الجرف الإسرائيلي، تعزيز للفشل !
د. عادل محمد عايش الأسطل
ليلةٍ حرب صاخبة غطّت خلالها الآلة الصهيونية العسكرية بالصواريخ والقنابل والقذائف الجوية والبحرية والبرية ومن غامض علمه أيضاً، كل ملليمتر تقريباً من كيلومترات القطاع المعدودة، والتي تضيق بسكانه حتى في أيام الله وساعات الأمان، حيث كانت تُرسل تلك الصواريخ بحممها النارية وأصواتها الصادمة والمفزعة، تباعاً إلى المنازل الآهلة والمساجد العامرة والبنوك ودور الرعاية والجمعيات والمؤسسات الأخرى، وسجّلت الطائشة منها أنها مرّت من هنا، وعكست كلّها حالة من الغضب واليأس وحتى الانقلاب على مفردات السلام التي وإلى الآن لا زلنا نتمسك بها من المبادرة العربية إلى من ينادي بضرورة تجديد المفاوضات.
كنت جُلت بالنظر على آراء وتكهنات لِساسة وخبراء وعسكريين إسرائيليين حول سير الحملة العدوانية الإسرائيليّة ضد المقاومة داخل القطاع، والتي يسمونها (الجرف الصامد)، وكانوا كما اصطبغوا كالعادة، من مؤيد لها، ومن هو معارض لأجزاءٍ منها ومن هو ما بين بين، على أن جميعهم لا يرون أن تلك الحملة ستفي بأهدافها، وبأنها تغني عن الحل السياسي، وكان ذلك بالطبع نتيجة للتجارب الماضية والمشابهة، التي خبروها واطّلعوا على تفاصيلها، وبناءً على انطباعاتهم لما يجري على الأرض منذ بدء العدوان، وسواء بالنسبة لحجم الدمار الذي لحق بالسكان من قتلٍ وسفك دماء أو بتدمير البنية التحتية من غير ضرورة، قد يترتب عليها من انتقادات ومسائلات دولية محتملة، سيما وأن إسرائيل تقوم بتطوير حملتها بقصف أهداف مدنيّة فقط، لمجرّد أنها تابعة لنشطاء في المقاومة سواء في حماس أو الجهاد الاسلامي أو فصائل أخرى. برغم دراستها وحسب مبادىء القانون الدولي، بأنها لا تعتبر أهدافاً عسكرية، وقصفها يشكل تعدياً وتجاوزاً على القانون، حتى وإن كانت لمقاتلين. وكانت دخلت إسرائيل في جدال في أعقاب عدوانها الرصاص المصبوب أواخر 2008، والتي في أثناءها قتل الإسرائيليون المئات من المدنيين الفلسطينيين الأبرياء عمداً، وهدمت منازلهم هَوَجاً وخَرَقاً، وكابدت حينها ودفعت ثمناً دولياً باهظاً، علاوةً لما يُصيب إسرائيل من مصائب مركزية وجانبية مختلفة، جراء وجود الخطر الذي تحدثه الصواريخ الآتية من القطاع التي تجعل الحال الإسرائيلي متعطّلاً بجملته.
ويزعم بعضهم وخاصةً من قالوا من قبل، بأن حركة حماس تحافظ على التهدئة باعتبارها سلطة ثانية، من أنها الآن هي التي فرضت المواجهة على إسرائيل خلافاً لرغبتها، ولذلك هي التي وضعت نفسها تحت تلقّي إلى حد الآن من الضربات الموجعة، ما تفي بالغرض، وهو خلق الردع المطلوب في الأثناء وفي المستقبل أيضاً.
ليس صحيحاً ما سبق، لكن ما هو صحيح هو أن قادة إسرائيل وجدوا مناسبة جيّدة في اعتقادها بأنها تسمح لها بغسل هزائمها السابقة، ومن ناحيةٍ أخرى عرقلة مساعي حماس من تعظيم قدراتها السياسية وبشكلٍ أهم العسكرية باعتبارها أفادت من التهدئة أولاً ومن اتفاق المصالحة من حركة فتح ثانياً، ولهذا بدأت بالحرب.
صحيح أيضاً، أن إسرائيل تتمتع بتفوقات عسكرية مختلفة ولديها أضواء خضراء مشتعلة من كل جانب وتحوز على الدعم الدولي الأوسع، في شأن عدوانها ضد حركات المقاومة، باعتبارها عبء سياسي وأمني على المنطقة، وإرهابية لدى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، حيث أنها أقدمت وبقوة أكبر بآلاف الأضعاف على صب متفجراتها على عموم القطاع، من الصواريخ التي تطلقها حماس وبقية الفصائل مجتمعة باتجاه إسرائيل. حيث أن جملة المتفجرات التي أسقطتها إسرائيل خلال الأربعة الأيام الأولى فاقت بمئات المرات من تلك التي أُسقطت خلال العدوان الفائت (عمود السحاب ) والذي استمر على مدار أكثر من ثمانية أيامٍ وأحدثت مصائب قاسية، ولم تكن متوقعة لدى السكان على الأقل. وهناك غربيون تحدثوا عن أن إسرائيل في عدوانها بهذه القسوة، فإنها تبدي تغافلاً شديداً عن أخلاقيات الحرب تماماً وبما لا يدع مجالاً للشك، بأنها لا تراعي القوانين الدولية ولا المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وبما لا يتناسب مع القدرة القتالية الضعيفة لدى حركات المقاومة ككل.
وذلك صحيح، سيما وأن المقاومة بشكلٍ عام، ومنذ تغيير النظام في مصر، بقيت دون دعم مصري وخاصةً حركة حماس، التي كانت في أوضاع مريحة إلى درجة متقدمة إبان عهد حكم الإخوان المسلمين، وليس هذا وحسب، بل وجدت نفسها عدواً للحكم في القاهرة الذي يرى فيها تهديداً مركزياً لها باعتبارها امتدادا للإخوان. وضمن هذه البيئة فإن ما لدى حركة حماس من عتاد عسكري، هو فقط والذي تطلق عليه إسرائيل بأنه من المنتوجات المحلية، لِعلم أجهزتها الأمنية والمخابراتية ومنذ تجفيف الطرق المعتادة لجلب السلاح، لم تكن هناك أسلحة غريبة أو مصدرها خارجي، وأن كل صاروخ أو قذيفة أو حتى رصاصة يتم إطلاقها، تعتبر من – اللحم الحي- المخزن القتالي، الذي تم جمعه بصعوبة وليس من اليسير تعويضه بسهولة، في ضوء الحصار الخانق وتغليق وهدم الأنفاق على طول محور فيلادلفي على طول الحدود مع محافظة رفح، التي أمعن الجيش المصري في تقويضها وفرض سيطرته على الأرض، وقيامه بإحباط أيّة وسائل أخرى لإدخال عتاد، وهي أمور لابد ستنعكس ربما بشدة على قدرات التسليح والتمويل ليس لحماس وحدها وإنما للحركات الأخرى العاملة.
بعد الاستعراض الفائت، يجدر بنا بعد نحو خمسة أيام من العدوان، من إجراء تقويم للوضع الميداني، وفحص فيما إذا تحققت أهداف إسرائيلية أو إنجازات للمقاومة الفلسطينية. الرواية الإسرائيلية تقول بأنها حملتها العدوانية أنجزت الكثير، سيما وأن جهودها القتالية تعمل بكفاءة ومتجددة في نفس الوقت، وأهمها القضاء على أكثر من 500 منصة لإطلاق صواريخ على الأقل واعتبارها أن مخزونات الصواريخ لدى المقاومة باتت قليلة أو مُعطلة، وأن شبكة القبة الحديدية أثبتت جدارتها في صدّ أكثرها وتفجيرها في الأفق، وأن لا خشية تذكر بشأن تهديد حقيقي لإسرائيل من الآن فصاعداً، وأن الهدوء سيأتي خلال أيامٍ قليلة. كما يمكن إضافة القبولات التي حازت عليها من الأطراف الأخرى بشأن مباركة ذلك العدوان باعتبارها من أفضل الإنجازات وأكثرها قيمةً للمستقبل الإسرائيلي بشكلٍ عام.
وبغض النظر عن الرواية المذكورة، لافتقارها إلى أيّة صِحّة، وغناها بعلامات الفشل، سيما وأن الصواريخ المتجهة إلى إسرائيل لم تنقطع وهي في زيادة مطردة، وبإقرار عسكريون إسرائيليون بأن لا حل لها بالمطلق، فإنه لا يمكننا ومنذ افتتاح العدوان، سوى رؤية الدماء والأشلاء والتخريب والتدمير، وكل ما من شأنه الدلالة على غير ما تقول به إسرائيل وتزعمه، التي وجدت عزاؤها في مقابل فشلها في وقف تدفق الصواريخ، وبشأن من لا تجد من تقاتله، في تلك الأعمال الطائشة، باعتبارها تؤدّي الغرض، مستغلّة حالة الضعف التي تقع في مركزها حركة حماس، على أمل أن تتخلّى بغير إرادة منها عن الإمساك بقرار أو عن استطاعتها الاحتفاظ بمكتسبٍ ما.
وبالبناء على ما تقدم في السياق، فإن أي حديث في هذا الاتجاه، سيكون أيضاً بمثابة تعزيز للفشل، حيث لا يبدو أنه سيُغير شيئاً من واقع أن تميل الحركة إلى التسليم بمحتوياته، ليس بسبب حملة عدوانية واحدة أو بعد عدة حروب إسرائيلية شاملة، وفي ظل استبعادها تماماً في ذات الوقت من أن ينال منها أحد، لا إسرائيل ولا أحد من الجيران ولا على المستوى المحلي أيضاً، إذ ليس هناك مجال لقوّة ما، في استطاعتها النيل منها أو إرغامها على الركوع والتخلي عن المبادئ والثوابت الخاصة باسترداد الأرض وإجلاء المحتل، ليس تكبّراً وتجبراً – كما تقول - وإنما لسعيها باتجاه أهداف بائنة، ترتكز إلى حقوق راسخة.
خانيونس/فلسطين
12/7/2014











.