الإبجرام يفضح طبائع الإجرام


كاظم فنجان الحمامي

الإبجرام أو الإبيجرام أو الإبيغرام: فن شعري قديم عرفه الشعراء الأوائل في اليونان القديمة, ثم تعلمه الشعراء العرب وبرعوا فيه, فكتبوا أجمل قصائدهم النقدية الساخرة, التي تهكموا فيها على الطغاة والجبابرة.
الإبجرام (Epigram) كلمة مركبة في اللغة اليونانية من كلمتين, هما: (Epos), و(Graphein), وتعني الكتابة على شيء ما, أو النقش على الحجر في المقابر لإحياء ذكرى الموتى, أو نقش لوحة كتابية مختصرة تحت تمثال لأحد الشخوص, ثم تحول الإبجرام في القرن السابع عشر الميلادي إلى فن شعري قائم بذاته على يد الشعراء (جون دن), و(أوسكار وايلد), فقصيدة الإبجرام قصيدة ذكية ساخرة ترسخ في الذاكرة, متميزة بتركيز عباراتها وإيجازها, ومتميزة بكثافة معانيها واشتمالها على المفارقات, ومتميزة بتأنقها الشديد في اختيار الألفاظ, ولها سماتها ومعاييرها, أما الشعراء العرب الذين كتبوا قصائدهم السياسية الساخرة في شعرنا العربي القديم فلم يكونوا يقصدون الإبجرام, لكنهم كتبوها في عصور التألق الأدبي المتجدد, فاشتهر بينهم (جحظلة البرمكي) بمقطوعاته الشعرية الساخرة, التي كانت تحمل رسائل سياسية هادفة لما تحتويه من حكمة وهجاء لاذع, تصل بسرعة إلى المتلقي, فنجده يقول:
سجدنا للقرود رجاء دنيا
حوتها دوننا أيدي القرود
فلم ترجع أناملنا بشيء
رجوناه سوى ذل السجود
وقال في مناسبة أخرى:
غلط الدهر بما أعطاكم
وفعال الدهر جهل وغلط
وقال في موضع آخر:
ولا عن رضا كان الحمار مطيتي
ولكن من يمشي سيرضى بما ركب
وقال أبو العتاهية مخاطباً أحد الطغاة:
كُلُنا في غفلةٍ والموتُ يغدو ويروح
نُح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح
لست بالباقي ولو عُمِّرت ما عُمِّرَ نوح
وربما كان الشاعر الأندلسي (أبو القاسم خلف بن فرج الألبيري) المعروف بالسميسر, صوتاً قوياً في عصره, حمل الجرأة في تصوير السلبيات السياسية بإبجرامات مختصرة تراوحت بين الحدة والإقذاع حيناً والموضوعية حيناً أخرى, وكان السميسر من أقوى أصوات المعارضة في دوحة الشعر الأندلسي, وهو الذي أطلق صرخته بوجه أمراء الطوائف قبيل سقوط طليطلة, عندما قال هذه الأبيات المختصرة:
أسلمتم الإسلام في أسر العدا وقعدتم
لا تنكروا شق العصا فعصا النبي شققتم
أما أبرز شعراء العصر في هذا المضمار فهو الشاعر العراقي المغترب (أحمد مطر), الذي سجل في لافتاته أجمل قصائد الإبجرام, فكشف زيف الحكومات الضالعة في الإجرام, قال أحمد مطر في إحدى إبيجراماته:
يا أيها الناس اتقوا نار جهنم
لا تسيئوا الظن بالوالي
فسوء الظن في الشرع محرم
با أيها الناس أنا في كل أحوالي سعيد ومنعم
ليس لي في الدرب سفاح ولا في البيت مأتم
ودمي غير مباح فأنا لم أتكلم
لا تشيعوا أن للوالي يداً في حبس صوتي
بل أنا يا ناس أبكم
قلت ما أعلمه عن حالتي والله أعلم
وقال في إبجرامة أخرى:
نزعم أننا بشر لكننا خراف
ليس تماماُ إنما في ظاهر الأوصاف
نُقاد مثلها ؟. نعم
نُذعن مثلها ؟. نعم
نُذبح مثلها ؟. نعم
تلك طبيعة الغنم
وقال في إبجرامة أخرى:
نموت كي يحيى الوطن
يحيا لمن ؟.
من بعدنا يبقى التراب والعفن
نحن الوطن
وقال في إبجرامة أخرى:
قال أبي: في أي قُطرٍ عربي إن أعلن الذكيُ عن ذكائهِ فهو غبي ؟.