الحركة الصهيونية والأدب العبري

بعد التأسيس الرسمي للحركة الصهيونية في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897 كان أمامها الكثير لتقوم به من اجل تنفيذ أهدافها العنصرية الاستعمارية أبتداءً من تغيير صورة اليهودي السيئة في ثقافات الأمم الاخرى ، فخلق اليهودي الجديد المؤمن بالفكر الصهيوني وقضيته ، ثم أنتهاءً بتنفيذ اغتصاب فلسطين تحت نظر العالم وسمعه وبصره .. ويكاد يكون الأدب العبري الأداة الأولى التي حملت راية الدعوة الصهيونية منذ بداياتها التاريخية الأولى ، وكان بشكل عملي المصدر الأول لتأصيل الدعوة العقيدية الصهيونية ، وعرفت الصهيونية بدورها القيمة العالية لفعل العمل الأدبي في إيصال الدعوة والتبشير بالمنطلقات النظرية للحركة الصهيونية ، فلم تألَ جهدا في الإفادة من الأدب العبري إلى ابعد الحدود ، مدركة أن عملية الإحياء القومي لن تبدأ حقيقة إلا بالإحياء الثقافي الذي ينطلق نحو البعث القومي لليهود والبناء الفردي الجديد للشخصية اليهودية ..وكما أن البعث القومي يبدأ بالبعث الثقافي ، فان البعث الثقافي يبدأ ببعث اللغة العبرية وإحيائها من جديد بعد أن انحسرت عن الاستعمال قرونا طويلة حتى كادت أن تصبح لغة غريبة حتى عن اليهود أنفسهم ..
وقام الأدب العبري وبأشكاله التعبيرية المختلفة ، النثرية منها والشعرية ، بدوره كما خططت له الحركة الصهيونية ، فتناول في موضوعاته الأولى المجتمع اليهودي في الجيتو ، والفرد اليهودي على مدى العصور واتصاله بالثقافات الأجنبية المحيطة به ، إلى جانب تناول التراث التاريخي الروحي لليهود والتركيز على أمجاده ، ثم ربطه بيهود العالم وأوضاعهم الحياتية التي طالما شكوا من بؤسـها وشقائها ، في محاولة منه لبعث الهمم والسجايا وخلق اليهودي الجديد القادر على تنفيذ المهمة الاستعمارية للحركة الصهيونية ، برفضه أولا واقع الشتات وعزلة الجيتو والاضطهاد المستمر الواقع عليه في أوربا ، ثم الهجرة والاستيطان فإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين على حساب سكانها الشرعيين ..
ويأتي هذا كله لتوجيه النظر عن الفكر اليهودي الصهيوني نحو فلسطين ، هجرة اليها واستيطانا ، باعتبارها ، حسب الفكر الصهيوني ، الحل الامثل للمشكلة اليهودية الأزلية ، إضافة إلى " أنها ارث ابدي ممنوح من الرب إلى بني اسرائيل " ، فكان أن حفلت الانتاجات الأدبية المختلفة بهذه الموضوعات ، والموضوعات الاخرى المتصلة بها فكريا وعمليا كتصوير فلسطين أرضا خربة مهملة خالية من السكان ، وان هناك عجزا عربيا في أعمار الأرض ، واستغلالها اقتصاديا ، وتشويه صورة العرب أمام الأمم الأخرى في الوقت الذي راحت هذه الانتاجات تمجّد بما أسمته الدور الحضاري الموعود للصهيونية في ارض فلسطين ..
ولو أردنا أن نفهم أكثر عن مهمة الأدب العبري في إبراز الدور الصهيوني الموعود ، والمشار اليه في أعلاه ، لأمكننا القول أن هذا الأدب استطاع أن يحكم أطراف المعادلة الصهيونية التي تعتمد على الدين والتراث في تحقيق رؤاها السياسية واستطاع أن يربط بين الظاهرة اليهودية التي ولدت تاريخيا في مكان ، ونشأت في مكان آخر وانتهت معنويا في كل مكان ، لتظهر مجددا في نفس مكانها الأول ولكن بشكل مختلف نسبيا ، ولتكون موضع تساؤل واختلاف ولتشتبك وتتداخل مع مجموعة من العوامل والقوى ، تختلف حسب الأمكنة والفترات التاريخية ولتصبح مجددا مشكلة أو ظاهرة تختلف عن غيرها من الظواهر والمشاكل الأخرى ... وهنا لعب الأدب العبري دورا مهما في تسوية هذه المشكلات وتبسيطها للعالم من خلال طروحاته وأفكاره الصهيونية التي لاقت رواجا وقبولا لدى أوساط عالمية مؤثرة وأوجد القناعة والحجة والتبرير لديهم بصحة الحلول التي طرحتها الحركة الصهيونية والمتمثلة ، كما قلنا ، بالهجرة والاستيطان وإقامة الوطن القومي في فلسطين وهي الحلول التي لم تعترض عليها هذه الأوساط بل وأيدتها ووافقت عليها كمخرج لما سمي بالمشكلة اليهودية في حينه ...
لقد سخَّر الأدب العبري نفسه منذ بدايته لخدمة السياسة وممارسة التزوير وقلب الحقائق مرتكزا على أحداث تاريخية معظمها مُزوَّر ومُلفَّق ليبرِّر أحداثا معاصرة تبتعد كثيرا عن ذاكرة الزمان والمكان ..ومع هذه الوظيفة ، وفي أبشع صورة أُستُخدمَ الأدب العبري أيضا لخدمة أغراض عدوانية : استيلاء مجموعات هجينية على ارض شعب امن ، وعلى خيراته وممتلكاته وحقوقه وحرياته ، مستخدما أبشع الوسائل ، بالكذب والتلفيق وقلب الحقائق والمفاهيم لتضليل العالم عن حقيقة خطط هذه المجموعات وأهدافها .. كما كانت فكرة استخدام الأدب كوسيلة إعلامية ودعائية قد حظيت بأهمية وانتباه أوليين في الترويج للفكرة الصهيونية وإشاعة وعرض الجوانب المختلفة لأوضاع اليهود في العالم وأحوالهم المعيشية المتنوعة ونواحي حياتهم السياسية والاجتماعية وغيرها بما يدعو إلى الانتباه وكسب العواطف واستمالة الرأي العام الإنساني باتجاه تأسيس أحقية صهيونية في النضال من اجل ترسيخ فكرة جمع شمل اليهـود في العالم في ( وطن ) خاص بهم ..ورغم أن هذه الغاية قائمة على مركب الخرافة والأكاذيب التاريخية والمغالطات الفاضحة في المنطق والحقيقة والوقائع ، إلا أن هذا الأدب استطاع تقديم ذلك كمبررات مقبولة لدى العالم الغربي وحقق في هذا نجاحا أكثر مما حققته الجهود السياسية في تقديم الأسانيد التي ارتكزت عليها الفكرة الصهيونية لتحقيق هذه الغاية .. وعلى سبيل المثال فقد أحدثت روايات وكتابات ( بنسكر ) و( هرتزل ) و(أحاد هاعام ) الأدبية على الصعيد العالمي أثرا نفسيا لا تقل أهميةً عن كتاباتهم السياسية والإيديولوجية ..

د. عبدالوهاب الجبوري