثمامة: ترك مذهبه يا أمير المؤمنين ! . فقال له أبو العتاهية بعد ذلك: أما كانت لك في الحجّة مندوحة غير السفه؟؟ قال ثمامة: إن خير الكلام ما جمع الحجّة والانتقام !

.
.
.


مراجع
1 - " طبقات المعتزلة " لأحمد بن يحيى بن المرتضى
2 - " رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس" للحاكم الجُشَمي
3 – " الانتصار والردّ على ابن الراوندي الملحد " لأبي الحسين الخيّاط
4 - " الفهرست " لابن النديم
5 – " العَلَم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ " للعلامة صالح بن مهدي المقبلي
6 - " نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام " ج1 للدكتور علي سامي النشار