علي بن الجهم القرشي الشاعر الذي قتلته الأعراب في طريقه لنصرة حلب

[أبو مسلم العرابلي]

علي بن الجهم القرشي الشاعر
الذي قتلته الأعراب في طريقه لنصرة حلب

قبل ما يزيد على ثلاثين سنة سألني أحد الإخوة ما قصة جواري علي بن الجهم؟
حيث يقول الشاعر العراقي مظهر النواب؛
وحبيبتي في بيت علي بن الجهم ....
ولم يكن لدي يومها أي علم عن علي بن الجهم
وبعد سنوات قرأت ديوان علي بن الجهم،
ورسالة دكتوراة لدكتور سعودي في شعر علي بن الجهم،
وزادتني معرفة حياة علي بن الجهم بغضًا أن يرتبط اسمي بالشعر
فوق بغضي السابق بسبب ما حدث للمتنبي،
فكلاهما كانت لهما نفوس أبيه وتطلعات عظيمة،
وقف الشعر حائلا بينه وبينها
فشعر المتنبي الذي اشتهر به على أنه هو الشاعر
حال بينه وبلوغ أهدافه التي كان يتطلع إليها،
وكان السبب في قتله ...
وشعر علي بن الجهم الذي عرف به على أنه شاعر
كان سببًا لابتلائه لأجل تركيعه وإذلاله،
علي بن الجهم شاعر فحل مطبوع غطت عليه شهرة أبي تمام ..
ولد في بغداد في بيت علم وأدب وغنى ووجاهة،
وكان يحضر دروس الإمام أحمد،
وعمه بدر كان المسؤول عن البريد
فلم يعش في البادية لا صغيرًا ولا كبيرًا
وكان أول شعره لما طلب أبوه من معلمه أن يحبسه لشغبه؛

يا أمتا أفديك من أم ...
أشكو إليك فظاظة الجهم
قد سرح الصبيان كلهم ...
وبقيت محسورًا بلا جرم

يتواصل تنزيل الموضوع حتى ينتهي

[أبو مسلم العرابلي]

والناس تعرف من شعر علي بن الجهم هذين البيتين الرقيقين:

عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أعدن لي الهوى القديم ولم أكن
سلوت ولكن زدن جمرًا على جمر

واشتهر له بيتان آخران غليظين قيلت في جلسات الممازحة بين الشعراء:

أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمتك دلوًا
من كبار الدلا كثير الذَّنوب

فقال الدارسون والنقاد المحللون الأفذاذ أصحاب الخواطر الجياشة:

انظروا كيف كان شعره جافيًا لما كان يعيش في البادية
وكيف صار شعره رقيقًا بعد أن استوطن مدينة بغداد.
فهلا كانوا بعمق أحمد شاكر الذي ركب شعر المتنبي في الغوص
في أعماق المتنبي في كتابه الرائع "مع المتنبي"

[أبو مسلم العرابلي]

علي الجهم مدح المتوكل وهو يرى أنه لا عار على قرشي
أن يمدح الخليفة القرشي مثله وهو يراه كفؤًا للمدح،
وهو القائل :
وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ
وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري
وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ
وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري
وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن
لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ



وقد أكرمه المتوكل بعطاءات كثيرة
وظل الواشين يوغلون صدر المتوكل عليه
حتى تغير عليه وسلبه كل ما اعطاه .. من بيوت وبساتين ...
وحتى جواريه اللواتي كان يغار عليهن فلا يظهرهن إلى ضيوفه،

ولأجل ذلك قال مظفر النواب :
وحبيبتي في بيت علي بن الجهم ...أي مصانة محفوظة.

[أبو مسلم العرابلي]

وقد فعل المتوكل فعله ذاك به حتى يذله ويخفض أنفه ... فلم يذل ..
فسجنه في سجن المطبق ..وهو بئر عميق في الأرض ...
فقال لما سجن يمدح سجنه؛
قالَت حُبِستَ فَقُلتُ لَيسَ بِضائِرٍ...
حَبسي وَأَيُّ مُهَنَّدٍ لا يُغمَدُ
أَوَما رَأَيتِ اللَيثَ يَألَفُ غيلَهُ .....
كِبراً وَأَوباشُ السِباعِ تَرَدَّدُ
وَالشَمسُ لَولا أَنَّها مَحجوبَةٌ ...
عَن ناظِرَيكِ لَما أَضاءَ الفَرقَدُ
وَالبَدرُ يُدرِكُهُ السِرارُ فَتَنجَلي ...
أَيّامُهُ وَكَأَنَّهُ مُتَجَدِّدُ
وَالغَيثُ يَحصُرُهُ الغَمامُ فَما يُرى ...
إِلّا وَرِيِّقُهُ يُراحُ وَيَرعُدُ
وَالنارُ في أَحجارِها مَخبوءَةٌ ...
لا تُصطَلى إن لَم تُثِرها الأَزنُدُ
إلى أن قال :
بَيتٌ يُجَدِّدُ لِلكَريمِ كَرامَةً ...
وَيُزارُ فيهِ وَلا يَزورُ وَيُحفَدُ
لَو لَم يَكُن في السِجنِ إِلّا أَنَّهُ ...
لا يَستَذِلُّكَ بِالحِجابِ الأَعبُدُ

وكلما أراد المتوكل إخراجه .. حرضه خصومه على إبقائه حتى يذل له؛
إِنَّ الَّذينَ سَعَوا إِلَيكَ بِباطِلٍ ...
أَعداءُ نِعمَتِكَ الَّتي لا تُجحَدُ
شَهِدوا وَغِبنا عَنهُمُ فَتَحَكَّموا..
فينا وَلَيسَ كَغائِبٍ مَن يَشهَدُ
لَو يَجمَعُ الخَصمَينِ عِندَكَ مَشهَدٌ ...
يَوماً لَبانَ لَكَ الطَريقُ الأَقصَدُ

فقال بعد أن طال عليه السجن :
إِلى اللَهِ فيما نابَنا نَرفَعُ الشَكوى ...
فَفي يَدِهِ كَشفُ الضَرورَةِ وَالبَلوى
خَرَجنا مِنَ الدُنيا وَنَحنُ مِنَ اَهلِها ...
فَلَسنا مِنَ الأَحياءِ فيها وَلا المَوتى
إِذا جاءَنا السَجّانُ يَوماً لِحاجَةٍ....
عَجِبنا وَقُلنا جاءَ هذا مِنَ الدُنيا
وَنَفرَحُ بِالرُؤيا فَجُلَّ حَديثِنا...
إِذا نَحنُ أَصبَحنا الحَديثُ عَنِ الرُؤيا
فَإِن حَسُنَت لَم تَأتِ عَجلى وَأَبطَأَت ...
وَإِن قَبُحَت لَم تَحتَبِس وَأَتَت عَجلى

[أبو مسلم العرابلي]

ثم لم ير المتوكل أشر من الطاهريين حكام مرو في إذلاله لهجوه لهم من قبل،
فأرسله إليهم،
وكان في بلدة الشاذياخ سوق يوم الاثنين،
فصنعوا محملا كبيرًا ومرتفعًا في وسط السوق،
ونصبوا علي بن الجهم عليه عاريًا على مرأى من الجميع؛

ولكن انظر إلى العزة والإباء في أشد المواقف خزيًا،
وموقف يؤلمك ما يفعل بالأحرار؛
فيصف نفسه كالسيف خرج من غمه
وكالأسد خرج من غيله، وكالبدر ليلة تمامه ...
ليتحول إذلاله ... ذلا لمن أراد إذلاله ..

لَم يَنصِبوا بِالشاذِياخِ صَبيحَةَ الإِ ....
ثنَينِ مَغموراً وَلا مَجهولا
نَصَبوا بَحَمدِ اللَهِ مِلءَ عُيونِهِم شَرَفاً ...
وَمِلءَ صُدورِهِم تَبجيلا
ما اِزدادَ إِلّا رِفعَةً بِنُكولِهِ ...
وَاِزدادَتِ الأَعداءُ عَنهُ نُكولا
هَل كانَ إِلّا اللَيثَ فارَقَ غيلَهُ ...
فَرَأَيتَهُ في مَحمَلٍ مَحمولا
لا يَأمَنِ الأَعداءُ مِن شَدّاتِهِ ...
شَدّاً يُفَصِّلُ هامَهُم تَفصيلا
ما عابَهُ أَن بُزَّ عَنهُ لِباسُهُ ...
فَالسَيفُ أَهوَلُ ما يُرى مَسلولا
إِن يُبتَذَل فَالبَدرُ لا يُزري بِهِ ...
أَن كانَ لَيلَةَ تِمِّهِ مَبذولا
أَو يَسلُبوهُ المالَ يُحزِنُ فَقدُهُ ...
ضَيفاً أَلَمَّ وَطارِقاً وَنَزيلا
أَو يَحبِسوهُ فَلَيسَ يُحبَسُ سائِرٌ ...
مِن شِعرِهِ يَدَعُ العَزيزَ ذَليلا
إِنَّ المَصايِبَ ما تَعَدَّت دينَهُ ...
نِعَمٌ وَإِن صَعُبَت عَلَيهِ قَليلا
وَاللَهُ لَيسَ بِغافِلٍ عَن أَمرِهِ ....
وَكَفى بِرَبِّكَ ناصِراً وَوَكيلا
لَن تَسلُبوهُ وَإِن سَلَبتُم كُلَّ ....
ما خَوَّلتُموهُ وَسامَةً وَقَبولا
هَل تَملِكونَ لِدينِهِ وَيَقينِهِ ....
وَجَنانِهِ وَبَيانِهِ تَبديلا
لَم تَنقُصوهُ وَقَد مَلَكتُم ظُلمَهُ ....
ما النَقصُ إِلّا أَن يَكونَ جَهولا
كادَت تَكونُ مُصيبَةً لَو أَنَّكُم ....
أَوضَحتُمُ ذَنباً عَلَيهِ جَليلا
إِن كانَ سَفَّ إِلى الدَنيئَةِ أَو رَأى ....
غَيرَ الجَميلِ مِن الأُمورِ جَميلا
لَو تَنصِفُ الأَيّامُ لَم تَعثُر بِهِ ....
إِذ كانَ مِن عَثَراتِهِنَّ مُقيلا
وَلَتَعلَمُنَّ إِذا القُلوبُ تَكَشَّفَت ...
عَنها الأَكِنَّةُ مَن أَضَلُّ سَبيلا

فما كان من الطاهريين إلا أن خجلوا من فعلهم هذا به
فأنزلوه وألبسوه وأكرموه وأطلقوا سراحه ليعود إلى بغداد.
وعاد إلى بغداد بلا مال ولا دار ولا جواري ..

[أبو مسلم العرابلي]

ويقتل المتوكل
فيرثيه بقصيدة هي أفضل رثاء كان فيه ..
متجاوزًا عن كل ما حدث له، كفعل أصحاب النفوس الكبار ...
وأن ما أصابه هو بسبب الواشين به ..
فوصفه بسحابة مرت على العراق فجادت بخيرها

وَسارِيَةٍ تَرتادُ أَرضاً تَجودُها ...
شَغَلتُ بِها عَيناً قَليلاً هُجودُها

وَأَنَّ أَقاليمَ العِراقِ فَقيرَةٌ ...
إِلَيها أَقامَت بِالعِراقِ تَجودُها
فَما بَرِحَت بَغدادُ حَتّى تَفَجَّرَت ...
بِأَودِيَةٍ ما تَستَفيقُ مُدودُها
وَحَتّى رَأَينا الطَيرَ في جَنَباتِها ...
تَكادُ أَكُفُّ الغانِياتِ تَصيدُها
وَحَتّى اِكتَسَت مِن كُلِّ نَورٍ كَأَنَّها ...
عَروسٌ زَهاها وَشيُها وَبُرودُها

إلى أن قال :
عَبيدُ أَميرِ المُؤمِنينَ قَتَلنَهُ
وَأَعظَمُ آفاتِ المُلوكِ عَبيدُها

بَني هاشِمٍ صَبراً فَكُلُّ مُصيبَةٍ
سَيَبلى عَلى طولِ الزَمانِ جِديدُها
عَزيزٌ عَلَينا أَن نَرى سَرَواتِكُم
تُفَرّى بِأَيدي الناكِثينَ جُلودُها

أَما وَالمنايا ما عَمَرنَ بِمِثلِهِ ال
قُبورَ وَما ضُمَّت عَلَيهِ لُحودُها

أَتَتنا القَوافي صارِخاتٍ لِفَقدِهِ
مُصَلَّمَةً أَرجازُها وَقَصيدُها

[أبو مسلم العرابلي]

ويأتي الخبر بهجوم الروم على حلب
ورجال الدولة وأهل الحكم منشغلون بالفتن بينهم
فيقوم تجار بغداد بتمويل جيش لنصرة حلب

ويخرج علي بن الجهم في جماعة منه لجهاد الروم
وفي الطريق إلى حلب يهجم عليهم أعراب لسلبهم
ويجرح علي بن الجهم جروحًا بليغة
وقد تجاوز الستين من عمره،
وظل طوال الليل يأن من جروحه
وما أطول الليل مع الألم ...
فقال آخر بيتين في حياته
قبل أن تفيض روحه إلى بارئها مع الفجر
نقلها البريد إلى بغداد ..

أزيد في الليل ليل ...
أم سال بالصبح سيل
ذكرت أحبتي بدجيل ...
وأين مني دجيل

فعلى شاعرنا الذي ختمت حياته بالشهادة الرحمة
لقد كان تقيًا كبير النفس وفيًا ...

وما أشبه اليوم بالبارحة

[أبو مسلم العرابلي]

هذا هو علي بن جهنم ... عرفته لما سئلت عنه
وقد قدمته لكم من غير سؤال ...
إلا صدى ما يحدث من جرائم ما في حلب والشام
بل في بقاع كثيرة على أرض الإسلام
هي الحياة ... ثعالب تقتات من أجساد الأسود