الإنسجام
كلمة السّرّ للحياة الفاضلة بيننا

بقلم: حسين أحمد سليم

التّباين في الرأي بيننا حول موضوع معيّن, أمر طبيعيّ, و الإختلاف في الموقف أزاء وضع ما, حالة عاديّة بيننا, و التّناقض في التّحليل أو التّفسير لنتاجات معيّنة, شيء مُسلّم به... و كلّ هذه الحالات و ما شابهها مهما تكاثفت, تُعتبر ظاهرة صحّة في تلازم مسارات حياتنا معًا... لأنّ الإختلاف و التّباين و التّناقض أمور طبيعيّة جدّا, لا بل ضروريّة, لأنّها جميعها ما هي إلاّ حوافذ مهمّة و دوافع لازمة, لتنشيط التّفكّر المُعقلن و الإجتهاد المُتّزن الإستنباط, و تطوير شرائح الوعي الباطني و صقل ثنايا العرفان الذّاتي, و إيقاظ الحدس الإنسانس من هدأته, و إنعتاق المُقدّرات من عقالها و تحرير القوى السّاكنة من سلاسلها...
هذه الحالات هي لعمري من أهمّ الرّياضات التّفعيليّة المستدامة التّنمية, نفسيّا و فكريّا و روحيّا و حتّى جسديّا و قلبيّا و سياحة لدمائنا في عروقنا, ما يحملنا معًا لبذل و تضافر الجهود المباركة, لإكتشاف رموز كلمة السّرّ الّتي نطمح سويّا لكشف النّقاب عنها في مساراتنا اليوميّة و علاقاتنا القدريّة... فنتعارف في الله و نتآلف بالمودّة و نتعاون و نتماذج بالرّحمة, و نختبر بعضنا بعضًا بقداسة الحبّ و طهارة العشق, و نستفيد من تجاربنا و نتكامل فيما بيننا بالإنسجام الأكمل, لتحقيق الإتّفاق الفعلي و العملي بيننا, وفق مستويات إجراءات و تطبيقات و مسارات الرّؤى الواضحة, المجلوّة لبصيرتنا الوجدانيّةالمُتفكّرة قبل بصرنا, و بعيدا عن سلوك متاهات الضّياعِ في ضبابيات نفاق التّوافق الآني و الإفتراضي...
و هكذا نستطيع ريادة حقيقة واقع الإتّفاق الفعلي و العملي الجليّ و الواضع و الشّفيف, وهو ما لا يتحقّق إلاّ بالإنسجام الأفعل و الأكمل, و بتحقيق حركة فعل الإنسجام بيننا, نكون قد ملكنا عناصر كلمة السّرّ و مصطلحاتها و ترميزاتها و الّتي هي بمثابة المفتاح السّحري, لولوج ثنايا و مناحي العيش الأفضل و الأسمة و الأرقى, بوعد صادق و عهد واعد و قسم عظيم و مسؤوليّة تكليفيّة, لا تشريفيّة, للتّنعّم عيشًا رغيدًا هادفًا و المساهمة في بناء و تنمية صروح الإستمرار في ظلال جمهوريّة الحياة الفاضلة الّتي شاءها الله لنا حكمة و عدالة و رحمة بنا...
و تحقيق الإنسجام الّذي نرمي إلى الوصول إليه و توكيده بيننا في مسارات حياتنا معًا, و بالمنظور الفلسفي النّفسي و الإستنتاجي التّحليلي و الإستقرائي, والّذي تتراءى سيّالات طوالعه لتفكّري في مختبرات عقلي المُقلبن و معالجات وجداني المضمّخة بالتّعقّل و الحكمة و الوعي و العرفان, بحيث تبدأ أطياف الإنسجام تسطع بصدق النّفس مع ذاتها الإنسانيّة و طمأنينتها بالإيمان...
من هذا المنطلق, فإن إستقامت و وعت نفسها و عرفت تكليفها المسؤول إستقامت كلّ الأشياء و تجلّت نقيّة صفيّة واضحة لنا, و بدأ الإنسجام يتبرعم بقداسة الحبّ الأشمل و طهارة العشق الأوسع, و على أسس المودّة و الرّحمة الّتي أودعها الله في الأرواح الأثيريّة الشّفيفة المؤمنة,ليستضيء في نورها الصّدر فيستدفء القلب بنور الله و يُمارس صدق تشاغفه إلى جانب مهامّه التّكليفيّة الّتي وُجد لأجلها في الجسم المخلوق...
و بناءً على ما تقدّم علينا أن نُدرك أنّ الإنسجام الحقيقي الفاعل بيننا هو المُعبّر عن حقيقة ذاته, أيّ أن نعي بعضنا البعض و نحتوي وعي بعضنا البعض و نتقرّب من ذوات بعضنا البعض و أن نتشرّب من وعي بعضنا البعض و عرفان بعضنا البعض و أن نتغلغل في أعماق تفكّر بعضنا البعض...
و الإنسجام الحقيقي هذا الّذي يُروادنا و نطمح إليه فعليّا و ليس نظريّا, ما هو إلاّ مرحلة متقدّمة يبحث فيها كلّ منّا عن النّواقص الّتي يفتقدها في كيانه, و عن الصّفات و السّمات الّتي يُكمّلها فيه الآخر, بسعيٍ دؤوبٍ ليحتوي بدائل النّواقص و يستكمل حاجته لما ليس في كينونته, فيستفيد الواحد منّا بما عند الآخر من فضائل و يكتسبها, بحيث يتكامل بإكتمال نواقصه الّتي هي مستكملة في الآخر, و يكتمل الآخر بما فيه من مناقب و فضائل...
و أن نتفاعل بالإنسجام و نتكامل به بأقصى درجات الوعي و العرفان, هو أن نغوص قناعة في وعي بعضنا البعض, لإستكشاف ذات كلّ منّا بحثا عمّا ينقصه, و العمل الفعلي الشّفيف النّبيل على مساعدته لإكتساب مهارات و تقنيّات و مناقب و أخلاق و سمات الآخر بالتّلقين أو المحاكاة أو افحتكاكات الإيجابيّة, و هكذا نسير معًا جنبًا إلى جنبٍ بالقوّة نفسها و المواصفات نفسها و الإندفاع نفسه و الوعي نفسه و العرفان ذاته و الرّؤى نفسها...
الإنسجام بيننا هو تجلّيات الحبّ الأقدس في نفسينا و هو ذروة الحكمة في فعالية الحبّ بيننا, فالإنسجام الّذي نشاء لنا و نريده مُتّقد اللهب, لم و لن و لا تخبو ناره و إن كانت هادئة الجذوة, و لم و لن و لا يفترّ مع تعاقب الأيّام و مرور الأسابيع و الشّهور و السّنين, بل يقوى و يزداد قوّة و سيزداد أكثر قوّة و سيكون على قدر كبير و مُتقدّم و راقي بوعينا و عرفاننا و رقيّنا, بحيّث نستطيع تفهّم مشاكلنا بصبر و طول أناة, و هي من صفات المؤمنين, و وضع الحلول اللازمة لها لتستمر الأمور قويمة في مساراتها الصّحيحة... فالحبّ الّذي يخلو من روحيّة و فعالية الإنسجام الحقيقي بين شخصين معيّنين, ما هو إلاّ مشاعر نفس و أحاسيس جسد... فيما حقيقة الإنسجام تكمن في ذلك السّرّ الكامن في قرارة كلّ منّا و الّذي يدلّ على نفسه و هو سعي تفكّر ناضج و توكيد إرادة قويّة و ثابتة و جرأة موقف لا يتزعزع بو عي باطنيّ متنامي و عرفان ذاتيّ متفاعل...
من يُدرك حقيقة الإنسجام في وجدانه و حكمة عقله, و لا يُدركها إلاّ المؤمن الواعي العرفاني المطمئنّ النّفس, يتلمّس فعليّا بما لا يقبل الجدل أو التّردّد, أنّ روح الإنسجام تحوي في شريحتها حقيقة الحبّ بقداسة عظمى و تنبض بحقيقة العشق بطهارة كبرى تتجلّى بالنّقاء و الصّفاء... بينما لا يكفي بيننا وجود الحبّ فقط و وجود العشق فقط, لأنّ الحبّ مهما تعاظم و العشق مهما كبر يضمران و ينتهيان إذا إفتُقِد فيهما الإنسجام بين قطبيهما الّذان هما أنا و أنتِ...
و إعلمي يا حبيبتي و معشوقتي الّتي أودع الله المودّة و الرّحمة في روحينا, و توالد الحبّ و العشق في روحينا, إعلمي أنّ الإنسجام لا يتوفّر بيننا إلاّ بالوعي الشّفيف و العرفان النّقيّ و افطمئنان بالإيمان... فالإنسجام بالوعي الباطني و العرفان الذّاتي و الإيمان الإطمئناني, هو من يجعل منّا معًا كيانًا واحدًا مُوحّدًا... شرط ألاّ يتحوّل هذا الإنسجام إلى سكون و هدأة الرّتابة, لأنّ الرّتابة عدوّ لدودُ للتّطوّر في الوعي و التّنامي في العرفان...
يترقّى الحبّ بالإنسجام و يسمو العشق بالإنسجام أيضًا, لأنّ الحبّ بمفهومه الأسمى و بعده الأرقى يترفّع عن المفهوم المادّي الجسدي و التّرابي, ليعرج صعدًا بعيدًا عن الأنانيّة و عن النّزوات الجسديّة و الشّهوات الآنيّة, لا بل يترقّى الحبّ و يسمو العشق بيننا بالعلاقات الجسديّة رفعة إلى منزلة القداسة و الطّهارة في الفكر و القول و الفعل و العمل لإنّ تحقّق الحب و العشق بالإنسجام الواعي العرفاني... لأنّ الحبّ القائم على الإنسجام بيننا هو إندماج روحينا في وحدة عرفانيّة واعية, و هو إلتقاء نفسينا على درب موحّدة تؤدّي بنا معًا إلى الإنصهار في روح واحدة تنتعش بجسدين متمازجين متآنسين من أجل البذل و العطاء بقداسة و طهارة و مسؤوليّة تكليفيّة واعية و عرفانيّة متكاملة...
الحبّ ضروريّ بيننا و العشق ضروريّ بيننا و الإنسجام يُكمّل الحبّ و العشق بيننا, و الوعي يُصقل الحبّ و العشق بيننا, و التّفاصيل الدّقيقة لها فعلها الإيجابيّ في تعميق مدى الحبّ و العشق بيننا, و بالتّصرّفات الحسنة و الفضلى نتسامى معًا إنسجامًا في الحبّ و العشق... معًا نواجه المصاعب و معًا نتحدّى الضّغوطات, نُساعد بعضنا البعض في السّرّاء و الضّرّاء إنسجامً شاملاً في الحبّ و العشق... ففي كلّ منّا نقاط ضعفٍ و علينا أن نجهد في وعينا للتّخلّص منها, لأنّنا نصفان مُكمّلان لبعضنا, و كلّ منّا مرآة الآخر يرى فيها كلّ منّا الآخر على حقيقته, و علينا أن نُمعن التّفكّر بوعي و عرفان و حبّ و عشق وإيمان و إنسجام لنصل معًا إلى تحقيق عظمة الله في عظمة بدائع تكويننا من أجل الحقيقة بفعل كامل الإنسجام...