الواقعية في أدب محمود شيت خطاب
بهجت الرشيد


الأديب اللوذعي هو الذي يجعلك تعيش عالَمًا يصنعه بكلماته، وما يختبئ وراءها من تجربةٍ شعورية، يأسرك وأنت تتابع وقع حروفه، يجرك جرًّا إلى دائرة إبداعه، فتجلس قُبالته منصتًا مشدودًا.
الأديب الممتاز هو الذي يعرف جيدًا كيف يصبُّ تجربته ومكتسباته الشعورية والفكرية مشحونةً بعواطفه ووجدانه في قالب أدبي رفيع، يعرف كيف يمازج بين الشكل والمضمون، الداخل والخارج، في تناغم سلسٍ كمعزوفة سيمفونيةٍ متدفقة.
وعلى قدر ذلك التمازج يأخذ كل أديبٍ نصيبه وحظه!
وإذا كان كل أديب - حسب مذهبه ورأيه - ينسج أدبه في أسلوب معين، والأساليب تتفاوت بين المفعم بالبلاغيات والتصورات والخيالات والرمزية، وبين الذي يقترب من المباشرة والبساطة، فإن في كلا الأسلوبين - لو أجاد الأديب استخدامهما - تحقيقًا لمراد الأدب وغايته، فلا يكمن المناط دائمًا في الرمزية والخيال، بل في إجادة الأسلوب، وتخيُّر استخدام الألفاظ والتراكيب في سياقها المطلوب، فتلك هي البلاغة، وذلك هو البيان.
فكم من نصٍّ بسيطٍ ترك أثره في النفس، وكم من نصٍّ معقدٍ جافَى مواقعَ القبول في النفس!
والبساطة التي نريدها هنا لا تعني أبدًا - بل ولا مجال لتصورها في الحقل الأدبي - التضحية بالصورة الفنية على محراب المضمون، وتجاوُزَ مواصفاتِ الفن، وإلا تحوَّل النص إلى شيء آخر غير الأدب!
بل نعني بها - كما قال الجاحظ في بيانه وتبيينه -: (وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة، وغشاه من نور الحكمة على حسب نية صاحبه، وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا من الاستكراه، ومنزَّهًا عن الاختلال، مصُونًا عن التكلف - صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة...).
وما خطه الأديب محمود شيت خطاب - رحمه الله تعالى - هو من هذا القبيل الذي ذكره الجاحظ.

فها هما مجموعتاه القصصيتان الواقعيتان (عدالة السماء) و(تدابير القدر) تكشفان لنا عن قدرة هذا الأديب المائزة، في تطويع اللغة لمقصده وغايته، فمع ما تحمل تلك المجموعتان من قصصٍ يمرر من خلالها الأديب رسالته الإسلامية، فينتصر الخير على الشر، والفضيلة على الرذيلة، والحياة على الموت، والقِيَم على الانحلال، وتبقى الشجرة الطيبة وارفةً، وتُجتَثُّ الخبيثة من فوق الأرض -فقد أجاد أديبنا في صياغتها الأدبية كذلك؛ إذ جاء أسلوبه رفيعًا جزلًا، ملتزمًا بالعربية الفصيحة الواضحة، بعيدًا عن التكلف والتعقيد والتقعر، بريئًا من عَشوة التعسف، قريبَ المأخذ، بعيد المرمى، مع قوة السبك، وجودة العرض، فكان بيانه بذلك عفويًّا زاهيًا صادقًا، وسائغًا عذبًا سلِسًا، يتغلغل في الأعماق دونما إذن، ويترك انطباعًا وانفعالًا في النفس دونما تكلف، وفي ذلك يقول: (إن الكلمة الصادقة هي التي تفيد الناس؛ لأنها تؤثر فيهم، وهي التي تمكث في الأرض، ولا تذهَبُ جُفَاءً، والكلمة الصادقة إذا أراد بها كاتبها أو قائلها وجهَ الله، أثمرت مرتين، وآتَتْ أكلها حلالًا طيبًا)؛ (عدالة السماء، ص7).
وهو بتلك العفوية الصادقة، يعيدنا مرةً أخرى إلى الحديث عن الأدب الحداثي الذي هاج وماج في عالمنا العربي الإسلامي دون زمامٍ ولا خطامٍ، وهو يريد أن يجرنا إلى متاهات الفكر الغربي وثقافته وعقيدته، ويريدنا أن نكون نسخًا لا غير عن الآخرين!
ففي الوقت الذي يصرِّح فيه خطاب أن القصص التي يكتبها هي (محاولة لإحياء الضمائر الميتة لتستعيد الحياة من جديد)؛ (تدابير القدر، ص11)، نسمع من يتبنى ويصيح أن (الفن للفن - الأدب للأدب - أنا أكتب لنفسي)، في تسويغٍ صارخٍ لعدمية التواصل بين أدب الحداثة والمتلقي، وبالتالي نفي القارئ والمعنى بعيدًا وإخراجهما من معادلة العمل الفني، حيث الأدب صار عند هؤلاء يحدث نفسه كالمجانين، وصار ثرثرة فارغة، عبثًا لا طائل من ورائه، كالكوز المجخي لا يعرف معروفًا، ولا ينكِر منكَرًا!
إن الأدب من منظور خطاب هو الذي يرفع الإنسان من عوالم الطين والتراب إلى عالم السمو والرفعة، أدب الحق والخير والجمال، الأدب الذي يكون حلًّا، لا مشكلةً، وعلى حد تعبيره: (قصص تبني ولا تهدم، وتعمر ولا تخرب، وتُقِيم القلوب والعقول معًا على أسس رصينةٍ من الإيمان العميق)؛ (عدالة السماء، ص11)، ليؤكد لنا بذلك نجاح الأدب الملتزم وتفوقه، وبأن القلم الصادق النظيف قادرٌ على اختراق فضاءات الإبداع، بعيدًا عن لوثة ما تسمى بالواقعية التي أصبحت كحصان طروادة تنسلُّ من خلاله إلينا موجة ثقافةِ التعري السافر عن القيم والأخلاق!
نعم، إنه ينقُلُ إلينا قصصًا (واقعية)، ويشخص من خلالها أمراض النفوس والمجتمع، ولكنه لا يسمح لقلمه بالانجرار وراء الوصف الماجن، ولا التصوير المنحرف.
تأمَّلْه وهو يتحدث عن الخيانة الزوجية في قصة (الرصاصة العادلة) كيف سما قلمه ولبس رداء العفة والطُّهر، ولو كان كاتب هذه القصة واحدًا من أدعياء الواقعية، لحوَّل القصة إلى مسرحٍ للعُرْيِ والسفاهة والسماجة، كما يطالعنا كل يوم إعلامُنا المشوه!
هو لا يرفض الآخر ولا يُلغيه، وإنما يريد أن نختار ما ينفعنا لا ما يضرنا، أن نمرر القادم إلينا من خلال الرؤية الإسلامية؛ لئلا نتشوه ونفقد هويتنا، يقول: (ولا أقصد أن نُقلع عن ترجمة القصص الأجنبية، ولكني أقصد ألا نترجم القصص التي تناقض حياتنا الاجتماعية جنسيًّا وأخلاقيًّا وسلوكيًّا...)؛ (تدابير القدر، ص10).
سيبقى: محمود شيت خطاب، علي أحمد باكثير، نجيب الكيلاني، عماد الدين خليل، على اختلاف أساليبهم وأدواتهم، أعلامًا في أدبنا الإسلامي المعاصر ترفرف عاليًا؛ فهم رواد الكلمة الصادقة، والأدب الملتزم، الذين علمونا أن نلبَسَ الثوب الذي يَحِيكه خيَّاطنا العربي المسلم، وليس ما يَحِيكه خيَّاطٌ غريبٌ لا يعرف دِيننا ولا أعرافنا ولا أذواقنا!
أن يكون الأدب حلًّا، لا مشكلةً، كوةً للتفاؤل، وصانعًا لحياةٍ أفضلَ وأجمل.

فالأدب الإسلامي لا يحلق في خيال المثالية الطوباوية، ولا يقدم الإنسان كملاكٍ نازلٍ من السماء، مبرَّأ من كل سوء، نقي من كل شائبة، سليم من كل انحراف، ولا يُنكِر حالات الهبوط؛ فهي حقيقة واقعة، بعيدةٌ عن التزوير، وها هو القرآن العظيم ذاته، وهو يدعو للرِّفعة الدائمة، والمحاولة الدائبة للتغلُّب على الضعف، يقول مقرِّرًا حقيقة الإنسان: ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28]، ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾ [آل عمران: 14]، وغيرها الكثير من الآيات التي تصور نقائص الإنسان تصويرًا صادقًا بارعًا عميقًا، واقعيًا إلى أقصى حدود الواقعية، ولكنها تصورها على وضعها الطبيعي الحقيقي، وهي أنها نقائصُ ينبغي أن يرتفع عليها الإنسان.
وهنا مفرِق الطريق بين واقعية أدب إسلامي ملتزم، وأخرى متغرِّبة مادية، تريد أن تهبط بالإنسان إلى حمأة الطين.


...................
موقع الألوكة