وقد روي من طرق ذكرها الصولي والجريري وغير واحد أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه وأخيه الوليد، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبةً واحتراما، وهو في بزة حسنة، وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه - استنقاصا به واحتقارا لئلا يرغب فيه أهل الشام -فقال الفرزدق: - وكان حاضرا - أنا أعرفه، فقالوا: ومن هو؟ فأشار الفرزدق يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
ينمى إلى ذروة العز التي قصرت * عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته * فما يكلَّم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحها عبق * من كف أروع في عرنينه شمم
مشتقة من رسول الله نبعته * طابت عناصرها والخيم الشيم
ينجاب نور الهدى من نور غرته * كالشمس ينجاب عن إشراقها الغيم
حمال أثقال أقوام إذا فدحوا * حلو الشمائل تحلو عنده نعم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا
من جده دان فضل الأنبياء له * وفضل أمته دانت لها الأمم
عم البرية بالإحسان فانقشعت * عنها الغواية والإملاق والظلم
كلتا يديه غياث عم نفعهما * يستوكفان ولا يعروهما العدم
سهل الخليقة لا تخشى بوادره * يزينه اثنتان الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمون بغيبته * رحب الفناء أريب حين يعتزم
من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر و قربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم * ويستزاد به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم * في كل حكم ومختوم به الكلم
إن عدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت * والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحلّ الذم ساحتهم * خيم كرام وأيد بالندى هضم
لا ينقص العدم بسطا من أكفهم * سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
أي الخلائق ليست في رقابهم * لأولية هذا أوله نعم
فليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم
من يعرف الله يعرف أولية ذا * فالدين من بيت هذا ناله الأمم

قال: فغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: إنما قلت ما قلت لله عز وجل ونصرة للحق، وقياما بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء. فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك، وأقسمت عليك بالله لتقبلنها فتقبلها منه، ثم جعل يهجو هشاما وكان مما قال فيه:
تحبسني بين المدينة و التي إليها * قلوب الناس تهوي منيبها
يقلِّب رأسا لم يكن رأس سيد * وعينين حولاوين باد عيوبها

# البداية والنهاية لابن كثير الجزء التاسع #