محمد والوحدانية عند معروف الرصافى

(صفحات من كتابى عن معروف الرصافى وكتابه: "الشخصية المحمدية - فك اللغز المقدس")

إبراهيم عوض

(أنشر هذه الصفحات إكراما لخاطر أ. زيوار المدرس العراقى الكردى الذى ظل يغرينى بأن أكتب عن الرصافى والشخصية المحمدية ونجح فى ذلك فكان هذا الكتاب الذى منه هذه الصفحات)

======================================


ومما يدعيه الرصافى فى كتابه الذى فى أيدينا أن الوحدانية لم تعرف قبل محمد، فهى من "مخترعاته" و"تصوراته" التى لم يسبقه أحد إليها. ويمضى قائلا إن معنى "لا إله إلا الله" هى أنها "ترتقى بالناس من طور إلى طور أعلى، إذ تخرجهم من طور عبودية عامة إلى طور عبودية خاصة. أى أنها تجعل الناس كلهم مستعبَدين لإله واحد لا شريك له هو خالق الكائنات". ثم ينتقل كاتبنا إلى العبودية الخاصة التى مدحها وأسند شرف "اختراعها وتصورها" إلى محمد فيقول إن هناك مرتبة أعلى منها، وهى "مرتبة الفناء فى الحقيقة الكلية المطلقة اللانهائية التى هى ذات الله. وعنوان هذه المرتبة "لا موجود إلا الله"، وهى المعبَّر عنها فى كلام فلاسفة الإسلام بـ"وحدة الوجود". إذا تصورت الفضاء بأثيره وبامتداده الزمنى وبما فيه من كائن جلىٍّ أو خفىٍّ تصورا كليا لا يعلق بالصور الجزئية فقد تصورت الحقيقة الكاملة المطلقة اللانهائية التى هى ذات الله، وعلمت ألا موجود غيرها. ومتى ما وقف فكرك عند صورة جزئية من صور الكائنات فقد خرج بك عن الوجود الكلى وكَفَرَ عنك ذات الله. ومتى ما استطعت فى فكرك أن تندمج فى الوجود فانيا فيه ناسيا وجودك الجزئى غير ذاكر من نفسك صورتها المحدودة فقد جاز لك أن تظهر مظهر الوجود الكلى وأن تقول وتفعل عن ذات الله لأنك بصورتك الجزئية غير موجود إلا وجودا صوريا، وإنما الموجود هو الوجود الكلى المطلق اللامتناهى".
ثم يشرح ذلك بقوله: "إذا تدبرت هذا جيدا علمت أن الحلاج صادق فى قوله: "أنا الحق"، ولكن قوله هذا مع كونه صادقا يعتبر كفرا بذات الله لأنه قال: "أنا"، و"أنا" كناية عن الوجود الجزئى الذى لا كيان له فى خارج الوجود الكلى، وأيضا فهمت قول محيى الدين بن عربى: "إن النصارى لم يكفروا بجعلهم المسيح إلها، وإنما كفروا لتخصيصهم ذلك بالمسيح"، أى لوقوفهم عند صورة جزئية من الوجود الكلى. ومهما نَقُلْ عن "وحدة الوجود" فإن العبارة قاصرة عما هنالك من المعانى الدقيقة... ولقد زلت أفكار بعضهم من وحدة الوجود إلى دعوى الحلول أو الاتحاد، فادَّعَوْا أن الله حل فى قلان أو اتحد بفلان. وهذا باطل لا يتمشى مع وحدة الوجود لأن الحلول أو الاتحاد يقتضى شيئين: حالًّا ومحلولًا فيه أو مُتَّحِدا ومتَّحَدا به. وهذا ينافى وحدة الوجود الكلى المطلق، فلا يقال إن الله حل فى فلان كما لا يقال، إذا كان البحر مائجا، إن الله حل فى الموجة، إذ ليس هناك إلا الماء، وما الموجة إلا صورة جزئية مضمحلة".
ويستمر فى كلامه ضاربا الأمثلة من القرآن على وحدة الوجود فيقول: "لقد عبر محمد عن وحدة الوجود فى القرآن بقوله: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شىء عليم". إن هذه الآية صريحة كل الصراحة فيما ذكرناه لك من وحدة الوجود الكلى المطلق، إذ لا ريب أننا إذا قلنا إن الأول الذى لا يُدْرَك، والآخَر الذى لا يُلْحَقَ، والظاهر الذى يُرَى، والباطن الذى لا يُرَى، كل ذلك هو الله، كان معنى هذا القول صريحا فى أنه لا موجود إلا الله. وهذا هو المعنى المقصود من وحدة الوجود. وهل وصل محمد إلى هذه المرتبة العليا بالتفكير أوتلقاها عن غيره بالتلقين؟ إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى بحث وتنقيب، وأنا اليوم عند كتابه هذا فى منزل من الفلوجة منقطع عن وسائل البحث والتنقيب ليس لدىَّ من الكتب ما أرجع إليه. فليعذرنى القارئ إذا قلت له: إننى لا أستطيع الآن أن أجيب على هذا السؤال بشىء. إن محمدا ببلوغه هذا المبلغ الأسمى من إدراك أنه لا موجود إلا الله قد استطاع بقدرة فائقة، كما تدل عليه أقواله وأفعاله، أن يندمج فى الوجود الحق الكلى الطلق اللانهائى فانيا فيه متلاشيا به ناسيا وجود نفسه الجزئى. ولذلك جاز له أن يقول عن ذات الله ما يقول وأن يفعل عنه ما يفعل كما جاء فى القرآن من قوله: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى"، إذ جعل فعله فعل الله، وقوله: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم"، إذ جعل بيعته بيعة الله، وجعل يده يد الله. فهو بهذا الاعتبار الفلسفى صادق فيما أخبر به عن الله، وصادق أيضا باعتبارٍ آخرَ سنذكره فيما بعد" (ص18- 20).
وأول شىء نتناوله من كلام الرصافى هو زعمه أن محمدا هو أول من تصور واخترع "لا إله إلا الله". وهو زعم خاطئ متهاوٍ. ذلك أن محمدا نفسه، إذا جارينا الرصافى فيما ادعاه من أنه هو مؤلف ا لقرآن ومنتحل النبوة، قد قال عكس ذلك تماما، إذ أسند هذا التوحيد إلى جميع الأنبياء الذين سبقوه، فقد جاؤوا جميعا طبقا لما ورد فى القرآن والحديث بكلمة التوحيد. وكان هذا محور الخلاف بين كل نبى وقومه وأساس العداوة والبغضاء، ولو لم يدع الأنبياء أقوامهم إلى هذا ما خاصموهم ولا حاربوهم وحاولوا قتلهم، بل لقد قتلوا بعضهم فعلا، وكانوا أحرياء أن يقتلوا محمدا أيضا لولا لطف الله به وكرمه له. أما كلام الرصافى عن اليهودية والنصرانية وتأليههما عُزَيْرًا والمسيح وإشارته إلى أن الله فى اليهودية هو إله إسرائيل فقط لا إله العالمين جميعا فلا يقدم ولا يؤخر، فنحن نتحدث عن تينك الديانتين فى أصلهما النقى لا بعد ما طرأ عليهما من انحراف وتلاعب.
تعالوا نسمع ما قاله ابن آدم الذى قتله أخوه لأن قربانه تقبل أما قربانه هو فلم يتقبل، فقد قال له حين رآه يبسط يده ليقتله: "إنى أخاف الله رب العالمين". فالله عنده هو رب الدنيا كلها لا يشاركه فى تلك الربوبية إله آخر. ومعنى أن الأخوين يقدمان قربانا لله أنهما كانا يوحدانه. وآدم معدود بين الأنبياء، ولا يمكن أن يأتى نبى بالشرك وعبادة الأوثان أو يحصر ألوهية ربه فيه وفى قومه. ونوح دعا قومه إلى نبذ وَدٍّ وسُوَاع يغوث ويَعُوق ونَسْر ويعبدوا الله وحده لا شريك له على ما هو معروف. وهذه هى نفسها دعوة إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل ويوسف وموسى حتى عيسى آخر نبى ظهر قبل محمد مباشرة: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين". "وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين * قوم فرعون ألا يتقون * قال رب إنى أخاف أن يكذِّبون * ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى هارون * ولهم علىَّ ذنب فأخاف أن يقتلون * قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون * فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين*... * قال فرعون وما رب العالمين...". "وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون * إن هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون * قال أغيرَ الله أَبْغِيكم إلها وهو فضَّلكم على العالمين". "وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلتُ لهم إلا ما أمرتَنى به أنِ اعبدوا الله ربى وربكم وكنتُ عليهم شهيدا ما دمتُ فيهم فلما توفَّيْتَنى كنتَ أنت الرقيبَ عليهم وأنت على كل شىء شهيد". "وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره". "وإلى ثمودَ أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره". "وإلى مدينَ أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره"... وهكذا. وقد اكتفيت هنا بكلام القرآن ولم أشأ أن أستشهد أيضا بالأحاديث.
فكيف يقول محمد إن دعوة جميع الأنبياء والمرسلين هى دعوة التوحيد، فيأتى معروف الرصافى فيكذب محمدا مؤكدا أنه هو مخترع هذا التوحيد ومتصوره وأن أحدا لم يسبقه إليه؟ إن هذا يذكرنى بما قاله أحد النقاد لأحد الشعراء فى أحد البرامج الثقافية المصرية بالإذاعة فى ستينات القرن المنصرم حين اعترض الشاعر على الناقد بأنه يقوِّله كلاما لم يقصده فى شعره، فما كان من الناقد إلا أن قال: ما عليك إلا أن تقول، وعلىَّ أنا أن أفسر. ومتى ما انتهيتَ من قصيدتك فيلزمك الصمت، وأتحدث أنا دون أى اعتراض من جانبك. يا للبجاسة! وهو ما صرنا نسمعه رسميا منذ فترة من قول نقاد آخر زمن بموت المؤلف. أمات الله قلوبهم وعقولهم، وجعل على أسماعهم وعيونهم غشاوة بما كانوا يفترون. وهذا إذا افترضنا جوازه فى الشعر فلا يجوز فى كلام الأنبياء والرسل، وإلا كانت الدنيا سداح مداح لا ضابط لها ولا رابط. ولقد أثنى الرصافى على محمد ورفعه إلى أعلى عليين ومدحه مدحا أخرجه به من النبوة إلى ما فوق النبوة بزمان وجعله مخترع دعوة التوحيد، فكيف ينقلب عليه ويكذب ما قاله فى القرآن من أن دعوة التوحيد هى دعوة النبيين والمرسلين كلهم قبلا، ويفسر كلامه تفسيرا مضادا لمضمونه؟
لكن الرصافى لا يتوقف هنا بل يقفز قفزة أخرى زاعما أن هناك مرتبة أعلى من التوحيد هى وحدة الوجود. ومعناها أنه لا يوجد سوى الله، وأن العالم من حولنا لا حقيقة له ولا وجود. وهذا ما يقوله الرصافى نفسه كما نقلنا عنه آنفا. لكنْ بناء على هذه العقيدة لن يكون الله خالقا ولا رازقا ولا مريدا ولا ولا ولا لأنه ليس هناك مخلوقات أصلا، وما دام الأمر كذلك فليس هناك مرزوقون... إلخ. كما أن هذا القول يستلزم أن ننكر ما نراه نحن البشر وما نسمعه وما نلمسه وما نشمه وما نشعر به وما يخطر ببالنا من أفكار وعواطف لأنه لا وجود لنا ولا لأسماعنا ولا لأبصارنا ولا لعقولنا ولا لقلوبنا، بل ولا وجود قبل ذلك لما يمكن أن ندركه بعيوننا وآذاننا وجلودنا وعقولنا وقلوبنا، بل ولا وجود أصلا لعيوننا وآذاننا وجلودنا وعقولنا وقلوبنا. ولكن كيف ننكر كل ذلك ونحن نعايشه ونعيشه بكل كياننا؟ الواقع أنك، حسب مزاعم الرصافى والكذابين أصحاب وحدة الوجود، لا ينبغى أن تطرح تلك الأسئلة الطبيعية المشروعة، وعليك أن تكذِّب أنك موجود وأن كل ما تراه وتسمعه وتشمه وتلمسه وتفكر فيه وتشعر به لا وجود له، بل أنت نفسك لا وجود لك. فالله هو وحده الموجود، ولا وجود لأى شىء آخر سواه. وهذا كلام يطير العقل ويهدم كل أبراجه.
ويترتب على هذا بطبيعة الحال أن الرصافى غير موجود وأن ما كتبه فى هذا الكتاب وفى غيره من الكتب والقصائد غير موجود وأن الخمر التى كان مدمنا لها والمومسات اللاتى كان يسافحهن والطعام الذى كان يأكله والماء الذى كان يشربه والبيت الذى كان يسكنه والشارع الذى كان يمشى فيه والوظائف التى كان يمارسها والفلوس التى كان يقبضها والأصدقاء الذين كان يعاشرهم والتلاميذ والطلاب الذين كان يعلمهم والقراء الذين كان يخاطبهم والحكام الذين كان يتصل بهم والغلمان الذين كان يأتيهم من خلف، كل ذلك لا وجود له. بل لا وجود لمحمد ولا للقرآن ولا للتاريخ ولا للجغرافيا ولا لأى علم أو فن ولا للكتب ولا للأقلام ولا للأوراق ولا للأحبار ولا للبشر ولا للحيوانات ولا للجمادات ولا للجراثيم ولا للمكروبات ولا للفيروسات ولا للسماوات ولا للأرضين ولا للبحار ولا للأنهار ولا للصحارى ولا للحقول ولا للنباتات. ولا يوجد كتاب اسمه "الشخصية المحمدية" بل لا يوجد شخص اسمه معروف الرصافى، ولا لى أنا نفسى أىّ وجود. كل ذلك عدم فى عدم، وليس هناك سوى الله. فهذا هو مضمون كلام الرصافى عن وحدة الوجود. وعلى هذا فلا معنى لحصر وحدة الوجود فى قوله تعالى: "يد الله فوق أيديهم" فى وحدة اليد المحمدية مع اليد الإلهية كما يحصرها الرصافى، بل ينبغى أن تشمل وحدة أيدى الصحابة كلها مع يد الله، بل ينبغى أن تشمل وحدة كل شىء فى الكون مع الله جل وعلا، إذ إن وحدة الوجود تستلزم، كما رأينا، ألا يكون هناك وجود لأى أحد أو شىء غير الله.
والعجيب أنه ينقل عن ابن عربى نقل الموافق أن القرآن كفَّر النصارى فى قولهم بألوهية المسيح لا لأنهم ألهوه، فهذا هو الوضع الطبيعى، إذ لا فرق بين الله والكون بما فيه المسيح، بل لأنهم قصروا تأليههم عليه ولم يمدوه إلى كل البشر كما تقتضى عقيدة وحدة الوجود (ص19). وأزيد أنا فأقول إنه لا يكفى هذا أيضا بل لا بد أن ينسحب التأليه على كل الكائنات من بشر وحيوان وجماد ونبات وماء ونار وهواء وأفكار ومشاعر لا على البشر وحدهم. وبطبيعة الحال أنا لا أعتقد فى شىء من هذا لكنى أجارى الرصافى فى تساخفه. وعلى كل حال فلو كان ما يقوله عن صحة كلام ابن عربى لقد كان ينبغى أن يوضح القرآن لمؤلهى المسيح أن عليهم تأليه كل المخلوقات لا المسيح وحده، لكنه سبحانه كفرهم لمجرد إشراكهم بالله أحدا من عباده. ولم يُذْكَر المسيح فى القرآن إلا بوصفه عبدا من عباد الله. وهذا كله يُدْحِض ما يهرف به معروف الرصافى، الذى لا أدرى أى خلل أصابه فى أخلاقه وسلوكه وعقله فجعله يردد هذا العهر العقيدى، ثم لا يكتفى بهذا بل يحاول أن يوهمنا أن هذا هو التفسير الصحيح الوحيد للرسالة التى كلف محمد بتبليغها للبشر من لدن رب العالمين!

كذلك إذا ما تحدثنا عن الكون الذى نشاهده حولنا فى كل مكان بصفته الجانب الآخر من الله فمعنى هذا أن الله لا يكاد يعرف شيئا صحيحا، فإننا نحن البشر لا نتفق على شىء، ومن ثم لا يوجد فى أحسن الأحوال مما نختلف حوله إلا شىء واحد صحيح، والباقى خطأ. ولنأخذ ما كتبه الرصافى فى كتابه المذكور مثالا على ما أقول: إنه يقول شيئا، وأقول أنا شيئا آخر، ثم يأتى ثالث فيقول شيئا يختلف عما أقول أنا وما يقول هو... وهكذا دواليك. ونحن، حسب وحدة الوجود، لا وجود لنا بل الوجود كله لله فقط. أى أن ما نقوله ونختلف حوله هو لله ومن الله لا لنا ولا منا. وإذن فإن الله لا يعرف الحقيقة بل يحتار بشأنها، فنراه يقول الشىء وأشياء أخرى فى كل مسألة من مسائل الوجود ولا يستقر على قول واحد يكون هو الحقيقة، ولا شىء آخر.
ولقد قرأت فى "موسوعة الفرق" فى موقع "الدرر السنية" فى الفصل الثاني: "عقائد الديوبندية" من الباب الثاني عشر عن عقائد فرقة الديوبندية الهندية فى العصر الحديث، وتحت عنوان "وحدة الوجود" ما يلى: "قيل لموحد (أى أحد المعتقدين فى وحدة الوجود): إذا كان الحلوى والخرء شيئاً واحداً فكُلِ الحلوى والخرء جميعاً! فجعل هذا الموحد شكله شكل الخنزير، فأكل الخرء، ثم حول نفسه من صورة الخنزير إلى صورة الآدمي، فأكل الحلوى. وقد علق على هذه الأسطورة الإلحادية الوثنية والوجودية الصوفية الشيخ أشرف علي الملقب بحكيم الأمة فقال: إن هذا المعترض على هذا الموحد كان غبيا، ولذلك تكلف هذا الموحد هذا التصرف، وإلا فالجواب ظاهر، وهو أن الحلوى والخرء متحدان في الحقيقة لا في الأحكام والآثار". وتعليقنا على ذلك هو أننا إنما نتعامل مع الأحكام والآثار، أما الحقيقة التى يشير إليها فأين هى؟ إن هناك فروقا خطيرة بين الحلوى والخرء لا يمكن تجاهلها، وهذا ما يهمنا، وهو ما نصطدم دائما به ولا يمكن القفز فوقه وتجاهله. وأما مقدرة المعتقد بوحدة الوجود على تصيير نفسه خنزيرا وإعادة نفسه إنسانا مرة أخرى فهو كلام الضالين المضلين. وهم لا يستطيعون غير هذا الكلام الممخَّط لأنهم كذابون يتصورون أنهم يمكنهم بسفسطاتهم المضحكة هذه تجاهل الوقائع الصلبة المدببة التى تخرق عيونهم ويستطيعون أيضا خداعنا وإيهامنا بصحة هذا الضلال الذى يزعمون أنه هو الإيمان الصحيح.
كما أن هذا الضال المضل يتجاهل أن وحدة الوجود تعنى أنه لا وجود لغير الله، ومن ثم فلا وجود لحلوى ولا خرء ولا وجود له ولا لآكل الحلوى والخرء ولا لمقترح أكل الحلوى والخرء عليه ولا ولا ولا. لكن المشكلة هى أنه وأمثاله يعتمدون البهلوانية الفكرية منهجا، ثم إنهم عند التصرف يتصرفون مثلى ومثلك أيها القارئ العزيز، فحين يجوعون لا يقولون لأنفسهم: ليس هناك وجود لشىء اسمه الجوع ولا لقرصات البطن وصرخاتها بل لا وجود لنا أنفسنا، وليس هناك سوى الله، بل يسارعون إلى الطعام يأكلونه، وإلى الشراب يتجرعونه، وإلى الحلوى ينهون بها وجبتهم، وإلى الحمّام يفرغون ما ملأوا به بطونهم، وإلى الدواء يعالجون به مغصهم وانتفاخ قولونهم... وهكذا. ولو كانوا صادقين لتجاهلوا وجودهم ذاته وعَدُّوه كأنْ ليست له حقيقة ومَضَوْا دون أن يلتفتوا لطعام أو شراب أو مال أو أى شىء آخر فى الحياة. لكن كما نعرف فإن باب الزعم والتهويش لا ينغلق أبدا فى وجوه غليظى الجلود ثخينى الوجوه.
والرصافى يستشهد على أن وحدة الوجود هى العقيدة التى دعا إليها محمد عليه السلام بقوله تعالى عن ذاته جل وعلا: "هو الأول والآخر والظاهر والباطن" كما رأينا قبل قليل، متجاهلا أن "الأول" هو الذى لا يسبقه فى الوجود شىء، فهو أزلى بينما كل الموجودات تاريخية، أى لم تكن ثم كانت، بل كانت لأنه خلقها وأراد لها أن تكون، وأن "الآخِر" هو الذى لا نهاية له لأنه أبدى، و"الظاهر"، هو الذى تظهر قدرته فى مخلوقاته وإبداعاته، و"الباطن"، الذى لا يُرَى ولا يُسْمَع ولا يُحَسّ ولا يُدْرَك، ومع هذا فهو موجود ولا يمكن أن يكون وجود دون أن يكون مِنْ خَلْقه أو دون أن يعيش بدون رزقه وحفظه وقيوميته. وفى الحديث "عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو عِنْدَ النَّوْمِ: "اللَّهُمَّ ربَّ السموات السَّبْعِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، مُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ. أَنْتَ الْأَوَّلُ لَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ لَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ لَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ لَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ. اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ". وفوق ذلك فالرصافى يتغافل عن قوله سبحانه فى نهاية الآية: "وهو بكل شىء عليم" بما يعنى أن هناك أشياء، وأن علمه يتعلق بها. إذن فبنص الآية هناك "الله"، وهناك أيضا "كل شىء" من سماوات وأرضين وبشر وطير وحيوان ونبات ومعان وأفكار ومشاعر وعواطف وخواطر وشهوات وهواء ونار وماء.
كذلك فالآية التى بعد ذلك تقول: "هو الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يَلِجُ فى الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يَعْرُج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير"، وفيها طرفان: الله الخالق العليم المستوى على العرش والذى معنا فى كل مكان وزمان وفى كل حال، وفى الطرف الآخر مخلوقاته عز شأنه. وهذا موجود فى كل آيات القرآن من أوله إلى آخره. فالله شىء، والكون شىء آخر: الله هو الخالق الرازق العليم القيوم، والكون هو المخلوق المرزوق المعلوم المحفوظ بحفظه جل وعلا. وفى العالم الآخر سيكون هناك حساب وثواب وعقاب. فهل الله يخلق نفسه ويرزقها ويقوم على حفظها فى الدنيا، ويحاسبها ويرسلها إلى الجنة والنار معا فى الآخرة؟ أم ماذا؟ إننى لا أصدق نفسى وأنا أكتب هذا الكلام على ما فيه من سخف وتهافت وتهاوٍ. ولكن ما العمل، وفى البشر من يكتبون كلاما كله تنطع وسخف ورقاعة؟ وعلى نفس الشاكلة يقول مولانا جل شأنه: "كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"، وهو ما يفيد أن هناك وجودين: وجودا فانيا هو وجودنا نحن المخلوقات، ووجودا باقيا بلا نهاية هو وجوده سبحانه.
ومما يستشهد به الرصافى أيضا على وحدة الوجود من القرآن قوله جل شأنه للنبى محمد: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى". فمحمد، كما يقول الرصافى، قد فنى فى الله وتلاشى به ولم يعد له وجود جزئى بل اندمج فى الوجود الحق الكلى المطلق. وهو يرى أن محمدا هو قائل هذا الكلام لأن القرآن، فى نظره، هو من تأليف محمد. بل إنه ليتنطع ويتراقع قائلا إنه هو للأسف بعيد عن المكتبات العامة، ومن ثم لا يستطيع أن يعرف هل أتى محمد بهذا الكلام من عنده أم استقاه من مصدر ما. أى أن محمدا لم يتلق كلامه عن الله بل إما افترعه من عنده أو أخذه من مصدر ما، وكل ما هنالك أن المصادر والمراجع غير متوافرة له، وإلا لوضع يده فى الحال على محمد وهو متلبس بالجريمة. ومعنى الآية أن الله هو خالق البشر وواهبهم القدرة على الفعل والترك وأعطاهم الإمكانات الجسدية والمعنوية والأدوات التى يستعينون بها على ما يريدون من فعل وتجنب ذاك والقوانين التى تحكم تفكيرهم وشعورهم وتصرفاتهم. فهذا معنى "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى". فهو سبحانه يريد أن يربيهم على التواضع وعدم الغرور والجعجعة لأنهم فى كل أمور حياتهم يرجعون إلى الله سبحانه، مع وجود نطاق نسبى من الحرية هو أيضا الذى خلعه عليهم وميزهم به عن سائر مخلوقاته.
وفاته أن الله المتحدث هنا يخاطب رسوله بوصفه كائنا مختلفا عنه، وإلا فكيف يكلم شيئا لا وجود له؟ وما دام الله شيئا، ومحمد شيئا آخر، فكيف يزعم الرصافى أن محمدا قد فنى فى الوجود الكلى المطلق ولم يعد له وجود خاص به؟ أتراه قد فقد وعيه بوجوده وأخذ يسير ويجلس وينام ويأكل ويحادث أصحابه وزوجاته وهو ذاهل لا يعى من أمره ولا أمور من حوله شيئا؟ أتراه لم يكن يشعر بجوع ولا عطش ولا برغبة فى الراحة والنوم ولا يلتفت لزوجاته وبناته وأحفاده؟ لا بل أتراه قد امحى من الوجود واندمج فى المطلق؟ كذلك فإن كلام الرصافى هنا يناقض كلامه السابق، ففى كلامه السابق لم يكن هناك وجود أساسا سوى وجود الله، أما هنا فهناك وجودان: وجود محمد (وسائر البشر)، ووجود الله الذى ذاب فيه وجود محمد. وواضح أن الرصافى لا منطق لديه ولا عقل ولا فهم ولا حصافة بل ثرثرة، وثرثرة ليس إلا. إنه يتخبط ويتناقض ولا يبالى. إنه مغرم بترديد الكلام الغريب الشاذ.
وكما فعلنا فى آية سورة "الحديد" قبل قليل نفعل هنا مع آية سورة "الأنفال". ففى هذه السورة يقول الله تعالى: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثْبِتوك أو يقتلوك أو يُخْرِجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين". فإذا كان الله هو الموجود الوحيد فمن يا ترى هو ذلك الكائن الذى كان الكفار يمكرون به ويريدون حبسه أو قتله أو إخراجه؟ ومن يا ترى أولئك الذين كانوا يريدون أن يصنعوا به ذلك؟ أيكون الله هو الماكر والممكور به، وهو مريد الحبس والقتل والطرد من مكة، وفى نفس الوقت هو المراد حبسه وقتله وطرده؟ وفى كل موضع فى القرآن نجد الله ربا، ومحمدا عبدا. بل يصل الأمر فى بعض الأحيان أن يعاتبه الله ويشتد فى الحديث إليه. فهل يعاتب الله نفسه ويعنفها ويهددها؟ أم ماذا؟ وهل لو كان الله يعاتب نفسه ويعنفها ويهددها أهو يحتاج إلى التلفظ بذلك؟ إننا لو فعلنا ذلك مع أنفسنا تصوَّر الناس من حولنا أننا نهذى أو قد جُنِنَّا. وأما قوله جل جلاله فى سورة "الفتح" عن مبايعة المسلمين لنبيهم لدى الحديبية حين انشرت شائعة تقول إن المشركين قد قتلوا عثمان رسول الله إليهم، فبايع الصحابة رسول الله عليه السلام بالرسوخ فى وجه المشركين ومؤامراتهم وعدوانهم ومنعهم لهم من دخول مكة لتأدية مناسك العمرة: "إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم"، هذا القول ليس فيه أية إشارة إلى وحدة الوجود، بل الكلام فيه على المجاز بمعنى أن الله سبحانه يبارك هذه المبايعة ويكافئ الموفين بها ويعاقب الناكثين فيها طبقا لما يقول باقى الآية: "فمَنْ نكثَ فإنما ينكث على نفسه ومن أَوْفَى بما عاهد عليهُ الله فسيؤتيه أجرا عظيما"، وإلا فإذا كانت الآية تتحدث عن وحدة الوجود فكيف تتحدث الآية عن طرفين: الله سبحانه والصحابة؟ ترى هل يبايع الله نفسه ويثيبها إن وفت، ويعاقبها إن خاست؟ ذلك كلام لا يصدر عن العقلاء أبدا.
إن الرصافى يترك آلاف الآيات الواضحة الصريحة فى أن الله شىء، والبشر وسائر المخلوقات شىء آخر، ودعنا من الأحاديث التى لا تكاد تنتهى وتقول نفس القول، ويتشبث بآية مجازية هنا وآية مثلها هناك، ويظن أنه يمكنه الضحك علينا وإيهامنا بصحة ما يدعيه عن وحدة الوجود. إن العلاقة بين الله والكائنات بطول القرآن وعرضه هى علاقة الخالق بالمخلوق، والرازق بالمرزوق، والحافظ بالمحفوظ، والمحاسِب بالمحاسَب، والمكافئ بالمكافأ، والقادر بالمقدور عليه. باختصار: هى علاقة الرب بالعبد. لكن الرصافى يصر فى لدد عجيب ليس له من معنى على تجاهل هذا كله ولَىِّ بعضِ الآيات المفردة المستعملة مجازيا عن وجهها إلى الوجه الذى يريد. أيريد الرصافى أن يقنعنا أن الله هو شارب الخمر، وهو الزانى، وهو السارق، وهو الخائن، وهو القاتل، وهو الكاذب، أوحتى أنه سبحانه هو المصلى، وهو الصائم، وهو الصادق، وهو الخائف المرتعش إيمانا وتقوى؟ أنا هنا لا أتقول على القائلين بوحدة الوجود، فقد صرح بهذا المعنى الحلاج إمامهم. قال:
أنا أنت بلا شك
فسبحانك سبحاني

وتوحيدك توحيدي
وعصيانك عصياني

وإسخاطك إسخاطي
وغفرانك غفراني

ولم أجلد يارب
إذا قيل: هو الزاني؟

وأعتقد أن البيت الأخير يكشف عن المراد من كل هذه اللفة الطويلة التي لفها الحلاج. إنه يريد التفلت من قيود الدين، لا بالنسبة للواجبات فقط، بل أيضًا بالنسبة للآثام، التي مَثَّل لها بالزنا. ويسمى الصوفية مثل هذا الكلام: "شطحا". وهم يعرفون "الشطح" بأنه "كلام يترجمه اللسان عن وَجْدٍ يفيض عن معدنه مقرون بالدعوى"، وأنه "عبارة مستغرَبة في وصف وَجْدٍ فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته" (السرّاج/ اللُّمَع/ تحقيق ألن نيكلسون/ ليدن/ 1941م / 346، 375). ويشرح د. عبد الرحمن بدوي ذلك قائلا: "الشطح إذن تعبير عما تشعر به النفس حينما تصبح لأول مرة في حضرة الألوهية، فتدرك أن الله هي، وهي هو" (د. عبد الرحمن بدوي/ شطحات الصوفية/ ط3/ وكالة المطبوعات/ الكويت/ 1978م/ 1/ 10). وهذه دعوى خطيرة غير معقولة، وأرى أن الأفضل تعريف "الشطح" بأنه "الزعم الزائف من قِبَل شخص ما بحلول الله فيه. وأساس هذا الادعاء هو الدجل أو الاضطراب الفكري أو النفسي". ولم تكن هذه الشطحات الحلولية الحلاجية مقصورة على الشعر، فقد ذكر تلميذه إبراهيم الحلواني أنه سمعه يدعو بعد الصلاة ذات مرة بكلام جاء فيه: "يا هو أنا، وأنا هو، لا فرق بين إنَّيّتي وهُوِيَّتك إلا الحدوث والقِدَم"، ثم التفت إليه ضاحكًا وقال له: "أما ترى أن ربي ضرب قِدَمه في حدوثي حتى استهلك حدوثي في قِدَمه فلم يبق له إلا صفة القديم ونطقي في تلك الصفة؟ والخلق كلهم أحداث ينطقون عن حدوث. ثم إذا نطقتُ عن القِدَم ينكرون عليَّ ويشهدون بكفري ويَسْعَوْن إلى قتلي" (أخلاق الحلاج/ جمع وتحقيق لويس ماسينيون/ 1957م/ 20). والعجيب أن بروكلمان يرجع رفض علماء الدين لهذه المزاعم الحلاجية السخيفة إلى خطورتها على "النظام الاجتماعي المتهافت" على حد تعبيره (بروكلمان/ تاريخ الشعوب الإسلامية/ 238). ولا أدري، ولست إخال أدري، ما العلاقة بين ادعاءات الحلاج هذه والنظام الاجتماعي للدولة العباسية في عصره.
وأحسب أن هذا النص الشعرى الأخير قد يعضد الاتهام الذي شهدت به زوجة ابنه أمام القضاة حين محاكمة الشاعر، إذ قالت إنها لم تشعر، وهي نائمة فوق سطح البيت، إلا والحلاج قد غَشِيَها، فهبت مذعورة تسأله عما يريد، وكانت نائمة إلى جوار ابنته، فهدّأ روعها قائلا إنه إنما جاء ليوقظها للصلاة (انظر "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادى/ 8/ 135، وأحمد أمين/ ظهر الإسلام/ 2/ 71- 72). ولقد كان الأولى به، لو كان صادقًا، أن يناديها هي وابنته من بعيد، أو أن يوقظ ابنته أولا وتوقظ هي بدورها زوجة الابن. ألم يكن هذا هو التصرف المنطقي السليم؟
ولعله من أجل ذلك قد كرر القول في أشعاره بأنه يقول أشياء لا يعلم بها اللوح والقلم، ويجهلها فلا يسجلها الكرام الكاتبون:
شيءٌ بقلبي، وفيه منك أسماءُ
لا النور يدري به، كلا، ولا الظُّلَمُ

ونور وجهك سرٌّ حين أشهده
هذا هو الجود والإحسان والكرمُ

فخذ حَدِيثِيَ، حِبِّي. أنت تعلمه
لا اللوحُ يعلمه حقًّا ولا القلمُ

* * *
قلوب العاشقين لها عيونٌ
ترى ما لا يراه الناظرونا

وألسنةٌ بأسرار تناجي
تغيب عن الكرام الكاتبينا

وما دام الكرام الكاتبون يفوتهم ما يقول فلا حساب إذن، لأن الحساب إنما يكون على وفق صحائف الأعمال.
ولكن لم ينبغى، كما يزعم أصحاب وحدة الوجود، أن يكون الله هو رب العالمين، وهو أيضا العالَمون أنفسهم، وهو المكافِئ، وهو المكافَأ؟ نعم لماذا؟ وهل يمكن أن يكون الإله كما قلت محتارا مضطربا، فيكون فى بعض الأحيان النادرة الشاذة متصورا أنه لا يوجد سواه، وفى كل الحالات الأخرى متصورا أن هناك وجودين: وجود الإله، ووجود العباد؟ ثم هل يصح أن يتبعض الإله فيكون بعض منه بشرا، وبعض منه حيوانات، وبعض منه هواء، وبعض منه ماء، وبعض منه جمادات، وبعض منه نباتات، وبعض منه أسماكا... إلخ؟ ليس ذلك فقط بل إن كل فئة من هذه المخلوقات تتبعض إلى مليارات الأفراد على مدى التاريخ والجغرافية. ثم أليس مضحكا أن أكون أنا وغيرى ممن ينكرون وحدة الوجود على خطإ رغم أننا بعض من الإله ما دام لا يوجد سوى الله، ومن وما عداه لا وجود لهم؟ أى إله ذلك الذى لا يعرف أنه إله أو بعض من الإله؟ وهذه الحروب والاختلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفلسفية والنفسية والدينية والمذهبية التى يعج بها العالم وكان يعج بها ولا يزال وسوف يظل أتكون كلها حروبا ومعارك بين الله وبين نفسه ما دام لا وجود إلا لله، ونحن لا ندرى؟ لكن هل الله يمكن أن ينقسم على نفسه؟ هذا ليس الله بل مخلوقات الله.
وفى "الموسوعة العربية العالمية" تحت عنوان "وحدة الوجود" نقرأ أنها "معتقد يَدَّعي بأن الذات الإلهية كائنة في كل الأشياء. ويرتبط هذا المعتقد في الغالب بالديانات الوثنية التي تتجه إلى عبادة بعض مظاهر الطبيعة... ويمكن القول إن معتقد وحدة الوجود يشير إلى أي فلسفة دينية تقرن وجود الآلهة بالطبيعة. ويقول المتصوفة بوحدة الوجود كالحلاج، إذ إنه قال: "ما في الجبة إلا الله". وقال أيضًا:
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا = نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتَنى أبصرته = وإذا أبصرتَه أبصرتنا"
وفى كتاب "الشرق الفنان" للدكتور زكى نجيب محمود يطالعنا حديثه التالى عن الحلاج أيضا: "اقرأ قولة الحلَّاج المشهورة: "أنا الحق"، التي صاغ بها مذهبه في وَحْدة الوجود صياغةً مختصرة واضحة، فهو يرى أن الإنسان إذا ما طهَّرَ نفسه وصفَّاها بأنواع الرياضة والمُجاهَدة والزهد وجَدَ حقيقةَ الصورة الإلهية التي طبَعَها الله فيه لأن الله خلق الإنسان على صورته. وهو في ذلك يقول: تجلَّى الحق لنفسه في الأَزَل قبلَ أن يخلق الخلق وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حَضْرة أَحَدِيَّته مع نفسه حديثٌ لا كلامَ فيه ولا حروف، وشاهد سبحانه ذاته في ذاته، وفي الأَزَل حيث كان الحق ولا شيءَ معه، نظر إلى ذاته فأحَبَّها وأثنى على نفسه، فكان هذا تجلِّيًا لذاته في ذاته في صورة المَحَبّة المُنزَّهة عن كل وصف وكل حد، وكانت هذه المَحَبة عِلَّةَ الوجود والسبب في الكثرة الوجودية. ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلًا في صورةٍ خارجية يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرَجَ من العَدَم صورةً من نفسه لها كلُّ صفاته وأسمائه، وهي آدم الذي جعله الله صورتَه أبدَ الدهر. ولمَّا خلق الله آدمَ على هذا النحو عظَّمَه ومجَّدَه واختاره لنفسه، وكان من حيث ظهور الحق بصورته فيه وبه هو هو".
وفى "الموسوعة العربية" السورية، وتحت نفس العنوان، نقرأ ما يلى: "وحدة الوجود (pantheism or panentheism) مذهب في الوجود يوحد الله والعالم، ويزعم أن كل شيء هو الله أو أن الله هو كل شيء، بمعنى أن الله مبدأ لاشخصي، متوحد مع الطبيعة، وحالٌّ فيها، وأن الله ليس مستقلا عن العالم، وأن العالم مظهر من مظاهر الذات الإلهية، وليس له وجود في ذاته...".
وفى "قصة الفلسفة الحديثة" يقول د. زكى نجيب محمود عن الفيلسوف اليهودى سبينوزا مثلا وتأثره بمن قرأ لهم من الفلاسفة إنه "قد راعَهُ ما ذهب إليه موسى القرطبي من وحدة الله والكون واعتبارهما حقيقة واحدة، وصادفته هذه الفكرة نفسها في حسداي، الذي ارتأى أن الكون المادي هو جِسم الله، ثم قرأ في ابن ميمون بحثًا في نظرية ابن رُشْد التي تزعُم أن الخلود لا يتعلق بالأشخاص والأفراد، ولكن هذه الكتُب التي قرأها بذرَتْ في نفسه بذور الرِّيبة والشك، وأثارت في ذهنه من المسائل والمشاكل ما لم يستطِعْ حلَّها، فأبَتْ نفسه المتطلعة إلا أن يقرأ ما قاله رجال الفكر في الديانة المسيحية عن الله، وعن مصير البشر لعلهَّ مُصادِفٌ عندهم ما يشفي غُلَّته، فبدأ يدرُس اللغة اللاتينية حتى استوعبَها، وعن طريقها استطاع أن يُطالع تراث الفكر الأوروبي، سواء منه القديم والأوسط، فدرس سقراط وأفلاطون وأرسطو، كما درس فلسفة الذَّرِّيِّين التي صادفَتْ منه إعجابًا عظيمًا، وطالع الفلاسفة المدرسيين، وأخذ عنهم كثيرًا من مصطلحاتهم الفلسفية، كما اقتبس منهم طريقتهم الهندسية في استخدام البدائه والتعاريف والقضايا والبراهين والنتائج وما إلى هذه من طرُق البحث في الهندسة. كذلك درَس فلسفة برونو ذلك الثائر العظيم الذي أنفق حياته في التجوال من بلدٍ إلى بلد، والانتقال من عقيدةٍ إلى عقيدة، باحثًا دهشًا مُرتابًا، والذي حكمَتْ عليه محكمة التفتيش آخِر الأمر أن يُقتَل "من غير أن يُراق دمُه"، أي أن يُحرَق حيًّا. وأول ما استرعى نظر سبينُوزا من آراء برونو هي فكرته عن وحدة الوجود، فكل الحقيقة واحدة في عنصرها، واحدة في عِلَّتها، والله وهذه الحقيقة شيءٌ واحد. كذلك ارتأى برونو أن العقل والمادة شيءٌ واحد، فكل ذرَّة مما تتألَّف منه الحقيقة مركبة من عنصرٍ مادي وعنصر رُوحي قد امتزجا بحيث لا يقبلان التجزئة والانفصال، وموضوع الفلسفة هو أن تُدرك وحدة الوجود في تعدُّد مظاهره، وأن ترى العقل في المادة، والمادة في العقل. وقد كان لهذه الفلسفة أثرٌ عظيم في سبينُوزا".
وفى مادة "pantheism"بـ"Encyclopӕdia Britannica" يقول محررها: "the doctrine that the universe conceived of as a whole is God and, conversely, that there is no God but the combined substance, forces, and laws that are manifested in the existing universe… Pantheism stresses the Identity between God and the world".

وبمناسبة الإشارة فى النص الأول من هذه النصوص الثلاثة إلى قول الحلاج: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا..." وقوله: "ما فى الجبة إلا الله" فإن الرصافى قد أورد له قولة أخرى تجرى فى نفس المضمار والاتجاه، وهى قوله: "أنا الحق"، وكانت له أقوال أخر تسير نفس المسير من مثل تلك الأبيات المذكورة آنفا والتى يقرن بها بينه وبين الله ويرى أنه إذا زنى فينبغى أن يجلد الله معه لأنه هو والله شىء واحد، وأنه من الظلم أن يعاقب هو ويفلت الله سبحانه من العقوبة. أستغفر الله رب العالمين. يقول مستنكرًا:
أنا أنت بلا شكٍّ
فسبحانك سبحاني!


وتوحيدُك توحيدي
وعصيانُك عصياني

وإسخاطك إسخاطي
وغفرانك غفراني

ولم أُجْلَد يا ربِّ
إذا قيل: هو الزاني؟

وكل تلك الأقاويل تبرهن على خبثه وبهلوانيته، إذ يريد أن يقول إنه هو الإله، والإله هو. فهل الإله يمكن أن ينحصر فى جبة أو كيان إنسانى محدود؟ فكيف يا ترى وهو سبحانه لا أول له ولا آخر ولا يمكن حصره ولا تحديده بأية حدود؟ ثم كيف يوجد الله فى جبة الحلاج بالذات دون جُبَب الآخرين؟ إن محمدا المتهم من قبل الرصافى بأنه صاحب فكرة وحدة الوجود لم يقل يوما إن الله موجود فى ردائه أو إزاره أو لحافه أو سرواله ولا نسى نفسه مرة فربطها بربه إلا برباط العبودية والعُنُوّ والسجود والابتهال والاستغفار. كذلك لو صح ادعاء الحلاج السمج ذاك لكان مقتضاه أنه فوق الألم والجوع والعطش والخوف والاستعطاف، فالإله لا يجوع ولا يعطش ولا حاجة به إلى النوم ولا شهوة له يبغى أن يشبعها... إلخ. ثم كيف يعاقَب الله جل جلاله إن زنى الحلاج، منه لله؟ إن الصوفية الذين يدعون إلى وحدة الوجود إنما يريدون أن يعيشوا على حل شعرهم فيشربوا الخمر ويزنوا ويرتكبوا الموبقات دون أن ينعى عليهم أحد شيئا. وهم فى هذا يصلون إلى نفس النتيجة التى وصل إليها آخرون منهم من أنهم من شدة تقواهم قد بلغوا الغاية التى ليس بعدها غاية فى العبادة والتقوى واجتناب المحرمات وصار من حقهم عندئذ إسقاط التكاليف الشرعية عن أنفسهم.
وهذا الذى كان يزعم أنه هو والله شىء واحد هو هو نفسه الذى كان يستعطف قضاته بكل حرارة والتهاب ألا يعدموه وأن يطلقوا سراحه، فكيف بالله يتنزل هذا الكذاب من علياء ألوهيته وينسحق تحت أقدام بعض عباده مسترحما متذللا؟ هل الإله يسترحم عباده ويتذلل لهم؟ فمنذ متى كان ذلك يا ترى؟ لكننا لا ينبغى أن ننسى أنه بشر، وبشر مدلس يزعم المزاعم الكاذبة ويحاول إيهام البسطاء بأنه ارتفع عن أفق البشر ولحق بأفق الألوهية. بيد أن حَرَّ التعذيب قد أعاده إلى صوابه فانكب على أقدام محاكميه يترجاهم أن يرحموه. وأنا، حين أقول هذا، لا أرافئ قضاته على الحكم عليه بالإعدام بل أناقش مقولته المتنطعة ليس غير.
وحكى عنه الحاكون أن كان يشتغل بالشعوذة يضحك بها على عقول السذج والبسطاء والمخلولى العقل. كما كان يَدَّعِي حلول الله فيه، وأُثِرَتْ عنه أقوال يتحدث فيها عن نفسه وعن الله بوصفهما شيئًا واحدًا. كذلك قيل إنه دعا إلى إسقاط فريضة الحج والاستعاضة عنها بالدوران حول حجرة طاهرة في البيت والقيام ببعض أعمال الخير تجاه الفقراء،كإطعامهم وتوزيع الأموال عليهم. ومن شعوذاته التى حكيت عنه أنه كان يمد يده في الهواء ثم يستردها وقد امتلأت بالدراهم، وكان يسميها "دراهم القدرة". كما روى أنه أحيا عددًا من الطير، وأنه كان يأتى بالفاكهة في غير إبانها، ويقرأ ما في نفوس الناس. ويرجع هذا إلى ما تعلّمه في الهند من السحر والشعوذات، وإلى الحيل التي كان يُعِدّها سَلَفًا ويموّه بها على السذَّج. ويحكى عن أحدهم أنه لما قال له الحلاج: "تؤمن بي حتى أبعث إليك بعصفورة تطرح من ذَرْقها وزن حبة على كذا مَنًّا من نحاس فيصير ذهبًا؟" رد عليه متهكما: "بل أنت تؤمن بي حتى أبعث إليك بفيلٍ يستلقي فتصير قوائمه في السماء. فإذا أردتَ أن تخفيه أخفيته في إحدى عينيك؟"، وأن الحلاج قد بُهِت عندئذ وأُفْحِم. كما ذكر واحد آخر منهم أن الحلاج لما أرسل إليه يدعوه إلى الإيمان به ومتابعته على ما يقول قال للرسول: "هذه المعجزات التي يُظْهِرها قد تأتي فيها الحِيَل، ولكن أنا رجلٌ غَزِلٌ، ولا لذة لي أكبر من النساء وخلوتي بهن. وأنا مبتلًى بالصلع، ومبتلًى بالخضاب لستر المشيب. فإن جعل لي شَعْرًا ورَدَّ لحيتي سوداء بلا خضاب آمنتُ بما يدعوني إليه كائنًا ما كان: إن شاء قلت إنه باب الإمام، وإن شاء: الإمام، وإن شاء قلت إنه النبي، وإن شاء قلت إنه الله!" وأن الحلاج لما سمع جوابه يئس منه وانصرف عنه.
وبالمثل حُكِيَتْ حكايات عن زهده وعبادته لا يستسيغها الإسلام، فقد قالوا مثلا إنه لما كان في مكة مكث سنة في صحن المسجد الحرام لا يبرح موضعه إلا للطهارة أو الطواف، غير مبال بالشمس أو المطر. وكان إفطاره على ماء وأربع قضمات من رغيف. وقد عاب بعضهم عليه تعذيبه هذا لنفسه وتنبأ له بأن الله سوف يبتليه بلاء لا يطيقه. وشهدت عليه زوجة ابنه بأنها كانت نائمة على السطح ذات ليلة، وكان معها ابنته، ففوجئت به يغشاها. فلما هبت مذعورة مستنكرة ذكر لها أنه إنما جاء ليوقظها لصلاة الفجر. كما اتهمته أمام القضاة الذين كانوا يحاكمونه بأنه أمرها صبيحة ذلك اليوم، وهي نازلة من السطح وكان هو في أسفل الدَّرَج، أن تسجد له فرفضت. وانتهت المحاكمة بأن ضُرِب ألف سوط وقُطِّعَتْ أطرافه وصُلِب وأُحْرِقَتْ جثته وعُرِضَتْ على الناس عدة أيام على الجسر ببغداد، وكان ذلك سنة 309 هـ. (انظر في حياة الحلاج وشخصيته "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادى/ دار الكتاب العربي/ بيروت/ 8 / 112-141، و"تكملة تاريخ الطبري" للهمداني/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ دار سويدان/ بيروت/ مجلد 11 من تاريخ الطبري/ 79-89، و"وفيات الأعيان" لابن خَلِّكان/ تحقيق د. إحسان عباس/ دار صادر/ بيروت/ 2/140- 146، و"الفخري في الآداب السلطانية" لابن الطِّقْطِقا/ دار صادر/ بيروت/ 1386هـ- 1966م/ 260- 262، و"دائرة المعارف" للبستاني/ مجلد 7/ مادة "الحلاج"، و"تاريخ الشعوب الإسلامية" لكارل بروكلمان/ ترجمة أبو العلا عفيفي/ لجنة التأليف والترجمة والنشر/ القاهرة/ 1388هـ- 1969م/ 85- 86، و"ظهر الإسلام" للدكتور أحمد أمين/ ط 4/ مكتبة النهضة المصرية/ 1966م / 2/ 69- 76، و"شخصيات قلقة في الإسلام" للدكتور عبد الرحمن بدوي/ ط 2/ وكالة المطبوعات/ الكويت/ 1978م/ 59 – 91 حيث يجد القارئ ترجمة لبحث ماسينيون المسمى: "المنحنى الشخصي لحياة الحلاج شهيد الصوفية في الإسلام"، و"العصر العباسي الثاني" للدكتور شوقي ضيف/ ط 2/ دار المعارف بمصر/ 477 – 482، و"ديوان الحلاج"/ صنعة د. كامل مصطفى الشيبي/ ط2/ دار آفاق عربية/ بغداد / 1404 هـ- 1984م/ 15 – 22). ومع هذا كله فإن بعضا من اليساريين وأمثالهم من الآبقين من الدين والإيمان يزعمون أن الحلاج كان مصلحا دينيا يريد إقامة العدالة الاجتماعية والاقتصادية رغم أنه لم يُؤْثَر عنه الدعوة إلى شىء من ذلك، ولم نر فى حياته وتصرفاته سوى ما قرأناه عن راسبوتينيته الفاجرة.
ورغم أن الرصافى قد أكد أن محمدا هو أول من أتى بالتوحيد فى تاريخ البشرية، وهو ما فندناه، فإنه يعود فيقول إن محمدا قد قرن اسمه باسم الله فى الشهادة التى يدخل بها الناس الإسلام، وفى التشهد فى الصلوات وفى الأذان، وفى أمرهم لهم بالصلاة عليه كلما جاء ذكره على لسانه أو على لسان غيرهم، معقبا بأنه عليه السلام كان زاهدا تمام الزهد فى الماديات وزخارف الدنيا الفانية والملك والسلطان، لكنه كان متعلق القلب بأن يقدسه الناس وبتخليد التاريخ له. وقد شرع يلمزه صلى الله عليه وسلم بحجة أنه بهذا قد أفسد ما جاء به من التوحيد، إذ التوحيد هو أن نشهد بألا إله إلا الله، أما الشهادة بأن محمدا رسول الله فخارجة عن التوحيد الذى دعا إليه (ص28).
وهذا فى الواقع كذب مبين، إذ ظل محمد إلى آخر لحظة فى حياته متواضعا لا يتكبر على أحد ولا يزعم لنفسه شيئا فوق البشرية، بل يقول إنه ليس إلا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة. وفى القرآن آيات تعاتبه عتابا شديدا وتهدده بأنه لو تقول على الله بعض الأقاويل لأخذ الله منه باليمين ولقطع منه الوتين فلا يستطيع أحد كائنا من كان أن يتدخل لنصرته من الله، وأنه لو ركن إلى قريش وتأثر بما يعرضونه عليه من الحل الوسط لأذاقه ضعف الحياة وضعف الممات ولما خف لنجدته إنسان. كما كان للرسول بعض الاجتهادات الفقهية، فنزل القرآن يغيرها ويورد حكما يختلف عما حكم به الرسول. ولم يكن يحيط نفسه بجنود أو جلاوزة شأن الحكام ولا كان فظا مع أحد من أتباعه مهما تخاشن معه كما كان يقع أحيانا من بعض البدو الأفظاظ. وكان فى الأسفار يشتغل فى إعداد الطعام شأنه شأن أى صحابى، فكان يجمع الحطب للوقود، ثم متى حان أوان الطعام جلس مع صحابته على الأرض يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون، كما كان يساعد زوجاته فى أعمال المنزل، وكان يخبر أصحابه أنه يستغفر فى اليوم والليلة مائة مرة رغم أنه كان فى القمة من الناحية الأخلاقية والسلوكية، وكان يصف نفسه دائما بأنه عبد من عباد الله سبحانه، ويكثر من دعائه عز وجل والصلاة والابتهال له والتذلل على أعتابه، ويؤكد أنه لا يمكن أن ينجو يوم القيامة إلا أن يتغمده الله برحمته، وإذا ذكر الأنبياء الآخرين ذكرهم بكل المودة والاحترام، ويعلن فى أصحابه أن من كان له حق فى رقبته فليأت وليأخذه فى الدنيا لأن فضوح الآخرة أشد وأنكى. فهل هذا سلوك شخص يريد قداسة لنفسه؟ وهل شهادة المسلم بنبوة محمد تلحقه بأفق الألوهية؟ من قال ذلك؟ إننا نقول فى الصلاة: "أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"، فنؤكد عبوديته لربه بعد أن نعلن بأن الله هو الإله الوحيد. فأين التقديس هنا؟ إن الله سبحانه يعلمنا بالصلاة على النبى تذكُّر كل من كان له فى رقابنا جميل. وهل هناك جميل أجمل من دعوة محمد لنا للإيمان بالله سبحانه وتعالى؟ ثم إن كل دين له عنوانه، وعنوان الإسلام هو محمد عليه السلام كما أن عنوان النصرانية هو عيسى، واليهودية هو موسى، والحنيفية إبراهيم... إلخ. ثم كيف أتانا الإسلام؟ هل نزل من السماء رأسا؟ لكن السماء، مثلما لا تمطر ذهبا ولا فضة، فإنها لا تمطر نبوَّات، بل يأتى بها رجال. وهؤلاء الرجال لا بد من ذكرهم وعدم تجاهلهم. فهم لم يكونوا مجرد حاملى رسالة يوصلونها ولا يهتمون بها ولا بمصيرها ولا باستقبال الناس لها كما يصور أحمد صبحى منصور رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يظلون حاملين همها ومسؤوليتها ومتحملين ما يترتب على حملهم لها وتبليغهم إياها إلى الناس من حولهم من أذى وقلق ومتاعب ومؤامرات وقتل أحيانا... إلخ مما نعرفه عن حياة محمد وجهاده فى هذا السبيل.

وآه لو كان الله قد محا اسم محمد تماما من التاريخ. إذن لكان الرصافى وأمثاله أول من يشنعون على الإسلام بأنه يسحق البشر سحقا أمام جبروت الله. ثم هل يرضى الرصافى مثلا أن نتجاهل اسمه كشاعر أو كاتب؟ لو حدث هذا لسمعنا صرخاته تجلجل فى الفضاء اعتراضا علينا واتهاما لنا بهضمه حقه، وما كنا لنستطيع الخلاص منه فى يومنا الذى يعلم به ربنا. وهذا كل ما هنالك، ولا تقديس ولا يحزنون. أما ما يهرف به الرصافى فهو عراك فى غير معترك، بل زوبعة فى كستبان! إنه كلما قال فى محمد كلمة طيبة استدار على عقبه فألحق بها كلمة يريد لها أن تنال منه وتمحو الكلمة الطيبة التى قالها. وهيهات!

لو كان محمد يريد قداسة لنفسه لما قال لصحابته مثلا: لا تُطْرُونى كما أَطْرَت النصارى عيسى بنَ مريم. فإنَّما أَنا عَبْدُهُ، فَقُولوا: عبدُ اللَّهِ وَرَسُولُه. كما أن القرآن أو الحديث لم يستعمل كلمة "قدَّس" أو "القداسة" أو "التقديس" فى حقه صلى الله عليه وسلم البتة. وبالمثل لم يستعمل أى منهما له كلمة "الخلود" أو "التخليد" مما ينقض دعوى الرصافى أنه صلى الله عليه وسلم أراد تخليد نفسه فى سجل التاريخ، بل جاء فى القرآن: "إنك ميت وإنهم ميتون"، "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهم الخالدون"، "وما محمد إلا رسول قد خَلَتْ من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم". ولو كان يريد الخلود فلماذا لم يسم نفسه مثلا: "خالد الذكر" كما ذكر من أسمائه "العاقب والحاشر والماحى والخاتم"، وبخاصة أن من العرب من كان اسمهم "خالدا" كخالد بن الوليد وخالد بن البكير وخالد بن عمرو بن عدى وخالد بن سنان وخالد بن عمير وخالد بن حكيم بن حزام وخالد بن رباح الحبشى وخالد بن سعيد وخالد بن زيد بن حرام على سبيل المثال، وذلك كثير، فهو إذن لم يكن ليخترع اسما جديدا بل سيختار اسما منتشرا على الساحة، ومن السهل قبوله.

وفى آخر المطاف فإنى لأستغرب كيف يعتمد الرصافى، فى تبرير عقيدته فى وحدة الوجود، بما جاء فى القرآن، فى حين أنه هو لا يؤمن أبدا بأن القرآن من عند الله بل من عند محمد، وأن محمدا لايؤمن بأنه من عند الله بل كذب زاعما ذلك حتى ينصاع الناس إلى ما يأمرهم هو به ويكفوا عما ينهاهم عنه خوفا من الله. والعجيب الغريب فى الرصافى أنه (ص602) مثلا حين كان يتحدث عن سبب اختلاف البشر فى أفعال القلوب قال: "لأن الله كذا خلقهم، وعلى هذا جبلهم، وأفعال الله لا تعلل". أى أن هناك خالقا ومخلوقين ومخلوقات. إذن ففيم كل هذه الضجة العنيفة التى أثار عجاجها وأصم بها أسماعنا عن وحدة الوجود؟