من المعضلات الجسام التي باتت تضرب ضربا سرطانيا في بدن الكيان الفني المصري؛ تلك المعضلة الخاصة بمسألة الذاكرة التاريخية، و هي معضلة مركبة تنطوي على أكثر من وجه و على أكثر من علة و على أكثر من إرهاصة بنتائج كارثية لو لم يتم تداركها على نحو ملائم يتوخى مقتضيات البحث العلمي التاريخي و يستهدف رأب الصدع الخطير .
فمن الثابت أن هناك أبعادا متعددة من جوانب تاريخ الفن المصري الحديث لم تستوف حظها بعد من الاستقصاء و الدراسة بغية البت في شأنها، و أن هناك عديدا من فناني الجيل المصري الأول لم يستوفوا حظهم من المتابعة و النقد و تسجيل الإنتاج، الأمر الذي أدى إلى إلقاء ظلال كثيفة على زوايا هامة و مفصلية من منعطفات بداية القرن السابق، فباتت سراديب مهجورة تسيطر عليها التخمينات الراجفة و تهيمن عليها الأحكام المعممة .
و قد تواطأت عدة أسباب على إفراز مثل هذه العلة؛ على رأسها انعدام الكيان النقدي المتخصص في فترة التكوين المشار إليها في مطلع القرن السابق، مما أدى إلى اقتصار فعل النقد بمعناه الدقيق على نفر من النقاد الغربيين و المتمصرين و من لف لفهم من الكتاب المصريين المرتمين في أحضان النخبة الأرستقراطية، الذين كانوا يحتكرون منابر الكتابة الصحفية المعنية بتتبع الحركة الوليدة، فضلا عن احتكارهم أحيانا – أو مشاركتهم في احتكار – قنوات تنظيم العروض و الفعاليات بمفهوم هذه الفترة. فلا غرابة إذا ما أتى الناتج النقدي – مع كثير من التساهل في إطلاق لفظة (نقدي) عليه – محتفيا بإنتاج الفنانين الأجانب المقيمين بمصر و مقلديهم و صبيانهم من المصريين، مغفلا على الجانب الآخر لكثير من أفراد الرعيل الأول الذين اتجهت همتهم إلى استثمار ما تعلموه من تقاليد الأكاديمية في إبداع فن يدور في فلك الخصوصية المصرية و ينبش خلف سمات التميز الكامنة في طبقات الموروث الحضاري .
و مما ساعد على التمكين لتلك الأزمة على نحو أعمق؛ التفاف الذائقة الوطنية في تلك الفترة حول قامات مصرية لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة عددا، على رأسهم "مختار" و "محمود سعيد" لأسباب عدة أتى على رأسها اشتباك أعمالهما – خاصة الأول – مع السياق الوطني المشتعل خلال فترة ثورة 1919 و تماهيه مع شخصية الزعيم "سعد زغلول"، الأمر الذي كرس لمفهوم (زعماء الفن) في مقابل (زعماء السياسة) في إهالة لمزيد من ركام النسيان على من عداهم من أفراد الجيل الناهض في تلك الفترة ممن لم يقيض لهم الارتفاع إلى سطح الحدث السياسي أو الانتماء إلى طبقة نخبوية تقيض لهم ترف الاختيار و الرفض و التقلب بين بوهيمية العيش و أرستقراطية الثقافة و ارتداء المسوح الشعبية مع ضمان رغد العيش، مثلما كان الحال لدى "ناجي" و "محمود سعيد" . و هو ما أدى إلى حتمية تراجيدية تمثلت في خطين أساسيين لا مهرب منهما لأبناء الظل من مغبوني الحظ الفني للرعيل الأول: الخط الأول أتى في ضرورة الانصراف عن الشأن الفني برمته و السعي خلف لقمة العيش و احتراف مهن لا علاقة لها بما سبق و أن خططوه لمستقبلهم الفني في فترة زهوة الأحلام. بينما تمثل الخط الثاني في تشبث شاعري أفلاطوني بالعشق الأول و الأخير، و متابعة الإنتاج في صمت دونما أمل في الانتماء لدائرة الضوء مع الاكتفاء بمتعة التجربة الفنية لذاتها لا لمكتسباتها، و البحث عن مصادر للدخل مشتقة من إمكانية توظيف المهارة الفنية لمقتضيات السوق التجارية.
و إلى ذلك الصنف من أصحاب الخط الثاني انتمى الفنان الراحل "زكي مرسي عبد الرحمن" (1911 – 1985) (شكل رقم 1) الذي ولد بحي الأزهر في بداية العقد الأول من القرن السابق.
و لنا أن نتخيل ما يمكن أن يطبعه الزخم الروحي و المناخ الفني الإسلامي لهذا الحي العريق في مطلع القرن المذكور على موهبة فطرية قررت أن تتلمس طريقها إلى دراسة الفن و احترافه في مرحلة تاريخية تميزت بالنظر إلى الفن نظرة التوجس و الارتياب، و بالرغم من

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
ذلك فقد بدأ "زكي" تحديه الخاص بأن التحق في سنة 1926 أي وهو في عمر الخامسة عشر بإحدى مدارس الرسم الخاصة؛ تلك التي كانت تديرها الجالية الإيطالية و التي اشتهرت باسم "تيفورنو"؛ حيث استغرق عامين كاملين في دراسة فن التصوير طبقا لقواعد الأكاديمية الغربية، مما كان له أبلغ الأثر على صقل أدواته و تميزه على نحو ملحوظ حينما انتقل إلى دراسته النظامية بعد قرابة العامين بمدرسة الفنون الجميلة و تحديدا في عام 1928.
غير أن البداية الحقيقية لم تكد تتضح معالمها للفنان "زكي مرسي" إلا حين اتجه بمبادرة شخصية منه للمرة الثانية لدراسة تقنيات فن الحفر و الطباعة على يد الفنان الإيطالي "كونشيولي" بمعهد "ليوناردو دافنشي" في عام 1931 أي بعد مرور ثلاث سنوات على التحاقه بمدرسة الفنون و في سن العشرين؛ مما يفصح عن تركيبة شخصية مبادرة طموحة لا تقنع بالمعتاد و المتاح من مصادر المعرفة الفنية و تسعى دوما للاستزادة بنهم من أرصدة الأسرار لدى ذخائر المعلمين المحترفين على اختلاف مناهجهم و طرائقهم في التدريس.
و كان لابد لهذا التنوع التقني و المنهجي أن ينعكس على أعمال الفنان؛ و التي أتت على نحو من الثراء و التنوع قل أن يتوافر لدى نظراءه من الفنانين، سواء من حيث تعدد الموضوعات التي تناولها بالمعالجة و الدراسة، أو المجالات الفنية التي اقتحمها تصويرا و رسما و حفرا، أو التقنيات التي خاض غمارها تجريبا و بحثا، فضلا عن غزارة في الإنتاج جعلت من الصعوبة بمكان إجراء حصر دقيق لمجموع أعماله التي أنتجها على مدار خمسين عاما هي فترة عمره الفني، ترك خلالها أكثر من مئة و خمسين أفيشا سينمائيا منفذة جميعها بتقنية الطباعة المسطحة بواسطة قوالب الحجر (الليثوغراف) ينتمي معظمها لأواخر عقد الأربعينيات و حتى منتصف عقد الستينيات من القرن المنصرم، و عدد من الأعمال الفنية المحفوظة بالمتحف الزراعي بالقاهرة بالمشاركة مع آخرين، فضلا عن عدد ضخم من أعمال طباعة الشاشة الحريرية التي عالج بها موضوعات مستلهمة من التاريخ المصري القديم، ناهيك عن مئات من الأعمال و الدراسات و المشروعات غير المكتملة في مجالات التصوير الزيتي و الرسم و الحفر التي ظل مخلصا لها حتى اعتزاله القسري عام 1980 بتأثير ضعف الحالة الصحية التي أعقبتها وفاته في عام 1985.
و الصفة المميزة للفنان "زكي مرسي" تتمثل في فكرة (الاحتراف المتمكن) بالمفهوم المصري الذي تدل عليه لفظة (الشطارة)؛ و يمكن اعتباره طبقا لهذا المفهوم (أسطى) من الأسطوات الذين لا تنفصل لديهم خبرة المتعة الجمالية بالعمل الفني عن مهارة الأداء و شمولية الإحاطة بأسرار الصنعة الفنية، و هو في ذلك ابن شرعي بكل المقاييس لذلك الجيل الغابر من أسطوات الفن المصريين الذين سبق للسلطان "سليم" اقتيادهم للأستانة لاستغلالهم في توشيتها بتلك الحلة الباهرة من الرونق الفني القائم على تقاليد عريقة من أسرار الأداء و شطارة الحرفة المصرية.
و حين نتناول بعض أعماله بالتأمل لا نلبث أن يغمرنا ذلك الدفق الفوري من الإعجاب و الدهشة إزاء ذلك التمكن الأصيل من أصول الأداء و الفهم الراسخ لأجرومية التكوين الفني و الحبكة المهارية التي شرعها النهج الأكاديمي، مضافا إليه ذلك الإخلاص العميق للهوية المصرية و الصدور عن إحساس جارف بخصوصية الميراث الحضاري؛ و هو ما نلمسه بوضوح في أحد أعماله المنفذة بتقنية الحفر بالأزميل على القالب المعدني – و هي واحدة من أصعب و أعقد تقنيات الحفر و الطباعة، لما تتطلبه من مهارة شديدة في التلخيص و الإيهام و طرح القيم الظلية في مساحات متباينة بالاعتماد على الخط فقط، فضلا عما يكتنفها من مشقة الإرهاق خلال حفر المعدن يدويا – حيث أتت معالجته للموضوع الشاعري المستمد من الحياة الدينية بمصر القديمة؛ و ذلك حين تتولى إحدى الغيد الحسان للمعبد مهمة إطعام و رعاية سرب كامل من أسرار الطائر المقدس "إيبس"، ذلك الطائر الذي عد بمثابة أحد التحققات الشكلية للإله "تحوت" رب المعرفة و السحر و كاتم أسرار الإله "رع" . و تأمل العمل يفصح عن فهم شامل للتداعيات المركبة لهذا المشهد؛ فالإضاءة الغسقية المغبشة بداخل بهو الأعمدة تطرح جوا من الرهبة التي تؤكدها نفثات البخور و وشوشات النور الرفافة في تضاعيف المشهد و التي تتوجها نصاعة الغلالة الشفيفة المحيطة بجذع حسناء "تحوت". و من نافلة القول في هذا الصدد أن نعرج على مسألة المهارة الشديدة التي تفصح عن نفسها في قوة الرسم و التمكن من تشريح الجسد الآدمي، فضلا عن دقة تسجيل التنويعات المختلفة للطائر المصري المتفرد (شكل رقم2).

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
و في تناوله لجانب من الحياة اليومية للمرأة المصرية يتبدى ذلك الجانب من حرفية التكوين الفني؛ و ذلك حين يتم الإيهام بالبعد الزمني لمشهد ملء الجرار بالماء في حركة تتابعية هرمية تحددها مساحات الإضاءة مبتدأة بالخط المنحني لغطاء الرأس لمالئة الجرة، صعودا نحو الجرة الممتلئة على رأس زميلتها المنتصبة، مرورا بالإضاءة التي تكتنف الرضيع الخجول و هبوطا و انتهاء بالجانب المضيء من الجرة التي يجري ملؤها، في حركة دورانية متصلة تضمن تحقيق الديناميكية في مقابل الأوضاع السكونية الثابتة التي تتخذها شخوص الحدث (شكل رقم 3).
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
و تتجلى المهارة التصويرية في فن البورتريه لدى الفنان من خلال تأمل أحد أعماله الذي يمثل – من وجهة نظري – "الجوكندة" الخاصة ب"زكي مرسي"؛ و هو ذلك العمل الذي تطالعنا من خلاله إحدى جميلات الريف المصري في فترة بكارته المهدرة، تحمل فوق رأسها ذلك البلاص العتيد المائل الذي يعيد تأكيد الميل غير الملحوظ لكتفها الشاب . و مع غض النظر عن الملاحة الفطرية و الرواء اللذين يميزان هذا الوجه المصري الصريح تأتي ضرورة الالتفات لوضع الفنان للموديل في منطقة (القاطع الذهبي)؛ تلك النسبة الهندسية الموروثة عبر تقاليد فنية و حضارية موغلة في القدم، و هي التي عدت من بين النسب الجمالية التي يضمن توزيع العناصر طبقا لها تحقيق إيقاع جمالي حتمي لبنية العمل الفني. كما تأتي ملحوظة تساوي خط الأرضية لمجموعة الفلاحين و النورج و الأبقار في الخلفية مع خط الكتف الأيسر للفلاحة، معيدا للأذهان ما سبق و أن حققه "ليوناردو دافنشي" بلوحة "الموناليزا" من إيهام بالتوازن بين الخلفية و الموديل؛ و ذلك حين تعمد "دافنشي" رفع خط الأفق للخلفية بأحد جوانب اللوحة إلى مستو أعلى من الجانب الآخر حتى يعادل تفاوت ارتفاع الكتفين لدى "الجيوكندة".
هكذا كان "زكي مرسي" و هكذا كانت أعماله، و هكذا كان كلاهما – الفنان و الأعمال – نموذجا مثاليا لعشرات الأسماء و القيم المهدرة في تاريخ حركتنا الفنية المصرية التي لما تكد تتم المئوية الأولى لها بعد.
هكذا حفل تاريخ الحركة بعشرات من المنسيين و المهمشين و مهضومي الحق، عمدا و سهوا، و كلاهما – العمد و السهو – حجري الرحى لمصائب الحركة الفنية المصرية.
و سواء أتت جهود كاتب هذه السطور بنتيجة أو لم تأت – و هو الأقرب للظن – في التعريف بهؤلاء و كشف الحجب عن مواطن إبداعهم و المطالبة بحقوقهم الأدبية و التاريخية و إعادة الحق إلى نصابه، فيكفيني شرفا أن أنضم إلى ركب من آلوا على أنفسهم أن يصدحوا بأصواتهم صراخا في برية الفن، علهم يصادفون من يسمع و من يعي و من يبادر و لو بالقليل في إنقاذ تراث مهدر و ذاكرة تضيع هباء بالإهمال و التغافل.
و لكي تكتمل حلقة السخرية المريرة و الكوميديا السوداء لمسيرة الذاكرة الفنية المفقودة في الواقع التشكيلي المصري، فإنكم حين تقرؤون هذه السطور يكون تراث "زكي مرسي" بسبيله للاندثار؛ حيث تتعرض أصول أعماله الخاصة بالشاشة الحريرية بأكملها للضياع – و هي تعد بالعشرات – نتيجة لعدم وجود مكان ملائم لاحتوائها بعد أن يؤول مخزنها الحالي إلى مالك العقار في ختام نزاع بينه و بين ورثة الفنان.
نداء لمن يهمه الأمر: ساهموا في رتق ثقوب الذاكرة الفنية المصرية، بادروا إلى استنقاذ جانب من تاريخها المهدر. و إلا فلن يكون كل ما نمارسه باسم الفن و باسم النقد و باسم الإبداع إلا زيفا و تلفيقا و خداعا. و حينئذ لن يأمن أي منا أن تدور الدوائر و تنقلب عجلة الحظ و يطاله ضعف الذاكرة الفنية .