يا طالب الدبس من ذنب النمس!

الدكتور فيصل القاسم


صحيح أن لدى أمريكا القدرة العسكرية والسياسية والاقتصادية للمساعدة في إيجاد حلول لبعض القضايا الدولية، لكن لو نظرنا إلى تاريخ المساعي الدبلوماسية الأمريكية لوجدنا أن أمريكا، في واقع الأمر، تفضل إدارة الأزمات والصراعات لمصلحتها، لا بل تغذيها، وتصب الزيت عليها كي تزيدها اشتعالاً ولهيباً، أكثر مما تسعى لإخمادها. وبالتالي فهي تميل إلى إطالة أمد الصراعات بدل وضع حد لها. لا شك أنها أنجزت اتفاق ديتون في يوغسلافيا السابقة، لكن بعد تمزيق يوغسلافيا، بالإضافة إلى إحلال السلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية كالأردن ومصر وفلسطين خدمة لربيبتها إسرائيل فقط، لكنها لم تكمل عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لأن ذلك ليس في مصلحتها ومصلحة وكيلتها إسرائيل.
من الواضح تماماً أن أمريكا تعيش على استمرار الأزمات وتفاقمها لأغراض عسكرية واقتصادية واستراتيجية. وكلنا يتذكر كيف كان الأمريكيون يدعمون العراق وإيران في آن واحد على مدى الحرب الإيرانية العراقية الإيرانية التي استمرت أكثر من ثمان سنوات. ففي الوقت الذي كانوا يعلنون عداءهم السافر للنظام الإيراني، ويساعدون فيه نظام الرئيس صدام حسين بالسلاح والخرائط والاستخبارات لتحديد المواقع الإيرانية واستهدافها، كانوا في الآن ذاته يمدون النظام الإيراني بقيادة عدوهم المزعوم الخميني بالعتاد بطرق ملتوية. وما زالت فضيحة إيران-كونترا ماثلة في الأذهان، حيث عقدت بموجبها إدارة الرئيس الأمريكي ريغان اتفاقاً مع إيران لتزويدها بالأسلحة بسبب حاجة إيران الماسة لأنواع متطورة منها أثناء حربها مع العراق. وقد عقد جورج بوش الأب عندما كان نائباً للرئيس رونالد ريغان في ذلك الوقت، هذا الاتفاق عند اجتماعه برئيس الوزراء الإيراني أبو الحسن بني صدر في باريس. وقد حضر اللقاء أيضاً المندوب عن المخابرات الإسرائيلية الخارجية "الموساد" "آري بن ميناشيا"، الذي كان له دور رئيسي في نقل تلك الأسلحة من إسرائيل إلى إيران. وفي آب/أغسطس من عام 1985، تم إرسال 96 صاروخاً من نوع "تو" من إسرائيل إلى إيران على متن طائرة DC-8 انطلقت من إسرائيل، إضافة لدفع مبلغ مقداره 1,217,410 دولار أمريكي إلى الإيرانيين لحساب في مصرف سويسرا يعود إلى تاجر سلاح إيراني يدعى "غوربانيفار".

وفي عام 1991 اندلعت ما يسمى بالثورة الشعبانية في العراق ضد نظام الرئيس صدام حسين. وكان المنتفضون وهم فصائل شيعية عموماً يعوّلون كثيراً على الدعم الأمريكي، خاصة وأن أمريكا وقتها كانت تدعم تلك الفصائل، وتعادي النظام العراقي بقوة. لكن المنتفضين تفاجؤوا وقتها أن الطائرات الأمريكية التي كانت تقوم بحظر جوي فوق جنوب العراق وشماله أفسحت المجال للطائرات والجيش العراقي كي يسحق الانتفاضة بعد أن كادت أن تسيطر على خمس عشرة محافظة عراقية. لم تتدخل أمريكا في ذلك الحين لصالح حلفائها المزعومين. وتركت الطرفين يتقاتلان حتى انتصر النظام الذي من المفترض أن أمريكا ضده بالمطلق.

وفي سوريا يتكرر السيناريو بحذافيره. لكن المضحك أن لا أحد من الذين تتلاعب بهم أمريكا في سوريا تعلم شيئاً من التاريخ الحديث. لم يتذكر أحد أن أمريكا دعمت العراق ضد إيران، بينما كانت تزود الإيرانيين بالسلاح من تحت الطاولة. وما زال بعض المغفلين يعوّل على الدعم الأمريكي في سوريا دون أن يعلموا أن الاستراتيجية الأمريكية تقوم هنا أيضاً على إدارة الصراع ودعم كل الأطراف كي يستنزفوا بعضهم بعضاً. لاحظوا أن أمريكا وإسرائيل لم تمانعا أبداً دخول حزب الله إلى الأرض السورية بكل قوته. ولم تنزعج إسرائيل كثيراً حتى من وصوله إلى حدودها في الجولان. وحدث ولا حرج عن غض الطرف الأمريكي عن التورط الإيراني الهائل في الصراع السوري. ناهيك عن أن الأمريكيين باركوا دخول كل أنواع الفصائل الجهادية والإرهابية والمتطرفة إلى سوريا. لا عجب إذاً أن رئيس موظفي البيت الأبيض قال في مقابلة مع جريدة "وول ستريت جيرنال" بكل وقاحة إن "الوضع في سوريا مثالي جداً بالنسبة لأمريكا، فالكل يقاتل الكل هناك". وقد وصل الأمر بمسؤول استخباراتي أمريكي إلى التبجح بأنه مستعد لدعم حزب الله في سوريا الذي يردد الشعار الإيراني الشهير نفسه: "الموت لأمريكا" لمواجهة الفصائل السورية التي تقاتل النظام السوري. تصوروا أن أمريكا تحاول أقصى جهدها تقديم الدعم لحزب الله كي يتقاتل مع الجيش السوري الحر الذي تزعم أمريكا أنها تناصره. يعني باختصار شديد، لا تمانع أمريكا في دعم كل الأطراف المتصارعة على الأرض السورية، حتى لو كانوا أشد خصومها أو حلفائها نظرياً أو عملياً.

وقد لخص مسؤول إسرائيلي الموقف الأمريكي والإسرائيلي من الصراع في سوريا قائلاً: "نحن نتمنى الفوز لكل الفرقاء في سوريا".
في الختام لا يسعنا إلا أن نقول للمستنجدين بأمريكا: يا طالب الدبس من ذنب النمس!
وسلامتكم!

عن موقع أورينت نت