كتاب الضرورى فى النحو لابن رشد - عرض وتقييم
فصل من كتابى: "



قراءة فى كتابات ابن حزم وابن مضاء وابن رشد
حول النحو والنحاة
مع محاولة لتيسير بعض المسائل النحوية
"
د. إبراهيم عوض


هذا عن ابن مضاء، أما ابن رشد، الذى كان يؤكد فى فلسفته أن الأسباب الطبيعية تعمل من تلقاء نفسها: فالنار تحرق بطبيعتها، والماء يقتل الغريق بطبيعته... إلخ، فهو يقول فى هذه القضية ما يعد امتدادا لهذه الفلسفة. كتب د. محمد عابد الجابرى فى هذه النقطة فى مقال له بعنوان "التجديد فى النحو العربى بين ابن مضاء وابن رشد": "إذا نحن سألنا ابن رشد: فمَنْ رَفَع الفاعلَ ونَصَب المفعولَ إذن؟ أجاب: إن الإعراب على العموم (رَفْع الفاعل والمبتدإ والخبر، ونَصْب المفعول... إلخ) "إنما وُجِد فى الاسم المفرد لا من جهة ما هو مفرد لأنه ليس بمفيد كلاما، وإنما وُجِد له من جهة ما هو جزء من كلام". وإذن فمصدر الإعراب فى قولنا: "أكل زيدٌ تمرا" أو"لم يأكل زيدٌ تمرا" ليس هو لفظ "أكل"، بل هو معنى فى الجملة من جنس معنى السببية فى الأمور الطبيعية. هنا يوظف ابن رشد مفهوم السببية كما هو عند أرسطو، فقد حصر أرسطو الأسباب فى أربعة: "المادة" كالخشب بالنسبة للكرسى،و"الصورة"، وهى شكل الكرسى،و"الفاعل" وهو النجار، و"الغاية"، وهو الجلوس. وبالنسبة لابن رشد: اللفظ "زيد" هو المادة (السبب المادى)، والإعراب (رَفْعُ "زيد" فى قولنا: "خَرَجَ زيدٌ") هو الصورة أو الشكل (السبب الصورى). أما "الفاعل"، أى السبب فى رَفْع زَيْد فهو معنى آخر يستفاد من التركيب الذى عليه الجملة، مثل معنى الصانع/ النجار الذى ينقل الخشب إلى شكل الكرسى. يبقى السبب الغائى،وهو قصد المتكلم. يقول: "فإن الجُمَل هى التى تتنزَّل من أنواع الإعراب منزلةَ الموادّ، والإعراب لها بمنزلة الصورة، والعوامل منه بمنزلة الأسباب المقتضية لوجود تلك الصور فى الموادّ لأنها تُفْهِم المعنى القائم فى الجملة". و"لما كان كل موجود مركبا من مادة وصورة فالمعرفة التامة به إنما تكون بمعرفة صورته ومادته والسبب الواجب لكون الصورة فى المادة. فواجبٌ على من أَزْمَعَ على أن يعرف الإعراب معرفة تامة أن يعرفه من قِبَل الجُمَل الواقع فيها لا من قبل الألفاظ المفردة فقط".


ونظرة سريعة إلى كلام ابن رشد ترينا أنه أخطأ فهم كلام أرسطو. لقد جعل أرسطو الأسباب أربعة، وأهمها بطبيعة الحال الفاعل البشرى، وهو النجار فى مثال صُنْع الكرسى، إذ هو الإنسانُ، والإنسانُ هو صاحب الفكر والخيال والتخطيط والإرادة والإنجاز، أما الأسباب الأخرى فهى أسباب اعتبارية، لكن الإنسان هو أهم سبب لأنه لا يمكن أن يتم شىء بدون الإنسان بخلاف ما لو غابت الأسباب الأخرى، إذ الإنسان قادر على توفيرها على نحو أو على غيره. وعلى هذا فمن الواضح أن السبب الفاعل فى اللغة ليس هو العوامل كما يقول ابن رشد، بل المتكلم، إذ المتكلم فى مسألة اللغة يناظر تماما النجار فى مسألة صنع الكرسى. أى أن ابن رشد قد طاشت فكرته، ولم يستطع أن يصيب الرَّمِيّة.

ويهدف ابن رشد فى كتابه: "الضرورى فى النحو" إلى ما سماه: صياغة النحو العربى على الطريقة الصناعية. وهى الطريقة التى يقول عنها إنها "مشتركة لجميع الألسنة". لكن دعوى ابن رشد بوجود نحو عالمى يكذبه تمام التكذيب أن نحو كل لغة يختلف عن أنحاء اللغات الأخرى. فالنحو العربى مثلا يحتوى على الفعل والفاعل، وعلى المبتدإ والخبر، بخلاف النحو الإنجليزى والفرنسى، اللذين لا يعرفان غير الفاعل والفعل، وهما يقابلان فى نحونا المبتدأ والخبر مع كون الخبر فى كل الأحوال فيهما هو جملة فعلية كما نعرف. كما أن ذَيْنِكَ النحوين يخلوان من أبواب "كان وأخواتها" و"إن وأخواتها" و"كاد وأخواتها"، ويخلوان كذلك من أبواب المفعول المطلق والمفعول لأجله والمفعول معه مثلا إذ يأتى هذا كله باختصار وعلى نحو مختلف جدا فى باب واحد هو باب "الأدفرب". وفى الشرط لا تعرف هاتان اللغتان سوى أداة واحدة هى "if" وقلب الجملة بحيث يأتى فعل الشرط قبل فاعله فى الإنجليزية، و"si" فى الفرنسية، فى حين أن العربية تعرف "مهما، مَنْ، ما، أيَّانَ، أىّ، متى، لو"، التى لاتعدها اللغتان أدوات شرط. وفى المقابل ليس عندنا باب مختص بالأزمنة: من مضارع بسيط ومضارع مستمر ومضارع تام، وماض بسيط وماض مستمر وماض بعيد، ومستقبل بسيط ومستقبل مستمر ومستقبل بعيد، وإن كانت العربية تعرف تلك الاستعمالات، لكن متفرقة لا يضمها باب معين، ولا يفردها النحويون بكلام خاص.

وبالمثل لا تعرف العربية أداة التنكير على أى وضع، ولا تعرف من أداة التعريف سوى شكل واحد (هو "أل") لكل الأسماء: مؤنثة كانت أو مذكرة، ومفردة كانت أو مثناة أو جمعا على عكس الفرنسية والألمانية. كما أن الإنجليزية والفرنسية تخلوان تماما من الإعراب. وهما فى ذلك مثل كثير من اللغات قديمها وحديثها. ومع هذا فإن ابن رشد، فى أول الجزء الثالث من كتابه تحت عنوان "القول فى الإعراب"، يقول إن "الإعراب عامٌّ لجميع الألسنة". فأنى له بهذا؟ كذلك فصرف العربية يختلف عن الصرف فى تينك اللغتين، إذ صَرْفُنا يقوم على الاشتقاق، بينما صرفهما يقوم على إضافة السوابق واللواحق. ولدينا فى العربية مفرد ومثنى وجمع، وليس فى الفرنسية ولا الإنجليزية سوى المفرد والجمع. ومن ناحية أخرى ليس هناك فى ضمائر اللغة العربية سوى مذكر ومؤنث، بينما فى الإنجليزية هناك صنف ثالث لا هو مذكر ولا هو مؤنث، ويختص بالمعانى والجمادات، وقد يستعملونه للأطفال الرُّضَّع أيضا، وهو الضمير "it". ونحن فى لغتنا نسمى "المفعول به" الذى حُذِف فاعله وأُقِيم هو مقامه: "نائب فاعل"، فى حين يسمى فى اللغتين الفرنسية والإنجليزية: "فاعلا". وفى بناء الفعل للمجهول تستخدم اللغتان المذكورتان فعل الكينونة فى الزمن المراد تصريف الفعل المبنى للمجهول فيه ثم تلحقان به صيغة اسم المفعول من الفعل المراد بناؤه للمجهول، أما لدينا فلا شىء من ذلك بل يصاغ الفعلُ المرادُ بناؤه للمجهول فى شكل آخر غير شكله الأصلى، مثل "أَكَلَ- أُكِلَ، اسْتَخْرَجَ- اسْتُخْرِجَ، راجَعَ- رُوجِعَ/ يَأْكُل- يُؤْكَل، يَسْتَخْرِج- يُسْتَخْرَج، يُرَاجِع- يُرَاجَع... وهلم جرا". وفى تصريف الأفعال يختلف الوضع لدينا عما هو موجود فى الفرنسية والإنجليزية اختلافا شديدا، بل يختلف الوضع بين هاتين اللغتين الأوربيتين أيضا...

وقبل ذلك كيف عرف ابن رشد أن ثم نحوا عالميا ينطبق على كل اللغات، واللغات كما نعرف مختلفة، والعقول التى أثمرتها مختلفة أيضا؟ وقبل قبل هذا هل كان ابن رشد يعرف لغة أو لغات أخرى أخرى غير العربية حتى يمكنه الحديث عن نحو عالمى لكل اللغات؟ فما هى؟ وأين الدليل؟ ثم أتراه رأى نحوا عالميا وأراد أن يأتى بشىء أفضل؟ فأين ذلك يا ترى؟ المعروف أنه لا يوجد كتاب فى النحو يصلح لكل اللغات لا قبل ابن رشد ولا بعده حتى الآن، وإلا فمن يعرف مثل هذا الضرب من النحو فليرناه مشكورا، وله المثوبة من رب العباد. نعم كانت هناك محاولة لصنع لغة عالمية يمكن أن يتفاهم من خلالها الناس جميعا، وهو ما أسفر عن الإسبرانتو، التى اخترعت اختراعا عام 1887 بالاعتماد على اليديشية، لكن عدد مستعمليها فى العالم ضئيل جدا جدا جدا جدا جدا جدا جدا جدا... حتى إن من يعرفونها فى العالم العربى لا يتجاوزون بضع عشرات. كما أن لها نحوا خاصا بها لا يصلح لأية لغة أخرى فى العالم، وهو نحو مخلوق خلقا، ولم يتطور تطورا طبيعيا.

ومما يخالف فيه ابن رشد النحاة ما لخصه د. محمد عابد الجابرى قائلا: "انقسمت أبواب النحو عنده إلىثلاثة أقسام رئيسية: باب الاسم، وباب الفعل، وباب الحرف. بعضهم يبدأ بالفعل،وبعضهم يبدأ بالاسم، أما الحرف فيأتى فى الأخير فى الغالب. وقد نتج عن هذا النوع من التبويب تداخل وخلط بين الموضوعات والمستويات كما لاحظ ذلك ابن رشد: فالكلام عن الاسم يستلزم فى مرحلة من المراحل الكلام عن الفعل، وذلك قبل الفراغمن الكلام عن الاسم وقبل الشروع فى الكلام عن الفعل، كما يحصل مثلا فى درس "الفاعل" و"المفعول"، وكل منهما اسم، حين نضطر إلى الكلام عن الفعل، خصوصا وقدكان النحاة وما زالوا يعتبرون الفعل هو الذى رَفَع الفاعل ونَصَب المفعول. وبالمثل فنحن نُضْطَرّ إلى الكلام فى الفعل فى درس الاسم لنفس السبب (الفعل لا بدله من فاعل، وهو اسم أو فى معنى الاسم). أضف إلى ذلك أن معظم كتب النحو، إن لمنقل: كلها، قد دأبت على الجمع بين المسائل الصرفية والمسائل النحوية، مما جعل منالمتعذر التمييز بين حدود علم الصرف وحدود علم النحو".

وهو كلام غير مقنع، إذ مهما بدأتَ بأى قسم من الأقسام الثلاثة أو افترعت طريقة أخرى فى دراسة النحو فلا بد لك فى بعض المراحل من أن تسبق نفسك لتتحدث عن موضوع لم يئن أوانه بعد، إذ الموضوعات متداخلة على أى نحو قَلَّبْتَها وفى أى علم تناولتها. وهذه طبيعة الحياة. وقد ارتكب ابن رشد، فى بعض مواضع كتابه، هذا الذى يأخذه على النحاة، فضلا عن عيوب كثيرة أخرى وقع فيها سنبينها تباعا عما قليل. أما دعواه التداخل بين الصرف والنحو فى كتب قواعد العربية فالمعروف أن الصرف يختص ببنية اللفظة، بخلاف النحو فهو يتناول بنية الجملة. وهذا أمر واضح للجميع. وعلى كل حال لسوف نرى ابن رشد يدخل المسائل الصرفية فى المسائل النحوية بناء على ترتيبه الجديد الذى افتتن به وطنطن بمزاياه عبثا.

ويقول الجابرى أيضا فى المفاخرة بصنيع ابن رشد إن "النحو، كما يقول، نحوان: نحو الألفاظ، ونحو المعانى. أما نحو الألفاظ فموضوعه معرفة أشكال الألفاظ المفردة ويدخل فيه "العلم الذى يسمونه (النحاة) بـ"علم التصريف" وغير ذلك مما يتكلمون فيه من أمر الألفاظ المفردة مثل التصغير والنسبة وغير ذلك". وأما نحو المعانى فموضوعه الأقاويل المركبة، "ويدخل فيه معرفة تركيب القول الخبرى وسائر الأقاويل المركبة وما يلحقها من التقديم والتأخير والزيادة والنقصان، ومعرفة الألفاظ المركبة التى منها تركبت". وكما يرى القارئ لا جديد فى الأمر سوى أنه ينتهج ترتيبا مختلفا عما ألفناه فى كتب النحو والصرف، لكن لا جديد.

ويفصل الجابرى بعض التفصيل صنيع ابن رشد فى ترتيب موضوعات النحو والصرف فى كتابه، فيقول: "ينطلق الترتيب الصناعى العلمى فى علم النحو من تقسيم الألفاظ إلى بسيط ومركب، وهى قسمة حاصرة غير متداخلة، بدل تقسيمها إلى فعل واسم وحرف التى،وإن كانت حاصرة بدورها، فإنها متداخلة كما رأينا. ومن هنا يكون الترتيب العلمى هو دراسة الألفاظ المفردة أولا، ثم الانتقال بعد ذلك إلى الألفاظ المركبة (أو "الجُمَل" باصطلاح النحاة). وباعتماد هذه القسمة ينقسم "علم اللسان عند كل أمة" إلى "سبعة أجزاء عظمى هى: الأول والثانى هما علم اللغة والأدب (المعجم والنصوص). والأجزاء الخامس والسادس والسابع موضوعها قوانين الكتابة (الإملاء) وقوانين القراءة (الحروف والحركات والتنقيط) وقوانين تصحيح الأشعار (العروض). يبقى إذن الجزآن الثالث والرابع وهما "علم قوانين الألفاظ المفردة" و"علم قوانين الألفاظ عندما تُرَكَّب"، (الصرف والنحو) وهما موضوع اهتمامنا هنا.

أما علم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة (الصرف) فيدرس تلك الألفاظ من ناحية الكم والكيف: أما من ناحية الكم فتشمل المجرد والمزيد، الأوزان الصرفية، الجامد والمشتق والمصدر، صيغ الأمر والنهى،أصناف الزيادة : التضعيف... إلخ. وأما من ناحية الكيف فتضم الصحيح والمعتل عند التذكير والتأنيث والتثنية والجمع، وأيضا أقسام الفعل (الماضى والمضارع الأمر) والوجوه، أى تصريف الفعل مع المتكلم والمخاطب والغائب. والقلب والإبدال.

وأما علم قوانين الألفاظ عندما تركَّب (النحو) فيدرس قوانين الأطراف وأحوال التركيب. أما علم قوانين الأطراف فيعطى قوانين أطراف الأسماء والأفعال عندما تركَّب، سواء كان ذلك فى أوائلها مثل "أل التعريف" للأسماء، أو فى أواخرها مثل علامات الإعراب فى الأفعال والتنوين فى الأسماء، فيدرس المنوَّن وغير المنوَّن من الأسماء، والمعرب من الأفعال. كما يدرس كيفية بناء الحروف. وأما علم قوانين أحوال التركيب نفسه فيبين كيفية تركيب الألفاظ وترتيبها: الجملة المفيدة، البسيطة والمركبة... إلخ.

ذلك هو الترتيب الصناعى (العلمى) لموضوعات النحو (والصرف) كما يجرى العمل به فى جميع اللغات حسب الفارابى (ما عدا العربية التى لم يذكر هل تعمل به أو لا تعمل). فهل أخذ ابن رشد بهذا الترتيب حرفيا أم أنه أدخل عليه تغييرا يناسب اللغة العربية؟ ثم، وهذا هو الأهم، كيف طبق فيلسوف قرطبة هذه الطريقة العلمية لصياغة القواعد النحوية على صورة قوانين كلية؟".

وأبدأ بآخر شىء قاله الجابرى، وهو دعواه أن الترتيب الذى جرى عليه فيلسوف قرطبة فى كتابه المومإ إليه هو "الترتيب الصناعى (العلمى) لموضوعات النحو (والصرف) كما يجرى العمل به فى جميع اللغات حسب الفارابى (ما عدا العربية التى لم يذكر هل تعمل به أو لا تعمل)". ترى بالله عليكم كيف عرف الفارابى أو ابن رشد أن الترتيب الذى يجريان عليه فى النحو والصرف هو الذى يجرى عليه العمل فى جميع اللغات؟ هل كانا يعرفان لغات الهند والصين واليابان والأفارقة والفرس والأوربيين... إلخ؟ وهل درسا نحو كل لغة من هذه اللغات وتيقنا مما قالاه؟ هذا هو المستحيل بعينه. ولقد رأينا قبل قليل أن نحونا يختلف عن نحو لغات الإنجليز والإفرنسيس والجرامنة، وهى اللغات التى لنا بها من العلم ما يجعلنا نجزم بأن ما قاله ابن رشد والفارابى هو مجرد كلام فى الهواء لا يُؤَكِّل عيشا.

ويقول الجابرى كذلك عن الصرف عند ابن رشد: "أما علم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة (الصرف) فيدرس تلك الألفاظ من ناحية الكم والكيف: أما ناحية الكم فتشمل المجرد والمزيد، الأوزان الصرفية، الجامد والمشتق والمصدر، صيغ الأمر والنهى،أصناف الزيادة، التضعيف... إلخ. وأما ناحية الكيف فتضم الصحيح والمعتل عند التذكير والتأنيث والتثنية والجمع، وأيضا أقسام الفعل (الماضى والمضارع الأمر) والوجوه، أى تصريف الفعل مع المتكلم والمخاطب والغائب. والقلب والإبدال". ولا جديد فى الأمر سوى كلامه عن الكم والكيف، وما عدا ذلك هو هو عند صرفيينا كما يرى القارئ بعيدا عن التهويلات الرشدية والجابرية.

ثم نصل إلى النحو لدى ابن رشد، وفيه يقول د. الجابرى: "وأما علم قوانين الألفاظ عندما تركب (النحو) فيدرس قوانين الأطراف وأحوال التركيب. أما علم قوانين الأطراف فيعطى قوانين أطراف الأسماء والأفعال عندما تركب، سواء كان ذلك فى أوائلها مثل "أل التعريف" للأسماء، أو فى أواخرها مثل علامات الإعراب فى الأفعال، والتنوين فى الأسماء، فيدرس المنوَّن وغير المنوَّن من الأسماء، والمُعْرَب من الأفعال. كما يدرس كيفية بناء الحروف. وأما علم قوانين أحوال التركيب نفسه فيبين كيفية تركيب الألفاظ وترتيبها: الجملة المفيدة، البسيطة والمركبة... إلخ".

ومرة أخرى لا جديد عند ابن رشد سوى اختلاف ترتيب الموضوعات. وترتيب ابن رشد يمزق أبواب النحو تمزيقا. لنأخذ مثلا "الألف واللام" مما يضعه ابن رشد فى علم قوانين الأطراف. لقد انتزعها ابن رشد من مكانها المكين فى أنواع الأسماء المعارف، إذ إن دخولها على الاسم النكرة يحوله من نكرة إلى معرفة، وجَعَلَها مجرد حرف يقع فى طرف الكلمة. وقد اضطر فى موضع آخر من كتابه إلى ذكر الأسماء المتحلية بـ"أل" بين أنواع الأسماء المعرفة، ولكن على نحو عارض. كذلك فالإعراب ليس شيئا مجردا مستقلا بنفسه كما جعله ابن رشد حين وضعه فى علم الأطراف الأخيرة من الكلمة، بل يتعلق بوظائف الأسماء والأفعال والحروف. ثم إنه فى الوقت الذى يتحدث عن إعراب الأفعال يكتفى بالكلام عن تنوين الأسماء، وكأن الأسماء لا تعرف الإعراب بل تستبدل به التنوين. يا للعجب العجاب! أما بالنسبة إلى الجمل فالواقع أنه لا يفيد فى النحو كثيرا طبيعة الجملة من مركبة وبسيطة وأساسية وثانوية، إذ الجملة إما فعلية أو اسمية، وسيان بعد ذلك أن تكون جملة مركبة أو بسيطة أو أساسية أو ثانوية. كما أن للجمل الثانوية موضعها المكين فى النحو غير الرشدى حين يتحدث النحاة عن الجمل التى تأتى أخبارا وأحوالا ونعوتا ومقولات للقول مثلا. أما ابن رشد فيمزق كل ذلك تمزيقا يباعد بين المتشابهات، وهو ما يصعّب النحو تصعيبا شديدا.

كما أنه مغرم بالمصطلحات المعجرمة. ومثالا على ذلك نأخذ مصطلحى "الاسم المستقيم" (يقصد غير المضاف إليه) و"الاسم المائل" (يقصد المضاف إليه). وفى ذلك يقول إن الضمة تلائم الاسم المستقيم، وكأن الاسم المستقيم دائما مفرد لا مثنى ولا جمع مذكر سالم ولا من الأسماء الستة بحيث إذا كان مرفوعا فإنه يرفع بالضمة لا بالألف ولا بالواو. أهذا كلام يقوله فيلسوف يريد أن يحدث هذه الخروق الغريبة فى بناء النحو؟ وشىء ثالث هو المعاظلة الكريهة فى لغته، وكأنه لا يكتب فى شأن من شؤون العلم ولا فى النحو بل يتلو رُقًى يستدعى بها الجن والشياطين. تعالوا نقرأ ما كتبه فى هذا الموضوع، وسوف أصارح القارئ بأنى ألقى عنتا شديدا وكربا عظيما فى تتبع ما يقول وفى فهمه.

قال: "إنا نجد الأسماء، من حيث هى جزء كلام مفيد، صنفين: صنف هو متعدٍّ من أن يكون مضافا إليه، وهو فى الألفاظ نظير الأشياء الموجودة بذاتها، وسواء كان مفردا أو مضافا إلى اسم آخر، موصوفا بوصف هو هو، وهذا هو الصنف الأول من الأسماء فى كل لغة. وقوم يسمونه: الاسم المستقيم. وهنا صنف ثان من الأسماء، وهو الاسم المضاف إليه، وهو فى الألفاظ نظير الأشياء التى وجودها بالإضافة إلى غيرها. وقوم يسمون هذا: المائل. وهو صنفان: أحدهما من تمام القول المفيد، والثانى من تمام الاسم، وهو الذى يخص بالمضاف إليه فى هذه الصناعة. وهو فى نهاية المقابلة للاسم الأول. والصنف الثانى كالمتوسط فيهما لأنه مركب من إضافة ومعنى زائد على الإضافة. ولذلك تنحو العرب إذا أرادوا المعنى الزائد على الإضافة الذى هو من تمام الخبر نصبوه، وعرى من شكل الإضافة. وإذا أرادوا معنى الإضافة فقط، الذى هو من تمام الاسم والفعل، خفضوه: إما بحرف جر، وإما بغير حرف جر. وإذا صح اختلاف هذه المعانى الثلاثة، أعنى المعنى الموجود بذاته، والموجود بالإضافة، والمركب منهما، وكان الاسم الواحد بعينه تتعاور مسماه هذه المعانى المختلفة فواجب أن تختلف أشكاله لاختلاف هذه الأحوال". سبحانك! هذا كلام مزعج رهيب! ثم يمضى فيلسوفنا فيردد كلام النحاة المصطنع فى السبب الذى جعل الاسم المستقيم يأخذ ضمة. وقد انتهينا من إبداء رأينا فى هذا النوع من الكلام، فلا لزوم للعودة إليه. ولو كان ابن رشد فيلسوفا حقا لكان ألقى به خلف ظهره لأنه كلام لامنطقى، والمفروض فى الفلاسفة أنهم منطقيون لا يرددون كلاما يضاد العقل. كما أنه يستخدم مصطلح "المضاف" و"المضاف إليه" مرة كما نستخدمه نحن عباد الله غير الفلاسفة، ومرة بمعنًى آخرَ صَعْبٍ علىَّ متابعته فى كلام الفيلسوف القرطبى

ويقول أيضا د. محمد عابد الجابرى عن النحو الرشدى: "يعترض ابن رشد على النحاة فى شيء من السخرية عندما يقولون مثلا: إن الفعل "خرج" هو الذى "عمل" الرفع فى الفاعل: "زيد"، فى قولنا: "خرج زيد". يعترض عليهم، لا بما سبق أن اعترض به ابن مضاء، الذى بنى اعتراضه على كون "الفاعل" إما أن يكون بالإرادة وإما أن يكون بالطبع سالكا مسلك المتكلمين فى هذه المسألة: مسألة الفعل والفاعل، بل إن فيلسوف قرطبة يدلى فى هذه المسألة باعتراض منطقى مفحم ينزع عن لفظ "الفعل" صفة التأثير فى الفاعل أو المفعول... إلخ. وهكذا فإذا قلنا عن "زيد"، فى قولنا: "أكل زيد تمرا" إنه فاعل مرفوع، وعن "تمرا" إنه مفعول منصوب، وقلنا إن العامل فى رفع الأول ونصب الثانى هو الفعل "أَكَلَ"، فكيف يجوز أن نقول الشيء نفسه فى قولنا: "لم يأكل زيد تمرا"؟ إننا هنا ننفى وجود فعل الأكل ("لم يأكل")، فكيف يجوز أن يفعل "الفعلُ" المنفى وجودُه الرفعَ أو النصبَ أو غيرهما؟

وإذا نحن سألنا ابن رشد: فمَنْ رَفَعَ الفاعلَ ونَصَبَ المفعولَ إذن؟ أجاب: إن الإعراب على العموم (رَفْع الفاعل والمبتدإ والخبر، ونَصْب المفعول... إلخ) "إنما وُجِد فى الاسم المفرد لا من جهة ما هو مفرد، لأنه ليس بمفيد كلاما، وإنما وُجِد له من جهة ما هو جزء من كلام". وإذن فمصدر الإعراب فى قولنا: "أكل زيد تمرا" أو "لم يأكل زيد تمرا" ليس هو لفظ "أَكَلَ"، بل هو معنى فى الجملة من جنس معنى السببية فى الأمور الطبيعية.

هنا يوظف ابن رشد مفهوم السببية كما هو عند أرسطو، فقد حصر أرسطو الأسباب فى أربعة: "المادة" كالخشب بالنسبة للكرسى، و"الصورة"، وهى شكل الكرسى،و"الفاعل"، وهو النجار، و"الغاية" وهى الجلوس. وبالنسبة لابن رشد: اللفظ "زيد" هو المادة (السبب المادى)، والإعراب (رَفْعُ زيد فى قولنا: "خَرَجَ زيدٌ") هو الصورة أو الشكل (السبب الصورى). أما "الفاعل"، أى السبب فى رفع زيد، فهو معنى آخر يستفاد من التركيب الذى عليه الجملة، مثل معنى الصانع/ النجار الذى ينقل الخشب إلى شكل الكرسى. يبقى السبب الغائى،وهو قصد المتكلم. يقول: "فإن الجمل هى التى تتنزل من أنواع الإعراب منزلة الموادّ، والإعراب لها بمنزلة الصورة، والعوامل منه بمنزلة الأسباب المقتضية لوجود تلك الصور فى الموادّ لأنها تفهم المعنى القائم فى الجملة". و"لما كان كل موجود مركبا من مادة وصورة، فالمعرفة التامة به إنما تكون بمعرفة صورته ومادته والسبب الواجب لكون الصورة فى المادة. فواجب على من أزمع على أن يعرف الإعراب معرفة تامة أن يعرفه من قِبَل الجمل الواقع فيها لا من قبل الألفاظ المفردة فقط".

هذا ما قاله د. الجابرى، ولكن ابن رشد فى الحقيقة لم يقدم حجة مقنعة، إذ يمكن الاعتراض عليه فى مثال "أكل زيدٌ تمرًا" بذات الاعتراض الذى اعترض هو به على "لم يأكل زيد تمرا"، إذ لم يحدث أكل فى الواقع، بل هو مجرد كلام مفترض، إذ ليس هناك زيد ولا تمر ولا أكل، إنما هى ألفاظ نقولها بأفواهنا، ومن ثم لا موضع هنا للقول بوجود مادة وصورة وغاية وفاعل ما دام الأكل لم يقع أصلا. ورغم هذا فمن المعروف أن قولنا إن "زيدا" هو الفاعل فى "لم يأكل زيد التمر" ليس معناه أنه أكله فعلا، وبالتالى ليس ثم موضع للاعتراض الرشدى، بل المعنى أنه لو كان وَقَعَ أَكْلٌ لكان الآكلُ هو زيدا. وهنا نوسع ما قلناه آنفا فنؤكد أن النحو كله بتلك الطريقة ينبغى ألا يكون صحيحا من وجهة نظر ابن رشد لأن أمثلته أمثلة افتراضية، إذ لا وجود فى الواقع لزيد ولا عمرو ولا تمر ولا خوخ ولا خس ولا جرجير ولا باذنجان ولا رز ولا سلطة ولا فول سودانى، بل الكلام كله قد أُتِىَ به للتعليم قياسا على ما نراه فى الواقع. وعلى كل حال نحن لا نقول بأن الألفاظ يعمل بعضها فى بعض، ومن ثم لا نرى أن الفعل: "أكَلَ" هو العامل، بل العامل، كما قلنا ونقول، هو المتكلم نفسه جريا على ما كان العرب يفعلونه فى كل تركيب من التراكيب النحوية، اللهم إلا إذا لم يكن عارفا بالنحو، فهذا لا يقاس عليه لأنه سوف يشيع الاضطراب فى كل شىء، وهو من جهله لا يدرى.

على أنْ ليس هذا هو كل شىء فى عيوب النحو الرشدى، بل هناك أيضا قلب ابن رشد للبناء النحوى رأسا على عقب وإرباك المشهد كله وإصابة القارئ بالصداع المزعج دون أن يكون ثم مردودٌ يعوّض عن هذا كله سوى إشباع ابن رشد لشغفه بالخروج على المألوف فيما لا يقدم ولا يؤخر ظنا أنه لن يكون فيلسوفا إلا بهذا الإزعاج السخيف. وعبارته للأسف كزة تحتاج إلى من يشرح الكثير منها ويوضحه لما يغشِّيها من غموض كثيف حتى إنه هو نفسه كثيرا ما يقول بعد الانتهاء من أى جزء من الحديث عن شىء: "أعنى كذا"، ومع هذا لا يزول الغموض المزعج فى كلامه، مما يذكرنى بسخرية جمال عبد الناصر من ميشيل عفلق فيلسوف حزب البعث فى سورية والعراق، إذ كان فى اجتماعات مباحثات الوحدة بين مصر وسورية فى ستينات القرن البائد يكثر من قول "يعنى. يعنى. يعنى" كلما قال شيئا، فقال عبد الناصر بعد فشل تلك المباحثات متهكما على عفلق إنه يظل يقول: "يعنى، يعنى" وهو لا يعنى شيئا.

لنأخذ النص التالى من مفتتح الكتاب، وهو عن تعلم صناعة النحو: "أما غرض هذه الصناعة فهو معرفة أشكال الألفاظ التى يُنْطَق بها: المفردة والمركبة، أعنى التى فى بنيتها، ومعرفة ما يلحق هذه من الأشكال الزائدة على بنيتها المتبدلة بحسب تبدل المعانى وغير المتبدلة، وذلك فيما أمكن أن يُعْطَى سبب ذلك المعنى الكلى مع ذلك، فهو أفضل. فإن الصناعة هى التى تحيط بأمور كلية يصل بها الإنسان إلى الغرض المطلوب بتلك الصناعة. ومعرفة تلك الكليات تكون أتم إذا عُرِفت بأسبابها. ولما كان هذا مطلوبا بالطبع من أمر الصناعات، أعنى تعريف الكليات التى هى أجزاؤها بأسبابها، وصار النحاة يتكلفون من إعطاء أسباب الكليات التى يضعونها فى هذه الصناعة فوق ما تحتمله الصناعة، والحق هو التوسط فى ذلك.

وإذا تقرر هذا فظاهر هذه الصناعة يعطى الكليات والقوانين بأسبابها التى يقدر بها الإنسان أن ينطق بأشكال الألفاظ التى جرت عادة أهل ذلك اللسان أن ينطقوا بها: إما لسان العرب وإما غيره من الألسنة. وأعنى بالكليات والقوانين أقاويل عامة يعرف بها جزئيات كثيرة. وأما منفعتها فبيِّنة بنفسها، وهو فهم كتاب الله تعالى، وفهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفهم جميع العلوم التى تتعلم بقول: العلمية منها والعملية، وعمل الخطب والأشعار.

وأما أقسام هذه الصناعة فهى ثلاثة: الأول النظر فى أشكال الألفاظ المفردة التى منها ابتنت. والثانى فى أشكال الألفاظ المركبة. أعنى التى منها ابتنت أبنية الجنسين. والثالث فى أشكال الألفاظ الزائدة على أشكال بنيتها، لأن الأشكال صنفان: شكل هو فى بنية اللفظ، وشكل هو زائد على بنيته. وهذه الأشكال هى ثلاثة: معرفة شكل أطراف الألفاظ الأخيرة، ومعرفة شكل أطرافها الأُوَل، ومعرفة شكل أوساطها إن كان لأوساطها شكل.

فأما أن هذه القسمة هى حاصرة لهذه الصناعة فذلك يظهر من رجوع جميع ما أثبته أهل صناعة النحو فى كتبهم إلى هذه الأقسام الثلاثة. وذلك أن علم الإعراب والبناء يدخل فى علم الأطراف الأخيرة، وعلم ألف القطع وألف الوصل والألف واللام يدخل فى علم أطراف الأُوَل، ومعرفة التقاء الساكنين والوقف يدخل أيضا فى علم الأطراف الأخيرة. وفى علم الألفاظ المفردة يدخل معرفة المثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، وبالجملة معرفة جميع أنواع الألفاظ المفردة. وفى هذا الجزء يدخل العلم الذى يسمونه بـ"علم التصريف" وغير ذلك مما يتكلمون به من أمر الألفاظ المفردة مثل التصغير والنسبة وغير ذلك. وأما علم التركيب فيدخل فيه معرفة تركيب القول الخبرى وسائر الأقاويل المركبة وما يلحقها من التقديم والتأخير والزيادة والنقصان ومعرفة الألفاظ المفردة التى منها تركبت".

والكلام، كما نرى، معتم غامض فى غير قليل من الأحيان، والأفكار كزة كأن صاحبها يَقُدُّها من جلده قَدًّا. وقد كرر فى هذا النص القصير كلمة "أعنى" عدة مرات، وهذا يدل على أنه هو نفسه يعرف أن كلامه كز وصعب الفهم، ومع ذلك فإن هذه الكلمة بدلا من أن تزيل الغموض تزيده عتامة. إن الكلام ليستحيل فى معظم الأحيان إلى رُقْيَة كرُقَى الشياطين. ترى ما معنى "معرفة أشكال الألفاظ المفردة والمركبة"؟ وما معنى "أعنى التى فى بنيتها"؟ وهل من يقرأ "الضرورى فى النحو" يستطيع أن ينطق أشكال الألفاظ فى أية لغة كما يقول كلام ابن رشد؟ بل هل ما كتبه ابن رشد فى كتابه هذا هو الضرورى فى النحو؟ إن هذا الضرورى يحتاج إلى مجلدات لشرحه وتوضيحه. وكلام كثير من النحاة كابن هشام وابن عقيل أوضح وأشفّ من كلام ابن رشد بمراحل متناوحة. ثم هل الغرض من تعلُّم النحو ينحصر فى فهم كتاب الله وأحاديث رسوله والعلوم المختلفة فقط؟ إن تعلم النحو يجعل الإنسان يحسن استعمال لغته كلاما وكتابة ونطقا وحوارا وقراءة وتفكيرا، فاللغة هى الحياة، وليس ما ذكره ابن رشد فحسب. ثم هل كل من يتعلم العربية مسلم حتى نقول إن غاية النحو هى مساعدته على فهم القرآن والحديث؟ أليس هناك عرب يهود ونصارى؟ ألا يتعلم العربية من ليس عربيا أصلا؟ ونراه يقول إن معرفة الألفاظ المفردة تدخل فى علم التصريف ضمن ما يدخل فى ذلك العلم، لنفاجأ به عقيب ذلك يدخلها فى علم التركيب، وهو علم النحو.

ثم إن عِلْم الألف واللام والتصغير والنسبة والإعراب والبناء لا ينتسب إلى ما يسميه: "علم الأطراف الأُوَل" ولا "علم الأطراف الأخيرة" بل إلى المعنى الذى فى ذهن الكاتب أو المتكلم. فهذا المعنى هو الذى يملى على مستعمل اللغة ما ينبغى أن يعمله من تصغير أو تكبير أو تقديم أو تأخير أو تحلية بـ"أل" أو لا... إلخ. أما ما يقوله ابن رشد فهو يحول النحو إلى شكليات جامدة لا علاقة بها بالنية والفهم والغاية التى ينحو نحوها مستخدم اللغة. وفوق هذا فإن كلامه غير مرتب، إذ بينما نراه ينتهى من الحديث عما يندرج فى علم الأطراف الأولى وينتقل إلى الحديث عما يندرج فى علم الأطراف الأخيرة إذا به يعود بغتة إلى الحديث عن بعض ما يندرج فى علم الأطراف الأولى. وهذا ليس من التفكير الفلسفى فى شىء. كما لاحظت مرارا أنه يبدأ الجملة ثم لا يتمها. ثم إن علم الألف واللام والمفرد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث يدخل فى علم النحو، إذ لا يمكن مثلا أن تنعت اسما نكرة بنعت معرف بالألف واللام أو اسما مفردا بنعت مثنى... وهكذا مما يدخل فى النحو.

ورغم مباهاة ابن رشد بصنيعه فى ترتيب أبواب النحو ترتيبا مختلفا أربك المشهد كله إرباكا شنيعا فإننا نراه لا يحسن الترتيب ولا التقيد بالعناوين التى وضعها لأبوابه. ومثالا على ذلك نأخذ عنوان الباب الثانى، وهو "فى إعراب الجمل الأَمْرِيَّة والنَّهْيِيَّة"، إذ ذكر فيه الدعاء، وسوف نتجاوز عنه، والتمنى والتحضيض، وهذان لا علاقة لهما بالأمر. ثم نراه بصنعة لطافة يُدْخِل تحت هذا العنوان عباراتٍ مثل "سبحان الله"، وهى لا أمر ولا دعاء بل تسبيح وتمجيد وتنزيه، وكذلك "ويلٌ لك"، وهى تهديد لا دعاء، و"لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ"، ولا أمر فيها ولا ما يشبه الأمر بل هى إعلان للطاعة والإخبات لرب العالمين. ومنها "مرحبا وسهلا"، وليس فيها أمر ولا دعاء ولا شىء من ذلك على الإطلاق، بل هى عبارة ترحيب ليس إلا. وفى الباب استطرادات متعددة تدل على عدم إحكامه ترتيب موضوعه مما يخالف ما يدعيه دوما.

وفى تعريفات مصطلحات النحو نرى ابن رشد، بدلا من التعريفات القديمة الواضحة، يقدم تعريفات من عنده مهوشة غير مقنعة وغير محددة أو غامضة: فمثلا فى تعريف الاسم يقول إن "خاصته المعنوية أن يكون خبرا ومخبرا عنه... وأما الفعل فخاصته المعنوية أن يكون خبرا لا مخبرا عنه". ولكن ما قوله فى الجملة التالية: "يأكل فعلٌ مضارعٌ"، فعندنا الفعل: "يأكل" مخبر عنه هنا. بل إن الحرف نفسه يمكن بنفس الطريقة أن يكون مخبرا عنه كما فى قولنا: "مِنْ حرفُ جرٍّ" مثلا. من هنا فإنى آخذ بما يقوله النحاة فى تعريف الاسم من أنه، كما فى "النحو الوافى" لعباس حسن، "كلمة تدل بذاتها على شىء محسوس مثل "بيت، نحاس، جمل، نخلة، عصفورة، محمد" أو شىء غير محسوس يعرف بالعقل مثل "شجاعة، مروءة، شرف، نبل، نبوغ"، وهو فى الحالتين لا يقترن بزمن".

ونحن فى الواقع نجد الاسم يدل على إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد أو معنًى حسبما علمونا فى كتاب "شرح الأزهرية الجديد"، الذى كان مقررا علينا فى السنة الثانية الابتدائية فى المعهد الأحمدى بطنطا قبل أن يغيروا اسم المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الإعدادية فى السنة التى تلت ذلك. وقد كنت سعيدا جدا وأنا أعيد الآن تقليب صفحات ذلك الكتاب، وأجد أن ذاكرتى لا تزال تحتفظ بأشياء قرأتُها فيه وأنا صبى فى الثالثة عشرة من عمرى. وكنت سعيدا أكثر وأنا أرى على غلاف الكتاب اسم الأستاذ على على كَرْسُون. وسر سعادتى أنه كان مدرسا بمعهد طنطا الأحمدى آنذاك، فكنا نراه فى مسجد أحمد البدوى ويشير إليه الطلاب باحترام وإجلال بوصفه أحد مؤلفى هذا الشرح. وكان يلبس بدلة ويبدو أنيقا، على الأقل: فى نظرنا تلك الأيام حين كنا لا نفتأ أولادا ريفيين سذجا خشنين نحتاج إلى صقل وتنعيم. كما كان لقبه الأسرى يثير استغرابنا ولا نفهم له معنى. ولم نكن قد عرفنا أن هناك شيئا اسمه المعاجم يمكننا أن نبحث عن معنى هذه الكلمة فيه. وقد بحثت عنه الليلة فلم أجده فى المعاجم العربية، لكنى وجدت شيئا جد قريب منه فى المعاجم والموسوعات الإنجليزية، إذ ألفيته لقبا لبعض الأسر الأمريكية، فضلا عن إطلاقه على موضع وعلى نهر فى أمريكا... رحم الله الأستاذ كرسون!

وعندما يحدِّد فيلسوفُ قرطبة الفعلَ من ناحية خاصته اللفظية يقول: "و(خاصته) اللفظية ألا يلحقه تنوين ولا تعريف ولا خفض ولا نصب ولا رفع بالمعنى الذى يلحق الأسماء لأنه لا يكون مبتدأ ولا فاعلا ولا مفعولا ولا مشبَّها بها، وإنما يدخله الإعراب لمعانٍ أُخَر". فكيف يقال إن الفعل لا يعرف الرفع والنصب بالطريقة التى يعرفها الاسم؟ وهل هذا تعريف علمى؟ إنه مصادرة على المطلوب كما هو واضح.

وفى تعريف اسم العَلَم، وإن كان لا يسميه كذلك، يقول: "اسم يدل على شخص مشار إليه قائم بنفسه مثل زيد أو عمرو". فما معنى "مشار إليه"؟ وما معنى "قائم بنفسه"؟ إننى إذا أشرت إلى شخص بأنه "جارى الوحيد بالبيت" مثلا انطبق هذا التعريف على ذلك الاسم: على الأقل فى هذا السياق. وفى تعريف الحرف يقول إنه "لفظ يدل على النِّسَب التى تكون بين الأسماء أنفسها، وبين الأسماء والأفعال". ورغم أن كلمة "النسب" هنا غير واضحة المعنى فلسوف أفهمها على أنها تعنى "العلاقات". أى أن الحرف يربط بين الأسماء كما يربط بينها وبين الأفعال. لكن ألا يربط الحرف بين فعل وفعل؟ يربط. ومثاله: "مرض فمات سعيد" حيث ربطت الفاء بين الفعلين: "مرض" و"مات"، و"أتى حامد ليقابل المحامى" حيث ربطت اللام بين "أتى" و"يقابل". أم ترانى أخطأت فهم كلام الرجل؟ إن كان فهذا دليل على أن عبارته كزة وغامضة فى كثير من الأحيان، وإن كنت لا أظننى أخطأت معناه إلى هذا الحد.

وفى حديثه عن التمييز يقول: "كل فعل جُعِل خبرا عما هو من سبب الفاعل بدل الفاعل، وكان الأصل أن يكون خبرا عن الفاعل فنُقِل إلى سببه ثم قُيِّد بالفاعل على الذى هو خبر عنه بالحقيقة، فإنه منصوب، مثل قولك: "طابَ زيدٌ نَفَسًا، وتصبَّبَ عَرَقًا"، فإن الذى تصبب بالحقيقة هو العرق، والذى طاب هو النفس، وإنما نسب الفاعل إلى ذى النفس وإلى ذى التصبب بالعرق على جهة التجاوز. وهذا النوع من التخصيص هو الذى تسميه النحاة: "التمييز المنقول". يعنون بـ"المنقول" من شكل الإخبار إلى شكل التمييز". ويرى القارئ صعوبة تتبع الفكرة فى كلام ابن رشد على عكس ما هو الحال فى كلام النحاة، الذين لا يعجبونه وينتقدهم انتقادا شديدا.

وحين يتكلم عن الضمائر يقسمها إلى متكلم، وحاضر، ويقصد به المخاطب، ثم غائب. فأما المتكلم فمفهوم، ولا مشكلة فيه. وأما الحاضر فليس هو المخاطب كما يقصد هو، إذ قد يكون حاضرا معى فى مكان ما عشرات بل مئات بل آلاف من الأشخاص، ومع هذا لا أوجه كلامى إلى أى منهم، ومن ثم لا يعد أى شخص فيهم مخاطبا. كما يفهم من كلامه بكل وضوح أن الغائب هو من ليس حاضرا مع أن كل الحاضرين يعدون غائبين إذا لم أوجه الحديث إليهم وأخاطبهم حسبما بينت لِتَوِّى. الواضح أن ابن رشد يريد أن يتفلسف والسلام، فيقع فى شر أعماله. وقد سبق فى كتابى: "ابن رشد- نظرة مغايرة" أن بينت أيضا أن معرفته بتاريخ الأدب العربى وخصائصه ضحلة، ورغم ذلك نراه لا يكف عن إطلاق الأحكام على هذا الأدب دون أن يشفعها بالحيثيات الصحيحة.

وفى حديثه عن المعرفة والنكرة نجده يعد أسماء الأجناس والأشخاص بين المعارف ثم يعود فيعدها بين النكرات. وهذه عبارته: "ويعنون بالمعرفة ما وضح وتعرَّف به شىء معين محدود مثل أسماء الأشخاص وأسماء الأجناس والأنواع، فإذا دخلت عليها الألف واللام التى يراد بها تعريف الجنس وتمييزه من غيره لأن هذه الأسماء إذا كانت بهذه الصفة عرَّفت النوع أو الجنس وحددته من غيره كما تعرِّف أسماء الأشخاص الأشخاص". ثم يقول بعد قليل إن الاسم المنكور "هو الذى يدل على شىء غير معين: إما شخص وإما نوع أو جنس، مثل قولك: رأيت رجلا، وأبصرت حيوانا، وجاءنى إنسان". فقد وضع أسماء الأشخاص والأجناس والأنواع فى البداية مع المعارف، ثم عاد فوضعها هى نفسها مع النكرات. وأسماء الأشخاص فى الكلام الأول هى أسماء الأعلام على ما هو واضح، بينما فى الكلام الأخير هى من أسماء الجنس: "رجل، إنسان". كما أن جملة "فإذا دخلت عليها الألف واللام"، كعادة ابن رشد فى بعض الأحيان، جملة مبتورة، إذ أين جواب "إذا"؟ ليس هذا فحسب، بل الكلام كله بوجه عام مشوش ومعتم.

وقد لاحظت أيضا هنا أن ابن رشد، عند حديثه عن اسم العلم، قد حصر نفسه فى الأسماء الرسمية التى تختار للشخص منذ ميلاده، ولم يتطرق إلى الكُنَى والألقاب. ذلك أن الواحد منا فى كثير من الأحيان لا يُعْرَف بين الناس باسمه الذى اختاره له أبوه وأمه عقب مولده فقط، بل كثيرا ما يطلق الناس على هذا الشخص أو ذاك لقبا يشتهر به لدرجة أنه قد يطغى فى الشهرة على الاسم الأصلى، مثل "سيد الناس" أو "عم الشباب" أو "حلال العُقَد" أو "السبع" أو "شكوكو" أو "قمر الحتة" أو "المعلمة" أو "لهاليبو" أو "كاريوكا" أو "فتكات". وكان امرؤ القيس يلقب بـ"الملك الضِّلِّيل"، وثابت بن جابر الشاعر الجاهلى بـ"تأبَّطَ شرًّا"، وزياد بن معاوية بـ"النابغة الذبيانى"، وحسان بن ثابت بـ"شاعر الرسول"، وجَرْوَل بن أوس الشاعر المخضرم بـ"الحُطَيْئة"، وهمّام بن غالب بـ"الفرزدق"، وغياث بن غوث بـ"الأخطل"، وبشَّار بن برد بـ"المرعَّث"، ومُسْلِم بن الوليد بـ"صريع الغوانى"، وعبد السلام بن رغبان بـ"ديك الجن"، وعمرو بن بحر بـ"الجاحظ"، ويوسف بن أيوب بـ"صلاح الدين"، وعبد الرحيم البيسانى وزير صلاح الدين بـ"القاضى الفاضل"، وأبو بكر بـ"الصِّدِّيق"، وعمر بن الخطاب بـ"الفاروق"، وعثمان بن عفان بـ"ذى النورين"، وعلى بن أبى طالب بـ"أبى تراب"، والصحابى الخرباق بن عمرو بـ"ذى اليدين"، وزينب بنت خزيمة زوجة الرسول بـ"أم المساكين"، وخالد بن الوليد بـ"سيف الله المسلول"، والخلفاء العباسيون الأوائل بـ"السفاح" و"المنصور" و"المهدى" و"الهادى" و"الرشيد" و"الأمين" و"المأمون" و"المعتصم"، والخليفة الفاطمى الذى فتحت مصر فى عهده بـ"المعز لدين الله"، والخليفة الفاطمى ذو النهاية الغامضة التى لم تُحَلَّ حتى الآن بـ"الحاكم بأمر الله"، وأخته بـ"سِتّ المُلْك"، والسيد أحمد البدوى بـ"شيخ العرب"، ومحمود سامى البارودى بـ"رب السيف والقلم"، وأحمد شوقى بـ"أمير الشعراء"، وحافظ إبراهيم بـ"شاعر النيل"، وفتحية أحمد" بـ"مطربة القطرين"، وأم كلثوم بـ"كوكب الشرق"، ومحمد عبد الوهاب بـ"موسيقار الأجيال"، وملك حفنى ناصف بـ"باحثة البادية"، وطه حسين بـ"عميد الأدب العربى"، والعقاد بـ"عملاق الفكر العربى"، وعائشة عبد الرحمن بـ"بنت الشاطئ"، ويوسف وهبى بـ"عميد المسرح العربى"، وفريد شوقى بـ"وحش الشاشة"، وفريد الأطرش بـ"ملك العود"، وصباح بـ"الشحرورة"، ونجاة الصغيرة بـ"صوت الحب"، وعبد الحليم حافظ بـ"العندليب الأسمر"، ومحمود الخطيب بـ"اللورد"، وحسام حسن بـ"العميد"، وأحمد حسن بـ"الصقر"، ومحمد سليمان زكى لاعب الإسماعيلى السابق بـ"حمّص" لأنه كان يحب الرقص على نغمات مقطع "حمص حمص، ع النار يرقص، تلّ ما ينقص" من أوبريت "الليلة الكبيرة" لصلاح جاهين، وعصام الحضرى حارس مرمى مصر بـ"السد العالى" لبراعته الفائقة فى الذود عن مرماه، ويوسف إبراهيم لاعب الزمالك الحالى بـ"أوباما" لشبهه بالرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، ومحمد صلاح لاعب ليفربول بـ"الغَطَّاس" عند من يتهمونه من البريطان بأنه يسقط نفسه عمدا داخل صندوق مرمى الفريق المنافس لدن التحامه بلاعب منهم حتى يحسب الحكم لصالحه ضربة جزاء. أما من يحبونه من مشجعى ناديه فيسمونه: "مُو صلاح". وكان لصديق لى من أيام الجامعة أخ صغير اسمه عادل كانت أخواته ينادينه بـ"ديدى"، فكان يغضب ويرفض هذا اللقب، ربما لأنه كان هناك قبل ذلك بوقت غير كبير موضوع من موضوعات القراءة فى المرحلة الابتدائية عن حمار اسمه ديدى، وعنوانه "ديدى يغنى". وقد صار ديدى الآن مستشارا قضائيا قد الدنيا.

وقد تغير معنى اللقب فى العصر الحديث وصار يطلق على اسم الأسرة: فلقب العبد لله الفقير إلى ربه تعالى مثلا هو "عوض"، ولقب الرئيس المصرى السابق هو "مبارك"، ولقب الرئيس الذى قبله هو "السادات". و"شوقى" و"الرافعى" و"العقاد" و"المازنى" و"الزيات" و"الحكيم" و"هيكل" و"رامى" و"السحار" و"با كثير" و"محفوظ" و"مندور" و"الشرقاوى" و"عبد الصبور" و"القط" و"شاكر" هى ألقاب كتاب وشعراء مصريين معروفين. ولدينا أيضا "ندا" و"رفعت" و"المنشاوى" و"الحصرى" و"زاهر" و"البنا" و"الفشنى" و"الدمنهورى" و"عبد الصمد" و"الشعشاعى" و"شعيشع" و"البهتيمى" و"الطبلاوى"، و"نعينع" و"غَلْوَش" و"النقشبندى"، وهى ألقاب عدد من مشاهير قراء القرآن فى مصر.

وهناك الكنية. ويعرِّفها النحاة بأنها ما صُدِّرَ من الأسماء بـ"أب أو أم"، كـ"أبى البشر" لآدم، و"أبى القاسم" و"أبى الزهراء" للنبى محمد عليه السلام، و"أبى بكر" للخليفة الأول بعد رسول الله، و"أبى حفص" لعمر، و"أبى الحسن" لعلى بن أبى طالب، "وأم المؤمنين" لكل زوجة من زوجات الرسول، و"أم الوليد" كما كان ابن عقيل الظاهرى الكاتب السعودى يكنى نجاة الصغيرة بابنها، و"أبى مكة" للاعب المصرى محمد صلاح. لكن هل تعد "أم الخير" و"أم العلْو" و"أم الهنا" و"أم السعد" و"أم كلثوم" و"أبو هريرة" و"أبو نُوَاس" و"أبو تريكة" و"أبو الريش" و"أبو الجبب" و"أبو الرجال" و"أبو الغيط" و"أبو درش" و"أبو حنف" و"أبو حميد" و"أبو خليل" و"أبو على" و"أبو صيام" كُنًى؟ أم هل ينبغى أن يكون المقصود أنه أبو فلان لا الإشارة إلى العضو الفلانى أو الشىء العلانى الذى يتميز به الشخص؟

وأذكر أنه كان من بين طلابى فى الطائف شاب حضرمى اسم أسرته "با ذُنِين"، أى "أبو أذنين"، فكنت أداعبه قائلا: وهل أنت وحدك الذى له أذنان؟ إن البشر جميعا لهم أذنان بما فيهم أنا. فلماذا سَمَّوْكَ هذه التسمية دون بقية خلق الله؟ ثم أضحك، بينما يكتفى هو بالصمت، وشبح ابتسامة يتخايل على وجهه. وهذا أقصى ما يمكن أن تفوز به من رد فعل لدى طلاب الخليج، فهم هادئون. أما سائر طلاب المحاضرة فكأنهم ولا هم هنا. والسؤال هو: هل تُعَدّ "با ذنين" كنية أم لا بد أن يكون ما بعد "أب وأم" اسم شخص؟ سأموت، وفى نفسى أشياء من الكنية!

كذلك فإن أسماء الأعلام لا تختص بالبشر فقط كما يفهم من كلام ابن رشد، إذ عندنا أسماء أعلام للحيوانات كـ"يعفور" لحمار النبى عليه السلام، و"القصواء" لناقته، و"دلدل" لبغلته، و"الأبجر" لفرس عنترة، و"جروة" لفرس عمه، و"الأَغَرّ" لحصان عمر بن أبى ربيعة. ونحن الآن نسمى الكلب: "عنتر" و"رِكْس"، ولى أقارب عندهم قط يسمونه: "بسطويسى"، وكان لهم قط وقطة يدعونهما: "حبَّهان ومستكة"، ولأقارب لنا آخرين قطان ظريفان: الذكر اسمه "بُقْلُظ"، والأنثى "كرملَّة". بل كثيرا ما نطلق اسم عَلَمٍ على الأشياء كـ"ذى الفَقَار" بالنسبة لسيف النبى، و"الكِتَاب" لكتاب سيبويه فى النحو. ولنا قريبة تخطت الآن السبعين كانت لديها سيارة سيات قديمة تقف بها كثيرا فى الشارع، وكانت تسميها: "زغلولة"، وقريبة أخرى شابة تطلق على عربتها: "لوزة"... وهكذا. ومعروف أن لكل قارة وكل بلد وكل مدينة وكل قرية وكل شارع وكل حارة وكل بحر وكل نهر وكل بحيرة وكل بركة وكل قناة وكل هضبة وكل جبل وكل تل وكل واد وكل موضع فى العالم اسما، مثل "مصر، وإيران، وأمريكا، وكندا، وغانا، ونيجيريا، وباكستان، وفييتنام، وبنما، وكوبا، وكاراكاس، وطنطا، وطرابلس، وبيروت، ودمشق، وأَكْرا، والخرطوم، وبكين، وطهران، وإسطنبول، وباريس، وبرلين، وتهامة، والحجاز، وغَمْرة، وعزبة الجاز، وقحافة، وسِيجَر، وفكتوريا، وفيصل، وشُبْرَا، وقَرْوَى، وشارع الموسكى، وشارع البحر، وشارع الوِيشى، وشارع الخان، وشارع الحلو، وشارع صفية زغلول، وشارع أبو الريش، وحارة العيساوية، وحارة الربايعة، وجبل أحد، وجبل الهيمالايا، وغار حراء، ونهر النيل، وقناة بَنَما، وبِرْكَة الفيل، وبحيرة قارون، والبحر الميت، والمحيط الأطلسى، وقارة أستراليا..."، وهلم جرا.

ومن الأمثلة على عدم إحكام ابن رشد لفكرته قبل أن يسجلها على الورق أنه عند حديثه عن "كاف الخطاب" التى تلحق أسماء الإشارة يقول: "وكاف الخطاب اللاحقة لهذه الأشياء يلحقها أيضا التذكير والتأنيث والتثنية والجمع، نحو "ذلكِ" مكسورة الكاف للمؤنث، و"ذلكَ" مفتوحة الكاف للمذكر، و"ذلكما" لتثنية المذكر، و"تلكما" لتثنية المؤنث، و"ذلكنَّ" لجماعة النساء، و"ذلكم" لجماعة الرجال". وكان ينبغى أن يوضح هنا أن هذه الكاف وما يلحقها من تغييرات إنما تتبع من نخاطبه مفردا أو مثنى أو جمعا، ومذكرا أو مؤنثا، ولا علاقة لها بالمشار إليه أصلا، وهو ما لم يفعله. ومن ثم رأيناه حين أراد أن يجعل هذه الكاف للمثنى المذكر قال: "ذلكما"، وليس فى هذا شىء، لكنه حين أراد أن يجعل نفس تلك الكاف للمؤنث قال: "تلكما"، فأوهم المخاطب أن اسم الإشارة ينبغى أن يتغير هو أيضا فيصير مؤنثا، مع أنه كان ينبغى أن يقول بكل بساطة: "ذلكما" للمشار إليه المفرد المذكر حين نتوجه بالخطاب لاثنين أو اثنتين لا فرق. وهذا يذكِّرنى بكثير من كتاب أيامنا الحالية، إذ نراهم يقولون مثلا: "تلكما القطتان" بدلا من "تانك القطتان".

وفى الاسم الموصول نراه، بعد أن يذكر "الذى" و"التى" لا غير، ويترك "اللذان واللتان واللَّذَيْن واللَّتَيْن والذِّين واللاتى"، يكتب ما يلى: "وقال قوم فى "الذى" إنها مركَّبة من "ذى" المضافة ومن "الألف واللام" التى للتعريف. وقد تستعمل مفردة، فتقول: ذو الجدّ، وفى نحو: ذو مال وذو جد". وتتساءل: ما لزوم استطراده هنا إلى الحديث عن "ذو"؟ أتصور أنه يريد أن يقول إن "ذى" التى ركبت مع "أل" وصارت "الذى" هى الصيغة المجرورة من "ذو". ولكن ما العلاقة بين "ذو" (ومعناها "صاحب كذا") وبين الاسم الموصول: "الذى"؟ الحق إنها لتربك الأذهان، وبخاصة أنه لا توجد أية صلة بين الكلمتين. ثم لقد ضرب مثال "ذو الجد، وذو جد" مرتين دون أى داع، مما يدل على أنه يسوق ما يخطر له دون تنظيم ودون تخطيط مسبق. ثم هل تعريف "ذو" هو أنها "ذو" المضافة؟ وما دام قد ساق رأى بعض النحاة من أن "الذى" مركَّبة من "أل" و"ذى" أفلم يكن ينبغى، وهو الفيلسوف، أن يدلى برأيه موضحا أن هذا التفسير كلام فارغ، إذ لا علاقة لـ"ذى" بالأسماء الموصولة على أى نحو من الأنحاء، فالمعنيان مختلفان؟ ثم كيف يا ترى نفسر "التى" و"اللذان" و"اللتان" و"اللاتى" فى ضوء هذا الكلام؟ كذلك فإنه يحمل على النحاة منتقدا تقعرهم ومحاولتهم تفسير كل شىء قاله العرب دون أن يكون فى أيديهم أى دليل على صحة ما يقولون، فكيف انساق إذن إلى ترديد هذا السخف أصلا؟

ثم ما دام قد انجرَّتْ رِجْلُه وأورده فى كتابه على خلاف شرطه فى تأليفه فلِمَ سَكَتَ فلم يبين سُخْفَ ما قيل فى تفسير "الذى"؟ إن هذا يذكرنى بما فعله بعض المستشرقين حين ترجموا القرآن فنقلوا قوله تعالى فى "ألا إنهم هم السفهاء" إلى لغتهم بما يعنى "أليسوا هم السفهاء؟" قائلين فى أستاذية جاهلة حمقاء إن "ألا" مركبة من همزة الاستفهام و"لا" النافية. الله أكبر على العلم اللدنى! وبالمناسبة فمشكلة ابن رشد هو تعبُّده لأرسطو وترديده كلامه بعُجَره وبُجَره وكأنه تنزيل من التنزيل. بل إنه لا يجرؤ أبدا على تأويله رغم ما قد يكون فيه من جهل جَرَّاءَ تقدم زمانه وتخلف العلم فى عصره، فى الوقت الذى نراه يؤول القرآن بكل أَرْيَحِيَّة.

وهو، لدن الكلام عن "كان" وأخواتها، ينسى "أضحى" و"صار" و"ما زال" و"ليس" و"ما دام"، فضلا عن "غدَا" و"عادَ" و"رَجَعَ" و"آضَ" و"استحال" و"تحوَّلَ" و"حارَ" و"ارْتَدَّ". وعلاوة على ذلك نراه لا يأتى على ذكر "لا زال، لا انفك، لا برح، لا فتئ" الدعائية لا هنا ولا فى أى موضع آخر من كتابه رغم حرصه على أن يقسم الجمل إلى خبرية وطلبية ويضع كلا منها فى موضع مستقل عن موضع الأخرى. ومن الأمثلة على ذلك الاستعمال الدعائى لتلك الأفعال قول الببغاء:


فَإِنْ رَأَى لا رَأَى سوءًا وَلا بَرح الـ



إِقْبالُ مُشْتَمِلًا أَيّامَ دَوْلَتِهِ



وقول ابن الرومى:





ولا انفكَّ ما تختاره وتحبُّه



يُطابِقُه حَتْمُ القضاء الذى يُقْضَى



وقول ابن درّاج القسطلى:





ولا زالَ مَا ترْجُوهُ أقْرَبَ من غَدٍ



ولا انْفَكَّمَا تخشاهُ أبْعَدَ من أَمْسِ



وقول ابن وهبون:





ولا انْفَكَّ للخَطِّى حولك هزَّةٌ



وللأَعْوَجِيَّاتِ الجيادِ دبيبُ



وقول ابن الخياط:





وَلا بَرحَ الإقبالُ والنصرُ وَالهُدَى



لرَحْلِك صَحْبًا إذ تحلُّ وَتَرْحَلُ



وقول عمر الأنسى:





فَلا بَرحَ الإسعاد يَنْمو بِسَعْده



وَيَشْملُهُ دِرْع الهَنَا وَجَلاببُهْ



وَلا فَتِئَ الإِقبالُ بالعزّ مُقْبِلًا



إلى بَابِهِ العالى تُحَثُّ جَنائِبُه



وَلا زالَ بِالبُشْرَى بَشِيرُ عَلائِهِ



مهادُ الفَلا تُطْوَى لَهُ وَسبَاسِبُه



ومن هذا يتبين لنا أنه ليس دقيقا فى كلامه وأنه يتبع ما يخطر له ولا يُعِدّ نفسه إعدادا جيدا لما هو مقبل عليه من تأليف. وإلى جانب هذا نراه لا يهتم بتوضيح معنى كل فعل من أخوات "كان" ولا شروط دخوله على الجملة الاسمية. كذلك يزعم أن اسمها لا بد أن يكون معرفة، والخبر نكرة أو أقلَّ معرفة منه، اللهم إلا فى الشعر على قلةٍ ويكون الخبر مقدما على الاسم. يزعم هذا رغم أن المبتدأ كثيرا ما يأتى نكرة، مما أوصله النحاة إلى نحو ثلاثين حالة، فما بالنا بالمبتدإ حين يصبح اسما لـ"كان" وأخواتها؟ ثم ما رأيه فى هذه الشواهد القرآنية التى تنسف ما يقول: "كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يحرِّفونه"، "وإن كان طائفةٌ منكم آمَنوا بالذى أُرْسِلْتُ به وطائفةٌ لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا"، "فلولا كانت قريةٌ آمَنَتْ فنفعها إِيمَانُهَا"، "كان فريقٌ من عبادى يقولون:..."، "كان رجالٌ من الإنس يَعُوذون برجالٍ من الجن"، "أن تكون أُمَّةٌ هى أَرْبَى من أمة"؟ أما اسم "كان" النكرة المتأخر عن خبرها فهو أكثر من ذلك فى كتاب الله.

وهو يقسم الفعل إلى ماض ومضارع فحسب، إذ هو لا يعد الأمر ولا المضارع المنهى عنه فعلا بل الأمر عنده استدعاء فعل وليس فعلا، مثلما النهى استدعاء ترك فعل، وليس فعلا. وهذا كلام عجيب. فالمضارع عنده، كما عند الناس جميعا، فِعْلٌ. فكيف، حين ننهى عنه، لا يصبح فعلا؟ وأما شبهته التى يستند إليها فى نفى الفعلية عن هذين الفعلين فسَهْلٌ نَسْفُها بقولنا: وعلى نفس الشاكلة يمكن أن نتمحَّك فنزعم أن "الماضى والمضارع الدال على المستقبل" ليسا فعلين بل استدعاء لفعلين: أحدهما من الماضى، والآخر من المستقبل. بل يمكن بنفس المنطق الرشدى أن نقول إن الفعل الماضى والمضارع المنفيين ليسا فعلين لأنهما لم يقعا أصلا. ثم ما رأى ابن رشد فى الفعلين: "تغادر" و"تمدّ" فى المثالين التاليين: "آمرك أن تغادر البيت الآن فورا" و"أنهاك أن تمد يدك إلى الطعام"؟ أليسا فعلين مضارعين؟ بلى، ولا يمكن أن تكون إجابته بشىء غير ذلك. ومع هذا فإن الجملتين، طبقا لتنطُّسه، استدعاء للفعل ولترك الفعل على التوالى وليستا هما الفعل ذاته. ومثلهما قولنا: "لِيُخْلِدْ إسماعيلُ فورًا إلى النوم"، إذ الفعل فعل مضارع، لكن اللام، إن اتبعنا طريقته فى المداورة، قد حولت المسألة إلى استدعاء للفعل فلم يعد فعلا. ومع هذا فإنه لم يتنبه لها واكتفى بفعل الأمر ناسيا المضارع الأمرى، أى المضارع المجزوم بـ"لام الأمر". وأتصور أن هذا دليل على أنه إنما يتكلم حسبما تعن له الخاطرة، ولم يخطط لكتابه جيدا. ذلك أنه لا فرق بين قولنا: "ارْحَلْ" وقولنا: "لِتَرْحَلْ".

إن الكلام كله مجاز، وابن رشد لايفرق بين الكلام الاصطلاحى وغير الاصطلاحى. وهذه ليست شيمة الفلاسفة. وبالمثل لم يتنبه إلى أن المضارع لا يدل فقط على الحاضر والمستقبل بل يدل إلى جانب ذلك على مسافة زمنية يدخل فيها الحاضر مع بعض الماضى كما فى قولنا: "الأطباء يجرون العملية الجراحية منذ ثلاث ساعات"، وهو يقابل المضارع التام فى الإنجليزية. كذلك فالمضارع يدل أيضا على الحقائق الثابتة والأحداث التى لا تتوقف أبدا، ومن ذلك: "تشرق الشمس من الشرق، وتغرب فى الغرب"، و"تدور الأرض حول الشمس"، و"يقع القلب فى شمال صدر الإنسان"، و"يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء". كما أن هناك مثل هذه التراكيب: "كان محمد قد انتهى من المحاضرة عند وصولى"، و"سيكون محمد قد انتهى من المحاضرة عند وصولى"، وهو ما يقابل الماضى البعيد والمستقبل البعيد فى الإنجليزية على التوالى. وهناك كذلك "كان سالم يفتح الشباك حين دخلت عليه الغرفة"، ويسمى فى الإنجليزية بـ"الماضى المستمر". وهناك تركيب آخر للفعل الماضى: "كنت فى طفولتى أحفظ من القرآن ربعا كل يوم"، وهو التركيب الذى يدل على عادةٍ كانت تتكرر فى الماضى. والإنجليز يستعملون له الماضى البسيط أو عبارة "used to do". وهناك أيضا استعمال الماضى والمضارع والأمر فى الدعاء: "صلى الله عليه وسلم"، "رضى الله عنه"، "سمع الله لمن حمده"، "رحم الله والديك"، "لعنه الله"، "قاتله الله"، "رضى الله عنه"، "يهدينى ويهديك الله"، "يغفر الله لكم"، "يرحمكم الله"، "غفر الله لك"، "هداك الله"، "شفاك الله"، "قَوَّاك الله على ما أنت فيه"، "أعانَك الله على بلواك"، "قَوَّى اللهُ إيمانَك"، "لا أراكَ الله مكروها"، "لا أسكتَ اللهُ لك حِسًّا"، "يرزقُك اللهُ من فضله"، "أعطاك الله على قدر نيتك"، "كان الله فى عونك"، "يحيينى ويحييك ربنا"، "يبصِّرك الله بما فيه فلاحك"، "يحبِّب الله فيك أُمَّتَه"، "اللهم اهْدِ قومى، فإنهم لا يعلمون"، "العن الكفار يا إلهى لعنا كبيرا"، "ربَّنا، اصرف عنا العذاب"، "خذهم أخذ عزيز مقتدر يارب"، "رب، لا تذرنى فردا، وأنت خير الوارثين"، "أَصْلِحْ لى ذريتى"، "تب علينا ولا تعذبنا".

وفى النص التالى، وهو عن الأعداد من "أحد عشر" إلى"تسعة عشر"، نجد الكلام متداخلا ومضطربا وغير واضح أو غير دقيق: "وكذلك يختلف شكل التأنيث والتذكير فى "أحد عشر" إلى"تسعة عشر". تقول: "أحد عشر" فى المذكر، و"إحدى عشرة" فى المؤنث، فتثبت الياء فى "إحدى"، وتزيد التاء فى "عشرة"، وتحذفها. وتقول: "ثنتا عشرة" فى المؤنث، فتزيد ألفا فى حال الرفع، وتاء فى حال النصب والخفض. تقول: "مررت بثنتى عشرة امرأة"، وتقول فى المذكر: "اثنا عشر رجلا"، وتقول: "اثنتى عشرة"، تزيد التاء فى المؤنث وفى العشرة، وتحذفها من العدد، وفى المذكر تحذفها من العدد وتزيدها فى العشرة، فتقول: "ثلاث عشرة جارية". كذلك تفعل إلى "تسعة عشر". وهذا الشكل من العدد هو مبنى على الفتح من "أحد عشر" إلى "تسعة عشر" إلا "اثنى عشر" فإنه معرب، فيختلف فى حال الرفع والنصب، فهذا هو معرفة ما يلحق هذه الإضافة".

وأولا ليست الياء التى فى "إحدى" ياء فى الواقع كما يقول ابن رشد، بل هى مجرد شكل إملائى، وإنما هى ألف فى الحقيقة. فهذه غلطة، وهى تدل على عدم الدقة عنده. وثانيا نراه يقول عقب ذلك مباشرة عن التاء التى تزاد فى "عشرة": "وتحذفها". وهى كلمة لا يُفْهَم لها أى معنى، إذ علام تعود "ـها" هذه؟ وأين ومتى تحذف تلك التاء؟ ثم يمضى فيقول عقب هذا: "وتقول فى المذكر: "اثنا عشر رجلا"، وتقول: "اثنتى عشرة"، تزيد التاء فى المؤنث وفى العشرة، وتحذفها من العدد، وفى المذكر تحذفها من العدد وتزيدها فى العشرة، فتقول: "ثلاث عشرة جارية"...". فماذا يا ترى يقصد بقوله إن التاء التى تزاد فى المؤنث وفى العشرة تحذف من العدد؟ أى مؤنث يتحدث عنه هنا بالله؟ وكيف نحذفها من العدد؟ وهل العدد هنا إلا "اثنتى عشرة" كلها؟ فكيف نحذف منه التاء؟ ومتى؟ وأين؟ ولماذا؟ مجرد كلام، والسلام، لا معنى واضح له. ونفس الاضطراب والهلهلة التعبيرية نجدها فى قوله: "وهذا الشكل من العدد هو مبنى على الفتح من "أحد عشر" إلى "تسعة عشر" إلا "اثنى عشر" فإنه معرب، فيختلف فى حال الرفع والنصب". ذلك أن كلامه عن بناء تلك الأعداد غير دقيق، إذ كان ينبغى أن يفهم القارئ أنها مبنية على فتح الجزئين لا أن يكتفى بالقول بأنها مبنية، فهذا كلام عام وغير منضبط. كذلك ثَمَّ خطأ فى استثنائه "اثنى عشر" من البناء وقوله إنه معرب: هكذا بإطلاق دون أن يوضح أن الإعراب إنما هو خاص بـ"اثنى" و"اثنتى" فقط، وتبقى "عشر" و"عشرة" مبنيتين لا تعربان أبدا. فانظر كَمَّ الأخطاء والهلهلة والاضطراب فى هذا النص القصير.

ومن عدم الدقة أيضا فى كتابه ما نجده فى النص التالى، وهو عن أسماء الإشارة: "وهذه الأسماء يوجد منها التثنية والجمع، والتذكير والتأنيث. تقول للمفرد المذكر: ذا، وهذا. وللمؤنثة: ذى وتا وتى. وللاثنين المذكرين: ذان. وللمؤنث: تانِ (فى الرفع) وتَيْنِ (فى النصب). ولجماعة المذكر والمؤنث: هؤلاء". ومن نظرة سريعة سوف يتنبه القارئ إلى أن ابن رشد قد ذكر فى اسم الإشارة للمفرد المذكر: "ذا وهذا" بإيراد اسم الإشارة مرتين: مرة مجردا من "ها" التنبيهية، ومرة بها. لكنه لم يفعل ذلك فى "ذى وتا وتى". وكان المفروض، حتى يكون الكلام واحدا ولا يرتبك ذهن المتعلم، أن يقول: "ذى وهذى، وتا وهاتا، وتى وهاتى"، فضلا عن أنه قد نسى "ذِهِ، وهذه". كذلك فبينما أورد "ذان" فى حالة الرفع فقط نراه قد أورد "تان وتين" للرفع والنصب والجر، وإن كان ينسى ذكر الجر ويكتفى بالرفع والنصب فقط. وهو من مظاهر التشوش الفكرى والتعبيرى. وفوق هذا فقد أهمل إدخال "ها" التنبيهية مع الاثنين، فلم يقل: "هذان، هذين، ولا هاتان، هاتين". ثم نصل إلى اسم إشارة الجمع، وقد أورد صيغة "هؤلاء" فقط دون "أولاء" و"أولئك". وواضح أنه لا يجرى على وتيرة واحدة رغم كلامه الكثير والعالى النبرة عن وجوب صحة التقسيم واستيفاء وجوهه. للأسف يبدو كلامه فى الكتاب فى كثير من الأحيان أشبه ما يكون بكلام الهواة، كما يغلب عليه الإيجاز، وهو إيجاز مخل فى حالات كثيرة، ودعنا من الغموض المؤلم.

وحين يتحدث عن الإضافة يحصرها فى إضافة الملكية كـ"غلام زيد"، إذ الغلام ملك لزيد، وكأنه لا توجد ألوان أخرى من الإضافة كقوله تعالى: "مَكْرُ الليل والنهار" حيث الإضافة ظرفية، وكقولنا: "رأس الحصان"، والإضافة فيه للجزئية، بمعنى أن الرأس جزء من الحصان، وكـ"لاعب الأهلى"، والإضافة فيه تدل على الانتساب، إذ اللاعب ينتسب إلى النادى الأهلى، وكقولنا: "حُسْنُ الكلامِ"، وفيه نرى أن المضاف صفة موجودة فى المضاف إليه، وكقولنا: "آكِلُ التفاح" حيث يكون المضاف عاملا فى المضاف إليه... وهكذا. وعلى سبيل الاستطراد أحب أن أذكر هنا أن الإضافة فى الإنجليزية والفرنسية تختلفان عنها فى العربية، فالمضاف المحلى بـ"أل" فى لغتنا ينسلخ كقاعدة عامة عن الألف واللام فى حين تبقى فيهما الألف واللام فى الأسماء التى فيها ألف ولام، كما أن الإنجليزية تعرف لونا من الإضافة يسبق فيها المضاف إليه المضاف، مثل "Ahmad's book: كتاب أحمد" و"mach- box: علبة كبريت" وكذلك "world fame"، وإن كان المضاف إليه هنا يعامل فى الترجمة على أنه صفة، فنقول: "شهرة عالمية".

وقد ألفيته يَعُدّ "ولا سيما" من أدوات الاستثناء، وهو ما لا أوافق عليه، إذ هى على العكس من ذلك تفيد الاسم التالى لها تأكيد الحكم الواقع على الاسم السابق عليها لا استثناءه منه. إننا حين نقول:"أُحِبّ الفواكه، ولا سيما التفاح" لا نستثنى التفاح من حبنا للفواكه بل نختصه بتأكيد وقوع هذا الحب عليه. وعلى هذا فهى لا تُخْرِج ما بعدها مما قبلها بل تزيده دخولا فيه. ذلك أن معنى "أُحِبّ الفواكه، لا سِيَّما التفاح"، أننى أحب الفواكه، وأحب التفاح أكثر شىء فى هذه الفواكه. والدليل على أنها ليست للاستثناء أننا لا يمكن أن نستبدل بها أية أداة استثنائية أخرى فلا نقول مثلا: "أحب الفواكه إلا/ سوى/ حاشا التفاح".

وأحيانا ما يورد ابن رشد فى كتابه كلاما زائدا لا يفيد بل يربك الذهن: لنأخذ على سبيل المثال قوله لدن الكلام عن الجزم بـ"لم" و"لمَّا": "فأما الجزم الذى يكون فى الأقاويل الخبرية ففيه قانون واحد، وهو أن كل كلام تركَّبَ من فعل وفاعل أو مبتدإ وفعل فإن الفعل الذى نُفِىَ بحرف "لَمْ" أو بحرف "لمَّا" أو "ألم؟" فى التقدير أو "ألمَّا؟" فإنه مجزوم، نحو قولك: "لم يقم زيد، ولما يقم زيد، وألم يقم زيد؟ وألما يقم زيد؟". و"لم" هذه تنفى الفعل الماضى، وإن كان شكل الفعل الذى تدخل عليه شكل المستقبل. وذلك أن نفى قول القائل: "قام زيد" بحرف "لم" هو أن يقول: لم يقم".

لقد كان ينبغى أن يكتفى ابن رشد بالقول بأن الفعل المضارع الخبرى ينجزم بـ"لم" و"لَمَّا"، وكان الله يحب المحسنين. ذلك أن الديباجة التى قدم بها عن الفعل والفاعل، والمبتدإ والفعل لا لزوم لها لأنها لا تقدم شيئا، إذ المهم أن المضارع ينجزم بهذين الحرفين فى أى تركيبٍ وَرَدَ، ودمتم. ثم هل هذه الديباجة تغطى كل شىء فى الموضوع؟ لا، إذ هناك تراكيب أخرى لم يتطرق إليها ابن رشد ينجزم فيها الفعل المضارع غير هذين التركيبين، كما هو الحال مثلا فى قولنا: "كان سيد لم يكتب الخطاب حين اتصلتُ به"، فها هنا فعل واسمه وخبره، وهذا الخبر جملة فعلية. وهناك تركيب آخر نجده فى المثال التالى: "ظننتُ إسماعيلَ لمَّا يتناول الدواء"، وفيه فعل وفاعل ومفعول يتلوهما فعل مجزوم بـ"لما". ثم إن ابن رشد قد مزق أدوات الجزم التى تجزم مضارعا واحدا بين أفعال مضارعة خبرية وأفعال مضارعة إنشائية. ولا داعى لهذا التمزيق الذى يرهق الذهن ويشتت العقل. كذلك فالحرف "لم" لا ينفى الفعل الماضى كما يقول بل ينفى المضارع ويحوله إلى ماض، أما نفى الفعل الماضى فيتم بـ"ما": "ما قام زيد". وعلاوة على ذلك نجده قد نسى أن "لما" ينطبق عليها ما ينطبق على "لم" فى هذه الجزئية الأخيرة، كل ما هنالك أن النفى مع "لم" قد تم، وانتهى الأمر، بينما النفى مع "لمَّا" يظل مستمرا حتى وقت الكلام بحيث يمكن أن ينقشع النفى فى أى وقت ويقع الفعل كما هو معروف. أو فلنقل إن "لمّا يَحْدُثْ" تساوى "لم يحدثْ بعد". وهذه ثغرة أخرى من ثغرات الكتاب الكثيرة، وهى تدل على تسرع صاحبه فى تأليفه وأنه لم يكن قد هضم الموضوع فى عقله جيدا. ويبدو أن انشغاله بأن يأتى بشىء جديد، والسلام، قد غطى على تفكيره فلم يحسن التدبير والتنفيذ.

وابن رشد يخرج الضمائر وأسماء الإشارة والأسماء الموصولة وأسماء الاستفهام من دائرة الأسماء. إن هذه الأدوات تقع فى كل موضع يقع فيه الاسم، فتكون مبتدأ وخبرا واسم "كان" أو "إن" أو خبرها، واسما لـ"كاد" ومفعولا لـ"ظن"، وفاعلا ونائب فاعل ومفعولا به ومجرورا بالحرف ومجرورا بالإضافة، وتُوصَف ويُبْدَل منها وتُؤَكَّد. كما أن غالبيتها تُفْرَد وتثنَّى وتُجْمَع وتذكَّر وتؤنَّث على نفس المنوال الذى يجرى عليه الاسم. بل إن "مَنْ" و"أَىّ" الاستفهاميتين تعرفان أيضا الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث على لسان بعض العرب فى بعض السياقات، فيقال: "مَنْ، مَنَة، مَنَانِ، مَنَتَانِ، مَنُونَ، مَنَات" و"أىّ، أيَّة، أيَّان، أيَّتان، أيُّون، أيَّات". كما أنها لا ينطبق عليها تعريف ابن رشد ذاته للحرف، إذ يقول إنه "لفظ يدل على النِّسَب التى تكون بين الأسماء أنفسها، وبين الأسماء والأفعال".

ومن هنا فإنى أقترح إدخال تعديل محدود على تعريف الاسم الذى يأخذ به النحاة، فالاسم، كما جاء فى "النحو الوافى" للأستاذ عباس حسن، "كلمة تدل بذاتها على شىء محسوس، مثل "نحاس، بيت، جمل، نخلة، عصفورة، محمد" أو شىء غير محسوس يعرف بالعقل، مثل "شجاعة، مروءة، شرف، نبل، نبوغ"، ولا يقترن بزمن".والاقتراح المومأ إليه هو أن نضيف عبارة "أو ما يقوم مقامه إحالةً (الضمير) أو إشارةً (اسم الإشارة) أو وصفًا (الاسم الموصول واسم الفاعل واسم المفعول واسم المبالغة والصفة المشبهة وأفعل التفضيل) أو سؤالا (اسم الاستفهام)"، فيصبح التعريف كالآتى: "الاسم كلمة تدل بذاتها على شىء محسوس، مثل "نحاس، بيت، جمل، نخلة، عصفورة، محمد" أو شىء غير محسوس يعرف بالعقل، مثل "شجاعة، مروءة، شرف، نبل، نبوغ"، ولا يقترن بزمن، أو ما يقوم مقامه إحالةً (الضمير) أو إشارةً (اسم الإشارة) أو وصفًا (الاسم الموصول، واسم الفاعل واسم المفعول واسم المبالغة والصفة المشبهة وأفعل التفضيل) أو سؤالا (اسم الاستفهام)".

وهناك علامات إذا وجدت واحدة منها فى كلمة ما كانت دليلا على أننا أمام "اسم"، هى الجر والتنوين والنداء ودخول "أل" عليه. ومعظم هذه العلامات متحقق فى هذه الألفاظ المار ذكرها، فهى تُجَرّ وتُنَادَى كما فى الأمثلة التالية: "فيه، مِنْ هذا، إلى الذى يجلس هناك، ممن أخذت هذا المال؟، كتابه، يا أنت، أيها ذا الشاكى، يا أيها الذى نُزِّل عليه الذكر".

وحينما يتحدث ابن رشد عن الفعل: "يَغْزُون" واستعماله للرجال والنساء بنفس الشكل نجده يكتفى بالقول بأن النون فى أحد الاستعمالين للإعراب، وفى الثانى لا، وذلك دون أى توضيح آخر، بينما يقف النحاة هنا طويلا ليوضحوا الفروق بين الاستعمالين رغم أن الشكل واحد بلا أدنى فرق. كما أنه يتحدث دائما عن تذكير الفعل وتأنيثه وتثنيته وجمعه رغم أن الفعل لا يذكر ولا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع بل الذى يتحقق فيه ذلك هو الضمائر التى تلحقه. وهذا دليل آخر على عدم دقة ابن رشد.

وفى كلامه عن "إن" وأخواتها نراه يميز بين "إن" المكسورة الهمزة و"أن" المفتوحتها فلا يزيد عن القول بأن الأولى تأتى فى أول الكلام بينما تأتى الثانية فى موضع المضاف إليه. فأما عن كسر همزة "إن" فإنه لا ينحصر فى إتيانها فى أول الكلام كما قال، بل يدخل فيه أيضا مجيئها بعد القسم وبعد الاسم الموصول وبعد "واو" الحال وبعد القول. وعلى نفس الشاكلة فإن "أن" المفتوحة الهمزة لا ينحصر مجيئها فى أن تكون فى موضع الاسم المضاف إليه، بل تفتح همزتها إذا صح تأويلها مع ما بعدها بمصدر، وحينئذ قد تأتى فى موضع الفاعل، وقد تأتى فى موضع المفعول، وقد تأتى فى موضع الابتداء، وقد تأتى فى موضع الخبر، وقد تأتى فى موضع المجرور بحرف جر، وقد تأتى فى موضع الاسم المضاف إليه. وهذا الموضع الأخير هو الذى ذكره ابن رشد. كما نسى أن يقول إنه فى الحالات الأخرى غير التى تكسر فيها همزتها أو تفتح وجوبا فإن الكسر والفتح يكونان مقبولين.كما لاحظت أيضا أنه أفرد النعت بكلام خاص به بعيدا عن بقية "التوابع": العطف بنوعيه، والتوكيد، والبدل. وهو ما يربك ذهن القارئ ويشتته بين المواضع المتباعدة فى الكتاب. وهذه ثمرة تمزيقه أبواب النحو كما رتبها سائر النحاة.

وعند تعديده حروف الجر لا يذكر "واو رب" ولا "الباء" ولا "الكاف"، ودعنا من "كى" و"لعل" وأمثالهما، وخَلِّنا فى الحروف الجارّة المشهورة. ولَدُنْ حديثه عن حروف العطف نجده يفرد "الواو" و"الفاء" و"ثم" بكلام أو بقانون كما يقول، و"أو" و"أم" و"إما" بكلام أو قانون آخر مع أن القانون هنا هو القانون هناك، وهو أن المعطوف فى الحالتين يأخذ إعراب المعطوف عليه. ولا أدرى لماذا هذا التقطيع والفصل بين هذه الطائفة وتلك ما دام الحكم الإعرابى لهما واحدا. ثم إنه لا يكتفى بهذا بل يفرد حرف العطف: "بل" بكلام وقانون وحده رغم أنه لا يوجد فيه ما يفصله عن بقية أخواته. وهو نفس ما فعله مع حرف العطف: "لكنْ".

وهو يسمى أدوات الاستفهام كلها حروفا: يستوى فى ذلك ما كان بالفعل حرفا: "هل والهمزة" وما كان اسما: "متى، كيف، أين، مَنْ، ما، أىّ". وهذا من أعجب العجب. إن وظائف تلك الأدوات الاستفهامية التى يصنفها النحاة على أنها أسماء هى نفسها وظائف الأسماء، فتكون مبتدأ وخبرا وفاعلا ومفعولا وحالا وظرفا ومجرورا بحرف جر ومضافا إليه ومفعولا مطلقا ومستثنى: كل حسب السياق الذى يلائمه. وفضلا عن ذلك فإن هذه الأسماء الاستفهامية لا ينطبق عليها ما قاله ابن رشد نفسه فى تعريف الحرف، إذ قال إنه "لفظ يدل على النِّسَب التى تكون بين الأسماء أنفسها، وبين الأسماء والأفعال" مما تناولتُه فى موضع آخر من هذا الفصل، فلا داعى إذن للحديث فيه كرة أخرى. وابن رشد إذن مخطئ حين يصنف تلك الأدوات على أنها حروف.

وفى الأسماء الممنوعة من الصرف يقول إن اسم العَلَم الأعجمى إذا كان ثلاثيا ساكن الوسط صُرِف، وهو نفس ما قاله فى اسم العَلَم المؤنث. والمعروف أنه يصح تنوينهما ومنعهما من التنوين لا تنوينهما فحسب. وحين تحدث عن العَلَمِيَّة ووَزْن الفعل قال إن العرب إنما استعملت الفعل المضارع ولم تستعمل الفعل الماضى اسم علم. وقد فكرت فى "أكرم" و"أحسن" و"أصبح" مثلا، وهى أسماء أعلام، وتساءلت: ألا يمكن أن تكون هذه الكلمات أفعالا ماضية؟ أعرف أن الذهن يتجه تلقائيا نحو القول بأنها "أفعل تفضيل"، لكن ليس هناك دليل قاطع يمنعنا من القول بأنها من الممكن أن تكون أفعالا ماضية سمى بها أشخاص. ومثل ذلك اسم "بَهْدَل"، الذى من الممكن أن يقال إنه اسم الضبع وطائر أخضر، لكن من الممكن كذلك أن يكون فعلا ماضيا. فالعرب تقول: "بَهْدَلَ فلان فى مشيه"، أى أسرع، و"بَهْدَلَ الرجلُ": عظمت ثندوته. كما وفد على ذهنى اسم الشاعر الجاهلى: "تأبَّطَ شرا" واسم "شابَ قَرْناها"، وكل منهما يبدأ بفعل ماض. صحيح أن كلا منهما جملة فعلية وليس فعلا ماضيا فقط، ولكن يغلب على الظن أن أهل الشاعر ومعارفه كانوا يختصرون الاسم، فى بعض الأحيان على الأقل، حين ينادونه فيقولون: "يا تأبَّط"، ويقولون للبنت: "يا شابَ". ومثلهما "فَتَحَ الله" و"زادَ الخير" وهذا مجرد اجتهاد منى لا ألزم به أحدا. ومع هذا كله فهناك أسماء أعلام فى لغتنا على وزن الماضى كـ"صفا" و"جاد" و"طاب" و"عاد" و"ضَحَا" و"نجا" و"رَنَا" و"تلا" و"طَمَا" و"نَوَى" و"جَلا" و"سَخَا" و"هَطَل" و"دُئِل" و"حَوْقَل" و"بَحْدَل" و"زَلْزَل" و"بَحْبَح" و"تختخ" و"شَمَّر" و"خَضَّم" و"عَثَّر" و"صَلَّح" (اسم لعبة) و"عَسْكَر" (وهو اسم لـ"الجيش" أيضا) و"أَشْرَقَتْ". بل لقد قرأت رأيا مفاده أن كلا من "سامِح" و"صالِح" هو فى الأصل فعل أمر، وهو ما يمكن فعلا أن يكون، وإن كان الذهن ينصرف عادة إلى أنه اسمُ فاعلٍ من "سَمَحَ" و"صَلَحَ" على التوالى. وبنفس العين يمكن أن ننظر إلى "حافِظ" أيضا. وعندنا أيضا "اصْمتْ"، اسم صحراء، وإن كانوا يكسرون الهمزة والميم على خلاف القياس ويجعلون الهمزة همزة قطع. ومثلها اسم "اسكت" لصحراء عربية مع تحويل الهمزة إلى همزة قطع أيضا.

ومما آخذه على ابن رشد كذلك التفلسفُ الذى لا أحبه من النحويين، وكأن المشرحة ينقصها جثث. فهو مثلا يقول عن الرفع والنصب والخفض إن الضمة تأتى من محل متقدم على محل الكسرة، بينما الفتحة تأتى من محل متوسط، ولما كان الفاعل متقدما على المفعول به اختص بالضمة فى حين اختص المفعول بالفتحة... وهكذا. وهو، ولن أتحرج فى الإلقاء برأيى صريحا مباشرا، كلام فارغ، فالعرب لم تتنادَ وتجتمعْ فى مؤتمر قومى لغوى يتباحثون فيه ويتبادلون الآراء ووجهات النظر فى مثل تلك المسألة قبل أن يقرروا، بالإجماع أو بالأغلبية أو بالاستبداد والجبر، أن يجعلوا الضمة للفاعل، والفتحة للمفعول... إلخ، وإلا فليقل لنا ابن رشد: متى وأين انعقد هذا المؤتمر؟ ومن منظموه؟ وما الآراء التى تُدُووِلَتْ فيه؟ وكيف تم تبادل الآراء؟ ثم كيف فى النهاية انتهى الأمر إلى ما نعرفه من الوضع الحالى؟

لقد فات ابنَ رشد مثلا أن المثنى المرفوع إنما يرفع بالألف لا بالواو، والألف هى امتداد الفتحة لا الضمة. كما فاته أن النصب والجر فى كل من المثنى وجمع المذكر السالم كليهما بالياء رغم أن هناك فرقا كبيرا بين المجرور وبين المنصوب كما قال هو نفسه. كذلك هناك قبائل عربية تعرب المثنى كله فى جميع أحواله بالألف، ومثله الأسماء الستة. فكيف يعلل فيلسوفنا هذا؟ وعندنا أيضا المبنيات، وهى لا تتغير نهايتها بتغير وظائفها بل تبقى بحركة أو حرف واحد سواء جاءت فاعلا أو مبتدأ أو مفعولا أو مضافا.

ثم عندنا المضارع، فكيف يعلل فيلسوفنا اختلاف علامة رفعه عن علامة نصبه عن علامة جزمه؟ لقد سكت الرجل فلم يقل شيئا. ولماذا يا ترى سوت العرب بين جمع المؤنث السالم فى حالتى النصب والجر بأن أعربته بالكسرة، كما سوت بين الممنوع من الصرف فى نفس الحالتين، وإن كانت أعربته فيهما كلتيهما بالفتحة عكس جمع الألف والتاء؟ على كل حال فتفلسف ابن رشد هنا يدل على أن عقله ليس عقل فيلسوف حقيقى، وإلا ما أدخل نفسه فى هذا الشق الضيق بل الخانق الذى لا يمكنه أن يتفلفص منه. إنه هنا يتخيل بل يتوهم فيتكلم، فيجىء كلامه غير مقنعٍ أحدا، وإن ظن هو عكس ذلك رغم أنه إنما يردد ما يقوله النحاة بوجه عام. ثم هل يلائم هذا الكلام الميتافيزيقى كتاب "الضرورى من النحو"؟

ومن هنا فإننى أفضل كتاب "الرد على النحاة" على "الضرورى فى النحو"، ولا سيما أن أسلوب ابن مضاء أنصع وأوضح وأجمل، وكتابه أعمق وأكثر فائدة، وفيه آراء خاصة بصاحبه، وهى آراء مستنيرة. والطريف أن ابن رشد يتهم من لا يرضى عن منهجه فى هذا الكتاب بالحسد والجهل، وكأنه رجل عامى لا يفهم من الحياة إلا أن الناس يحسد بعضهم بعضا. كما أن كلامه هذا يدل أقوى دليل على أنه لا يدرك العيوب البلقاء التى تمازج كل ما يقوله فى الكتاب تقريبا.

وبعد فإن ابن رشد يظن أنه قد أحسن عرض النحو ورتبه ترتيبا منطقيا. ومن يقرأ كلامه هذا ولم يطلع على كتب النحو العربى قد يظن أنها تفتقر إلى النظام والترتيب المنطقى. وهذا غير صحيح البتة، فكل كتب النحو التى نعرفها مرتبة ترتيبا منطقيا. كل ما هنالك أن ترتيبها يختلف عن ترتيب ابن رشد. وهى، فوق هذا، تمتاز عن كتابه بنصاعة الأسلوب ووضوح الفكرة وعدم التعقيد فى العرض والتواضع فى الشرح. إنك تقرأ تلك الكتب وكأنك تنظر فى كأس من البلور الشفاف النقى الصافى، فلا عَتَمَة ولا غموض ولا عَثْكَلَة. يمكنك أن توافقهم أو تخالفهم فى هذا أو ذاك مما يقولون، لكنك لا تشكو الصداع والإرهاق اللذين تعانيهما فى كثير من صفحات كتاب الفيلسوف الأندلسى، وبخاصة أنه كثيرا ما يمهد لشىء مما يكون مقبلا على شرحه بكلام لم يأت موضعه ولا ميعاده بعد، فيزداد الكلام غموضا وإرهاقا.

لقد قرأت مثلا كتاب "شرح ابن عقيل" وحدى وأنا صبى فى السادسة عشرة من عمرى أو أقل قليلا فى صيف 1963م بالقرية فى طبعة من ورق الجرائد الكابى تخلو من علامات الترقيم والضبط ومن أية هوامش أو توضيحات، وفهمت ما فى الكتاب رغم ذلك كله فهما حسنا على عكس ما عانيت لدن قراءة كتاب ابن رشد مع أنى الآن قد تجاوزت السبعين وتخصصت فى اللغة العربية وآدابها. وبمناسبة ما نحن فيه أقول مرة أخرى: ينبغى أن يعرف القارئ أنه ما من كتاب فى النحو إلا ورتبه صاحبه ترتيبا منطقيا يضم الكليات، وتحت كل كلية فروعها وتفصيلاتها، لكن أحدا منهم لم يَدَّعِ دَعْوَى ابن رشد العجيبة من أنه سوف يؤلف كتابا فى النحو ينطبق على كل لغات العالم. ومع هذا جاء نحوهم واضحا شفافا يخلو من التعقيد والغموض والتداخل وتمزيق الموضوع الواحد بين الأبواب المختلفة دون داع. والطريف أن محقق كتاب ابن رشد يعلن أن فيلسوفنا، بعد كل هذه الضجة المصمة التى أتاها، لم يلتزم بما أعلن فى مقدمة كتابه أَنْ سيلتزمه، فجاء كتابه على وضع مخالف لما قال. فلم إذن كانت كل تلك الضجة؟ وأنى له بكل ذلك الافتخار الذى افتخره بكتابه واتهام الآخرين بالحقد عليه والحسد له وكراهية الجديد والتعبد لما نشأوا فيه وتعودوا عليه؟

كذلك ففى نحونا أبواب لا تعرفها الأنحاء الأخرى، وسوف أركز هنا على الإنجليزية والفرنسية التى أستطيع الحديث فيهما، وسوف أعيد بعض ما تناولتُه آنفا. فباب "كان وأخواتها" لا مكان له فى النحو الإنجليزى والنحو الفرنسى مثلا بالوضع الذى هو عليه فى العربية ولا ما يترتب على ذلك من إعراب. وبالمثل لا وجود فيه لـ"كاد وأخواتها" ولا لـ"ظن وأخواتها" ولا "لإن وأخواتها" ولا لـ"لا" النافية للجنس ولا لـ"لا" النافية للواحدة ولا للحال ولا للتمييز ولا للمفعول المطلق ولا للمفعول لأجله، على الأقل: على النحو المعروف فى لغة العرب. بل إن اللغتين لا تعرفان مِنْ "كان وأخواتها" مثلا سوى "كان وصار وظل وما دام"، وتخلوان من "أصبح وغدا وأضحى وأمسى وبات وما زال وما فتئ وما برح وما انفكّ"، ولاتعرفان أفعالا تقابل "كاد وأوشك وكرب وعسى وحرى واخلولق وشرع وطفق وهَبَّ" مثلا.

كما أن هاتين اللغتين لا تعرفان من الجمل إلا الجمل الاسمية بينما تعرف العربية الجمل الفعلية أيضا، مع ملاحظة أن الجمل الاسمية فى تينك اللغتين لا يمكن أن تخلو من فعل بتاتا. صحيح أن الجملة الاسمية فيهما قد تنقلب فيأتى الفعل أولا فى بعض الظروف الخاصة، لكنه مجرد تقديم وتأخير فى الجملة الاسمية وليس جملة فعلية كالتى نعرفها فى لساننا الكريم. وبالإضافة إلى ذلك فالفعل فى الجملة الفعلية العربية لا يتصرف، على العكس مما لو كانت الجملة اسمية خبرها جملة فعلية، فعندئذ يتصرف الفعل تبعا للاسم السابق عليه كما فى قولنا على التوالى: "أكل/ يأكل المحمدان، لعبت/ تلعب النساء- المحمدان أكلا/ يأكلان، النساء لَعِبْنَ/ يَلْعَبْن" مثلا. أما فى الإنجليزية والفرنسية فيتصرف الفعل لأن الفاعل يسبق الفعل، وهو ما يقابل عندنا "المبتدأ"، وإن كان تصريف الأفعال الإنجليزية بسيطا جدا، وسنتجزئ الآن بالماضى والمستقبل البسيط فقط، والتصريف فيهما شىء واحد مع كل الضمائر، وفى المضارع نجد تصريفين ينطلقان من صيغة المصدر: تصريف ينتهى المصدر فيه بـ"s"، والآخر لا ينتهى المصدر فيه بشىء، وإن كان تصريف الأفعال قبل ذلك أكثر تنوعا. أما فى الفرنسية فلا بد أن يتصرف الفعل، وتصريفاته معقدة على عكس الوضع فى الإنجليزية.

وفيما يسمى: "الماضى البعيد" مثلا نقول: "كان سعيد قد أخلد إلى السرير" مستعملين فعل الكينونة كما نرى، على حين أن الإنجليزية تستعمل هنا فعل الملكية حسبما هو معروف، بخلاف الفرنسية، التى تستعمل مع بعض الأفعال فعل الكينونة، ومع بعض الأفعال الأخرى فعل الملكية. وفى نفى الفعل نجد العربية تستخدم أداة من كلمة واحدة تسبق الفعل: "لم، لَمَّا، ما، لا، ليس" بخلاف الإنجليزية، التى تستعمل فعلا مساعدا أولا متبوعا بكلمة "not" قبل الفعل المراد نفيه، وبخلاف الفرنسية، التى تضع الفعل المنفى بين أداة مكونة من كلمتين هما "ne" قبل الفعل و"pas" بعده، بالإضافة إلى استخدامها "pas" وحدها مع أفعال الشك، مما لا نعرفه فى لغتنا. كذلك لا تعرف الإنجليزية أداتى الاستفهام: "هل، أَ"، اللتين تعرفهما العربية، بل تقلب تركيب الجملة ليس إلا فيكون عندها هذا النوع من الاستفهام، بينما تعرف الفرنسية الطريقتين كلتيهما.

وفى باب الاستثناء لا تعرف هاتان اللغتان ذلك التنوع فى أدواته الذى تتحلى به لغتنا: "إلا، لَمَّا، غير، سوى، سواء، عدا/ ما عدا، خلا/ ما خلا، حاشا/ ما حاشا، ليس، لا يكون"، كما لا يترتب على الاستثناء فى هذين اللسانين ما يترتب عليه فى العربية من إعرابات مختلفة بطبيعة الحال. وفى النعت نجد الصفة تتأخر عن الموصوف فى لغة الضاد على حين يحدث العكس فى الإنجليزية، أما فى الفرنسية فبعض الصفات تسبق، وبعضها تلحق. كذلك فالنعوت فى الإنجليزية لا تؤنث ولا تجمع، ولا تثنَّى طبعا، أما فى الفرنسية فتؤنث وتجمع، لكنها لا تثنى. ومن الاختلافات بين لغتنا وتينك اللغتين أيضا ما تتمتع به العربية من حرية وجرأة فى التقديم والتأخير داخل الجملة لا تعرفهما تانك اللغتان. وفى أسماء الإشارة لا وجود فى اللغتين المذكورتين إلا لاسم واحد للمشار إليه القريب، واسم واحد للمشار إليه البعيد، مفردا وجمعا فقط، إذ إنهما لا تعرفان صيغة تثنية لأسماء الإشارة، وزيادة على ذلك لا تعرف الإنجليزية صيغة تأنيث لها، بينما الأمر فى لغتنا أغنى من ذلك كثيرا حسبما هو معروف. ويضاف إلى ذلك أن المشار إليه فى العربية يأخذ ألفا ولاما، فنقول: "هذا الرجل، تانِكَ البابان، أولئك الأمهات" بينما فى اللغتين يَعْرَى المشار إليهما عن "أل" تلك. وكثير مما قلناه هنا يصدق على الأسماء الموصولة. وبينما نقول نحن مثلا فى لغتنا: "كتابِى" مضيفين "الكتاب" إلى ضمير صاحب الكتاب، بما يعنى أن يُذْكَر الكتاب أولا ثم يليه ضمير مالكه، نجد الأمر على العكس من هذا فى اللغتين الأوربيتين، إذ يقال حينئذ: "my book" و"mon livre" بحيث يأتى ضمير المالك (أو صفته كما يقال فى تينك اللغتين) أولا ثم الشىء المملوك بعد ذلك. وفوق هذا فليس عندنا ضمائر ولا صفات ملكية، بل كل ما هنالك أننا نضيف الشىء المملوك إلى الضمير الذى يعود على مالكه، ودمتم.
وبالمثل نجد أن اللغتين المذكورتين، كما قلنا وكررنا، لا تعرفان صيغة المثنى على عكس العربية، وفى الجمع يضيف الإنجليز والفرنسيون بوجه عام حرف "s" إلى المفرد فى آخره، فيكون عندك الجمع، أما فى العربية فلدينا جمع المذكر السالم وجمع المؤنث السالم وجمع التكسير: فأما الأول والثانى فبوجه عام يضاف إلى المفرد شىء فى نهايته: "الواو والنون/ الياء والنون، والألف والتاء مع تغير حركة التاء حسب الإعراب"، وأما جمع التكسير فإن صيغة المفرد تتغير عن شكلها الأول: "بئر- آبار، مسجد- مساجد، عصفور- عصافير، حامل- حوامل، كريم- كُرَماء، شديد- أَشِدَّاء، قلب- قلوب، صحراء- صحارى، حمراء- حُمْر، أَتَان- أُتُن... إلخ". ويضاف إلى هذا وذاك وذلك جمع صفات غير العاقل، إذ يصح أن نستخدم له صفة المفردة المؤنثة: "نافذة واسعة- نوافذ واسعة، بقرة ضخمة- أبقار ضخمة، فيل ظريف- أفيال ظريفة، باب قديم- أبواب قديمة... وهلم جرا". ليس هذا فقط، بل كثيرا ما يكون عندنا أكثر من جمعٍ مُكَسَّر للمفرد الواحد، مثل "فِيل- أَفْيَال، فِيَلة، فُيُول"، و"ظَرِيفُون، ظِرَاف، ظُرَفَاء"، و"شيخ- أَشْياخ، شِيخانٌ، شُيُوخٌ، شِيَخَة، شِيخَةٌ، مَشْيَخة، مَشِيخة، مَشْيُوخاء، مَشايِخُ". وكذلك كثيرا ما يكون للمفرد الواحد أكثر من نوع جمع، مثل "أبقار، بَقَرات، بَقَر" مثلا. وهذا كله مما لا وجود له فى ذينك اللسانين. ولدينا فى العربية جمع الجمع فنقول: "رجل- رجال- رجالات". وبالمثل كثيرا ما نجد للفعل الواحد صيغا مصدرية متعددة كالفعل: "شاخ"، الذى نجد له المصادر التالية: "شَيْخ وشُيُوخَة وشِيُوخَة وشُيُوخِيَّة وشِيُوخِيَّة وشَيْخُوخَة وشَيْخُوخِيَّة". وهذا أمر لا تعرفه اللغتان المذكورتان.