((المعرفيون والتفكير القومي))
*ريبر هبون

إن القومية نتاج شعور جمعي بضرورة الاجتماع ، والضرورات حتماً ناتجة عن دوافع قسرية أو طبيعية ، كالشعور بالاضطهاد والتمييز العنصري أو الرغبة بتحقيق المصالح الضرورية ،ونتيجة الصراعات الدموية تجذرت المفاهيم القومية اللغوية ولا سيما في عصر القوميات في أوروبا وانتقالها للعالم العربي والاسلامي، وشاعت سياسات الانكار والصهر والإلغاء كتطور عن الصراع القبلي، والوعي بالجماعة وأهميتها وأهمية التماسك داخل النسيج الجماعي حاجة فطرية حيوية وطبيعية من خلال وحدة اللغة والتاريخ بحكم التجاور والتجانس في إطار البيئة ، والمعرفيون أمام طرح ذواتهم الأولى يبشرون بعلائق أكثر طبيعية وتجذراً مع كل تواق إلى الحب والمعرفة ،وتنقيب الوجود ، لأنهم يرون في الوجود النسيج الأشمل والجامع للبشرية، وذلك لأن روح العصبة لا تمثل حقيقة الحياة والغاية السامية ، ويرون في المعرفة قومية واسعة وجديدة لا ايديولوجية أو دين أو مذهب تفرِّقهم عن بعضهم كونهم يجدون في الحب سبيلاً لمعرفة الوجود الذي يمثل ذروة الانتماء الطبيعي، فالغاية المثلى للإنسان والتي يجدر أن يراها الانسان الجديد وأن يتمثل بها كتمثله للمجد والقوة هي في المعرفة المنظمة، لأن موديل الجماعة المتحزبة لم تكن إلا خدمة للفئة القليلة المنتمية لذا فهذه الفئة تقتات على حساب القسم المحافظ على الحزب ومبادئه حيث ان الجماعة عموماً فئتان:
-الفئة الرصينة المتمسكة ببنيان الحزب ومبادئه وهذه الفئة تتعرض لأقسى الضغوطات من التهديد بالتصفية أو انزال الرتبة والمكانة التنظيمية إلى انساب التهم لها بالخيانة والتشهير أو النفي
-الفئة الطفيلية التي تجد في الحزب امتيازاً يكفل لهذه الفئة مصالحها المادية الانتهازية لأجل دوام الرفاهية والغنى وهذه الفئة متينة تتستر على انتهاكات بعضها البعض، ولا تقبل أن تخترق من قبل دعاة التغيير،لأن التغيير ليس في مصلحتها، وذلك لأن كل منظومة أو دولة تنشأ يحدث فيها ذاك الصراع الوجودي بين المحافظة والتغيير، والأصالة والتقدم
والانفتاح والانغلاق، وبذلك تصبح مبادئ الحزب عبارة عن لوائح جامدة لا تتغير.
نلاحظ أن خطر هذه الفئة يستشري ليطغى بتأثيراته على الجهاز الأعلى للحزب لتصبح السبب في بقاء الحزب لأجل دوام المنفعة وزيادة تجهيل الناس وتخديرها أطول مدة ممكنة ويتجلى هذا في نماذج الاحزاب الشمولية بصورة خاصة..
المعرفيون يرتقون في طلبهم للمصالح بمستوياتها وأشكالها، فالمعرفة هي المصلحة العليا التي يتنافس المعرفيون عليها وبذلك فالنمطية الحزبية الناتجة عن شكل الحزب وطريقة تعاطيه هي من ضروب الجهالة والانغلاق والتشتت، فالمعرفة تسعى بالانسان نحو التنظيم الفطري الطبيعي.
المعرفيون يعيشون وجودهم لأجل المعرفة، لأنهم يجدونها رسالتهم الطبيعية ، التي لا يمكن لمستغل جاهل أو حاقد أن يستغلها فلا يمكن أن تكون هنالك أصولية معرفية في حين يمكن ان تتحول الأديان إلى أصولية ويتزعمها أصوليون ولا يمكن للمعرفة أن تتأطر لتصبح كالفكر القومي العرقي أو الجغرافي، وان تسودها الشوفينية والعنصرية التي تعم التنظيمات الحزبية القومية والاممية، أو السلفية الدينية، لأن المعرفة بحالتها الطبيعية ارتقاء وسمو بعيد عن سلطة القوميات والأديان والمذاهب والأعراق، فالدين في حالته الطبيعية المعرفية صلة الانسان الاخلاقية بالآخر تمثلاً بالله، أي الحب .
والقومية في حالتها الطبيعية المعرفية ارتباط الفرد بالجماعة لأجل بقاء الخصائص والقيم والعادات واللغة والتاريخ ، والمعرفة لا تلغِ هذه الخصائص، والمثل المشتركة لأنها تمثل الارضية المجتمعية لتطور المجتمعات وفقاً لوعيها وارتقاءها إلى المعرفة
فالمعرفي يرفض التلاعب بالأديان لأنها تمثل صلة الروح بالسماء، كما يرفض الشوفينية القومية لأنها تشويه للحقائق وتقزيم دور الجماعات المجاورة التي تتعايش معرفياً على سطح الوجود لأجل تطوير الخصائص وإنعاش الحياة الحرة ، فالمعرفة أساس منشأ الأفكار النظيفة فهي تجعل الانسان يقبل على الحياة عن إدراك ونضج ..
إن الحزبياتية تجعل الانسان مفتقراً إلى جو الحرية الخالصة ويبقى أسيراً للمعارف التي تعارف عليها أصحاب العقيدة المنحصرين في جزئيات القضايا
فالمعرفة هي إعادة قراءة لمختلف القضايا الجوهرية التي تؤسس لعلاقات أفضل، لأجل نهاية عهود الاحتقان والاضطهاد القومي الاناني الذي قضى على الأواصر المدنية السامية وقوض الحياة الانسانية ..
إن تأسيس الحياة على قاعدة المعرفة هو تأسيس للإنسان من خلال تحرره من أمراض النعرات وتخليصه من سلطة الأقوى وعودة لقيم الحضارة مجدداً، لوعي جديد وحياة فضلى لكل الناس وتنظيم يليق بالوجود المتقن والمنظم الجميل، الذي يربي القيم في الموجود البشري، فكان الحب بمثابة الرب والمعبود، لشتى القيم التي استنبطها الانسان في الوجود عبر رحلته الطويلة الشاقة..
إن دوام الرحلة الشاقة للإنسان الحضاري هو دوام رسالة الحب والسمو بالمعرفة وإن كل بناء لا يتأسس على تكامل الحب والمعرفة هو بناء شكلي يكاد يكون هدماً بصورة ما، فلا بد من العودة للحب والمعرفة والعناية بالوجود لكي يبقى الموجود وإتمام الحب من خلال ترسيخ الاخلاق التي تحفظ للإنسان نسله ومنجزاته، وهذا يتحقق بالعناية بالبيئة من خلال وقف الحروب والتلوث البيئي..
المعرفيون يؤمنون أن الجمال في الخير لذا يعملون على تبديد مصادر القلق، ويؤمنون أنه لا مهرب من تجاوزه ، ويزرعون الجميل في الخير الذي يشعُّ فيهم ، ويرون في توافه الأمور أشياء تنضب بإيجاد الأفكار الطبيعية ، لذا فهم يجدون في الطاقة الداخلية الأمل الوحيد في تجديد الذات بالمعرفة .
المعرفي يرقى إلى الابداع دوماً فهو يجد في الابداع علم ممارسة الحرية، وطريقة جديدة في استخدام الأدوات والأشياء بجودة وعناية ، تكشف عن مخزون الجمال والسحر لديه, فهو يقبل عن جمال وروح صافية نحو تغيير ما تأخر تغييره ويؤمن دوماً بضرورة التأن في الخروج بالقرارات ،إنه ينهض بالحياة كونها جميلة بطبيعتها ويراها أجمل حين يقوم بأخذ لمساته عليها.
إن المعرفيون طبيعيون في ممارستهم للحياة وتوغلهم بالمؤسسات فهم يجدون أنفسهم الأجدر في تحويل المؤسسات والأحزاب والتكتلات إلى نواة جديدة تمثل روح الوجود والمعرفة والحب ،إنهم يرون أن كل تنظيم أو نظام اجتماعي أو اقتصادي لا يضع المعرفة لأجل الحب والوجود الشامل غاية قصوى لها عبارة عن قوى ظلامية تعمل لأجل المزيد من الاحتقان والفوضى والكراهية وضخ الحروب التي تمت للجهالة والتخلف والتعصب الذي يشوه قيم الجمال والخير والحق..
فتوافد الصراعات عبر التاريخ أبعد الانسان عن خصائصه الطبيعية التي هي ركائز أولية لبقاء الانسان كائناً حراً اجتماعياً ومتفاعلاً معرفياً ، وإن تمتع الانسان بكافه حقوقه الطبيعية وممارسة واجباته هو من خصائص ممارسة المعرفة والحب والاقتراب من الحقيقة المعرفية المتمثلة في وحدة الوجود
إن الثورة الحقيقية كامنة في ممارسة الحب الطبيعي الأسمى للوجود، والعناية به ، و الايمان الحقيقي بمبدأ التعايش السلمي بين الشعوب فالقتل هو قتل للانسانية وبتر لفضائلها وإحجاف بمنجزاتها، والاستبداد انكارٌ للعيش الرغيد وتواطؤ مع الكارثة في انتهاك الجمال والسحر النابعين عن قيمة الكرامة، التي هي مبعث إخلاص الانسان لنفسه والآخر وللوجود برمته، والإجرام هو جهالة عمياء وآفة كبرى تقف اليوم في وجه الباحث عن الارتقاء الفكري النفسي الاخلاقي ، من هنا كان الوجود والحب وكانت المعرفة..
ومن طليعة مهام المعرفيين هو أن يكونوا حماية لكل من افتقد للطمانينة العالمية والشعور بالأصالة التي تكمن في الحب الآزلي الجديد للحياة والأرض والجماعة التي يرتبط بها الموجود فطرياً ،والتلاحم بين الجماعات ضرورة حيوية للارتقاء بالجمال , والمعرفة تعمل على توحيد الانسانية لتتمتع بخصائصها المتعددة في ظل الحياة..
Biecibîne ·