تاتا! خط العتبة! تاتا! حبة حبة!

(صفحات ضاحكة من كتابى عن د. حلمى القاعود روائيا)
إبراهيم عوض



وهذا الذى مضى يندرج تحت ما يسميه الفارغون هذه الأيام بـ"عتبات النص"، وهو باختصار كل ما لا يدخل فى نص العمل الأدبى مباشرة رغم وجوده على غلاف الكتاب وفى أوراقه الأولى. ومما يدخل فى تلك العتبات أيضا عنوان الكتاب. وعنوان روايتنا هو "الحب يأتى مصادفة". وأجد كثيرا من النقاد فى العقود الأخيرة يردد فى ثقة ويقين أن العمل الأدبى يكمن كله فى العنوان وينطلق كله من العنوان مع أن العنوان كثيرا ما يتأخر التفكير فيه إلى ما بعد الانتهاء من ذلك العمل. كما أن كثيرا من الروايات مثلا تحتوى على عدد من الموضوعات، ثم نرى العنوان يشير إلى موضوع واحد منها فقط مثلما هو الحال فى رواية كاتبنا المسماة: "شغفها حبا"، فقد احتوت تلك الرواية على عدة حكايات لكل منها بطلها أو بطلتها، ومع هذا فالعنوان يشير إلى شىء واحد مما وقع لبطلة إحدى حكاياتها ويترك الأبطال والموضوعات الأخرى.

ليس ذلك فقط، إذ إننى قد قبل قراءتى تلك الرواية الأخيرة لم يكن يمكن أن يدور بخيالى، مهما كان خيالى واسعا ونشطا ومحلقا، معنى هذا العنوان. وكيف كنت أستطيع ذلك وأنا لست من الذين يشمون على ظهر أيديهم؟ وقد وقع الكتاب فى يد أحد أقاربى، فظن أنه عن قصة يوسف عليه السلام، وبخاصة أن المؤلف قد صدَّر الرواية بآية قرآنية من السورة "الخاصة بذلك النبى، وهى قوله تعالى: "وقال نسوةٌ فى المدينة: امرأةُ العزيز تراود فتاها عن نفسه. قد شغفها حبا. إنا لنراها فى ضلال مبين"، ليكتشف سريعا أن الرواية لا صلة بينها وبين ذلك النبى على أى نحو. بل إنى لأستغرب كيف وضع المؤلف هذه الآية الكريمة فى بداية روايته رغم أنه لا توجد وشيجة بينها وبين القرآن الكريم كله لا قصة يوسف فقط.
الحقيقة أنه لا بد من قراءة الرواية، أية رواية، كاملة حتى نستطيع الربط بينها وبين عنوانها، وإلا فكيف يمكننا أن نخمن مثلا موضوعات روايات نجيب محفوظ: "السراب، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، بداية ونهاية، أولاد حارتنا، الشحاذ"... إلخ من مجرد قراءة العناوين؟ ذلك أمر مستحيل. أما عنوان روايتنا الحالية: "الحب يأتى مصادفة" فليس له صلة بنصها، اللهم إلا أن أشرف صَدِيق حامد بطلها حين ذهب معه فى إحدى إجازاته من الخدمة العسكرية إلى قريتهم، التى هى فى ذات الوقت قرية أهل أمه، ولاحظ أن حامد متعلق بزينب سأله: هل أحببتها مصادفة كما أحببت أنا هدى؟ وهذا كل ما هنالك من صلة بين العنوان ونص الرواية.
وبمناسبة تلك العتبات غير المقدسة فإنى أقرأ الرواية التى فى يدى الآن من نسخة بى دى إف تخلو من صورة الغلاف الخارجى، وما أدراكم ما الغلاف الخارجى؟ إنه أهم عتبة. إنه "العتبة الجزاز" فى الأغنية الشهيرة التى كسرت الدنيا عندما ظهرت فى ستينات القرن البائد: "العتبة جَزَاز، والسِّلِّم نايْلو فْ نايلو". نعم ففى رأى المخابيل الذين هم "كالهبلة اللى مسّكوها طبلة" أن هذه الرواية ينقصها أهم شىء: الغلاف وتصميم الغلاف، ونوع الخط الذى كُتِب به العنوان ولونه، وصنف الورق الذى فُصِّل منه الغلاف. يقينا لسوف تخر السماء بنجومها وكواكبها وتندك الأرض وتنهد الجبال هدا إذا لم نعرف كل هذا.
وأنا فى الواقع دائم السخرية ممن يقيمون الدنيا ويقعدونها فى الحديث عن هذه العتبات، وأنظر إليهم على أن بعقولهم خللا. ذلك أن تلك العتبات لا علاقة لها بالإبداع الأدبى. فالأدب شىء، وتصميم الغلاف أو كتابة عبارة الإهداء شىء آخر. وها نحن أولاء قد شاهدنا بأم أعيننا كيف أنه لا صلة بين رواية "شغفها حبا" وبين قصة يوسف فى القرآن المجيد. لقد اجتهد الكاتب فاستشهد بالآية القرآنية المذكورة، لكن لم يكن لتلك الآية موضع فى الرواية. كما أن مصمم الغلاف بل مصمم الكتاب كله ليس هو الأديب الذى كتب الرواية، بل شخص آخر، فكيف نحاسب العمل الأدبى وصاحبه على ذلك؟ وحتى لو كان المؤلف والمصصم شخصا واحدا فإن ذلك الشخص مصمما لا علاقة له به هو نفسه روائيا. هذه نقرة، وتلك نقرة. هذا روائى، وذاك مصمم. فما الذى وضع أبا قرش مع أبى قرشين؟ ثم فلنفترض أن الكاتب كان ضعيف الإمكانات المادية وأخرج روايته فى ورق ردىء واختار له الطبّاع خطا غير مريح، فما ذنبه هو؟
لقد قرأت مثلا روايات المنفلوطى شبه المترجمة، أول ما قرأتها وأنا صبى، فى طبعة فاخرة وورق أبيض سميك فى أواسط ستينات القرن الماضى، وكان الخط كبيرا واضحا جميلا، وكانت الصفحة واسعة، وكانت هناك هوامش تشرح الكلمات والعبارات الجديدة والصعبة، وكنت فى غاية "الانشكاح" وأنا أقرؤها. ثم مرت الأعوام، ووقعت فى يدى نفس هذه الروايات فى طبعة أخرى ضيقة الصفحات كابيتها، صغيرة الحروف، وأعترف أننى لم أهش لها كما كنت أهش لطبعة الصبا، لكنى بحمد الله من العقل والحصافة بحيث لا أفكر فى تحميل الكاتب مغبة هذا التغيير. ثم إن الطبعتين قد ظهرتا بعد موته بأزمان، فما علاقته بكل هذا؟ وكيف يمكن أن يدور فى عقل عاقل أن نحمِّل المنفلوطى وِزْر الطبعة الصغيرة أو ننسب إليه الفضل فى الطبعة الأخرى الجميلة، ولا فضل له فيها مثلما لا وزر له فى الأخيرة؟
وأمامى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات مقال نقدى لرواية من الروايات كتبه أستاذ جامعى ترك الدنيا كلها وأمسك بغلاف الكتاب: لونه والصورة التى تحتله بتفاصيلها وخطوطها وألوانها والمغزى من وراء كل ذلك. خيبة الله على مثل هذا نقدا. إنه خبل أصاب الكثيرين ممن يحسبون أنفسهم على فئة النقاد بقوة النبوت، والعياذ بالله. ومع هذا فإن الرجل يؤدى مهمته بكل أعصابه وتركيزه الحاد، وقد توفَّز كل عِرْق فيه وتسارعت نبضات قلبه موشكا على الانفجار الكونى العظيم وكأنه يؤدى مهمة مقدسة، أعانه الله على ما هو فيه. بل إنى لأسمع ناقدنا الهمام وقد ارتفع زحيره من بين ورقات المقال المذكور كما تزحر المرأة التى تلد ولادة متعسرة يمكن أن تروح فيها من بُرَحَاء ما تقاسى ومن الصعوبة البالغة للوضع البائس الذى هى فيه. مسكينة!
ومعروف أن من الكتّاب من يبرع فى اختيار العبارات الجميلة يرصّع بها مقدمات أعماله الأدبية على حين لا يرقى مستواه الإبداعى إلى الدرجة العاشرة، فى الوقت الذى نجد كاتبا عملاقا كنجيب محفوظ لا يفكر فى اقتباس عبارة من كاتب أوربى يقدم بها رواية من رواياته، بل يدخل فى الكتابة مباشرة. أفنقول حينئذ إن الكاتب الأول التافه أبرع من نجيب محفوظ بسبب عتبة الإهداء، التى غابت عن رواية صاحب جائزة نوبل، إذ تركَنا (منه لله!) ندخل روايته فورا دون أن تكون هناك عتبة، فلم تكن هناك فرصة لكى نغنى ونحن نشرع فى قراءتها: تاتا خط العتبة! تاتا حبة حبة؟
ألا خيبة الله على التافهين والتافهات الذين خلعوا عقولهم ورَمَوْها قبل أن يعبروا العتبة وظنوا أنه ما دام النقد الغربى قد رفدنا بموضوع العتبات فقسمًا بشنبى ومركوب سيدى غازى: لن أكتب نقدا للرواية قبل أن أقف أمام العتبات وأنحنى عليها وأقبلها وأنظم فيها قصائد الغزل وأعبر عن ولهى بها وبعبقرية صاحبها وأتوصل إلى المغزى الميتافيزيقى الذى يكمن وراءها أو أمامها أو فوقها أو تحتها أو عن يمينها أو يسارها. أتظنون الأمر سبهللا؟ إننا فى مجتمع يدلق الملوخية المطبوخة والمياه المعزَّم عليها عند العتبة، ولا بد لكى ينفك النحس أن نقف أمام العتبة نحن أيضا ونعزِّم تعزيمة مضادة توقف عمل التعزيمة الأولى المؤذى. أرأيتم كيف أن عتبات النص من الخطورة بمكان؟ يا أمةً ضحكت!
ثم ما دمنا قد وقفنا عند العتبة فكيف نهمل الباب والشباك؟ لقد غنت الأغانى لهما كما غنت للعتبة. ألم تقل فايزة أحمد: "م الباب للشباك. رايحة وجاية وراك"؟ ألم تقل مطربة أخرى مهددة حبيبها الذى لا يرقّ لها قائلة: "ومن الشباك لارْمِى لك حالى"؟ فلم التمييز إذن بينها وبين العتبة؟ هذه تفرقة نسوية. فالباب والشباك مذكران، والعتبة مؤنثة. والغريب أن النساء، وهذه مندبة أخرى أخذنها عن الرجال الفاضين المولعين بالتفاهات والسخافات، يشكون دائما بحق فى بعض الأحيان، وبغير حق فى معظم الأحيان، أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية مجتمعات بطرياركية، أى تمالئ الرجل على حساب المرأة وتظلمها ظلم الحسن والحسين وتقهرها وتستغلها وتقمعها وتعذبها وتحرمها كل حقوقها وتريها النجوم فى عز الظهر وتتركها تقاسى الحمل والولادة وحدها دون أن تقسم هذه المهمة بينها وبين زوجها، الغريب أن النساء لا يتقدمن وينصفننا نحن الرجال وينادين بأن يشمل نقادنا الأشاوس، نقاد العتبة، بعين العطف والمرحمة والاهتمام الباب والشباك، اللذين ينتسبان إلى جنس الرجال البلاليص، قصف الله رقابهم جميعا، مثلما شملوا بها العتبة، التى تنتمى بتأنيثها إلى جنس القوارير الهَشَّات البَشَّات.
على أن المسرحية السخيفة لما تتنه فصولا، فهناك العنوان، وما أدراكم ما العنوان؟ لقد قرأت مرة لأحد النقاد العراقيين التافهين الضحال المعرفة والموهبة أن الكتاب كله يتركز فى العنوان، والعنوان كله يتركز فى الكلمة الأولى منه، وأن الكلمة الأولى تتركز فى الحرف الأول. أرأيتم عبقرية متعبقرة كهذه العبقرية؟ شفى الله الكلاب وضرك أنت يا سيدى الناقد المتعوس المنحوس! وقال سيادته توضيحا لهذا إن العنوان هو النواة المخصبة التى ينبت منها الكتاب. وطبعا هذا يستلزم أن يختار الكاتب عنوانه قبل أن يخط حرفا فيه، فالنواة تغرس فى الأرض ثم يظهر بعد ذلك ساق النبات، أما العكس فمستحيل. ومعروف أن كثيرا جدا جدا من المؤلفين، ومنهم أنا، لا نستقر على العنوان أو لا نختاره ولا نفكر فيه أصلا إلا بعد الانتهاء من تأليف الكتاب، ونظل أحيانا حيارى أياما بل أسابيع قبل أن نعزم أمرنا ونكتب العنوان. بل إنى اخترت ذات مرة عنوانا لأحد كتبى حين نشرته على المشباك (النت)، لكنى لما فكرت فى طبعه للدراسة أعطيته عنوانا آخر.
ثم بالله عليكم أى نواة مخصبة وأى بطيخ فى عنوان رواية نجيب محفوظ: "بداية ونهاية"؟ إن هذا العنوان ينطبق على أية رواية فى الدنيا، إذ ما من رواية بل ما من كتاب بل ما من شىء وما من نبات وما من حيوان وما من ابن من أبناء آدم وحَوَّا إلا وله بداية ونهاية. أما "قصر الشوق" فقد ظللت أتصور أنه اسم قصر مضاف إلى الشوق، ظانا أنه قصر كانت تجرى فيه غراميات وانتقاميات حتى قرأت الرواية وعرفت أنه حى من الأحياء القاهرية. أى أنه كان لا بد من قراءة العمل أولا قبل أن أفهم العنوان ثانيا. على أن العنوان لا يغطى الرواية ولا يخصبها ولا يلقحها ولا يتزوجها ولا ينجب منها لا من الحلال ولا من الحرام، إذ ماذا يعنى اسم حى من أحياء القاهرة؟ إن من يعرف أن هذا حى قاهرى ولا يعرف طبيعة الكتاب وأنه رواية سوف يظن أنه كتاب فى الخُطَط. وحتى بعد أن يعرف أنه رواية فيا ترى ماذا يعنى العنوان؟
إن الرواية المذكورة عالم موار بالأحداث والأشخاص والمشاعر والمواقف والرجال والنساء والشبان والفتيات والزواج والدعارة والحب العذرى والخيانة العاطفية وعشق الوطن والموت فى سبيله وانكسار قلب الأم والأب على ابنهما الشاب والغيرة بين الأختين والتطلع من الشباك والضابط "أبو الشريط الاحمر يا اللى" والشراكة فى التجارة وجليلة العالمة وصبياتها وياسين وفهمى وسيدنا الحسين وعربة سوارس وسى السيد وتبخير زوجته له كل صباح حين يخرج لدكانه وكأنه ذاهب إلى خط النار من فوره. ماذا نقول؟ وماذا ندع؟ ثم يأتى المخابيل فيرددون كلاما قرأوه لبعض النقاد الغربيين متصورين أنهم بهذه الطريقة سوف يسامتون الغربيين المتحضرين على حين أنهم بهذه الطريقة إنما يثبتون أنهم لا يزالون مرتكسين فى مستنقع التخلف والجهل وضياع الشخصية وأنهم لم يغادروا مرحلة الببغائية ولن يغادروها بمشيئة المولى العظيم ما داموا ينهجون ذلك النهج القرودى. وهذا فى العنوان كاملا، فما بالك إذا ما انخبطنا فى يافوخنا مثلهم وقلنا إن الكلمة الأولى من العنوان تختزل العنوان كله، وإن الحرف الأول يختزل الكلمة الأولى التى تختزل العنوان الذى يختزل الكتاب الذى يختزل حال المؤلف التاعس البائس؟ ألا خيبة الله على الرقاعة والرقعاء!