صدرت المجموعة القصصية للكاتب المغربي عمر علوي ناسنا بعنوان " خبز الله "، عن منشورات من المحيط إلى الخليج طبعة 2010، القصص موزعة على ثلاثة حروف ق / ص/ ة ، عدد القصص 59 قصة تتنفس هواءا تجريبيا مغايرا.
عدد الصفحات 100 من الحجم المتوسط تزينها لوحة للفنان الفلسطيني محمود شاهين ويقدم لها العضو المؤسس للكوليزيوم القصصي علي الوكيلي بقوله :
قصص مولاي عمر ساندويتشات لا تشبعك، تتركك جائعا، ثم ما تفتأ أن تبدأ مخيلتك في الاجترار لتتأكد أنك أخطأت الإحساس بالشبع مولاي عمر قاص كاتب احترف الكتابة زمنا طويلا لكنه قرر أن يفاجئنا دفعة واحدة بحكي قديم وأصيل ومختلف.
تنقسن المجموعة إلى قسمين، قسم القصة القصيرة في 48 نصا، وقسم القصيرة جدا في 18 نصا. القسم الأول جاء في ثلاث خانات، على رأس كل خانة حرف خاص يتضمن نصوصا معينة، جمعها يشكل كلمة "قصة" مفرقة غير مجموعة، كما وردت في مؤخرة نص "إعادة تمثيل" ص89.
في حين، لم تؤطر نصوص القصة القصيرة جدا بأي خانة أوحرف. ويمكن القول إن النصوص بأكملها تنتمي لجنس القصة، كيفما كان حجمها، وأن الكلمة التي ختم بها النص السابق؛ أقصد: ق ص ة، تنسحب على القصيرة جدا أيضا.
والمتابع للنصوص القصيرة جدا والتي جاءت كساندويتشات؛ تفتح شهية القضم والهضم، سيدرك مدى براعة الكاتب في اقتناص اللحظات الهاربة بمهارة تظهر اكتنازها، وما تختزنه من مفارقات ساخرة، مرة، وصادمة.
فعلى سبيل المثال، نجد الحوار الدائر بين الكاهن والمرأة، يبين مدى الاختلاف البين بين من يريد التطهر، ومن يسعى إلى إغلاق أبواب الرحمة؛ فالكاهن، ينطق باسم الله، ويغلق سفر المغفرة في وجه المرأة التائبة؛ إنه لا يمنح غفران الله، بل يمنح حقده الخاص على المرأة، بعامة، والمخطئة، بخاصة، ولو اطلع هذا الكاهن على بقية النصوص لأدرك مدى سخافة قوله، وسفاهة فعله. النقص خصيصة إنسانية كما الضعف، ولا كمال إلا لله، "تحول" ص94، و"الراعي" ص96، فالإنسان، كالبندول، يتأرجح بين الفضيلة والرذيلة "بندول الساعة" ص95.
والملاحظ: أن النص مؤلف من عشرة أسطر تكون مجمل الحوار الدائر بين الشخصيتين ، تصف سلوكين مختلفين لرجل دين
وامرأة مذنبة، هي ترتكب الخطايا وتنشد الغفران؛ وهو لايغفر باسم الله . والتأمل في الدلالة يقضي أن هذا سلوك مألوف ، لكثرة ما
يتكرر، فكم من امرأة ترتكب الخطايا وتنشد الغفران ، لكن الحقيقة أن في النص مفارقة وكسر توقع
فارتكاب الخطايا يجب أن يقابل بالتطهر ومنح المغفرة. لهذا، نجد النص يوجه إدانة صريحة لرجال يتكلمون باسم الله، بقلوب مغلقة صماء.

وخبز الله المكررة ليست لعبا مجانيا بل تناقضا مولدا للمفارقة الساخرة تستهدف الكاهن؛ فرد المرأة كان ذكيا، والتقاطة القاص كانت بارعة ومعبرة.
والأمر نفسه بالنسبة لعبارة: شبك يديه، الواردة في قصة "يدان وراء الظهر" ص 96، فتكرارها لا يدل على تكرار المعنى، بل يولد مفارقة موقف؛ إذ ترصد موقفي الفرح والترح، فوضع اليدين خلفا في البداية كان بغاية خلق المفاجأة المفرحة، في حين، كانت في نهاية النص معبرة عن الترح بفعل الاعتقال.
اللعبة اللغوية نجدها في نص "الزنزانة" ص96، لكنها ليست لعبة لغوية فحسب، بل تضمر مفارقة موقف، حيث أن المكان صار مشبعا بذاكرة تثقل كاهله لكونه غير قادر على النسيان، بخلاف السجناء الذين يغادرونه وينسونه تماما نشدانا للاطمئنان. فجدلية التذكر والنسيان أساسية في بناء النصوص، بغاية خلق الدهشة.
يوظف القاص معجما ذا دلالات، يكشف من خلاله عن مجمل التناقضات المسهمة في بناء معنى النصوص، من ذلك، النص الأخير، فكلمة الجمال تضاد القبح المعبر عنه بالمسخ، وتشير إلى الصراع بين السارد كخالق للنص، والمسخ كشخصية أساسية فيه؛ صراع حول الجمال يفضي إلى قتل المسخ الباحث عن الجمال للسارد الصانع للمسخ.

وفي ثنايا العديد من القصص مفارقات معبرة، من خلال التعارض الموجود بين قطبي الحكاية، من ذلك، ثنائية الصعود والنزول، والتناقضات المؤلمة.
فمن المقارنات الحارقة ما نجده في نص "طز...." ص43، إذ المفروض أن يكون الألم نصير المقبل على الإعدام، والتشفي، أو، على الأقل، الراحة، من نصيب السجان؛ لكن الوضع، هنا، مختلف، فالمقبل على الإعدام، يعيش حالة نفسية مرحة، بخلاف السجان، الذي يشعر بكثير من الألم؛ فهو حزين لدرجة رغبته في التخلي عن القيام بواجبه.
وفي نص "طاخ طاخ" ص68، وهو صنو نص "المسدس المائي"، تحضر المقارنة الحارقة بشكل أقوى؛ إذ يقوم الصبي بعقد مقارنة بين مسدسه ومسدس ابن الجيران؛ الكبير والملون. وسيخرج بمشاعر مؤلمة جراء هذه المقارنة، كما أن الأب سيشعر بالمشاعر ذاتها، خاصة في نهاية النص، حيث لا يسمع صوت طاخ واحدة من ابنه الذي يمارس لعبة القتل الوهمية مع ابن الجيران.
وتجدر الإشارة إلى أن المجموعة قد احتفت بالطفل، وأفردت له مساحة نصية مهمة، من مثل النصين السالفين، ونص "أطفال" ص58، ونص البداية "مجرد درس" ص15، حيث طرح الأستاذ سؤالا على تلاميذه، الغرض منه تحفيزهم على سرد واقعهم المزري. كان سؤالا ذكيا يرمي إلى عرض واقع الفئة المستضعفة، وعرض معاناتها.
هي نصوص تخاطب ذاكرتنا، وبخاصة ذاكرة أولئك الذين يشاركون القاص الآمال نفسها، والإحباطات ذاتها. فصعوبة الحصول على اللعب، ومعاناة الكتاب، وغيرهما، أرضية يشارك في تجربتها الكثيرون، وأساسا جيل الكتاتيب القرآنية، كنص "الرجال" ص71 الذي يرصد معاناة الأطفال من قسوة الآباء والمربين. كما نرى ذلك في نص "المسدس المائي" ص31 و"لعبة الغميضة" ص19 وغيرهما.
ما يلفت الانتباه كون النصوص صدى نفسها؛ وأقصد بذلك، أنها تحمل عناوين بعضها، وتعيد نفسها بشكل فني مختلف. ولعل القاص كان يقصد ذلك قصدا، إذ نجده في نص "تأثيث رغبة" ص53، يطرح هذه القضية؛ فهو يرى أن النص يمكن أن يكتب بشتى الطرق، وبأشكال مختلفة، وبأحجام متنوعة، يمكن أن تبلغ حدا من التكثيف كبير، تجعل مطهر النص في الأول هو غيره في الأخير. وتشبه عملية الكتابة العملية الجنسية، حيث يعرفان المراحل نفسها من مداعبة، وانتصاب، وإيلاج، وأورغازم، وهذا ما يشير إليه نص "أورغازم" ص54
ويستفيد القاص من المواقع الاجتماعية في صياغة نصوصه، كما في قصة "تكبير_ تصغير_ إغلاق" ص55، فالرجل يقيم أحلامه بناء على صورة المرأة التي يود أن يخبرها بما في قلبه، لكنه يشعر بالصغار لكونها لن تلتفت لموظف صغير، هي التي تعودت ركوب السيارات الفارهة، فيقرر إغلاق النافذة وفي صدره حزن مقيم.
ليس بدعا أن تكون نصوص المجموعة بتنورة قصيرة؛ قصرها لا يؤذي أحدا حين تكشف عن فخذين عاجيين، تعيش طقوسها بفرح وحميمية؛ فهي معنية بصياغة لذتها، ولذتها في هجومها، وسرعتها، وكثافتها، وجمالية اقتصادها، تتقن، كما يقول القاص، عيدا خاصا، ورعشة محددة ملتذة بأن تصفع بصورة خاطفة وسريعة.
ويكمن جوهر القصة، عدا لونها الشفاف القصير، في الفكرة، بأن تقدم وجبة من الأفكار الصادمة الخاطفة. ص13.