هل هي جزيرة البنائين التي تَحَدَّثَ عنها ابن بطوطة في رحلاته؟


سؤال ربما يطرحه القارئ العربي إن كانت "جزيرة البنائين" التي تحدث عنها الرحّالة ابن بطوطة هي نفسها جزيرة "صاغون" التي تحدث عنها "إخوان الصفاء و خلان الوفاء" في رسائلهم و هي الجزيرة التي سكنتها "الفرقة الناجية" ؟، أم هي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها افلاطون؟ لقد أعطى البعض مفهوما خاطئا للبنائين، فكانت هذه العبارة موضع تساؤل ، هل يُرَادُ بها "البناؤون الأحرار" الذي تحدث عنهم التاريخ، سؤال قد لا يقود إلى الفهم الصحيح، لأن البناءون الأحرار معروف عنهم بأنهم جماعة تسعى إلى إلغاء كل الأديان و إزالتها من جذورها و ضمها في دين واحد؟ و هو بذلك أي ابن بطوطة يعني المدينة الماسونية التي يحلم بها الماسونيون؟


كما وجب أن نعرف ماذا يُقْصَدُ بالمدينة الماسونية؟ هل هي مدينة يسكنها أناس أحرار، معتدلون يربطهم عقد اجتماعي يقدمون خدمات اجتماعية؟ و هل المدينة الماسونية تشبه المدن الأخرى التي تحدثت عنها الروايات كمدينة "مورول" التي يعيش فيها أناس مسالمون لا يعرفون طريقا للجريمة و لا للقتل، أناس فضلاء لا يمارسون العنف و التطرف؟ ، وقد خاض بعض الكتاب العرب في هذه المسألة بالذات ، و ذهبوا إلى أبعد الحدود ، مثلما ذهب في ذلك الكاتب و المترجم مدني قصري و هو جزائري مقيم بالأردن، الذي تحدث في مقال له عن قبول المسلمون الدخول في النظام الماسوني حينما قام بترجمة كتاب تييري زاركون (Thierry Zarcone) و هو عبارة عن قصة أضيفت لقصة "مناهضة الماسونية الإسلامية" في محاولة منه تكييف الماسونية مع البيئة الإسلامية، من خلال أوجه الشبه مع الأخوية الصوفية.

فما يروى عن إخوان الصفاء و خلان الوفاء أنهم تحدثوا في رسائلهم و بالأخص رسالة "جامعة الجامعة" عن أهل الظاهر و هم قوم بعيدون عن العلم و الحكمة، و قد تمادوا في ظلمهم بعد غياب الإمام، و تحكموا بأتباع أهل البيت المطهرين، و هذا الإمام الذي سيكون رئيس مدينة أهل الخير يُنْتَظَرُ قدومه ليأخذ الحق و يطهر الأرض من أنجاس الجاهلية ، و يفرّق إخوان الصفاء بين أعمال أهل الإنس من أصحاب ظواهر الشرائع القائمون فيها بالرياء و بين الجنِّ أهل الدعوة المؤمنون، هذه الفرقة من الجِنِّ التي تحدث عنها الله في كتابه: " وما خلقت الإنس و الجن إلا ليعبدون"، ما ذكره إخوان الصفاء هو أن هذه الفرقة من الجن وليَ عليها مَلِكُ في جزيرة "صاغون" إلى أن جاء مركب إلى الساحل فخرج من فيه إلى الجزيرة، أفرادها متآلفة بعضها مستأنسة غير متنافرة، و هؤلاء القوم استوطنوا تلك الأرض و أعجبوا بما فيها ثم انهم أخذوا يتعرضون للبهائم و الأنعام يسخرونها ليركبوها و يحملون عليها اثقالهم فنفرت منهم و هربت و ذهبت إلى ملك الجن فشكت إليه، و تدخل ملك الجن لينصرهم، كان عددهم سبعون ( 70) من بلدان شتى.

و جزيرة صاغون التي تحدث عنها إخوان الصفاء و خلان الوفاء هي مدينة أهل الخير و البحر في التأويل الإسماعيلي الباطني هو العلم الإمامي الحقيقي و السفينة هي الدعوة الإمامية، سواء كانت ظاهرة أم مستورة و هذا يعني أن هذه السفينة ضمت ممثلين عن الفرق الإسلامية الثلاث و السبعين ( 73) المذكورة في الحديث الشريف عن النبيّ (صلعم) "ستنقسم أمتي إلى ثلاث و سبعين فرقة، اثنتين و سبعون هالكة و واحدة ناجية" و قيل أن الفرقة الناجية هم أهل البيت، و باقي الفرق الضالة فقد تقاذفتها الأمواج لإبتعادهم عن طريق الحق و الهداية و قد رمتهم الأقدار إلى جزيرة صاغون، لكن ملك هذه الجزيرة لم يقبل بدخولهم حتى تتم محاكمتهم، و لما تم قبولهم بالدخول و استقبلهم ملك الجزيرة وقف و نظر إليهم فوجدهم مختلفي الألوان ، و هذا دليل قاطع على أن هذه الجماعات هم الفرق الإسلامية التي اختلفت بعد وفاة النبيّ (صلعم)، أمّا الفرقة الناجية فهي اتباع الملك و يعيشون معه في المدينة الفاضلة، و المدينة الفاضلة أصحابها مؤمنون معتدلون يتسمون بالأعمال الصالحة، يمثلون العالم الطائع لباريه، و يدركون أن جميع أمور الدنيا و ما يجري فيها من الأعمال و الأفعال إنما هي إشارات لما يكون في يوم القيامة كما جاء في الفصل التاسع من رسالة جامعة الجامعة، و فيها تعرض أعمال أهل الطاعة و أعمال أهل المعصية.

و بالعودة إلى جزيرة صاغون قد يتساءل البعض إن كانت صاغون هي المدينة الفاضلة التي تحدث عنها أفلاطون؟، و هل هي جزيرة البنّائين التي تحدث عنها ابنة بطوطة في رحلاته؟، فقد وصف ابن يطوطة أهلها بأنهم كانوا يتمتعون بالمهارة و الإبداع و حرية التفكير و شجاعة الرأي و التعبير و مشاعر الأنفة و العزة و الكرامة من مودّة و تواضع لا يشوبهما كذب و لا كبر، الشيئ الذي يميز جزيرة صاغون ليس الأرض بل الفرد (المواطن) و ما يحظى به من علم و ما يتجلى به من رؤية كونية و من خير و أخلاق و مبادئ يبني بها سلوكه و مؤسساته، يحترم بها حقوق الإنسان و كرامته الخ...، هي نفس المبادئ التي يلتزم بها أهل جزيرة البنائين من خلال احترام الحريات التي بها يحقق الناس توازنهم و ترشد سلوكاتهم حتى يصبحون مخلوقات صالحة خيّرة على هذه الأرض بالإعمار الصالح العادل و قد أدرك أهلها معنى الحياة و المعنى الصحيح للحرية في مجتمعهم.

فالحرية عند أهل جزيرة صاغون و جزيرة البنائين لا تعني الفوضى و الإنقلاب و اتباع الضلالات و النزوات التي تضيع الحقوق و تهدر الكرامات و المسؤوليات و توقع الضرر و المظالم بالنفوس و المجتمعات و ارتكاب المفسدات و الإنحرافات و الوقوع في الموبقات، فهذه في شريعتهم و عرفهم ليست حرية، بل قصور و فوضى، و أصحابها في مرتبة الحيوانات التي ليست لحياتها معنى و لا غاية، و قد تحدث إخوان الصفاء و خلان الوفاء عن هذه الحيوانات و هم من باب التأويل الذين ينتمون إلى بني البشر (الإنس) وهم الطائفة التي تقيم شرائعها على الرياء و النفاق و الكذب و الخداع، و هم باختصار أهل الشرّ، و يفهم من حديث إخوان أن أهل الخير، هم "الفرقة الناجية" التي سكنت تلك الجزيرة و وجدت فيها الأمان، فكانت لها رؤية كلية كونية للحياة، كانت حقًّا فرقة "سَلامية" ( أي أهل سلم) لأنها كانت تتمتع بمناهج الفكر السليم، استمدت عزتها من فهمها الصحيح لعلاقتها بالله عكس الفرق الإسلامية الأخرى.

و كما هو معلوم فلإخوان الصفاء علاقة بالإسماعيلية و يعتبرون من المؤسسين لهذه الدعوة، يقول الدكتور عارف تامر محقق و مقدم جامعة الجامعة: إننا لو أردنا التحليق في أجواء إخوان الصفاء و الدخول إلى مدينتهم لأخذنا بعجائبها و فتنا بمناظرها و تنعّمنا بروائعها و تفيأنا بظلال أشجار حدائقها ذات الورود العطرة و الثمار الناضجة و الينابيع الثرّة الدافقة، فهل هي الجنة التي ذكرها الله في كتابه ( وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضودٍ و طلح منضودٍ و ظل ممدودٍ و ماء مسكوبٍ و فاكهة كثيرة ،لا مقطوعة و لا ممنوعة و فرش مرفوعة و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم و حميم و ظل من يحموم إلى آخر الآية من سورة الواقعة، و قد ذكر إخوان الصفاء الباب التي تدخل منه النفوس الطائعة إلى الجنة، هذه النفوس التي ارتقت بأفعالها إلى الرتبة السماوية و نزل الموت ساحتها نزول الملائكة الطيبون بالرأفة و الرحمة ( و جنّة عرضها السموات و الأرض أعدت للمتقين) الآية 133 من سورة آل عمران.

علجية عيش بتصرف