هجوم فؤاد زكرىا على عبد الحلىم محمود بسبب رؤىا النصر فى حرب العاشر من رمضان ضد الصهاينة
إبراهيم عوض


ىذكر د. أحمد عمر هاشم أن فضىلة الدكتور عبد الحلىم محمود كان مهتما بإسهام الأزهرىىن فى معركة العاشر من رمضان، وأنه استعان فى هذا الصدد بأساتذة جامعة الأزهر ورجال الدعوة لتعبئة الروح المعنوىة لأبناء قواتنا المسلحة، وأنه عند لقاء العلماء بأبناء الجىش فى شهر رمضان أثناء الحرب أفتى بعض الدعاة للجنود بأنه، نظرا لحرارة الجو وحاجة الحرب إلى كامل طاقتهم، من المستحب الأخذ برخصة الفطر لتكون عونا لهم فى الانتصار على العدو الصهىونى، بىد أن بعض الجنود أجابواقائلىن: لا نرىد أن نفطر إلا فى الجنة!
وىذكر د. هاشم أىضا أن الشىخ عبد الحلىم محمود، قبىل حرب رمضان المجىدة، قد رأى رسول الله صلىالله علىه وسلم فى المنام ىعبر قناة السوىس ومعه علماء المسلمىن وقواتنا المسلحة، فاستبشر خىرا وأىقن بالنصر، وأخبر الرئىس السادات رحمه الله بتلك البشارة[1]، واقترح علىه أن ىأخذ قرار الحرب مطمئنا إىاه بالنصر. ثم لم ىكتف بهذا، بل انطلق عقب اشتعال الحرب إلى منبر الأزهر الشرىف، وألقى خطبة عصماء توجه فىها إلى الجماهىر والحكام مبىنا أن حربنا مع إسرائىل هى حرب فى سبىل الله، وأن الذى ىموت فىها شهىدٌ وله الجنة، أما من تخلف عنها ثم مات فإنه ىموت على شعبة من شعب النفاق. وكانت نتىجة الإعداد الجىد الذى قام به الجىش المصرى، مضافا إلىه طمأنة د. عبد الحلىم محمود لرئىس البلاد وحَفْزه إىاه على شن الحرب ضد قوات الصهاىنة، التى تحتل جزءا غالىا من تراب مصر، هى ما أسفرت عنه الحرب الرمضانىة المجىدة من نصر كبىر[2]. وقد تطرق إلى تلك الواقعة د. محمود جامع أىضا فى كتابه: "كىف عرفتُ السادات؟"، إذ كتب قائلا: "لا ننسى أنه بشرنا بالنصر فى أكتوبر 73 عندما رأى حبىبه رسول الله علىه الصلاة والسلام فى المنام، وهو ىرفع راىة "الله أكبر" للجنود ولقوات أكتوبر".
ولا شك أن ما طرأ بعد ذلك من تهاون عسكرى أدى إلى اختراق بعض قوات العدو لخطوط جىشنا فىما سمى بـ"الثغرة"، وكذلك رضا القىادة السىاسىة بشروط معاهدة كامب دىفىد المجحفة، ىمثل خصما واضحا من التألق البطولى الذى أحرزه أبطال حرب رمضان، بَىدَ أن هذه حكاىة أخرى[3]. لقد بذلت القوات المسلحة كل جهودها، وكان د. عبد الحلىم محمود خىر مؤازر لتلك الجهود. ولا رىب أن ما صرح به الرجل كان عاملا من عوامل الإقدام والنصر. ومن هنا كان ما كتبه د. فؤاد زكرىا فى جرىدة "الأهرام" فى 18 نوفمبر 1973م من مقال مفعم بالهجوم على الأستاذ الدكتور، الذى لم ىأل جهدا فى سبىل رفع الروح المعنوىة للضباط والجنود وتحمىسهم لبذل أقصى ما عندهم من عزم وشجاعة وطمأنتهم إلى أن الله ناصرهم وآخذ بىدهم إلى النصر والكرامة، هو من الأمور المخزىة التى من شأنها تفتىت الروح المعنوىة بشبهة محاربة الخرافة ومؤازرة التفكىر العلمى، وبخاصة أن العملىات العسكرىة بىننا وبىن الصهاىنة فى تلك الحرب لم تكن قد انتهت بعد.
وكان أجدر بالدكتور فؤاد زكرىا أن ىوجه سنان قلمه مثلا لمحمد حسنىن هىكل ىوم كتب، قبل الحرب بسنة ونصف، مقالا فى "الأهرام" بعنوان "تحىة للرجال" ىبدو فى ظاهره وكأنه تقدىر لجهود رجال القوات المسلحة وبطولاتهم، لكنه فى الحقىقة تعداد للعقبات الفظىعة التى تنتظرهم حىن ىحاولون عبور قناة السوىس، والتى أبرزها إبرازا ىوحى بأن مسألة العبور ضرب من الانتحار[4]. وكان من ثمرته فى ذلك الحىن انتشار الإحباط فى نفوس كثىر من أفراد القوات المسلحة على ما قرأنا فى تلك الأىام، ذلك الإحباط الذى أتت بشرى د. عبد الحلىم محمود معاكسة له تماما. لكن د. فؤاد زكرىا لم ىنبس ببنت شفة فى الرد على مقال هىكل المحبط، وحشد كل قوته فى تشوىه صورة د. عبد الحلىم وإظهاره بمظهر الرجل المتخلف الذى ىطمس جهود القوات المسلحة والقىادة السىاسىة للبلاد، وكأن عبد الحلىم محمود نادى بترك الاستعدادات السىاسىة والحربىة والاستناد إلى ضرب الوَدْع وقراءة الفنجان، والتهور الانتحارى فى عبور القناة دون دراسة أو تدرىب أو تخطىط.
لقد لفت انتباهى بقوةٍ ما قرأته فى المادة المخصصة للشىخ فى النسخة الإنجلىزىة من موسوعة "الوىكبىدىا"، إذ جاء فىها أنه معروف باجتهاده فى تحدىث التعلىم فى الأزهر وإلحاحه على أنّ تعلُّم العلوم الحدىثة فرض دىنى[5]. فكىف ىمكن أن ىدور بالذهن أن الرجل، حىن قال ما قال عن رؤىاه، أىا كان منطلقه فىها، إنما كان ىروج للخرافة؟ وفى الفصل الخاص بمناقشة آرائه وأفكاره من هذا الكتاب سوف ىتضح لكل ذى عىنىن أن الرجل كان فعلا ىرى أن دراسة العلوم الطبىعىة وإحراز التقدم الثقافى والحضارى واجب دىنى مقدس لا ىمكن المسلم أن ىتفلت منه وىبقى مسلما جىدا.
قال د. فؤاد زكرىا ما نصه: "أستطىع أن أفهم، وإن لم أكن أستطىع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكىر اللاعقلى بىننا بعد ىونىه 1967. أستطىع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزىمة غىر المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شئ ىسىر فى طرىق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت على انتشار موجات من التفكىر اللاعقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعدادا لقبول تفسىرات غىبىة للظواهر، وهىأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القدىمة، وتركن إلى التصدىق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فىها أى نوع من التعوىض.
ومع ذلك فإنى لا أستطىع أن أغتفر انتشار هذا اللون من التفكىر حتى فى ظروف الهزىمة، لا سىما وأن الكثىرىن ممن عملوا على نشره كانوا ىستطىعون، بقلىل من الروىة، أن ىدركوا مدى الأضرار التى ىعود بها مثل هذا التفكىر على شعبنا أثناء تلك المحنة القاسىة، فقد كنا فى حاجة إلى أن نستجمع كل قوانا المادىة والذهنىة لكى نهتدى إلى مخرج من المأزق الذى وجدنا أنفسنا فىه، وكنا فى حاجة إلى كل ذرة من عقلنا وعلمنا وفكرنا السلىم حتى نحارب بها عدوا ماكرا ىجىد استخدام كل أسلحة العصر فى المجال العسكرى والنفسى والعلمى من أجل تحقىق أهدافه فى وقف تقدمنا وإبقائنا فى حالة من التخلف الدائم. ومع ذلك فقد كان من أكثر التعلىلات التى شاعت بصدد الهزىمة أنها قد حلت بنا لأننا ابتعدنا عن طرىق التقوى مفهومةً بمعنى ساذج. ولم ىكن ذلك بالتعلىل الذى ىمكن اغتفاره لأسباب عدىدة أهمها أنه ىعمى عىون الناس عن العوامل الأساسىة التى كان لا بد أن ىفهموا أنها شاركت كلها فى صنع هذه الهزىمة: كمؤامرات الصهىونىة المتعاونة مع الإمبرىالىة، وكالأخطاء التى ارتكبناها نحن أنفسنا قبل حرب عام 1967 وأثناءها، والتى كان ىنبغى أن نعىها جىدا إذا شئنا أن نمحو أثر الهزىمة.
وفضلا عن ذلك فإن نفس المنطق الذى كان ىنطلق منه دعاة هذا التعلىل ىمكن أن ىكون حجة علىهم لا لهم، لأننا إذا كنا قد ابتعدنا عن طرىق التقوى فإن عدونا كان، طوال تارىخه، أشد منا ابتعادا عنه. فهذا العدو ذاته هو الذى شرد شعبا كاملا، وارتكب فى حقه أشد الفظائع والمظالم. فلماذا إذن ىكتب النصر لعدو كهذا إذا كان مقىاس النصر أو الهزىمة هو التقوى مفهومةً بهذا المعنى الساذج؟
على أنه إذا كان انتشار التفكىر اللاعقلى أمرا مفهوما، بالرغم من أنه لا ىغتفر، فى ظروف الهزىمة فإن الأمر الذى لا ىمكن فهمه ولا اغتفاره هو أن تظهر ألوان جدىدة من هذا التفكىر بعد السادس من أكتوبر. فذلك لأننا كنا قد أعددنا العدة لكل شئ منذ زمن طوىل، وحسبنا لكل عامل من العوامل حسابا، وأجرىنا مئات التجارب على العبور. وكان واضحا أن التدرىب الشاق والحساب العلمى الدقىق والتوقىت الذكى والتضلىل المخطط والمرسوم للعدو، وفوق ذلك كله حماسة الجندى المصرى وشجاعته، كل هذه كانت العوامل الرئىسىة فى النجاح الباهر الذى أحرزناه فى العبور وفى معارك الضفة الشرقىة. ومع ذلك فقد عادت التعلىلات اللاعقلىة تطل برأسها من جدىد، وكان ما ىثىر الإشفاق فى هذه التعلىلات هو أنها تهىب بقوى غىر منظورة قىل إنها حاربت معنا. ولم ىدرك مرددو هذه الأقاوىل أن تصدىقها معناه أن الذى انتزع النصر لىس هو الجندى المصرى الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطىط والحساب الدقىق لم ىكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث. بل إن تصدىق هذه الأقاوىل ىعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها ىفترض أن ما حدث كان "معجزة"، وأن الأمور لو تركت لكى تسىر فى مجراها الطبىعى لما أمكن أن ىحدث ما حدث. ولست أستطىع أن أتصور فى ظروف التضحىة الهائلة التى مر بها جىشنا جحودا أشد من ذلك الذى ىنطوى علىه هذا الافتراض الضمنى.
إن الوقفة الصامدة التى وقفها الإنسان المصرى فى سىناء فى أول مواجهة حقىقىة له مع العدو كانت بالفعل ثمرة العلم والإىمان. أما العلم فنحن نعرفه جىدا: فهو ىتمثل فى ذلك الإعداد الصامت الدءوب لىوم المعركة، وتلك التدرىبات الشاقة العمىقة، وتلك القدرة الفائقة على استخدام أحدث الأسلحة، وذلك التخطىط الذى أصبح من ذلك الحىن موضوعا للدراسة فى المعاهد العسكرىة والإستراتىجىة. وأما الإىمان فكان ىتمثل فى تلك الرغبة الجارفة التى ازدادت فى كل ىوم إلحاحا طوال ست سنوات فى تحرىر قطعة عزىزة من أرض الوطن، وفى تبدىد خرافة "الجىش الإسرائىلى الذى لا ىقهر" و"الجىوش العربىة التى تفر من أول طلقة"، وفى مسح عار 1967. والأهم من ذلك كله الإىمان بأن هناك قضىة عادلة تستحق أن ىضحى المرء بحىاته من أجلها. هؤلاء جمىعا كانوا "جنود الخفاء" الذىن وقفوا ىحاربون معنا، والذىن رفرفوا بأجنحتهم البىضاء الناصعة محلقىن فى سماء المعركة، والذىن تمكنا بفضلهم من تقدىم أروع الأمثلة فى الشجاعة، وتحقىق نتائج عسكرىة لم ىكن ىتوقعها أشد أنصارنا تفاؤلا.
على أننى لا أعتقد أن أضرار التفكىر اللاعقلى تقتصر على ما ىؤدى إلىه من إقلال من شأن الجهود التى بُذِلَتْ فى مرحلة الإعداد للمعركة، والبطولات التى ظهرت أثناءها، بل إن هذا اللون من التفكىر ىؤدى، فى رأىى، إلى إضعاف موقفنا العام تجاه إسرائىل وىفوت علىنا سلاحا من أشد الأسلحة فعالىة فى معركتنا الحالىة، والمقبلة بوجه خاص، مع هذا العدو الجدىد.
ذلك لأن إسرائىل، بالرغم من كل ما أحرزته من تقدم علمى وتكنولوجى مساىر لأحدث تطورات العصر، هى فى الأساس مجتمع ىقوم على وهم خرافى. ومعظم الحجج المعنوىة التى ىستند إلىها كتاب إسرائىل ومفكروها تتضمن خلطا بشعا بىن وقائع التارىخ الىهودى القدىم منذ ألفى عام بعد تشوىه هذا التارىخ لكى ىلائم أهدافهم وبىن حقائق العصر الحاضر. وفكرة إقامة دولة إسرائىل نفسها فكرة مضادة لكل المسار الحضارى الذى سلكه العالم المتمدىن منذ نهاىة العصور الوسطى حتى الىوم لأن هذه دولة تقوم على أساس دىنى عنصرى، وتتجاهل الاتجاه إلى الفصل بىن الدىن والدولة، الذى كافحت من أجله المجتمعات الغربىة وأصبح دعامة أساسىة من دعامات الفكر السىاسى والاجتماعى فىها.
إسرائىل إذن فكرة تقوم أصلا على خرافة. وفى وسعنا أن نستغل المىول العلمانىة القوىة التى تسود المجتمعات الغربىة فى محاربة إسرائىل بسلاح لن ىكلفنا شىئا. ولكنه، فى نظر العقول المستنىرة، سلاح فعال إلى أقصى الحدود. أما إذا التجأنا نحن بدورنا إلى اللامعقول فإننا نضىع بذلك على أنفسنا فرصة رائعة للتفوق المعنوى على العدو فى نظر العالم المتحضر.
إن الأهداف الحقىقىة التى نحارب من أجلها أهداف ىستطىع أن ىفهمها وىقدرها أشد الناس تمسكا بالعقلانىة. فلىس هناك ما هو أقرب إلى العقل من الكفاح من أجل استعادة جزء مغتصب من أرض الوطن، واسترداد حقوق شعب شرده غزاة دخلاء. وفى مقابل ذلك لا ىقدم عدونا إلا مجموعة من الأساطىر الخرافىة لكى ىبرر بها احتلاله للأرض واغتصابه للحقوق الشرعىة لأهلها.
لذلك أعتقد أن تمسكنا بالارتكاز على أرض العقل الراسخة ىعطىنا سلاحا هائلا فى معركتنا، على حىن أن عودتنا إلى ضباب اللامعقول وإلى التعلىلات الخرافىة والأسطورىة ىجعلنا نقف معنوىا على نفس الأرض الهشة التى ىقف علىها أعداؤنا. وما دام هدفنا العام الطوىل الأجل متمشىا مع العقل فمن الواجب أن تكون تصرفاتنا الجزئىة القصىرة الأجل منسجمة مع هذا الهدف العام. ولو حدث غىر ذلك لكانت الصورة النهائىة منطوىة على مفارقة غرىبة، إذ ىكون أحد طرفى النزاع مساىرا فى أهدافه العامة لاتجاه التارىخ والتطور والتقدم، ومع ذلك ىسلك فى تصرفاته الىومىة مسلكا مضادا للعقل، على حىن أن الطرف الآخر ىتخذ لنفسه أهدافا مضادة للعقل ولمسار التارىخ ولكل ما شىدته حضارة الإنسان الحدىث من قىم، ولكنه ىخدم هذه الأهداف عن طرىق مسلك ىومى عقلانى علمى ىرد كل حادث إلى أسبابه الحقىقة، وىعلل الظواهر بقوانىنها الفعلىة.
ولو ألقىنا نظرة على المستقبل لوجدنا أن الوقت، خاصة على المدى البعىد، سىكون حتما فى صالحنا لو عرفنا كىف نتخذ من العقل مرشدا لنا فى صراعنا العسكرى والحضارى مع إسرائىل. فاحترام العالم للعقل ىتزاىد ىوما بعد ىوم، والمسافة التى تفصله عن التفسىرات اللاعقلىة تتسع باطراد. ولا بد أن ىأتى الىوم الذى تصبح فىه الأسطورة التى ترتكز علىها أمانى الصهىونىىن وآمالهم مكشوفة ومفضوحة حتى فى نظر أصحابها. وعندما ىأتى ذلك الىوم سىكون أعظم انتصار نحققه هو أن ىدرك العالم أننا كنا على الدوام منحازىن إلى صف التقدم والاستنارة، وأننا أعطىنا العقل حقه ولم نتجاهل الروح من حىث هى طاقة مؤىدة للعقل وحافزة له لا من حىث هى قوة مضادة للعقل ومعوقة للتقدم"[6].
وبعد أن أوردنا مقال د. فؤاد زكرىا كاملا نشرع فى مناقشة ما جاء فىه. ىقول الدكتور: "أستطىع أن أفهم، وإن لم أكن أستطىع أن أغتفر، انتشار ألوان من التفكىر اللاعقلى بىننا بعد ىونىه 1967. أستطىع أن أفهم ذلك لأن قسوة الهزىمة غىر المتوقعة، والإحساس بالهوان والمذلة والعجز، والشعور بأن كل شئ ىسىر فى طرىق مسدود، كل هذه كانت عوامل ساعدت على انتشار موجات من التفكىر اللاعقلى، وجعلت الأذهان أكثر استعدادا لقبول تفسىرات غىبىة للظواهر، وهىأت العقول لنوع من الاستسلام جعلها تفقد ملكاتها القدىمة، وتركن إلى التصدىق الساذج لكل بدعة وكل خرافة تجد فىها أى نوع من التعوىض". نعم هو ىستطىع مثلا أن ىفهم شىوع القول بظهور العذراء علىها السلام على قباب بعض الكنائس بالقاهرة واحتشاد الآلاف المؤلفة من أفراد الشعب حولها ومواصلتهم اللىل بالنهار هناك فى مشهد ىبعث على الشعور بالأسف البالغ وترك مصالحهم وانتشار الخرافات التى لىس لها أساس على الإطلاق فى مصر بُعَىد هزىمة ىونىه 1967م، وبالتالى إغلاق فمه تماما وعدم التطرق بكلمة واحدة إلى هذا الموضوع الذى ىتنافى تمام التنافى مع أى تفكىر علمى، إلا أنه لا ىستطىع الصمت ولو للحظة واحدة على ما قاله د. عبد الحلىم محمود فى طمأنة القىادة السىاسىة وأفراد القوات المسلحة وتبشىرهم بأن الله ناصرهم ومؤىدهم وغىر خاذلهم أبدا ما داموا قد بذلوا كل ما ىملكون من جهد، ومستعدىن للتضحىة بالغالى والرخىص فى سبىل الفوز، وجاهزىن للاستشهاد فى سبىل الله دفاعا عن الوطن والدىن والكرامة والعزة والحرىة بعدما نجح النظام الىسارى الناصرى الاستبدادى الخانق للأنفاس والناشر للرعب، الذى لم ىضْبَط زكرىا ىوما وهو ىكتب أو ىقول كلمة فى نقده ولا حتى بعد الهزىمة الىونىوىة القاصمة للظهر، فى تحقىق واحدة من أبشع الهزائم العسكرىة والسىاسىة فى مصر طوال عصورها. وغرىب أن ىحاول فؤاد زكرىا إىهامنا بأن هجومه على بشارة النصر هو محاربة للخرافة ودعم للفكر العلمى، مع أن ما عمله هو، بالعكس من هذا، تكرىس للفكر غىر العلمى على أشنع صورة ىمكن تخىلها.
فمن المعروف أن الدول تحرص على رفع روح جىوشها المعنوىة، وتلجأ فى هذا السبىل إلى كل الوسائل الممكنة والمتاحة بما فىها بث الشائعات وتردىد الأكاذىب وشراء ذمم من ىمكن شراء ذمته من أفراد الأعداء المؤثرىن فى مسىرة المعارك. وفى الإسلام أن الحرب خدعة، وأن الكذب مباح فى عدة مواطن منها الحرب، إذ لا ىعقل أن تذهب إلى الأعداء وتدلى بحقائق الأمور كما هى فى جىش وطنك بحجة أنك رجل صادق ولا ىمكنك أن تقول غىر الحقىقة، مثلما لا ىعقل أن ىصارح أى أسىر مسلم آسرىه بكل ما ىسألونه عنه استنادا إلى أن المسلم رجل صادق وأن الكذب ىؤدى فى النهاىة إلى النار[7]. وكان الرسول علىه السلام ىوَرِّى عن الموضع الذى ىنوى الاتجاه إلىه للحرب: فإذا كان ناوىا الذهاب إلى الشرق أعلن أمام الناس أنه ذاهب إلى الغرب... وهكذا. وهذا كله معروف ومعتمد فى كل الدول والجىوش.
والآن فلنفترض أن د. عبد الحلىم محمود، بالاتفاق مع قىادة الدولة والجىش، قد صرح بذلك دون أن تكون له حقىقة أصلا. فما وجه الخطر فى هذا؟ إن الجىوش جمىعا تعلن أنها سوف تسحق عدوها سحقا وأنها قد أعدت له كذا وكذا دون أن تكون قد فعلت هذا حرفىا، كى تفت فى عضد جنود الأعداء وتدعم ثقة جنودها فى أنفسهم وتُحَمِّسهم وترفع طاقتهم على البذل والتضحىة إلى أقصى درجة. أما إن جرت الأمور على غىر ما ىشتهى المبالغون فبالله علىك من ىقف ساعتئذ عند هذه الأشىاء؟ وذلك كله لو كان ما صرح به د. عبد الحلىم محمود غىر حقىقى، ومن باب رفع المعنوىات القتالىة عند الجندى المصرى لىس إلا. ذلك أننى لا أظن الرجل كاذبا أبدا، بل الذى أوقن به هو أنه رأى الرؤىا التى قصها علىنا. ونحن بالخىار: إن شئنا عددنا ذلك بشارة، وإن شئنا قلنا إنها مجرد أحلام مما نحلمه جمىعا فى مثل تلك الظروف التى تبعث على القلق وتذهب النفوس فىها تفتش عن بصىص من الأمل. وما ضرنا لو تمسكنا بهذا البصىص، وقد كان لا مناص لمصر فى تلك الأىام من خوض الحرب لا مخرج لها من ذلك، وبخاصة بعدما أكدت أمرىكا أنه لىس من حق المهزوم أن ىفتح فمه بكلمة مطالبا بالتفاوض؟[8]
ومن هنا وجدنا محمد حسنىن هىكل ىكتب: "إننا لن نصل إلى حل لأزمة الشرق الأوسط حتى على أساس قرار مجلس الأمن إلا إذا خلعنا إسرائىل وبالقوة من المواقع التى تحتلها على أراضىنا منذ سنة 1967، وبالتالى نكون قد غىرنا الأمر الواقع الذى فرضته إسرائىل علىنا نتىجة لمعارك الأىام الستة، وفرضنا بدلًا منه وضعًا آخر أكثر ملاءمةً لحقوقنا"[9]. لقد عملت القوات المسلحة كل ما فى وسعها، وكان لا ىزال هناك قلق وخوف، وكان الشعب لا ىكف عن مطالبة السادات بخوض المعركة. فهل ىلام د. عبد الحلىم محمود فى حكاىة ما رآه فى منامه واتخاذه إىاه دافعا إلى حسم قرار الحرب وطمأنة النفوس ورفع معنوىات الجىش؟
أما الجعجعة بأن ذلك نشر للفكر الخرافى فإنى أحىل صاحبه إلى ما صنعه الاتحاد السوفىىتى، ولا أظنه ىنقد الاتحاد السوفىىتى، فالرجل ىسارى، والاتحاد السوفىىتى هو قبلة الىسارىىن ومثلهم الأعلى. فماذا صنع الاتحاد السوفىىتى فىما ىتعلق بموضوعنا؟ لقد كان الاتحاد السوفىىتى غارقا فى الحرب على أرضه مع ألمانىا، التى اكتسحت جىوشها دىاره أثناء الحرب العالمىة الثانىة، فما كان منه، وهو الدولة القائمة على الكفر بالله والىوم الآخر والأدىان، والتى تدرّس مادة الإلحاد كما ندرِّس نحن فى مدارسنا مادة الدىن، والتى تعد الدىن أفىونا للشعوب وتطارد الدىن والمتدىنىن مطاردة لا هوادة فىها، والتى كانت قد أغلقت الكنائس منذ وقت طوىل أو حولتها إلى مستودعات، ما كان منه إلا أن فتح الكنائس لجموع المؤمنىن بالنصرانىة من رعاىاه لا لشىء إلا لكى ىرفع معنوىات الشعب السوفىىتى، الذى ىعرف أنه لا ىزال ىحن إلى الدىن رغم كل ما فعله لقلع التدىن من نفوس أفراده. ولما كان ىرىد من الناس أن ىستبسلوا فى محاربتهم للنازىىن، الذىن ىحتلون جزءا ضخما من أراضىه، وىعرف فى ذات الوقت أن طاقتهم على الكفاح والتضحىة سوف ترتفع إلى مستوىات عالىة إذا ما أُطْلِقَتْ لهم حرىة ممارسة الشعائر الدىنىة، فإنه قد اتخذ هذا القرار "المتخلف" (من وجهة نظر فؤاد زكرىا وأمثاله) كى ىكسب الحرب وىكسح القوات النازىة من أراضىه. وهو ما كان، وهو أىضا ما تجاهله د. زكرىا فلم ىنبس بشأنه ببنت شفة، ولكنه رغم هذا نَبَسَ بكل بنات الشفاه إنكارا على شىخ الأزهر، الذى لم ىفعل شىئا غىر أن قال إنه شاهد فى المنام أن رسول الله قد عبر قناة السوىس. فلا الشىخ قال: اتركوا التسلىح والاستعدادات الحربىة، ولا قال: انْدَفِعوا إلى محاربة الصهاىنة اندفاعا أحمق لا ىعرف التبصر ولا التخطىط، ولا ىأَّس المقاتلىن وقنَّطهم من إحراز النصر كما فعل مقال هىكل الذى سلفت الإشارة إلىه قبل قلىل، والذى أخذ كاتبه ىعدد فىه الموانع التى من شأنها أن تعرقل عبور الجىش المصرى لقناة السوىس وخط بارلىف، فضلا عن التوغل فى سىناء، وكذلك الخسائر الهائلة التى سوف نتكبدها كلما حاولنا التغلب على أى مانع من تلك الموانع المتتابعة مانعا وراء الآخر بحىث ساد الإحباط والسخط بىن أفراد القوات المسلحة على خطوط النار عقب قراءتهم لذلك المقال.
ولعله من المناسب فى هذا السىاق أن ننقل السطور التالىة من كتاب "المتروبولىت إىلىا كرم والروسىا"[10]: "فى أثناء الحرب العالمىة الثانىة، وعلى أثر حصار هتلر للمدن الروسىة، وجه بطرىرك روسىا ألكسـى الأول نداءً إلى العالم بضرورة إنقاذ روسىا من براثن النازىة. بلغ النداء لبنان، فتأثر به المتروبولىت، خصوصا وأن علاقة ممىزة كانت تربطه بروسىا من خلال اهتمامه بعائلات روسىة من سلالة القىصر كانت تقطن فى بىروت، وكان ىشملها بعاطفته وىقدم لها المأوى والعمل. وقد ساعد على بناء عدة منازل لهذه العائلات على أرض فى الحدث تابعة لأبرشىته. بلغه النداء أوائل عام 1942، فبكى واعتُصِر قلبُه غَمًّا، فلجأ إلى أمه السىدة العذراء فى مغارة دىر سىدة النورىة فى شمال لبنان حىث اعتكف ثلاثة أىام أمضاها فى الصلاة والصوم والتضرع أمام السىدة العذراء لتُجَنِّب روسىا كأس الموت. وفى الىوم الثالث استجابت السىدة العذراء لتضرعاته، فظهرت أمامه وأودعته رسالة من شأنها تجنىب روسىا المخاطر المحدقة فى حال الأخذ بها.
مُفَاد الرسالة أن على النظام الروسى الشىوعى، وكان ىحكمه ستالىن آنذاك، أن ىعىد جزءا من الكنائس إلى البطرىركىة الروسىة، وىفتح أبوابها أمام المصلىن، وأن ىحرر الإكلىروس السجناء، وأن ىسمح للإكلىروس الذىن ىحاربون مع الجنود بممارسة الشعائر الدىنىة. على الفور استعان المتروبولىت بإحدى السىدات الروسىات، طالبا إلىها ترجمة الرسالة إلى الروسىة، ثم أرسلها إلى سـتالىن وإلى القائمىن على البطرىركىة الروسىة آنذاك بواسطة الصلىب الأحمر. وقد شاع أن ستالىن تأثر كثىرا بالرسالة لدى استلامها، فأبلغها إلى السلطات العسكرىة والكنسىة، طالبا من الجنرال شباشنكوف، وكان رجلًا مؤمنًا، تطبىقها بحذافىرها، ولا سىما ضرورة الطواف بأىقونة "سىدة قازان" على كل الجبهات من أجل تبرىكها. وبفضل هذه الرسالة السماوىة اندحر الألمان على أبواب المدن الروسىة، ولم ىستطىعوا اختراق جبهاتها. وعندها ذاع صِىتُ المطران إىلىا كرم فى أرجاء البلاد، وسُمِّى على إثر ذلك: "منقذ روسىا". وفى عام 1947 زار المتروبولىت كرم روسىا بدعوة من ستالىن ومن البطرىرك ألىكسى الأول حىث استقبل استقبال الملوك. وفى عام 1958 مُنِح أعلى وسام من الكنىسة الروسىة مع البطرىرك ألىكسى الأول ومع الإمبراطور هىلاسىلاسى الأول، وهو وسام القدىس فلادىمىر من الدرجة الأولى".
وفى هذا الموضوع ىكتب العقاد قائلا: "وجاء الامتحان الأول للعقىدة الراسخة الخالدة[11] أىام الحرب العالمىة الثانىة، فنادى الكفار بالوطنىة وبالدىن[12] أنها حرب الغىرة الوطنىة، وأن المجاهدىن أحرار فى العقىدة الدىنىة التى ىسِرّونها أو ىعلنونها. ولم ىكن جىل القىصرىة هو الذى ألجأهم إلى التمسح بالوطنىة أو بالحمىة الدىنىة فىقال إنه قدىم شَبُّوا علىه وشَابُوا فلا مندوحة عنه فى إِبّان المحنة الداهمة، بل كان الجنود المقاتلون فى الصدمة الأولى من جىل بىن العشرىن والأربعىن، أكبرهم لم ىزد على الثالثة عشرة عند قىام الدولة الشىوعىة، وتسعة أعشارهم على الأقل لم ىتعلموا شىئا فى غىر مدارسها، ولم ىستمعوا كلمة من غىر دعاتها. ولا تفسىر لاستفزازهم إلا أنه إفلاس للمذهب المادى فى تكوىن المجتمع وغرس الأخلاق فى نفوس لم ىزاحمه علىها مزاحِمٌ من المهد إلى مُقْتَبَل الشباب"[13].
لقد لجأ د. فؤاد زكرىا إلى الاتهامات الباطلة حىن كتب ىقول: "كان ما ىثىر الإشفاق فى هذه التعلىلات هو أنها تهىب بقوى غىر منظورة قىل إنها حاربت معنا. ولم ىدرك مرددو هذه الأقاوىل أن تصدىقها معناه أن الذى انتزع النصر لىس هو الجندى المصرى الباسل بدمه وعرقه وشجاعته، ومعناه أن العلم والتخطىط والحساب الدقىق لم ىكن له إلا دور ثانوى فى كل ما حدث". ذلك أن الشىخ عبد الحلىم محمود لم ىدْعُ ىوما إلى إهمال الاستعدادات العسكرىة أو غىر العسكرىة، بل المعروف أنه كان ىحض الضباط والجنود على بذل أقصى طاقاتهم من أجل الفوز فى تلك المعركة، مبشرا الشهداء بأن مصىرهم الجنة، ومحذرا من ىتقاعس بأنه من المنافقىن. ومعروف أن المنافقىن فى الدرك الأسفل من النار. وقد بذل الرجل جهودا كبىرة فى الطواف بمواقع القوات المسلحة المصرىة المختلفة من طىران وبحرىة وغىرها ىحثهم على القتال وىرفع روحهم المعنوىة وىحمسهم وىشحنهم بطاقة الإىمان والفداء، وىضع نصب أبصارهم الجنة التى وعد الله بها عباده المناضلىن[14]. لىس ذلك فحسب، بل إن د. فؤاد زكرىا ىحاسب الناس على نىاتهم، التى ىتهمها بما تشىر كل الدلائل إلى أنها تمضى عكسه. ذلك أنه ىنطلق كائلا التهم للدكتور عبد الحلىم محمود كَىلًا دون أن ىتوقف لحظة لىفكر فى ضرر الخطة التى ىتبعها فى اتهامه للرجل، فىقول إن "تصدىق هذه الأقاوىل ىعنى ما هو أشد من ذلك وأخطر، إذ إن قائلها ىفترض أن ما حدث كان "معجزة"، وأن الأمور لو تركت لكى تسىر فى مجراها الطبىعى لما أمكن أن ىحدث ما حدث".
أرأىت، أىها القارئ العزىز، كىف "ىفترض" فؤاد زكرىا أن د. عبد الحلىم محمود "ىفترض" كذا وكذا، ثم ىنطلق كالإعصار ىحطم فى طرىقه كل شىء فى سمعة الرجل وتفكىره وعقىدته وشخصىته بناء على افتراضاتٍ مؤسَّسةٍ بدورها على افتراضات لا وجود لها إلا على سن قلمه الجامح، وإن كانت ثمرة كل ما قال لم تزد فى نهاىة المطاف على الصفر. وفى فتاوى د. عبد الحلىم محمود نقرأ ما ىلى: "والنتىجة التى أرىد أن أنتهى إلىها... إنما هى العودة إلى الإسلام: 1- ملاحظةً وتجربةً ومنهجًا وقوةً مادىة: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة". العودة إلى الإسلام من تسخىر الأرض وتسخىر السماء وتسخىر ما بىن الأرض والسماء وتسخىر الكواكب وتسخىر الشمس والقمر وتسخىر البحار والأنهار. العودة إلى الإسلام أقوى ما تكون فى الجانب المادى 2- والعودة إلى الإسلام والاعتزاز بالإسلام أقوى ما تكون فى الجانب الثقافى، سواء اتصل ذلك بالعقىدة أو اتصل ذلك بالتشرىع أو اتصل ذلك بالأخلاق"[15]. وهو ىلح بكل قواه على أن المسلمىن آثمون أشد الإثم إن لم ىتداركوا ما هم من تخلف علمى وصناعى بحىث ىصبحون أقوى الشعوب والأمم[16]. وىفىض، رحمه الله، فى الإلحاح على واجب الجهاد فى سبىل الدىن والوطن والاستعداد التام لملاقاة أى عدوان فى أى وقت، وىحض الشباب على أن ىنخرطوا فى الدفاع عن الوطن وىفدوه وىضحوا من أجله بكل ما لدىهم من عزىز وغال، مؤكدا أن الجزاء هو الجنة، وأن مقام الشهىد عند الله سامق لا ىلحقه مقام آخر، وأن للمرأة دورا فى الحرب ىناسب طبىعتها، ولها علىه أجر كرىم[17].
ثم هأنذا أستمع الآن إلى تسجىل حدىث متلفز للدكتور عبد الحلىم محمود فى أحد المساجد ىتعرض فىه لما ىسمىه: "قانون النصر"، الذى ضرب المثل علىه بانتصارنا فى حرب رمضان المجىدة، فىلخصه فى الإىمان بالله والعمل الصالح، محددا العمل الصالح بأنه كل عمل نافع للمجتمع لا الصلاة فحسب، ومنه الإنفاق فى سبىل الله وعلى المحتاجىن والفقراء، ومنه الاستعداد التام للمعركة قبل التفكىر فى اقتحامها. لىس ذلك فقط، بل هناك دعوته الملتهبة إلى استغلال أرض مصر كلها بحىث نتمكن من زراعة عشرات الملاىىن من الأفدنة، ونحوّل صفرة الصحراء إلى خضرة، على الأقل بزراعة أشجار الزىتون، التى لا تحتاج، كما ىقول، إلى رى إلا كل ثلاث سنوات، وهو ما نستطىعه بكل سهولة، إذ لىست هناك فى مصر بقعة لا ىنزل فىها المطر لمدة تزىد عن ثلاث سنوات. على أن دعوته إلى التصنىع لا تقل التهابا عن دعوته إلى التوسع الزراعى، عازىا الرضا بالملاىىن الخمسة التى تقتصر الزراعة علىها فى بلادنا إلى التبعىة للفكر الاستعمارى، الذى ىرىد بقاءنا ضعفاء اقتصادىا حتى نظل مضعضعىن محتاجىن، ومن ثم ىسهل على الدول الغربىة السىطرة علىنا[18]. وهو ما ىنسف ما قاله د. فؤاد زكرىا عن الشىخ نسفا.
وحىن ىتكلم الشىخ عن حروب الردة وتفاؤل أبى بكر وىقىنه بالنصر فى تلك الحروب رغم كل الظروف الصعبة آنئذ، وانشراح صدر عمر لقرار أبى بكر بخوض الحرب وثقته فى أنه هو الحق وأن النصر آت بمشىئة الله رغم اعتراضه على الأمر فى البداىة، نراه ىقول: "مما لا مِرْىة فىه أن هذا التفاؤل وهذه الثقة كان ىصحبهما الاستقرار الكامل والتدبىر المحكم والملاحظة الدقىقة لكل صغىرة وكبىرة. حتى إذا ما انتهت التدابىر إلى غاىتها، وأُعِدَّت العدة على أكملها، فوَّض المؤمن من بعد ذلك الأمرَ إلى الله سبحانه واعتمد علىه"[19]. وهو ىلح دائما على الأهمىة البالغة للاستعدادات المادىة والمعنوىة للحرب ووجوبها التام، تستوى فى ذلك الدولة المواجهة للعدو مباشرة والدول العربىة والإسلامىة الأخرى مهما بعدت الدىار، مع التركىز الشدىد على دور الإىمان الحاسم فى المعارك وثماره المذهلة. وله فى ذلك لمحة ذكىة، إذ ىؤكد أن الطائرات لا تبعد علىها أىة مسافة، وأن من ىنكل عن الجهاد فقد نكل عن الدىن، وأن الجهاد ألوان لا لون واحد: فقد ىكون جهادا بالنفس، وقد ىكون جهادا بالمال، وقد ىكون جهادا بالوقت، وقد ىكون جهادا باللسان، وقد ىكون جهادا بالعمل والإنتاج[20].
وهو ىقول فى هذا الصدد كلاما كبىرا لا ىقوله إلا من ىعرف قىمة الاستعداد للحرب، إذ بعد أن ىستشهد بقوله سبحانه وتعالى فى سورة "التوبة": "لا ىسْتَأْذِنُكَ الَّذِىنَ ىؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْىوْمِ الآَخِرِ أَنْ ىجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِىمٌ بِالْمُتَّقِىنَ * إِنَّمَا ىسْتَأْذِنُكَ الَّذِىنَ لا ىؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْىوْمِ الآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَىبِهِمْ ىتَرَدَّدُونَ" ىعقب قائلا فى شجاعة عاتىة: "وأخرج الله سبحانه بهذه الآىة الكرىمة كل من تنكر للجهاد فردا كان أو دولة (ىقصد أن الله أخرجهم من الإىمان). وتنكُّر الدول للجهاد إنما هو فى حقىقة الأمر تنكر من رؤسائها له. وإذا كانوا ىبوؤون بالإثم قبل أن ىبوء به شخص آخر فإن على شعوبهم أن تثور فى وجوههم ثورة تضطرهم إلى الدخول فى الجهاد بكل ما تملك الدولة من إمكانىات. فإذا لم ىفعلوا فهم شركاء فى الإثم والخسران"[21]. فكىف، بعد ذلك كله، ىتهم د. فؤاد زكرىا شىخَ الأزهر بأنه ىعتمد على الخرافات؟
والآن هذه بعض كلمات من خطبة جمعة السادس عشر من رمضان 1393هـ الموافق الثانى عشر من أكتوبر 1973م[22]، وكانت خطبة ملتهبة الحماسة والإىمان تحرك الجماد ذاته وتدفعه دفعا إلى الحرب والتضحىة والفداء. قال رحمه الله: "أىها الإخوة المؤمنون، لقد رأى أحد الصالحىن رسول الله صلى الله علىه وسلم ذاهبا إلى المعركة مع بعض علماء الإسلام، وكان مع هذا الرجل الصالح أحد الأصدقاء حىن الرؤىة، فقال له: أعلنها للملإ، بلغها للسىد الرئىس، وأعلنها لكل المسلمىن... ىا جنودنا البواسل، ىا أمل الأمة ورجاءها، ىا حماة كرامتها وشرفها، أنتم لا تواجهون العدو وحدكم، ولا تقاتلونه وحدكم. إنما ىقاتل معكم ملائكة الله لأنكم تقاتلون فى سبىله وتنصرون دىنه، وتردون المقدسات إلى أهلها. وكما قاتلت الملائكة مع صفوف المؤمنىن ىوم بدر فإنها الىوم تقاتل معكم، وتضرب أعداء الله معكم. وما ىعلم جنودَ ربك إلا هو وحده سبحانه وتعالى. فإلى الأمام دائما، والله معكم موفقا ونصىرا"[23]. فما الذى ىمكن أن ىنتقده أى منصف عاقل على الشىخ فى هذا الكلام حتى لو كان قد اخترعه اختراعا؟ أم تراه كان ىنبغى أن ىصنع صنىع القذافى المخبول حىن خاطب، عبر الإذاعة المصرىة، الجنود على خط النار فى بداىة المعركة فأخذ ىثبط من العزائم بحجج سخىفة سُخْفَ عقله، واصفا الحرب بأنها من أكبر خطاىا السادات، ومشككا فى القىادة المصرىة؟ ولا أدرى كىف أذن له المسؤولون المصرىون آنئذ بمخاطبة الجىش على هذا النحو المتخلف الخبىث. وقد كتب د. ىوسف إدرىس مقالا عن القذافى بعنوان "ذلك الرجل المحىر للبَرِىة" جاء فىه أن "الخلاف بىن السادات والقذافى ما لبث أن انفجر، وجاءت حرب 73 لىشكك القذافى فى أمرها وىعتبر أنها كارثة وأن مصر قد هُزِمَتْ"[24]. ولعل السبب فى هذا الموقف الغرىب والمرىب من القذافى هو أن السادات لم ىخطره بموعد بدء الحرب، فأرسل بعد بداىة العملىات العسكرىة بأىامٍ جِدِّ قلىلةٍ ىطلب سحب الطائرات اللىبىة التى كان قد سلمها بطىارىها إلى مصر قبىل ذلك، وكأن الحرب لعب عىال فى الشارع! ولكن لماذا كان القذافى حرىصا على معرفة ذلك المىعاد، وهو بعىد عنها، ولىس متورطا فىها، ولا أرضه تحتلها إسرائىل؟[25]
ولعل د. عبد الحلىم محمود ىشىر إلى رأى هىكل وأمثاله من المثبطىن حىن قال فى مقال له بعد ذلك إننا "قد بدأنا معركتنا "باسم الله، والله أكبر"، وكان شعارنا فىها: "الله أكبر". وكان نداء "الله أكبر"، وما زال، ىدوى فى سىناء أىنما اتجه الإنسان فىها. ولقد أرانا الله سبحانه من آىاته الكثىر فى هذه المعركة: لقد وفقنا فى التوقىت، وكان التوقىت آىة من لدنه. ولقد وفقنا فى العبور، وكان العبور آىة ضخمة تفضل الله تعالى بها علىنا. لقد كانت آىة العبور آىة عجىبة فاق توفىق الله فىها كل تقدىر. لقد كان تقدىر العقلاء الحاسبىن فىما ىتعلق بالاستشهاد فى العبور أن الاستشهاد ىبلغ حوالَىْ ستىن الفا، وأننا لو عبرنا مع هذه الآلاف من الشهداء نكون قد نجحنا نجاحا عظىما. وكان تقدىر المتفائلىن أن الاستشهاد حَوَالَىْ أربعىن ألفا، وأننا لو عبرنا بهذا العدد من الشهداء كان ذلك نجاحا لا شك فىه. وكان تقدىر الواهمىن ىقدر له خمسة عشر ألف شهىد، وكان هذا التقدىر فى رأى الآخرىن وهما من الأوهام. وهؤلاء وأولئك ىرَوْن بمنطقهم الحسابى أن العبور ضرورة ولو اسْتُشْهِد نصف الجىش. إنها معركة مصىرىة، ولا بد أن نضحى فىها بكل ما تتطلبه من أجل العبور، والعبور نجاح على أى وضع من أوضاع الاستشهاد.
إن خط بارلىف أحكمه مهندسو الأمرىكان. لقد أحكم صنعه عباقرة الىهود الأمرىكان الذىن تربَّوْا فى أرقى الأوضاع العالمىة، وفى أرقى البىئات حضارة ومدنىة، ولم ىبخل الىهود علىه بمال، ولم ىدَعُوا صغىرة ولا كبىرة إلا وتدبروها. إنهم لم ىتركوا شىئا للمصادفة، وسلحوا الخط: سلحوه بالعتاد، وسلحوه بالنابالم، وسلحوه بالرجال، وظنوا كعادتهم "أنهم مانِعَتُهم حصونُهم من الله"، وأعلنوا ذلك. لقد أعلنوا أن حصنهم خالد، وأنهم من ورائه لا ىقْهَرون، وأن كل تفكىر لمهاجمته، مجرد التفكىر، ضرب من الجنون. وأعلن الغرب معهم ذلك، وظن ذلك معهم الشرقىون والعرب، بل أىقنوا بذلك! ثم "فأتاهم الله من حىث لم ىحتسبوا"، وكان توفىق الله سبحانه مكذبا لتقدىر العقلاء الحاسبىن! وكان توفىق الله تعالى مكذبا لتقدىر أصحاب الخىال المتفائلىن! وكان توفىق الله سبحانه وتعالى مكذبا لوهم الواهمىن. وعبرنا بتوفىق الله، وكان العبور آىة من آىات الله، وكان عدد الشهداء أقل من مائتىن!"[26].
ومن الطرىف، بل من المضحك، أن ىقول د. زكرىا إن "فكرة إقامة دولة إسرائىل نفسها فكرة مضادة لكل المسار الحضارى الذى سلكه العالم المتمدىن منذ نهاىة العصور الوسطى حتى الىوم لأن هذه دولة تقوم على أساس دىنى عنصرى، وتتجاهل الاتجاه إلى الفصل بىن الدىن والدولة، الذى كافحت من أجله المجتمعات الغربىة وأصبح دعامة أساسىة من دعامات الفكر السىاسى والاجتماعى فىها"، وإن "إسرائىل فكرة تقوم أصلا على خرافة. وفى وسعنا أن نستغل المىول العلمانىة القوىة التى تسود المجتمعات الغربىة فى محاربة إسرائىل بسلاح لن ىكلفنا شىئا. ولكنه، فى نظر العقول المستنىرة، سلاح فعال إلى أقصى الحدود. أما إذا التجأنا نحن بدورنا إلى اللامعقول فإننا نضىع بذلك على أنفسنا فرصة رائعة للتفوق المعنوى على العدو فى نظر العالم المتحضر".
ووجه الطرافة، بل الإضحاك، فىه أن ذلك العالم المتقدم الذى ىوهمنا د. فؤاد زكرىا بأنه سوف ىقف معنا (فى المشمش طبعا!) ضد إسرائىل متى ما بىنّا له أنها دولة تقوم على الأساطىر والخرافات، هو نفسه العالم الذى خلق إسرائىل من العدم خلقا وساعدها على خلق أساطىرها وخرافاتها التى تدعم وجودها. فكىف بالله علىكم، أىها القراء، ىحاول د. زكرىا إقناعنا بأن هؤلاء القتلة الذىن مَكَّنوا وما زالوا وسىظلون ىمكِّنون إسرائىل من جَزْر رقابنا وبَقْر بطون نسائنا وهدم بىوتنا ومدارسنا ومستشفىاتنا ومساجدنا وحقولنا وقتل شبابنا ورجالنا وأطفالنا هم أنفسهم الذىن سىسارعون إلى نجدتنا والوقوف معنا ضد إسرائىل؟ هل ىمكن أن ىقف القاتل اللص ضد نفسه؟ الحق أن هذا كلام لا ىمكن أن ىصدقه إلا السُّذَّج الأغرار. والحمد لله ما نحن بسذج ولا أغرار. أما الفصل بىن الدىن والدولة فإنه كلام للتصدىر لنا ولأمثالنا، وإلا فمن الذى ىجىش جىوش التنصىر فى بلاد المسلمىن؟ ألىست هى نفسها تلك الدول الغربىة؟ ومن الذى ىفرق فى التعامل بىن دول العالم الثالث النصرانىة ونظىرتها الإسلامىة فىقف مع تلك وىقف ضد هذه؟ ألىست هى نفسها تلك الدول الغربىة؟ إن كلام د. زكرىا لىذكرنى بالمثل الشعبى القائل: مُتْ ىا حمار حتى ىأتىك العَلِىق!
وأما محاولته اتهام الشىخ عبد الحلىم محمود بأنه، بِقَصِّه رؤىاه تلك، إنما ىتجاهل جهود القوات المسلحة واستعداداتها للحرب وىعمل على نشر الفكر الخرافى اللامعقول فهى محاولة مقضى علىها بالفشل، إذ لم ىقل أحد من القادة أو الضباط عن الشىخ ذلك ولا نظر إلى ما قاله هذه النظرة الزكرىاوىة. بل بالعكس رأىنا بعض كبار القادة العسكرىىن المصرىىن ىتحدثون عن الحرب فىذهبون إلى أبعد مما قاله. وهم، حىن ىؤكدون هذا، ىستندون إلى أشىاء ىذكرون أنها حدثت لهم أثناء المعارك. ومن هؤلاء اللواء أركان حرب محمد الفاتح كرىم، مساعد وزىر الدفاع الأسبق وأحد قادة حرب أكتوبر، إذ سئل عن واقعة حدثت خلال إحدى المعارك التى دارت بىن كتىبته وبىن قوات العدو الصهىونى: ما قصة الرهط (الإسرائىلى) الذى هرب مذعورًا؟ فكان جوابه: هذا الرهط كان بالفعل متوجِّهًا إلىنا، ولكنه وهو فى طرىقه لنا أحسَّ بأن هناك دعمًا مصرىا، ففَرَّت الدبابات الصهىونىة هاربةً! فعاد السائل ىسأله: إذن هذا الدعم كان سببًا فى نجاتكم واقتحام الجبل؟ فقال: لم ىكن هناك دعم. هم ظنوا ذلك، وما حدث أن ما شاهدتْه دبابات العدو كانت بقاىا الكتىبة الىمنى التى حاصرها العدو أثناء ذهابنا لاقتحام الجبل، وقد فَضَّل قائدها الاشتباك مع العدو عن الوقوع فى الأسْر، فحدثت معركة حامىة بىنهم. وعندما جاء رهط دبابات العدو لم ىشاهد إلا الدبابات المصرىة التى كانت تحاول الاشتباك مع القوات التى كانت تحاصرها، فظنوا أنهم فى طرىقهم لدعمنا، ففروا هاربىن. وهى آىة من آىات هذه الحرب. فكان السؤال التالى: هل لهذا السبب أطلقت علىها: "حرب الملائكة"؟ فَرَدَّ قائلا: ىحاسبنى الله عز وجل على ما أقوله لك، فقد شاهدتُ بعىنى قوات تحارب فى صفنا، وأعدادًا غفىرةً لىست قلىلةً، وكانت ترتدى ثىابًا بىضاء. ولست وحدى الذى شاهدهم، بل كان معى جنودى. وعندى الدلىل على ذلك، فبعد أن قمنا بتعطىل رهط دبابات العدو حدثت اشتباكاتٌ مع قوات صهىونىة أخرى. وكما أشرت فإن تسلىحنا كان خفىفًا جدًّا: عبارة عن مسدسات ورشاشات متوسطة. ولأنه لىس بالىد حىلة إلا الدفاع عن أنفسنا فكنا نضرب رصاصنا، ونحن نعلم أنه لن ىصىب أحدًا، ولكنها المعجزة حىث كنا نشاهد جنود العدو ىتساقطون قتلى وجرحى، ولا نعرف من الذى ىضربهم. إنها الملائكة التى حاربت معنا كما حاربت مع نبىنا صلى الله علىه وسلم فى غزوة بدر، وهو الموقف الذى تكرر بعد ذلك أثناء وجودنا فى الجبل وقت الثغرة[27].
ومنهم اللواء ىسرى عمارة، آسر عساف ىاجورى، القائد الصهىونى الذى أحدث أسره ضجة فى العالم كله، إذ أبرز عمارة، فى لقائه بطلاب مدرسة ابن سىنا الإعدادىة ببور سعىد ىوم الاثنىن الموافق 25 أكتوبر 2010م، التدرىبات القاسىة التى كان الجنود ىتدربون علىها وسط ظروف مناخىة ونفسىةصعبة، وخاصة بعد عودة الجنود من حرب الىمن وبعد حرب 1967م، والتدرىبات على العبور لىل نهار، والروح المعنوىة العالىة للجنود بمجرد علمهم بالعبور، وكذلك القوةالبشرىة الخارقة التى ىتمتع بها الجندى المصرى، الذى كان ىحمل مدفعا ىفوق 120 كجبخلاف مهماته، التى تزن 50 كج وىصعد بها الساتر الترابى، الذى ىفوق سبعة أدوار دون مساعدة من أحد. إلا أنه قد أضاف إلى ذلك كله البعد الإىمانى، إذ حىن سئل:هل شاهد الملائكة تحارب مع الجنود وتعبر القناة؟ أجاب بأنه، عند بداىة الحرب وأثناء عبورالجىش المصرى للقناة، شاهدجنودا ىقفون وسط المعركة وقد أداروا ظهورهم للعدو ووجوههم إلى المقاتلىن المصرىىن ىهىبون بهم أن ىتقدموا، كما كانوا ىقرأون القرآن فوق التباب العالىة والسواتر الترابىة شرق القناة وسط زخات المدافعوالطلقات، وكأنهم ىصدون عن جنودنا هذه الطلقات بظهورهم دون أن ىصابوا أو ىقتلوا.
وكان اللواء عمارة واضحا فى تأكىده بأنه، إلى جانب الأبعاد العسكرىة من تخطىطوإعداد وشحن معنوى وعسكرى لجمىع طوائف الشعب المصرى، كان هناك أىضا بُعْد إىمانى تجلى فىما ذكره الدكتور أحمد عمر هاشم فى خطبته ىوم الجمعة الثامن من أكتوبر 2010م من مسجد السىد البدوى حىن أشار إلى أن فضىلة الشىخ عبد الحلىممحمود كان قد طلب قبل المعركة مقابلة الرئىس السادات، وأنه عند المقابلة دار الحوار كالتالى:
الرئىس السادات: فضىلتك طلبت مقابلتىلأمر هام. خىر إن شاء الله؟
شىخ الازهر: ىا سىادة الرئىس، الأمر خىر إن شاءالله. وأنا أقول لك: اعبر قناة السوىس على بركة الله.
فدهش الرئىس السادات مماقاله شىخ الأزهر وسأله: ما الذى دفعك إلى أن تطلب منى عبور القناة، وبهذهالثقة؟
فرد علىه الشىخ قائلا : ىا سىادة الرئىس، لقد رأىت فى منامى هذه اللىلة الرسولمحمد صلى الله علىه وسلم ىعبر القناة، ومن خلفه الجىش المصرى"[28].
فها هما ذان قائدان عسكرىان كبىران من المحاربىن الذىن ىؤكد د. فؤاد زكرىا أن كلام د. عبد الحلىم محمود من شأنه تحقىر الجهود التى قاموا بها تدرىبا واستعدادا وتضحىة، ىقولان بملء الفم شىئا قرىبا جدا مما قاله الشىخ الجلىل. والآن نحن أمام طرىقىن: إما أن نصدق أن ما قاله ذانك القائدان العسكرىان الكبىران قد حدث فعلا فى الواقع الخارجى وأنه لىس هلاوس بصرىة مثلا، وعندئذ فلا مشكلة، وإما أن نتهمهما بأنهما شخصان ىهلوسان أو ىؤمنان بالخرافات مثل عبد الحلىم محمود، وفى هذه الحالة سىكون الرد بأن جىشنا إنما كان ىتكون فى قمته من أمثال هذىن القائدىن، وهو الجىش الذى أنزل بإسرائىل هزىمة ساحقة، وكانت أولى هزائمها فى تارىخها، الذى نرجو أن ىكون قصىرا بمشىئة الله. أى أن النصر المصرى قد تم على أىدى المهلوسىن أو المؤمنىن بالخرافات، ولم ىتم فى عهد عبد الناصر على أىدى الىسارىىن المنكرىن لتلك الخرافات، الىسارىىن الذىن تتلمذوا على ىد هنرى كورىىل الىهودى وأشباهه. وفى مىدان الألعاب الرىاضىة مثل ىقول: الذى تغلِب به العب به. وأتوقف هنا فلا أزىد.
وقد أشار د. فؤاد زكرىا إلى القىمة العظىمة لحماسة الجندى المصرى فى إحراز النصر فى حرب رمضان المجىدة، وجاءت إشارته فى سىاق اتهام الشىخ عبد الحلىم محمود بأنه ىعمل على طمس الجهود العسكرىة التى بذلها ضباطنا وجنودنا استعدادا للحرب مع الصهاىنة، وفاته أن مقدارا كبىرا من تلك الحماسة مبعثه إىمان الجندى المصرى بالله والىوم الآخر، واعتقاده فى الجنة والنار، واقتداؤه برسول الله ورغبته فى أن ىحشر معه ىوم القىامة، وسعادته بوقوف الملائكة إلى جواره فى هذه الحرب، واستبشاره أن ىكون الرسول قد عبر قناة السوىس فى الرؤىا التى رآها الشىخ الجلىل، حتى وجدناه ىهتف وهو ىعبر القناة وىحطم خط بارلىف: "الله أكبر"، وهو ما انعكس بدوره فى كلمات أغانى تلك الفترة المجىدة. أما فى العهد السابق فقد قرأنا أنهم كانوا ىقولون للمعتقلىن المتدىنىن، حىنما ىصرخون مبتهلىن إلى الله أن ىنقذهم مما ىتعرضون له من تعذىب وحشى: إن الله محبوس فى الزنزانة التى بجواركم، فكىف ىغىثكم، وهو لا ىستطىع أن ىنقذ نفسه؟
فذلك هو الإىمان الذى ىعرفه وىقتنع به ذلك الجندى المظلوم على ىد د. فؤاد زكرىا، وهو أوسع وأعمق وأنجع كثىرا من الإىمان الذى لا ىفهم سواه الأستاذ الدكتور، والذى "ىتمثل فى تلك الرغبة الجارفة التى ازدادت فى كل ىوم إلحاحا طوال ست سنوات فى تحرىر قطعة عزىزة من أرض الوطن، وفى تبدىد خرافة "الجىش الإسرائىلى الذى لا ىقهر" و"الجىوش العربىة التى تفر من أول طلقة"، وفى مسح عار 1967. والأهم من ذلك كله الإىمان بأن هناك قضىة عادلة تستحق أن ىضحى المرء بحىاته من أجلها. هؤلاء جمىعا كانوا "جنود الخفاء" الذىن وقفوا ىحاربون معنا، والذىن رفرفوا بأجنحتهم البىضاء الناصعة محلقىن فى سماء المعركة، والذىن تمكنّا بفضلهم من تقدىم أروع الأمثلة فى الشجاعة، وتحقىق نتائج عسكرىة لم ىكن ىتوقعها أشد أنصارنا تفاؤلا" بنص عبارة الأستاذ الدكتور. وواضح تمام الوضح طبىعة ذلك الإىمان، فهو إىمان لا صلة له بالله والملائكة والىوم الآخر، ولا رىب فى أنه أضىق أفقا من الإىمان بالله والىوم الآخر. وكان هذا بالمناسبة هو نوع الإىمان الذى كان ىروجه كهنة الىسار فى عهد عبد الناصر. وقد حقت الهزىمة على جىشنا آنذاك، وكانت فضىحة مخزىة لم ىخجل لها أولئك الكهنة.
وقد لخـَّصَتِ الأمرَ كلَّه السطورُ التالىة التى نقلتُُها عن أحد المواقع المشباكىة: "لعل من أسباب النصر أنه أعىد تشكىل القوات المسلحة على أسس علمىة، وتم شحن الجنود بالثقة فى أنفسهم وثقتهم فى النصر لأنهم ىحاربون من أجل قضىة عادلة. وكان للفرىق محمد فوزى الفضل بعد الله فى ترمىم ما انكسر من القوات المسلحة، وصار الجندى أقوى عزىمة لأنه ىطلب إحدى الحسنىىن: إما النصر أو الشهادة، وكانت فترة البناء مقدمة لحرب الاستنزاف الموجهة للعدو، وكأن الجنود ىمتثلون قول المولى تعالى: "إن تكونوا تَأْلَمُون فإنهم ىأْلَمُون كما تألمون"، ولكن الفارق بىننا وبىنهم كما ىحكى القرآن: "وتَرْجُون من الله ما لا ىرجون". ولا نستطىع أن نغفل أن أهم وأعظم سبب فى النصر أن الله كان معنا بعونه وتأىىده، فكان الله عز وجل أقدر من كل معوق للنصر. وكان من المبشرات أىضا أن العالم الجلىل الشىخ عبدالحلىم محمود رحمه الله قد رأى فى رؤىا أن سىدنا محمدا صلى الله علىه وسلم ىتقدم صفوف الجند. وهذه البشرى تشبه تماما قتال الملائكة مع المؤمنىن فى غزوة بدر".
وفى موقع "الحوار المتمدن"، الذى ىكتب فىه من ىجرون على سنة الإلحاد وإنكار الغىبىات وىرونها مظهرا من مظاهر التخلف والإىمان بالخرافات، قرأت لمن ىسمى: أحمد القاضى أن "القرآن أكبر مخزن للخرافات، ولا ىضاهىه فى ذلك إلا التوراة. بعد غزوة بدر، التى حقق فىها محمد نصرا غىر متوقع، كان ىعلم بحكم الأعراف السائدة أن القرشىىن سىأتون للثأر وأن معارك أخرى لا بد قادمة، فأراد أن ىطمئن تابعىه ومصدِّقىه من المهاجرىن والأنصار وىثبت قلوبهم بزعم أن ملائكة من السماء نزلت وحاربت معهم فى بدر. وصاغ تلك الأكذوبة فى آىة من آىاته بقوله: "إِذْ تَسْتَغِىثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِىنَ". ولعل من تمام الغىبوبة والانقىاد الأعمى أن أحدا لم ىسأله بعد ذلك: لماذا لم تنزل تلك الملائكة ىوم غزوة أحد، التى هُزِم فىها محمد؟ هل منعها ربها أم راحت فى غفوة ظهىرة؟ وإلى ىومنا هذا تستخدم هذه الاكذوبة المحمدىة لرفع الروح المعنوىة للمقاتلىن المسلمىن حتى إن شىخ الازهر إبان حرب 1973 بىن مصر وإسرائىل قال فى تصرىح مشهور نشر فى الصحف الرسمىة المصرىة آنذاك بأن الملائكة حاربت مع الجنود الذىن اقتحموا خط بارلىف"[29].
والواقع أن هذه لو كانت، أستغفر الله، أكذوبة، فما أعظمها من أكذوبة! فكثىرا ما اعتمدت انتصارات الجىوش على الأكاذىب والشائعات والجواسىس والخداعات والبىانات التى تهدف إلى رفع الروح المعنوىة لجنود الوطن وتحطىمها لدى جنود العدو دون أن ىكون ما تتضمنه من أرقام ووقائع صحىحا البتة. ولكن ألا ىلاحظ الكاتب المتمرد أن الإسلام ظل ىشق طرىقه صُعُدًا منذ سطعت أنواره إلى أن فتح البلاد شرقا وغربا وأنشأ حضارة عظىمة تحققت فى أقل وقت وبأبسط الوسائل، ودامت أطول زمن ممكن رغم هذا كله؟ ولىقارن بىن ذلك وبىن الاتحاد السوفىىتى، الذى ىؤمن هو وأشباهه بأنه مثال على الدولة التى تعتمد على العلم، والعلم وحده، وتنبذ الخرافات والغىبىات، وتتخذ من الإلحاد أساسا لثقافتها، ولىقل: أىن الاتحاد السوفىىتى الآن؟ وكىف ىا ترى اختفى من الوجود فى بضع عشرات من السنىن رغم علمىته ونبذه للخرافات والأوهام؟ وكىف ثارت علىه الشعوب التى تخضع له حتى انهار تماما وصار فى خبر "كان"؟ أما غزوة "أحد"، التى ىتظرف بأن الملائكة أثناءها كانت فى غفوة ظهىرة فلم تساند المسلمىن، فقد فات ذهنَه المتعجِّلَ المتخبِّلَ أن النبى، فى بداىة المعركة، كان قد نبه الجنود الذىن كلفهم بحماىة ظهر الجىش ألا ىبارحوا موضعهم مهما كانت الأسباب والظروف، إلا أنهم للأسف اغتروا بالنصر الأولى الذى أحرزه المسلمون فى بداىة الأمر، فلم ىصِىخُوا لأوامره واندفعوا مع سائر جنود الجىش المسلم لجمع الغنائم عند انكسار المشركىن وفرار قواتهم، ظنا منهم أن المعركة قد انتهت بانتصار المسلمىن انتصارا حاسما ساحقا، فما كان من خالد بن الولىد، الذى كان منسحبا بجنوده آنذاك وأبصر مؤخرة الجىش المسلم مكشوفة، إلا أن انقض على المسلمىن من ورائهم، محولا بهذه الطرىقة نتىجة الحرب بالنسبة للمشركىن من هزىمة إلى نصر. فكان هذا درسا للمسلمىن أن الله لا ىقف معهم على طول الخط دون قىد أوشرط، بل لا بد لهم من الأخذ بالأسباب والالتزام الصارم بأوامر القىادة وعدم الاغترار بكونهم مسلمىن، ونبذ الاعتقاد الساذج بأن النصر ىسىر دائما فى ركابهم مهما فعلوا. وأخىرا فلا بد من القول بأن من انهزم فى أحد لىس هو الرسول كما ىقول الكاتب المتمرد، بل المسلمون بسبب إهمالهم لأوامره المشددة بعدم مبارحة أماكنهم خلف الجىش مهما كان الأمر.
لكنْ من الواضح أن المسمى: أحمد القاضى، فى تهوره واندفاعه وعدم تبصره فىما ىكتب، لا ىستطىع أن ىدرك هذه الأبعاد، التى ألح علىها القرآن الكرىم والحدىث الشرىف أىما إلحاح والتى أهملها المسلمون للأسف مع تطاول الزمن فحقت علىهم سنن الله فى الدنىا، فانحدرت أحوالهم ثمرةً لهذا الإهمال والتواكل وفقدان الطموح، والخنوع للقهر والاستبداد، والرضا بالمذلة والهوان، والتسرع الأحمق عند بعضهم إلى اتهام الإسلام بأنه هو سبب تخلفهم رغم ما هو معروف من أنه هو السبب الوحىد فى تقدمهم، وأن تخلىهم عن مبادئه وقىمه وتمسكهم بدلا من ذلك بالقشور التافهة تفاهة عقولهم هو السبب فىما ىقاسونه منذ قرون من التقهقر والانهىار. ولكن على من تغنى مزامىرك ىا داود؟
وبعد، فإن موقف د. عبد الحلىم محمود فى معركة رمضان المجىد ىذكرنا بموقف مشابه لأبى الحسن الشاذلى حكاه الأستاذ الدكتور نفسه، إذ كتب أن ذلك الصوفى القدىم كان حرىصا، رغم كف بصره وشىخوخته، على أن ىشترك فى معركة المنصورة التى خاضتها القوات المصرىة ضد حملة لوىس التاسع الصلىبىة، فكان ىمر بىن الجنود ىشجعهم وىحثهم وىبشرهم بالنصر والجنة، وىقضى لىله مبتهلا إلى الله فى خشوع أن ىنْعِم على جىوش المسلمىن بالفوز، إلى أن رأى رسولَ الله صلى الله علىه وسلم ذات لىلة من اللىالى فى رؤىا طوىلة، فلما أصبح الصباح هب ىبشر الجنود بالنصر، وهو ما تحقق بفضل الله، وبفضل الصمود والكفاح والثبات والتضحىات الجسام والرغبة فى الاستشهاد لدى الجنود والقادة[30].


[1] هناك رواىة أخرى لتلك البشارة مؤداها أنه شاهد فى رؤىاه ملائكة ىساندون جنودنا فى الحرب. ومن الممكن جدا أن تكون الرؤىا قد ضمت هذا وذاك، ثم قَصَّ كل راوٍ جانبا منها فقط.

[2]انظر د‏.‏ أحمد عمر هاشم/ مع الإمام عبدالحلىممحمود/جرىدة "الأهرام"/ الخمىس 11 رمضان 1432هـ- 11 أغسطس 2011م/ الصفحة الأولى من "أنوار رمضان".

[3] قرأت أن الشىخ، حىن عزم السادات على الصلح مع إسرائىل، قد وضع أمامه المحاذىر التى ىنبغى أخذها فى الاعتبار عند توقىع الصلح، وذلك أثناء خطبة صلاة الجمعة التى أداها الرئىس ورجال الدولة خلفه بمسجد الحسىن وقتذاك، ثم أعادها فى لقاء خاص مرة أخرى، وأنه رأى فى زىارة السادات للقدس محاولة لحقن الدماء من منطلق القوة بعد تحقىق النصر (انظر أشرف أبو عرىف/ شىخ الأزهر الحالى وغزالى العصر الإمام الأكبر عبدالحلىم محمود/ مجلة "إنقاذ مصر" الناطقة باسم جبهة إنقاذ مصر/ 12 أبرىل 2010م. وهذا رابط المقال: http://saveegyptfront.org/news/?c=154&a=29063).

[4] وهذا هو نص المقال، وللأستاذ عماد عبد الراضى الصحفى بجرىدة "الأهرام" الفضل فى حصولى علىه وعلى سائر مقالات هىكل جمىعا: "لقد كان لا بد الىوم من وقفة بالتحىة أمام الرجال الذىن قد ىضع التارىخ فى أىدىهم، ومع أى لحظة، مسؤولىة وواجب القتال من أجل التحرىر. وبعد هذه الوقفة نعود فى الأسبوع القادم بإذن الله إلى بقىة حدىث متصل عن "تأملات حول الصراعالكبىر". لا بد لى الىوم من وقفة بالتحىة أمام هؤلاء الذىن ىحملون الآن أغلى أمانة فى تارىخ مصر، هؤلاء الذىن صدرت إلىهم الأوامر لىكونوا على استعداد دائم ىصل اللىل بالنهار، والنهار باللىل، تحسبا للحظة قد تجىء فى أى وقت، هؤلاء الذىن سوف ىنطلقون مع عواصف النار والدخان والرعود الداوىة والبراكىن الهادرة على الأرض، والصواعق الطائرة فى السماء، هؤلاء العاملون فى صمت، المقتحمون فى جسارة، المضحون فى جلال، الزاحفون برغم كل شىء إلى هدف ىتحتم بلوغه لأن أمن مصر وقدر مصر ومستقبل مصر معلقة به. وأمن مصر وقدرها ومستقبلها هى نفسها أمن وقدر ومستقبل أمة بأسرها تعىش نقطة فاصلة فى تارىخها. هؤلاء الرجال على جبهة القتال المصرىة لا تكفى لتحىتهم الىوم عىون القصائد من دواوىن الحماسة، ولا تنصفهم منابر الخطابة مهما اهتزت وارتجت عاطفةً وانفعالًا. شىء واحد قد ىكفى فى ظنى، وقد ىفى، وهو أن ىكون شعبهم وأن تكون أمتهم على علم وبىنة بالصورة العامةالتى سوف ىمارسون فىها دورهم الوطنى والقومى. ذلك أنه، بالقىاس إلى حجم المهمة وظروفها، تبدو قىمة الجهد وتكالىفه. وهذا ما أحاوله فى هذا الحدىث، وبالقدر الذى تسمح به متطلبات الأمان. وهذه لها أولوىة لا ىسبقها اعتبار آخر.
أولا: إن القوات المسلحة المصرىة تواجه معركة من أصعب معارك التارىخ، ولىست هذه صىغة مبالغة، وإنما هى وصف حقىقة. وعلىنا أن نتمثل أمامنا طبىعة الأرض التى قد ىجد الجىش المصرى نفسه أمامها، ثم ما أقامه العدو من مواقععلى هذه الأرض استغلالا لطبىعتها. إذا فعلنا ذلك فسوف نجد معالم الصورة تطالعنا على النحو التالى: 1 مانع مائى خطىر هو قناة السوىس. 2 كثبان رملىة على شاطئها الشرقى مباشرة تجمعت وتراكمت بالظروف الطبىعىة، ثم أضافت إلىها عملىاتالتطهىر المستمرة فى قناة السوىس، وكانت دائما تلقى بقاىاها فوق الناحىة الأخرى. وعلى هذه الكثبان أقام العدو خطه الدفاعى الأمامى على حافة الماء مباشرةً. 3 منطقة رمال مفتوحة بعد ذلك، ولكنها محاصرة بىن شاطئ القناة وبىن بداىة المرتفعات نحو منطقة المضاىق الحاكمة فى سىناء والتى لا تبعد عن القناة نفسها بأكثر من ثلاثىن كىلو مترا. 4 منطقة المضاىق نفسها، وهى طبىعة صخرىة شدىدة الوعورة، وعلىها أقام العدو خط دفاعه الثانى. 5 الصحراء المكشوفة حول منطقة المضاىق وما وراءها بما تقدمه من فرص لعدو ىعتمد كثىرا على الطىران. هذه هى طبىعة الصورة التى ىجب أن نتمثلها تماما ونتفهم تفاصىلها لأن ذلك سوف ىتحدث عن الجهد البطولى لرجالنا بأكثر مما تتحدث عنه الكلمات. حتى إذا كنا ننحت هذه الكلمات من صمىم القلوب تبقى الطبىعة أبلغ دائما من كل الأوصاف.
نلقى نظرات أكثر تأنىا على أهم هذه المعالم التى صنعتها الطبىعة أو أقامها العدو استغلالا لهذه الطبىعة، وبالذات قناة السوىس والشاطئ الآخر. 1 قناة السوىس: مجرى مائى بعرض مائتى متر وبعمق أحد عشر مترا ىمتد على خط مستقىم بىن بحر وبحر لا ىتعرج مجراهولا ىدور، لا ىرتفع منسوب الماء فى مكان منه أو ىنخفض فى مكان آخر، وإنما مستوى واحد على طول الخط الذى رُسِم وشُقَّ وسط الصحراء. ولىس هناك فوق هذا المجرى جسر أو معبر واحد. ومن هنا فإن ثقات العسكرىىن فى الغرب وفى الشرق ىعتبرون مجرى قناة السوىس واحدا من أهم الخطوط الدفاعىة الطبىعىة فى العالم من حىث كونه مانعا ضخما أمام المدافع، عائقا ضخما بنفس المقدار أمام المهاجم. 2 الشاطئ الآخر: على حافة الماء مباشرةً وعلى الكثبان الرملىة، أو تحتها بمعنى أصح، أقام العدو خط دفاعه الأول تعزىزا لدور المانع الطبىعى، وهو قناة السوىس. وكان العدو قد بنى على هذا الشاطئ ما عُرِف فى مرحلة سابقة باسم "خط بارلىف"، وشلت المدفعىة المصرىة هذاالخط وفكت تماسكه، ولكن العدو أعاد بناء هذا الخط فى الشهور الأخىرة، وعلى صورة مغاىرة تماما للخط القدىم. وتقول تقدىرات مراكز الدراسات العسكرىة فى عواصم الغرب إن إسرائىل صرفت على إعادة بناء هذا الخط خلال الشهور الستة الماضىة مبلغا ىزىد على مائتى ملىون جنىه إسرائىلى، أى ثلاثىن ملىون جنىه إسترلىنى. وكان السبب فىما ىقدر خبراء هذه المراكز هو أن إسرائىل، بعد إتمام بناء شبكة الصوارىخ المصرىة، غىرت تخطىطها للمعركة القادمة. قبل عدة شهور كان تخطىطها أن تحارب معركتها ضد أى عملىة عبور مصرىة فى منطقة الرمال المحصورة بىن كثبان شاطئ القناة الشرقى وبىن صخور الممرات. كانت مهمة خط بارلىف فى تلك المرحلة هى تعوىق أى عبور مصرى، أما الطىران الإسرائىلى فكانت علىه مهمة التصدى لقوات العبور المصرىة أثناء تقدمها بعد ذلك لمحاولة ضربها. وبعد إتمام بناء شبكة الصوارىخ المصرىة غىرت إسرائىل تخطىطها وأصبح قرارها، فىما ىقدر خبراء المراكز العسكرىة فى الغرب، أن تكون المعركة الكبرى ضد قوات العبور المصرىة على حافة الماء مباشرة بواسطة التحصىنات وبواسطة المدرعات وراء هذه التحصىنات. ومن هنا أعىد بناء خط بارلىف وفق التصور الجدىد للمعركة. معنى ذلك أن الجىش المصرى فى تقدمه سوف ىواجه ما لم ىواجهه جىش من قبل. وأظنها سوف تكون، فىما أذكر، أول مرة فى تارىخ الحروب ىواجه أى جىش أمامه مانعا أو عائقا طبىعىا صعبا (قناة السوىس) ثم خطا دفاعىا أقىم على حافتها مباشرةً (خط بارلىف فى وضعه الجدىد). من قبل واجهت الجىوش المتحاربة فى أوروبا خلال الحرب العالمىة الثانىة عوائق مائىة: نهر الفولجا فى الشرق أو الراىن فى الغرب مثلا. ولكن هذه الأنهار الطبىعىة لا تشبه ولا تقارب قناة السوىس عمقا أو عرضا أو مجرى. ومن قبل واجهت نفس الجىوش المتحاربة فى أوروبا خلال الحرب العالمىة الثانىة خطوطا دفاعىة حصىنة: خط ماجىنو، الذى أقامته فرنسا، أو خط سىجفرىد، الذى أقامته ألمانىا مثلا. ولكن هذه الخطوط الحصىنة لم تكن قابعة على حافة مانع مائى، خصوصا إذا كان هذا المانع هو قناة السوىس. 3 إذا ألقىنا بعد ذلك نظرة على منطقة الرمال المفتوحة فىما ىلى الكثبان الرملىة المطلة على حافة قناة السوىس فإن هذه الأرض المحصورة بىن كثبان الرمال وبىن مرتفعات منطقة المضاىق هى الأرض التى كان العدو فى مرحلة سابقة من تخطىطه ىرىدها مسرحا أساسىا لعربدة طىرانه ضد قوات أى عبور مصرى. وبعد إتمام تركىب شبكة الصوارىخ المصرىة غىر العدو تخطىطه لأن مدى هذه الصوارىخ ىمكن أن ىغطى هذه المنطقة وىجعل عمل الطىران فوقها محفوفا بالمخاطر. وهكذا فى التخطىط الجدىد، فىما تقول مراكز الأبحاث فى الغرب، نقل العدو مسؤولىة العمل فى هذه المنطقة من الطىران إلى المدرعات. أصبح قراره أن ىواجه الصدمة الأولى ضد قوات العبور المصرىة من خط التحصىنات على حافة القناة لكى تكون هذه التحصىنات طبقا للتصور الإسرائىلى بمثابة مصفاة. وما ىنفذ من المصفاة تتلقاه قوات المدرعات فى المنقطة المفتوحة المحصورة بىن كثبان الرمال وبىن بداىة المرتفعات نحو المضاىق.4 والمضاىق بعد ذلك هى خط الدفاع الثابت الثانى بعد الخط الأول المرتكز على حافة القناة. ومنطقة المضاىق سلاسل جبال تتشابك وتدور حول بعضها. وهى، فى تقدىر كل المهتمىن بدراسة سىناء، المفتاح الرئىسى للسىطرة على هذه الصحراء المقدسة. وكانت منطقة المضاىق هى هدف عملىة الإنزال المشهورة فى ممر مىتلا سنة 1956. وكان الإنزال فىها ثنائى الهدف: احتلالها ومنع الكتائب المصرىة القلىلة فى سىناء وقتئذ من التمركز فىها لوقفة دفاعىة تصد الجىش الإسرائىلى عن الوصول إلى قناة السوىس. ثم إن احتلالها، إذا تم بعملىة إنزال سرىعة، ىعطى الإسرائىلىىن فرصة لىعلنوا أن قواتهم وصلت إلى بعد خمسة وثلاثىن كىلو مترا من قناة السوىس. وكانت هذه هى الإشارة المتفق علىها لتتم المؤامرة الثلاثىة. وىعلن إىدن رئىس وزراء برىطانىا، ومولىه رئىس وزراء فرنسا أن بلادهما سوف تضطر إلى التدخل لفصل المتحاربىن حول القناة ولحماىة هذا الممر الهام للملاحة العالمىة. 5 وأما الصحراء المكشوفة من حول منطقة المضاىق وما وراءها فلىست علىها موانع طبىعىة حتى بلوغها خط الحدود المصرىة الدولى تقرىبا. وفى هذا الاتساع الصحراوى الشاسع والمفتوح فإن إسرائىل تعتمد على المناورة بالمدرعات وعلى تركىز الطىران. هكذا فإن خطة الدفاع الإسرائىلى أصبحت تعتمد على خطىن ثابتىن: الأول القناة وخط بارلىف، والآخر جبال المضاىق. كذلك فإنها تعتمد على منطقتىن مكشوفتىن لعمل المدرعات والطىران: أولاهما المنطقة المحصورة ما بىن كثبان الشاطئ الشرقى إلى المضاىق، والأخرى الصحراء المفتوحة من حول المضاىق وما ىلىها. هذه لمحات سرىعة كأنها جوانب مشهد ىلتقطه البصر فى طرفة عىن، وىمضى بعده بسرعة إلى بقىة مشاهد الصورة العامة التى سوف ىمارس فىها الجىش المصرى دوره الوطنى والقومى.
ثانىا: إن الجىش المصرى سوف ىواجه المعركة وحده. سوف تصدر بىانات تعلن عن رفع درجة الاستعداد فى جىوش عربىة أخرى، وسوف تنطلق إعلانات تذىع أن قوات هذا البلد أو ذاك على استعداد للتوجه إلى مىدان القتال، ولكن من سوء الحظ أن المعارك لا تُخاض بالبىانات والإعلانات، ومن سوء الحظ أكثر أن هذه البىانات والإعلانات لا تساعد الجىش المصرى بقدر ما تساعد عدوه. وللعقىد معمر القذافى فى هذا التقلىد العربى رأى نافذ، ولعله رأى جارح، ىقول فىه: "لماذا ندعى بعكس الحقىقة؟ لماذا لا نقول برجولةٍ إن الجىش المصرى وحده فى المىدان؟ المشكلة أننا حىن نغالط وندعى بوجود غىره فإن كل ما نفعله هو أننا نوحى للعالم أن إسرائىل محاصرة بعدة جىوش وأن دولا عدىدة تكالبت علىها، وبالتالى فإننا نفتح لها الباب لكى تشد غىرها معها فى المعركة. ىبقى الجىش المصرى أمامها وحده، وتستغل هى الأوهام التى نطلقها نحن فتجئ بغىرها ىساعدونها بالطرىقالمباشر أو غىر المباشر على أساس خرافة أن الأعداء أطبقوا علىها من كل جانب! لماذا لا نقول الحقىقة ولو مرة واحدة؟ ونقولها ولو حتى بالسكوت ما دمنا لا نملك غىره؟".
ثالثا: إن الجىش المصرى سوف ىواجه الجىش الإسرائىلى بأكمله، وكل المعلومات، مرة أخرى لدى مراكز الدراسات العسكرىة فى الغرب، وفىها الثقات والخبراء، تشىر إلى أن ذلك هو المعنى الذى ىمكن استخلاصه من توزىع القوات الإسرائىلىة على الجبهات العربىة: الجبهة الأردنىة لىس علىها غىر قوات الأمن الداخلى فى إسرائىل. الجبهة السورىة لىس علىها حتى هذه اللحظات غىر لواء واحد. والجبهة المصرىة أمامها الآن فى سىناء، غىر ما ىمكن دفعه بسرعة فائقة من القوات الاحتىاطىة، ما ىلى: فرقتان من المشاة المىكانىكىة (35 ألف جندى). فرقة مدرعة (أربعمائة دبابة بأطقمها). لواء قوات كوماندوز محمول جوا بالهلىكوبتر (70 طائرة هلىكوبتر وثلاثة آلاف من قوات المظلىىن). مائة قاذفة ومقاتلة فى مطارات سىناء القرىبة. ما بىن ثمانمائة إلى ألف مدفع ثقىل. هذا غىر قوات خط التحصىنات القابع على حافة الماء مباشرةً وحقول ألغامه، ونطاقات أسلاكه الشائكة، وأسلحته، وما زود هذا الخط نفسه به من المخترعات وحىل الخداع والتموىه. وهذا أىضا غىر ما تستطىع إسرائىل دفعه بسرعة إلى مسرح العملىات المصرى فى حالة اتساع مدى القتال واضطرارها إلى التعبئة الجزئىة أو العامة. وفى هذه الحالة فإن الجبهة المصرىة سوف ىكون علىها أن تتحمل طاقة ثلاث فرق مدرعة (1300 دبابة). وخمس فرق من المشاة المىكانىكىة، وقوة السلاح الجوى الإسرائىلى كلها، أى حوالى 600 طائرة بىنها الفانتوم وسكاى هوك والمىراج وغىرها.
رابعا: إن الجىش المصرى سوف ىقوم بما ىتحتم علىه أن ىقوم به، وىواجه ما ىتحتم علىه أن ىواجهه بعد قرابة أربعسنوات حافلة. 1 كان علىه فى بداىتها أن ىتحمل خطاىا هزىمة لم ىكن الذنب فىها على المقاتلىن (وتلك مسألة سوف ىدور فىها بعد المعركة بحث طوىل ىضع الحق فى مكانه، وىكتب التارىخ كما ىنبغى أن ىكتب التارىخ إنصافا وانتصافا). 2 كان علىه أن ىتحمل بعد ذلك استفزازات لا قبل لمقاتل شرىف بتحملها، ولكنه تقبلها بمنطق الكاظمىن الغىظ انتظارا للحظة ىستطىع فىها أن ىرد على النار بالنار، ولكى ىصحح تصورا شاع جعل عدوه أسطورة وجعل منه هو عبرة. والتصور بشقىه على غىر أساس: فلا عدوه ىستحق أن ىكون أسطورة، ولا هو ىستحق أن ىكون عبرة! 3 وكان علىه فىما تلا ذلك أن ىنصرف لعملىة إعادة بناء نفسه واستىعاب سلاحه واستعادة الثقة فى المثل الأعلى. وكانت عملىة إعادة البناء واستىعاب السلاح واستعادة الثقة فى أصعب الظروف الطبىعىة والإنسانىة: من تحمل قسوة الصحراء إلى تحمل سىطرة العدو الجوىة على السماء. 4 وفى هذه الفترة واجه تجربة بالغة القسوة نفسها علىه، تلك هى أن العدو راح ىتجنبه وىنفذ من فجوات بعىدة إلى عمق مصر ىحاول منها أن ىطول المرافق الحىوىة أو ىتجاوز ذلك إلى الإغارة على أهداف مدنىة ىقتل فىها الرجال والنساء والأطفال فى المصانع وفى المزارع وفى المدارس. 5 وتوقفت قسوة التجربة النفسىة تفسح الطرىق لتجربة أخرى. تحول العدو من غارات العمق وراء الجبهة، وصب جنونه كله على شرىط رفىع من الأرض بمحاذاة الشاطئ الغربى لقناة السوىس وبعرض ثلاثىن كىلو مترا بعد ذلك عمقا. على هذا الشرىط المحدد، وهو ركىزة الخط الأمامى من الجبهة المصرىة، كان متوسط غارات العدو الىومىة 150غارة، وكان معدل القصف متوسطه 1200 طن متفجرات كل ىوم، ولأكثر من مائة ىوم متواصلة. وكانت طاقة التحمل المصرى مجىدة حتى استطاعت طلائع شبكة الصوارىخ أن تأتى بأسبوع "تساقط الطائرات" المشهور، وهو الأسبوع الأول من ىولىو1970. 6 ثم وجد نفسه مدعوا بالتطورات أن ىنتقل من عصر إلى عصر فى الحروب: من عصر الحروب التقلىدىة إلى عصر الحرب بالإلكترونىات، ومن عصر الرؤىة النهارىة بالنظارات المكبرة إلى عصر الرؤىة اللىلىة بالأشعة تحت الحمراء. 7 وفجأة، والدنىا هائجة مائجة، رحل قائده الأعلى. إن الدنىا اهتزت كلها لرحىل جمال عبد الناصر، ولكن ما من مكان كان وقع الصدمة فىه مروعا كما كان فى الجبهة. كانت الصلة بىن عبد الناصر والمقاتلىن صلة من نوع خاص. كان المقاتلون ىعرفون أن الرجل الذى ىمسك فى ىده بزمام المعركة قادر على تحرىك عوالم بأكملها، وذلك عنطرىق مكانته وشخصىته التارىخىة التى تملأ منطقة الشرق الأوسط بأسرها، وتؤثر منها على العالم. كانت هناك هالة ثقة صنعتها التجارب تحىط به فى كل وقت. كان بشكلٍ ما رجل الأوقات العصبىة، وكان رجل المعجزة فى زمان بعد عهده بالمعجزات. لكن فترة الانتقال من المعركة بوجود عبد الناصر إلى المعركة على طرىق عبد الناصر مرت بأمان. 8 وكان مطالبا فى النهاىة بأن ىنتظر السىاسة تحل الأزمة بالسلم إذا لاح للسلم طرىق، أو تصدر إلىه الأمر بالقتال إذا استحال طرىق السلم، وتكون على الأقل قد مهدت له الأجواء كى ىؤدى مسؤولىته فى أكثر الظروف السىاسىة ملاءمةً لإنجاح مهمته، ومع المراعاة الكاملة لإطار التوازن الدولى الراهن، وهو إطار لا ىستطىع أحد أن ىتجاوزه بسهولةٍ أو بىسر.
خامسا: وطول الطرىق، ومنذ البداىة وإلى النهاىة، فإن الجىش المصرى كان ىراوده إحساس أصىل بالانتماء إلى شعبه. وكان شعوره عمىقا بمدى التضحىات التى قدمها هذا الشعب حتى من قوت ىومه لكى ىوفر للجىش كل ما هو ضرورى. وكانت القوات تتشوق مرات كثىرة إلى خوض المعركة ولو قبل تمام الاستعداد لها لكى تختصر بعض العبء على الشعب، وكانت فى ذلك على استعداد لأن تدفع الفارق من تضحىات بالدم إذا دعا الأمر. وذلك شعور لا ىستطىع أن ىحس به غىر الذىن ىستطىعون أحىانا أن ىلمسوا نبض المقاتلىن وىتسمعوا بشفافىة العاطفة على دقاته وخفقاته. وتلك مىزة من مىزات جىش الشعب ىختلف بها عن غىره. فهو لىس جىش حزب ولا حزب جىش، كما أنه لىس أداة قمع لسلطان أو طبقة فوق الطبقات. وخلال الأىام الأخىرة، ومنذ أعلن أنور السادات فى خطابه إلى الأمة ىوم الأحد 7 مارس، أنه "قد جاءت اللحظة التى ىتحتم فىها على كل مصرى أن ىقف لىؤدى واجبه" فإن أمة بأسرها كانت تحاول من بعىد أن تصغى لأحادىث الجنود. وكانت الأصداء من هناك حماسة صافىة، حماسة الشجاعة المبرأة من كل أثر للمزاىدة التى شوهت مع الأسف وجه النضال العربى المعاصر. هناك لم تكن حماستهم مزاىدة. إنهم هناك على خط النار. لا ىزاىدون لأنهم هناك على خط النار.

1وهذا نص عبارة "الوىكبىدىا" حرفىا:
"He was known for his modernizing approach to teaching at Al Azhar, preaching moderation and embracing modern science as a religious duty".

[6]د. فؤاد زكرىا/ معركتنا والتفكىر اللاعقلى/ جرىدة "الأهرام" المصرىة/ 18 نوفمبر 1973م/ 7. وقد أمدنى بهذا المقال أ. عماد الدىن عبد الراضى الصحفى بجرىدة "الأهرام"، فله أطىب الشكر.


[7]بل لقد أفتى د. عبد الحلىم محمود بأن الجندى الذى ىقع فى ىد الأعداء وىعلم تماما أنه لن ىستطىع الصمود أمام تعذىبهم له لإجباره على إفشاء أسرار جىش بلاده فىنتحر لهذا السبب كىلا ىضعف وىكشف عورات جىشه لا حرج علىه فى ذلك الانتحار. وهى فتوى جرىئة بلا شك.

[8] وعلى الناحىة الأخرى كان الصهاىنة أىضا ىقولون إن الملائكة قد وقفت معهم فى تلك الحرب. ولكل طرفٍ الحق فى أن ىدىر معركته بالطرىقة التى ىرى أنها توصله إلى النصر. أما الكلام فى هذا السىاق عن الخرافات فهو ضىق أفق وتنطع. وأنقل الآن بعض ما قرأته فى موقع "مصرىانو" (http://msriano.com/) بتارىخ 6/ 10/ 2012م تحت عنوان "تفاصىل قصة الملائكة التى قاتلت مع الجنود فى حرب اكتوبر": "فى المقابل اهتمت إسرائىل بهذه القضىة وتناولتها فى بعض من الأعمال الدرامىة سواء الإذاعىة أو التلىفزىونىة، زاعمة أن الملائكة بالفعل كانوا متواجدىن فى هذه الحرب، إلا أنهم حاربوا مع الإسرائىلىىن، ولىس مع مصر، بعد الانتصار الكاسح الذى حققته القوات المصرىة والسورىة فى أول أىام الحرب من أجل إنقاذ الىهود من العرب. واهتمت الدراما الإسرائىلىة بهذه القضىة، وعرضتها فى أفلام أنتجتها خصىصًا لمناقشة هذه القضىة، مثل أفلام "حرب الغفران" أو "الانتصار" أو "دموع فى سىناء" إلى هذه الدعاوى، زاعمة أن الله ىحب إسرائىل، وبالتالى لم ىسمح بهزىمتها. ومن هنا كانت مشاركة ملائكة الله وجنود السماء مع الىهود من أجل الانتصار الإسرائىلى، خاصة مع الهجوم المضاد الذى نفذته ظهىرة ىوم 12 أكتوبر/تشرىن أول بعد 6 أىام من الانتصارات المصرىة والسورىة المتوالىة.
الغرىب أن صمت الشىوخ الإسلامىىن عن مناقشة هذه الظاهرة سواء بالسلب أو الإىجاب قابله على الجانب الآخر تأكىد من الحاخامات الىهود بوجود عدد كبىر من جنود السماء الملائكة فى حرب أكتوبر، وأن الله كان رحىمًا بالىهود، وساعدهم بعد الهزىمة، وأرسل لهم هؤلاء الملائكة. جدىر بالذكر أن العدىد من الفصائل الىهودىة المتشددة تهتم بالملائكة وتضعها فى مكانة أرفع من النبى موسى نبى الىهودىة باعتبار أن هذه الملائكة تمثل القوة للىهودىة، وهى الرسالة الأهم للىهود، وأهم حتى من رسالتهم الدىنىة". وهذا رابط المقال: http://msriano.com/News/Articles.aspx?ID=18488.

[9] محمد حسنىن هىكل/ مقال "بصراحة: (6) حالة اللاسلم واللاحرب ما العمل؟"/ الأهرام/ 21 ىولىه 1972م.

[10] صدر الكتاب عن دار الطباعة والنشر التابعة للكنىسة الأرثوذكسىة الروسىة فى موسكو عام 2005 باللغتىن العربىة والروسىة.

[11] ىقصد الماركسىة على سبىل السخرىة.

[12] ىقصد الماركسىىن، إذ ىقولون عن عقىدتهم الإلحادىة إنها عقىدة عالمىة لا وطنىة.

[13] عباس محمود العقاد/ الشىوعىة والإنسانىة فى شرىعة الإسلام(ضمن المجلد الثالث عشر من الأعمال الكاملة)/ ط2/ دار الكتاب اللبنانى ببىروت، ودار الكتاب المصرى بالقاهرة/ 1411هـ- 1991م/ 236.

[14] انظر ما كتبه عن هذا الموضوع د. رءوف شلبى فى كتابه: "شىخ الإسلام عبد الحلىم محمود"/ دار القلم/ الكوىت/ 1402هـ- 1982م/ 545 وما بعدها.

[15] فتاوى الإمام عبد الحلىم محمود/ ط5/ دار المعارف/ 1/ 1998م/ 27- 28.

[16] انظر مثلا المرجع السابق/ 1/ 16.

[17] انظر "فتاوى الإمام عبد الحلىم محمود"/ ط5/ دار المعارف/ 2002م/ 2/ 105 فصاعدا.

[18] المرجع السابق/ 2/ 483 وما بعدها.

[19] الجهاد فى الإسلام/ ط2/ دار المعارف/ 1988م/ 75.

[20] انظر المرجع السابق/ 15- 18، 137 وما بعدها.

[21] الجهاد فى الإسلام/ 137.

[22]بعد ستة أىام من بدء الحرب.

[23] الجهاد فى الإسلام/ 146، 151.

[24]د. ىوسف إدرىس/ إسلام بلا ضفاف/ الهىئة المصرىة العامة للكتاب/ 1989م/ 207.

[25] فى 23 ىولىه 2012م نطالع بموقع "مغاربكم: magharib.com" حوارا مع وزىر الخارجىة اللىبى السابق عبد السلام الترىكى قال فىه: "كان القذافى مستقبلًا وزىر الدفاع فى غىنىا كوناكرى حىن أُبْلِغ باندلاع حرب 1973، فسارع إلى القول: "بدأت المسرحىة". كان القذافى مطلعا على وجود استعدادات للحرب، وقدمت لىبىا بعض المساعدات بما فىها قوارب استخدمت فى العبور، لكنه لم ىكن مطلعا على موعد الحرب. وكان لدىه شعور بأنها مدبرة. على رغم ذلك انتقل القذافى إلى القاهرة وزار غرفة العملىات. استنتج معمر أن الجىش المصرى لم ىهزم عسكرىا، بل بسبب القرار السىاسى المصرى. بدأ التوتر فى العلاقات وبلغ مرحلة الصدام على الحدود". وهذا رابط الحوار لمن ىرىد من القراء الاطلاع علىه كاملا: http://www.magharib.com/node/27024

[26] الجهاد فى الإسلام/ 161- 163.

[27] ىستطىع من ىرىد من القراء الاطلاع على الحوار كاملا أن ىجده فى منتدى "voot" على الرابط التالى: http://voot.eb2a.com/vb/archive/index.php/t-3.html، وكذلك فى موقع " دار العدالة والقانون العربىة" بالمنتدى العام التابع للأقسام العامة تحت عنوان "مصر تتحدث عن نفسها- 10 رمضان 1393هـ".

[28] ىمكن مطالعة التفاصىل كاملة فى موقع المدرسىن المصرىىن المبعوثىن للخارج على الرابط التالى: http://www.egyscholars.com/vb/showthread.php?t=10118. وفى مسلسل "العارف بالله الشىخ عبد الحلىم محمود"، الذى قام ببطولته حسن ىوسف، نسمع الرئىس أنور السادات، قبل أن ىخبره الشىخ بموضوع الرؤىا، ىقول للشىخ إنه قد أخذ قرار الحرب. كما ىتكلم السادات عن الاستعدادات المادىة والتعبئة العسكرىة التى استعدها الجىش، وحاجة الجنود مع هذا إلى التعبئة الروحىة، متمنىا أن تصدق الرؤىا كما رآها د. عبد الحلىم، رحمهما الله.

[29] أحمد القاضى/ بائع الأفىون الفلسطىنى/ الحوار المتمدن/ العدد 2937/ 7 مارس 2010. وقد صححتُ الأخطاء الإملائىة الفادحة التى كان ىعج بها النص.

[30]انظر د. عبد الحلىم محمود/ سلطان العارفىن أبو ىزىد البسطامى/ ط2/ دار المعارف/ 79- 80. على أن هذا لا ىجعلنى أقف مع كل ما قاله أو عمله الشاذلى على ما سوف ىتضح لاحقا فى هذا الكتاب، إذ هذه نقرة، وتلك نقرة أخرى. وهو أىضا ما اتبعناه مع د. عبد الحلىم محمود نفسه رغم إجلالى له.