معركة نيكوبلس.. التحالف المقدس

شريف عبد العزيز


السلطان الصاعقة:

هو السلطان بايزيد بن السلطان مراد الأول، وقد تولى سلطنة الدولة العثمانية وهو في الثلاثين من عمره، وكان شديد الحماسة للجهاد في سبيل الله -عز وجل-، سريع الحركة، يحارب في عدة جبهات بهمة عالية وثابتة، ومن سرعة تنقله وانقضاضه في القتال لقب بالصاعقة، وكان العثمانيون منذ قيام دولتهم يعملون على تحقيق هدف أسمى، ألا وهو فتح القسطنطينية؛ لذلك فلقد كان الجهاد في سبيل الله هو الركيزة التي قامت عليها الدولة العثمانية، فهي دولة جهادية في المقام الأول، والهدف القسطنطينية، وكانت تحركات سلاطين العثمانيين في ضوء هذا الهدف.

ونظراً لهذه السياسة الجهادية فلقد عمل السلطان بايزيد الصاعقة على التفاهم مع الصرب رغم كونهم ألد أعداء الإسلام، ورغم قتلهم لأبيه مراد الأول في معركة سهل كوسوفا، إلا أنه رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، حتى يكون الصرب حاجزاً بين العثمانيين وبين مملكة المجر التي كانت تعد وقتها أقوى الممالك الصليبية، ورأس الحربة في الصراع بين الشرق والغرب، أو الإسلام والصليبية، وعين السلطان بايزيد الصاعقة الأمير اصطفان بن لازار ملكاً على الصرب حتى يضمن ولاء الصرب، واشترط عليه أن يدفع له جزيه سنوية، مع تقديم عدد من المقاتلين في حالة الحرب للقتال مع العثمانيين، ولو ضد إخوانهم نصارى أوروبا.

(فقه المصلحة من أهم ما يلزم قادة المسلمين على مر العصور حتى لا يقدموا على خطوة في غير صالح الأمة، ولا يتأخروا عن خطوة فيها نفع عظيم: مؤجل، أو معجل).

الجبهة الداخلية:

كانت الجبهة الداخلية أو الأناضول هي أول خطوات السياسة الجهادية ليزيد الصاعقة؛ إذ لابد من توحيد الصف قبل الشروع في أي عمل عظيم مثل الجهاد في سبيل الله، وكانت منطقة الأناضول منقسمة إلى عدة إمارات ودويلات صغيرة لا تستطيع الواحدة بمفردها تحقيق أي شيء، ومن هذه الإمارات إمارة منشا، وأيدين، وصاروخان، واسفنديار، والقرمان، وقد استطاع بايزيد أن يقنع بعض الإمارات بأهمية الاتحاد في وجه أعداء الإسلام، فانضموا للدولة العثمانية طوعاً، أما الباقي فقد رفضوا فكرة الاتحاد، بل أكثر من ذلك فلقد بدأ أمير القرمان الحرب ضد العثمانيين، ولكنه هزم، وفر هو وباقي الأمراء إلى مملكة تيمورلنك، وسيكون ذلك سبباً لمعركة سهل أنقرة بعد ذلك بعشر سنوات، والتي ستكون الانهيار الأول للدولة العثمانية.

التحالف الصليبي المقدس:

بعد أن وحد بايزيد الصاعقة الصف الداخلي استدار إلى الهدف الأسمى: القسطنطينية؛ فاتجه إلى أوروبا، وقام بمحاصرة القسطنطينية سنة 794هـ، وضيّق عليها بشدة، ولكن كان في رأسه هدف آخر يرمي إليه، حيث انقض فجأة وكما هي عادته على بلغاريا، ووجّه لها ضربة خاطفة، واستولى عليها بعد حرب سريعة، وقتل ملك بلغاريا سيسمان، وأصبحت بلغاريا من يومها ولاية عثمانية، وأعلن ابن سيسمان إسلامه، وانتقل للخدمة مع بايزيد الذي جعله والياً على صامسون.

كان فتح بلغاريا بمثابة الشرارة التي أطلقت مخاوف صليبي أوروبا، وأثارت أحقادهم، وأخرجت مكنونات صدورهم، وكان أشدهم تخوفاً وتوجساً هو سيجسموند ملك المجر الذي شعر بالخطر العثماني يقترب من حدود مملكته؛ فهرع إلى البابا بونيفاس التاسع، وركع على ركبتيه أمامه وقبّل يديه، وبللهما بدموعه، وطلب منه العودة لتكتل أوروبي صليبي ضد الدولة العثمانية في تحالف صليبي شامل يهدف لإزالة الوجود الإسلامي بالكلية من أوروبا.

لم يكن بابا روما بونيفاس التاسع بحاجة لتوسلات ملك المجر سيجسموند؛ لأنه هو الآخر كان قلقاً للغاية من تصاعد نجم العثمانيين، وميولهم التوسعية في أوروبا وتركيزهم على هدف استراتيجي وهو فتح القسطنطينية، لذلك لم يتوانَ بونيفاس التاسع في إطلاق صيحته الصليبية الداعية لقتال الكفار -يقصد المسلمين-، والتي أدت لتقاطر كل صليبي أوروبا من جميع أرجائها، ومن مختلف الجنسيات: (ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، واسكتلندا، وسويسرا، ولوكسمبرج، والإمارات الإيطالية)، إضافة إلى فرسان المعبد الذين خرجوا من الشام بعد انتهاء الصليبية عليها، وتمركزوا في جزيرة قبرص، فكان هذا التحالف هو الأكبر من نوعه ضد العثمانيين منذ قيامهم.

(هذا التحالف هو عين ما ينهى أعداء الإسلام المسلمين عنه، ويخوفون منه، ويعملون جاهدين على ألا تجتمع للمسلمين راية واحدة تضم تحت لوائها كل من ينطق بالشهادتين على اختلاف ألوانهم وألسنتهم؛ فهم يطبقون الولاء والبراء، ويمنعوننا عنه ويتحالفون ويتحدون في حين أن المسلمين يتفرقون ويختلفون، فلا عجب أن تذهب ريحهم، ويفشل رأيهم، ويتذيلوا الركب).

معركة نيكوبلس:

تحرّكت الحملة الصليبية الجرارة يقودها ملك المجر سيجسموند، وكان تعدادها مائة وعشرين ألف مقاتل، ما أدخل الغرور والتيه إلى قلب سيجسموند؛ فوقف مزهواً يقول: "لو انقضت السماء من عليائها؛ لأمسكناها بحرابنا"، وهذا الغرور أدى بقادة الجيش الصليبي للاختلاف مع سيجسموند؛ حيث كانوا يرون رأياً مخالفاً له، حيث كان يرى انتظار العثمانيين حتى يبدأوا الهجوم، في حين يرى باقي قادة التحالف ضرورة المبادرة بالهجوم، وغلب رأيهم رأي سيجسموند، وقرروا الهجوم، وانحدروا مع نهر الدانوب حتى وصلوا إلى مدينة نيكوبلس شمال بلغاريا في منطقة البلقان، وكانت بالمدينة حامية عثمانية، فقام الصليبيون بحصار المدينة، واشتبكوا مع حاميتها، وانتصروا عليها لفارق الإمكانيات الكبير.

لم تكن هذه التحركات والتحالفات من الجانب الصليبي لتخفى على قائد مثل بايزيد الصاعقة، الذي حشد مائة ألف مقاتل، وأظهر أن وجهته بعض الإمارات الشمالية بالأناضول، والتي كانت خارج سيطرة الدولة العثمانية، ثم انحرف بسرعة كبيرة إلى جهة الشمال الغربي حيث بلغاريا والتحديد مدينة نيكوبلس، وكعادته انقض كالصاعقة المحرقة على التحالف الصليبي، ولم يبال بالفارق بين الجيشين، ودارت رحى حرب طاحنة أذهل العثمانيون أعداءهم من هول وشدة الهجوم، ولوقع الصدمة الإسلامية فرّ كثير من الجنود الصليبين من أرض المعركة بما فيهم سيجسموند نفسه، وصحبه فى الهروب رئيس فرسان رودس، واستقلا سفينة كانت معدة لذلك على ساحل البحر الأسود.

أسفرت المعركة عن هزيمة ساحقة وثقيلة للتحالف الصليبي، ووقع الكثير من قادتهم وأمرائهم أسرى في يد المسلمين، ومن هؤلاء الكونت دي نيفر أمير لوكسمبرج، الذي أقسم لبايزيد ألا يحاربه مرة أخرى، فرد عليه بايزيد قائلاً: "إني أجيز لك ألا تحفظ هذا اليمين، وأنت في حل من الرجوع لمحاربتي؛ إذ لا شيء أحب إليّ من محاربة جميع مسيحي أوروبا والانتصار عليهم"، ثم قال كلمته الشهيرة، التي أدخلت الرعب في قلوب كل صليبي العالم بأسره: "سأفتح إيطاليا، وسأطعم حصاني هذا الشعير في مذبح القديس بطرس بروما".

(انظر إلى هذه العزة والكرامة كيف بلغت مداها في أيام الدولة العثمانية؟! التي يشوه تاريخها الآن كثير ممن ينتسبون للإسلام -اسمًا لا رسمًا- اقتداءً بأسيادهم من الغرب الذين صبوا حمم حقدهم وغيظهم على هذه الدولة العظيمة التي أدخلت الإسلام إلى أوروبا، ورفعت راية الجهاد في هذا الزمن الذي أصبح شعار كثيرين فيه: طأطئ الرأس، وقبِّل اليد، وأخفت الصوت، تحيا ذليلاً، وتموت حقيراً).

نتائج المعركة :

كانت لهذه المعركة آثار مهمة، ونتائج خطيرة على الصعيد العالمي كله؛ منها: تضاؤل مكانة مملكة المجر على مستوى أوروبا خصوصاً، وعلى العالم عموماً، وتبخر ما يحيط بها من هيبة ورهبة، بصفتها حامية الصليب بأوروبا، وفقدت الكثير من أملاكها لصالح ألمانيا وبولندا.

اتخذ بايزيد لقب سلطان الروم، وأرسل بذلك المعنى رسائل كثيرة إلى ملوك وأمراء المسلمين، وبشرهم بالنصر العظيم على الصليبين، وكان اتخاذه لهذا اللقب دليلاً على وراثته لدولة السلاجقة التليدة، وسيطرته على كل منطقة الأناضول؛ لذلك فلقد أرسل إلى الخليفة العباسي المقيم بالقاهرة يطلب منه الإقرار على هذا اللقب حتى يتسنى له بذلك أن يسبغ صفة شرعية على الدولة العثمانية، فتزداد هيبة في العالم الإسلامي.

فتح هذا النصر الطريق أمام جموع المجاهدين في سبيل الله للهجرة إلى الدولة العثمانية، وانتقل الآلاف للأناضول، وأسهمت هذه الجموع في رفع مستوى الدولة العثمانية، خاصة في عهد السلطان محمد الفاتح.

عن موقع ملتقى الخطباء

المراجع:

1. الدولة العثمانية في التاريخ الحديث.

2. تاريخ الدولة العلية.

3. عوامل نهوض وسقوط الدولة العثمانية.

4. التاريخ الإسلامي.

5. الدولة العثمانية المفترى عليها.

6. موسوعة التاريخ الإسلامي.