بورتريه با سعيد . بائع الكتب المستعملة في فاس



كان الحديث عن الوضع الثقافي . لا يخلو من تناول عنصر أصيل في المشهد الثقافي . ألا وهو بائع الكتب المستعملة الذي غالبا ما يتميز عن المكتبات بالتوفر على كتب نادرة ذات قيمة جيدة قد لا تجدها في أحدث وأكبر المكتبات . وفي جلسة ثقافية دار الحديث عن تقييم معارض الكتب المستعملة . وعن بعض مبادرات تشجيع القراءة سواء في بعض المؤسسات التعليمية أو في الحدائق العمومية أو غيرها من الفضاءات التي اختارتها شبكة القراءة بالمغرب ومختلف فروعها الإقليمية . بهدف استعادة حب القراءة أولا وعادة اقتناء الكتب – ولو كانت مستعملة – لما تحققه من رواج وتحافظ عليه من تداول الكتب بدل رقادها الطويل في الرفوف . ونحا النقاش نحو القول بأن مثل هذه المبادرات , إنما تأتي لتسد الفراغ الذي أحدثه غياب ظاهرة بائع الكتب المستعملة . الذي يسهل تناول الكتاب بأرخص الأثمان أو بالمقايضة . وحلت محله دكاكين ترويج وسائل اتصال تسهل الإبحار في عوالم لا ضوابط ولا حدود لها . وتتوفر بين أيادي الكبار والصغار . وكان كلما تعمق النقاش يتم التذكير بشخصية بعض بائعي الكتب المستعملة . مع استحضار أنها كانت مهنة منتشرة أيضا في أغلب العواصم الأوربية والعربية كباريس وروما ومدريد وبغداد والقاهرة ودمشق . و في أسواق عدة مدن مغربية كمدينة فاس منذ القديم حيث سوق ( دلالة الكتب بالمزاد في سماط العذول قرب القرويين .) إلى أن انتشرت أسواق متعددة كما هو الحال في حفرة الليدو التي أصبحت فضاء لترويج الكتب المستعملة والمجلات والبحوث الجامعية . إلى جانب أماكن أخرى كفاس الجديد وساحة بين المدون وممر سيدي طلوق . ولم يقلل النقاش من أهمية هذه الأماكن , بل كان التنويه بدورها في ازدهار الإنتاج الفكري وصيانة عدة مؤلفات من التلاشي عن طريق ترميم بعضها . واستنساخ أجزاء مبتورة من بعضها قبل بيعها مرة أخرى . ولكن المتناقشين أجمعوا على فقدان مدينة فاس ومشهدها الثقافي والتربوي والتعليمي . لمحل كان ولم يظل جزءا من تراث المدينة . بل ولم يعوضه أي بديل . حيث ترسخ في أدهان الكثير من مثقفي المدينة ومثقفي المغرب عامة وكثير من الأطباء والمهندسين والأساتذة والمقاولين والصحفيين والتجار ورجال السياسة , لما كانت تربطهم بصاحب الدكان من علاقة اقتناء أو بيع أو مقايضة كتب في جميع التخصصات وبأشهر اللغات وأرخص الأثمان . وبما أنه من الطبيعي ألا تتوفر لهذا البائع جميع العناوين التي يطلبها الرواد . فإنه يضرب لصاحب الطلب موعدا قريبا لا يتجاوز 3 أيام أو أقل , ثم يوفر له الكتاب المطلوب . وقد وجد هذا المحل قبيل استقلال المغرب وبقي 3 أو 4 عقود بعد الاستقلال , في حي شعبي بالمدينة القديمة يعرف بزقاق سيد الصافي قبالة مقهى شعبية معروفة بمقهى الحياني . ويسجل التاريخ يومها أن زواره ورواده – ولو أنهم وقوفا - كانوا أكثر عددا من رواد المقهى المجاورة , عكس ما عليه الحال اليوم في المقاهي المجاورة للمكتبات التي لازالت تقاوم الكساد والركود الثقافي . إلا إذا كانت مقهى الحياني تنقل في تلفازها مباراة في المصارعة أو مباراة في كرة القدم الوطنية ( أبيض وأسود ) . والحي المذكور يقع في نهاية الطالعة الصغرى وقبل حي زقاق الحجر . وكان صاحبه المشهور كشمس على علم . يسمى با سعيد . ذاكرة عميقة توقظ فينا الحنين إلى معانقة الكتاب وانتهال العلم من معارفه وعلى أفواه وبأقلام رجاله وبوساطة با سعيد الذي كان يساهم في ذلك بأقل تكلفة . وقد سئل يوما : لماذا لا تبيع كتبا جديدة إلى جانب بيع الكتب المستعملة . فكان رده : أن الكتب الجديدة لها أروقتها ويصعب علي منافستها أولا وثانيا أن هناك زبائن يفضلون الكتاب المستعمل لأنه يكون قد مر على أكثر من يد . وكل يد تحشيه بتحاليل أو تعاليق غالبا ما تكون زادا إضافيا من المعلومات . وهذا ما لا يتوفر في الكتاب الجديد . وهذا أيضا ما يساعد على ازدهار وتشجيع القراء في جميع مراحل الحياة . كما يساعد القارئ – ما لم يكن من هواة حفظ الكتب في الرفوف – على الالتجاء إلى المقايضة التي تمكنه من عنوان جديد بثمن بخس . وهذه المقايضة كانت تشمل الكتب المدرسية والجامعية أيضا وفي جميع المناهج وجميع التخصصات . هذا إلى جانب بعض الطرائف التي يذكر منها ( با سعيد ) . أن أحد أبناء كسوس جاء بكتاب نفيس من خزانة والده . مقايضا ببعض قيمته كتابا يحتاجه في تعليمه بالثانوي . ويأخذ الفرق نقدا . فكان له مني ما أراد . ولكني احتفظت بالكتاب دون أن أعرضه للبيع . لأني خمنت أن يأتي الأب ليسترجع كتابه متى علم بما فعل الابن . ولكن الابن هو من حظر بعد نجاحه في البكالوريا , يسأل عن الكتاب نفسه . وكم كانت فرحته لما رآه محفوظا . وبسهولة أخرجته من تحت مقعدي بحركة واحدة وبعته لابن مالكه الأصلي بعد وفاته , وأعطاني ضعف ما أخذه مني مع كثير من الشكر والفرح لأنه استرد كتابا يحفظ به ذكرى والده
ومن الطرائف أيضا أن زبونا اقتنى كتابا من با سعيد ولما حمله إلى منزله وجد في إحدى صفحاته عبارة مكتوبة بضغط قوي بقلم رصاص تدل على حسرة كاتبها , تقول : كم أحب هذا الكتاب . ولولا الحاجة لما بعته . وحث أن با سعيد يعرف زبونه حق المعرفة , لم يبع الكتاب لأي كان , بل انتظر من يقدر قيمته ويقدر صاحبه . فكان له ما أراد . فلم يمر وقت طويل حتى أعاد المشتري - وهو طبيب الآن بفاس - الكتاب إلى صاحبه بواسطة با سعيد طبعا ومن غرائب الصدف أنه هو الآخر واحد من أبناء المدينة الأطباء
ومن الطرائف التي تعتبر نكتة . أنه كان يقف بباب دكانه في أحد أيام سنة 1962 الأستاذ المصري عطية . فانتبه إلى أحد أولاد الحلال يسرق محفظة جيبه ويفر مسرعا , في الوقت الذي ظل الأستاذ يصيح : اقبضوا على السارق , اقبضوا على السارق . فخاطبه أحد المارة ( لم يقبضوا عليه بالدارجة , فأحرى أن يقبضوا عليه بالعربية الفصحى )
با سعيد كما علمنا من بعض أصدقائه المقربين , ينحدر من دوار إد واغ كنيضيف على طريق تافراوت بمنطقة سوس . ولعل مسقط رأسه كان في هذا الدوار كذلك , امتهن أول ما دخل إلى فاس مهنة بيع الخضر والفواكه . ولما لم يجد متعته فيها وهو على قدر من التعليم والمعرفة . اختار مهنة بيع الكتب المستعملة , ولم يقبل يوما بتسميها تجارة الكتب المستعملة . حتى إذا أدركته الوفاة لم يكن قد باع ما بالدكان لأحد . ولكن بعض المقربين والمهتمين . أكدوا أنهم يعرفون الرجل الذي أخذ ما تواجد بالدكان من كتب ومجلات . ولكنهم لا يعرفون ما إذا كان ذلك لملكيته الخاصة أو لمؤسسة أكاديمية التربية والتعليم بجهة فاس بولمان
وفي إطار جمع معلومات أكثر عن شخصية با سعيد . زودني كثير من المتفاعلين مع طلبي مشكورين , لأنهم رأوا أن الرجل كان يشكل جزءا من ذاكرة فاس . إلا أنه كانت تتبعه إشاعة مسيئة لسمعته . فهو كان أعزب طيلة حياته . وكان معظم الآباء يحثون أبناءهم بعدم التعامل فرادى معه بل وإن بعضهم يمنعون الأبناء من الاقتراب من دكانه إلا وهم رفقة ولي أمرهم , خوفا من أن يصبحوا ضحية شذوذه . لأنه إذا غرر بطفل اقتاده إلى منزل العزوبة , إذ كان يسكن أولا بحي الزربطانة القريب من دكانه , قبل أن ينتقل إلى قصبة النوار . وأجمع المتفاعلون ومن اتصلنا بهم على أنه في دكانه المكتبة وبغض النظر على ما قيل عنه من إشاعات . كان يجعل دكانه المعلق فضاء مضيئا للفكر مزودا للمعرفة فالكل يسأل ويبحث , والكل يجد ما يسأل أو يبحث عنه سواء من الكتب المدرسية أو الجامعية أو النفيسة . ولم يكن رواده من المثقفين وطالبي العلم فقط , بل كان يلازم دكانه أيضا عددا من فناني مدينة فاس . أمثال عبد الوهاب الدكالي والعابد زويتن لقرب دكان با سعيد من سكناهما . وإدريس واكواكو لقربه من مقر العمل أو لأنه يقع في طريق العودة إلى السكن بالنسبة لمحمد المزكلدي وعبد الحي الصقلي أو لأنه مكان لضرب المواعيد ولقاء الأصدقاء من أمثال فتح الله لمغاري والزاكي العلوي ومحمد تيمود ومسعود بريشة والجاي وآخرين من رجال المسرح والموسيقى
شهادات في حق الرجل
1 – لحسن مداس : إنها بادرة طيبة أقدم عليها الأخ العزيز السي محمد , بنبشه في الذاكرة الفاسية . أملي أن يمده كل غيور على هذا التراث الزاخر بكل معلومة تسلط الضوء على هذا المجهود الجبار 2 – محمد الدرقاوي
من منا لم يتوقف في باب دكان با سعيد يبادل كتبا بأخرى مقابل 20 سنتيما فدكانه كان مصدرا رئيسيا من مصادر عقولنا
بل يمكن القول ان من كتبه التي لا تحصى عربية وفرنسية وانجليزية واسبانية وروسية قد شكلنا العقل وبنينا معارفنا كما كان لا يغادره المغني محمد واكواك 3 – الرخيصي
واش عندك كليلة ودمنة غير مشكولة .. قصتها ، كنا نتمدرس بالزربطانة ونحن نستعد لامتحانات الشهادة الابتدائية .. أستاذ اللغة العربية المرحوم المصباحي ، طلب منا إحضارها ... ومن با سعيد اشتريناها ب50 فرنك ، غير مشكولة ، حيث خصص لنا الأستاذ شهرا لتدارسها معه : قراءة ، مناقشة الفهم ، إعراب ، صرف وتحويل ، تلخيص ، نجح القسم عن آخره .. بعضنا نظرا لحصوله عاى نقط ممتازة .. أدمج مباشرة في الأولى ثانوي يومها والباقي التحق بقسم الملاحظة بثانوية القرويين بالشراردة . ومن بين الفنانين الذي كان دائما يقف عنده يومها الفنان المزكلدي .. الدكان كان مرتفعا قليلا عن الأرض وكان إذا أراد الدخول إليه يتسلق بشريط معد لذلك مدلى من فوق
4 – أحمد الحياني
با سعيد السوسي كان يسكن عازبا ويسكن بقصبة بوجلود بمؤخرة الدرب الذي يؤدي إلى البطحاء ، كان خبيرا في هذا المجال أي كتاب طلبته منه سواء بالعربية أو الفرنيسة أو بالإنجليزية أو الإسبانيية أو بلغة أخرى فتجده متوفرا لديه إما جديدا أو مستعملا أو يحدد لك اليوم الذي تجده عنده ، أما الكتب والمجلدات المتراكمة عنده في الدكان يصعب على أي كان أن يهتدي إليها لكنه هو بسهولة يستخرجها من بين أكوام الكتب المكدسة ، أما أصدقاؤه من التجار والطلبة والفنانين وغيرهم كانوا لايغادرون باب دكانه رغم أن المقهى كانت قبالته ،وبحكم أنني كنت أسكن بنفس الحي كنت أرى عبد الوهاب الدكالي وعبد الحي الصقلي العاببد زويتن واللائحة طويلة 5 – عبد الله البوشيخي
كان طلبة كل الشعب يجدون عنده مبتغاهم باثمان زهيدة دون أن يقدروا الجهود المجانية التي كان يقدمها للعلم وطلبته. رحمه الله.
ان لم تخني داكرتي ايضا كان دكانه مرتفعا على الأرض بحوالي متر وكانت الكتب المستعملة على شكل أكوام وكان يجلس متكئا عليها خلاصة البورتريه

كانت لبا سعيد بائع الكتب المستعملة بمدينة فاس . مبادئ تتعلق بالتعامل مع المستفيدين من ( مكتبته ) نجملها في : الصبر مع تحمل وتقدير المستعجلين – الصدق والأمانة – التواضع وعدم التعالي رغم أن جلسته في الدكان عالية – سرعة البديهة – الذاكرة القوية والذاكرة التنظيمية الخاصة به أقوى – القدرة على الإحساس باحتياجات الرواد وأذواقهم – الرد المقنع والذي لا يخلو بعض الأحيان من المزحة بأساليب مكتملة واضحة – تنمية الدور الاجتماعي لدكانه المكتبة بأن جعل منه ملتقى ثقافيا بامتياز
إن دكان با سعيد باختصار صنع ذاكرة عميقة أيقظت ولا زالت توقظ فينا وفي الجيل الحاضر – لعله يمتد لأجيال المستقبل - الحنين إلى الكتاب ومعانقة الكتب والمجلات في زمن تهيمن فيه وسائل الاتصال والتواصل الحديثة والتي تصلح – متى أحسن استغلالها وتوجيه البحث فيها – لتكون مروجة للكتاب ومحفزة على القراءة حتى لا نبقى أمة افرأ التي لا تقرأ فاس . محمد التهامي بنيس