خامساً: الدعوة والجهاد قبل الاحتلال الايطالي:
تفوق عمر المختار على اقرانه بصفات عدة منها، متانة الخلق، ورجاحة العقل، وحب الدعوة، ووصل أمره الى الزعيم الثاني للحركة السنوسية محمد المهدي السنوسي فقدمه على غيره واصطحبه معه في رحلته الشهيرة من الجغبوب الى الكفرة عام 1895م وفي عام 1897م أصدر محمد المهدي قراراً بتعيين عمر المختار شيخاً لزاوية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج، وقام عمر المختار بأعباء المهمة خير قيام، فعلمّ الناس أمور دينهم، وساهم في فض النزعات بين القبائل وعمل على جمع كلمتهم وسعى في مصالحهم ، وسار في الناس سيرة حميدة، فظهر في شخصيته أخلاق الدعاة من حلم وتأني، وصبر، ورفق، وعلم ، وزهد.
ومما تجدر الاشارة إليه أن وقوع الاختيار عليه للقيام بأمور هذه الزاوية كان مقصوداً من قبل قيادة الحركة السنوسية حيث أن هذه الزاوية كانت في ارض قبيلة العبيد التي عرفت بقوة الشكيمة، وشدة المراس، فوفقه الله في سياسة هذه القبيلة ، ونجح في قيادتها بفضل الله وبما أودع الله فيه من صفات قيادية من حكمة وعلم وحلم وصبر واخلاص.
إن الفترة التي قضاها في زاوية القصور تدلنا وتشهد لنا على أعماله الجليلة ؛ كداعية رباني يدعو الى الاسلام ونشره بالفكرة والاقناع والارشاد التوجيه، فهو قمة شامخة في هذا المجال، فهو لم يدخل مجال الدعوة والارشاد إلا بعد أن تعلم من أمور دينه الكثير، فشق طريق الدعوة بزاد علمي، وثقافة متميزة، وتفوق روحي، ورجاحة عقل، وقوة حجة ورحابة صدر، وسماحة نفس لقد كان حريصاً على تعلم العلم والعمل به وتعليمه وعندما زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في تشاد، نظمت الحركة السنوسية نفسها وأعدت للجهاد عدتها، واختارت من القادة من هم أولى بهذا العمل الجليل، فكان عمر المختار من ضمنهم فقارع الاستعمار الفرنسي مع كتائب الحركة السنوسية المجاهدة في تشاد وبذل مافي وسعه حتى لفت الانظار الى حزمه وعزمه وفراسته وبعد نظره وحسن قيادته فقال عنه محمد المهدي السنوسي: (لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا).
وبقي عمر المختار في تشاد يعمل على نشر الاسلام ودعوة الناس وتربيتهم الى جانب جهاده ضد فرنسا، فحمل الكتاب الذي يهدي بيد والسيف الذي يحمي باليد الاخرى، وظهرت منه شجاعة وبطولة وبسالة نادرة في الدفاع عن ديار المسلمين، وكانت المناطق التي يتولى أمرها أمنع من عرين الاسد، ولا يخفى مافي ذلك من ادراك القيادي المسلم لواجبه تجاه دينه وعقيدته وأمته.
وعندما أصيبت الأبل التي كانت تحمل الاثقال للمجاهدين بمرض الجرب، وكان عددها لا يقل عن أربعة آلاف بعير وكانت تلك الابل هي قوام الحياة بالنسبة للمجاهدين واهتم السيد المهدي السنوسي بشأن علاجها ووقع اختياره على عمر المختار ليكون المسؤول عن هذه المهمة التي شغلت بال المجاهدين، فأمره بأن يذهب بالابل الى موقع (عين كلك) نظراً لوفرة مائه ولصلاحيته، وكان على عمر المختار مهمة اخرى وهي الاحتياط والحرص الشديد واتخاذ التدابير اللازمة للدفاع، واختار عمر المختار من المجاهدين مجموعة خيرة، وذهب لتنفيذ أمر القيادة وكان توفيق الله له عظيماً في مهمته العسيرة فنال أعجاب السيد المهدي.
وفي عام 1906م رجع عمر المختار بأمر من القيادة السنوسية الى الجبل الاخضر ليستأنف عمله في زاوية القصور، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فقد بدأت المعارك الضارية بين الحركة السنوسية والبريطانيين في منطقة البردى ومساعد والسلوم على الحدود الليبية المصرية. ولقد شهد عام 1908م أشد المعارك ضراوة وانتهت بضم السلوم الى الأراضي المصرية تحت ضغوط بريطانيا على الدولة العثمانية، وعاد الشيخ عمر المختار الى زاوية القصور وبرزت شخصيته بين زملائه مشايخ الزوايا، وبين شيوخ وأعيان القبائل، ولدى الدوائر الحكومية العثمانية، وظهرت مقدرته في مهمته الجديدة بصورة تلفت النظر، وأصبح متميزاً في حزمه في ادارة الزاوية وفي تعاونه مع زملائه الآخرين وفي معالجته للمشاكل القبلية، وفي ميدان الاصلاح العام مضرباً للامثال.
وكانت تربطه صلات شخصية مع عدد كبير من زعماء، وأعيان القبائل في برقة، وكذلك زعماء المدن، وكان زعماء البراعصة يحبون عمر المختار حباً نابعاً من قلوبهم في حين أنهم لم يكونوا من القبائل التابعة لزاويته ÷ وارتبطت علاقاته الاخوية مع شيوخ الزوايا كالسادة السنوسي الأشهب شيخ زاوية مسوس، وعمران السكوري شيخ زاوية المرج، وعبد ربه بوشناف الشيخي، والحسن الغماري شيخ زاوية دريانه.


===== يتبع ======