رواية "حواء بلا آدم" لمحمود طاهر لاشين

بقلم إبراهيم عوض

(نشرت هذا المقال كما جاءنى منذ قليل من صديقى الأردنى الكريم أ. محمد عوض الشرعة دون أن أنظر فيه رغم أنه طلب منى إلى أنه ينبغى أن أراجعه. لكنى أعتمد على كرم القراء ولا يلتفتوا إلى ما يمكن أن يكون فيه من ملاحظات طباعية)


هذه هى القصة الطويلة الوحيدة التى كتبها طاهر لاشين، وتقع فى 160 صفحة من القطع المتوسط هى والمقدمة التى كتبها لها الأستاذ حسن محمود (صديق الكاتب). وتستغرق المقدمة من هذه الصفحات المائة والستين أربع عشرة صفحة. وقد ظهرت هذه الرواية سنة 1934 م. وهى تدور حول فتاة اسمها حواء ماتت أمها، وتزوج أبوها امرأة أخرى، وتركها لجدتها تربيها. ورغم ذلك ، ورغم أن البيئة التى نبتت فيها حواء بيئة متخلفة ثقافيا فقد استطاعت حواء أن تتغلب على هذه الظروف الشاقة، وأن تثابر وتبذل كل ما عندها حتى استطاعت أن تتخرج من المدرسة السنية. وقد كانت رُشِّحَتْ لبعثة دراسية إلى الخارج، غير أن فتاة أخرى قد أخذت مكانها، رغم أن حواء كانت هى الحقيقـة بها، إذ كانت تلك الفتاة الأخرى من الطبقة الأرستقراطية، فحز ذلك فى نفس حواء كثيرا. ولكنها استطاعت أن تغرق همها وتنفّس عن طموحها بالانخراط فى جمعية نسائية، تخطب وتوجّه وتشرف على مشغل للبنات تابع لها. واتصلت عن هذا الطريق بإحدى الأسر الأرستقراطية (أسرة نظيم باشا) ، وسرعان ما وقعت فى حب رمزی ابن هذه الأسرة (وكانت قد بلغت ٣٢ سنة بينما كان هو فى الثالثة والعشرين) إذ كانت تأخذ مجاملاته لها على محمل الحب والرغبة فيها، فتطورت عواطفها نحوه من مجرد الإعجاب العادى الى الحب الملتهب العاصف الذى يلتغى معه العقل وتَشَلْ الإرادة، وتأخذ تبنى صروح السعادة فى دنيا الخيال. ولكنها تفيق ذات يوم على صدمة وخيبة أمل ترج نفسهـا رجا عنيفا، إذ تعلم من فريدة هانم أنها وزوجها الباشا قد خطبا لابنهما فتاة غنية من نفس طبقتهما. وهناك تتحول حياتها، وينتابها يأس مدمر تحـاول أن تصمد أمامه بل أن تتغلب عليـه، لكنهـا لا تستطيع، وتخر صريعة مرض نفسى لا يقدر أحد ممن حولهـا ولا من الاطباء أن يشفيها منه، إذ إنها من جهتها كانت حريصـة كل الحرص على ألا يجاوز سرها ضميرها، وانتهى بهـا الأمر الى الانتحار فى نفس الوقت الذى كان رمزى فيه فى أحضان عروسه فى ليلة الزفاف.

هذا تلخيص سريع للقصة، ركَّزْتُ فيه الكلام على حواء على اعتبار أنهـا بطلة الرواية، ولم أذكر عن الشخصيات الأخرى إلا ما يتعلق بها هى، رغم أن الكاتب قد حشد من حولهـا شخصيات كثيرة، وصورها جميعا تصويرا جليا، ليبرز لنا حواء ويكشف نفسيتها، وما يعتمل فى عقلها وأعماقها كفتاة مثقفة عندها مطامح اجتماعية لا تستطيع أن تحققها ولا أن تكفكف منها، وذلك من خلال علاقتها بهم وتعاملها معهم: فهناك الحاج إمام قريب الجدة، الذى يعيش مع حواء وجدتها فى بيت واحد، وهو عامّىّ التدين، تعشش فى ذهنه الخرافات، ويعتقد كالجدة فى سلطان الجن والعفاريت على أجسام ونفوس بنى البشر، وفى دلالة الأحلام على المستقبل. وهو يستعين فى هذا السبيل بصديقه الشيخ مصطفى بائع أدوات السحر، وكل همه منحصر فى أن يعيش فى ظل كرم حواء وجدتها. وحبه لهمـا لا يمنعه من أن يتستر على بعض الأخطاء التى ترتكبها الخـادمة نجية فى مقابل سكوتها هى الأخرى عن أخطائه اليسيرة. وهناك تجيـة الخادمة المتدلهة فى هوى شفيق ابن الجزار، والتى تتخذ من الحاج إمام قارئا وكاتبا للخطابات التى تتبادلها هى وحبيبها. أما الجدة فهى سيدة عجوز هادئة جدا، ملازمة لحجرتها معظم الوقت، تقضى يومها إما غافية فى جلستها على جلد الشاه الذى تتخذه بمثابة سجادة، وأما تصنع القهوة بيديها، مستمتعه بصنعها وشربها معا، وإما فى الحديث مع الحاج إمام حول الأحـلام والعفاريت التى تسكن جسدها... إلخ.
وهناك إلى جانب هؤلاء الباشا المتنفـخُ الكرش الذى يحتقر الفلاحين ويستنزف دماءهم وكرامتهم، وزوجته التى تشبهه الى حد كبير وتتردد معه على الجمعيات النسائية بدافع من شهوة حب الظهور واللطافة الاجتماعية لا غير، وابنهما رمزى الشاب الرقيق الضعيف الشخصية والذى ينتقـد والده لأنه يسىء معاملة الفلاحين، ولكنه: حين يَجِدّ الجدّ، يسير سيرة أبيه ويجرى على آرائـه. وواضح أن هـذه الشخصيات جميعا تناقض شخصية حواء التى تتكشف لنا سماتها النفسية والعقلية من خلال احتكاكها بهم، وينتهى بها الحال (كما سلف القول) الى الانتحار.
وهذا يجرنا الى ما ذكره د. عبد المحسن بدر من أن طاهر لاشين ((يكشف فى (حواء بلا آدم) عن إحساسه بيأس المثقفين من أبنـاء الطبقة الوسطى الفقيرة الذين يحاولون شق طريقهم فى الحياة بكفاحهم وعرقهـم، والذين يَغْفُلون فى صراعهـم لإثبات وجودهم حتى عن أنفسهم، ولكنهم رغم كفاحهم الشاق يعجزون عن النجاح فى الحياة التى لا تمنحهم تعويضا عن جهدهم إلا العذاب واليأس. وهم، فى معركتهم مع الحياة ممزقون بين رغبتهم فى التخلص من العادات و التقاليد التى تشدهم الى بيئتهم الأولى، وبين رغبتهم فى تحقيق طموحهم والانتقال الى حياة أرحب تقف الطبقة الأرستقراطية حائلا بينهم وبينها. والطبقة الأرستقراطية تضع العراقيل فى طريق نمو المثقفين من أبناء الطبقة الوسطى، ولا تعترف لهم بحقهم فى الحياة، وإن كانت تتظاهر أحيانا بالعطف على بعض أفرادها، طالما اقتصر دورهم على الوقوف موقف التابع))
فالكاتب يرجع يأس حواء الذى دفعها الى الانتحار الى مشكلة الطبقية، كما لو كان العامل الاقتصادى هو المفسر الأوحد لعواطفنا وتفكيرنا وتصرفاتنا. وهذه نظرة ماركسية ضيقة، فإن الوضع الاقتصادى لإنسان ما سبب من أسباب، إذ هناك إلى جانب الاقتصادِ الدينُ والحب والجنس والمثل العليا والوطنية والكرامة، والطموح الاجتماعى والعطف على الضعفاء والرغبة فى منافسة المتفوقين... إلخ. ونحن لو تتبعنا حياة حواء وتصوير طاهر لاشين لشخصيتها لوجدنا أن هناك أكثر من سبب لما أحست من يأس بعد فشلها فى الفوز برمزى، إنها فتاة مثالية جادة إذا اهتمت بشىء اتجهت إليه بكل كيانها ولم تر غيره. رأينا ذلك منها حين كانت طالبة فوضعت كل همها فى استذكار دروسها حتى تخرجت وتفوقت، ورأينا ذلك أيضا حين أقبلت على الجمعية والمشغل فلم تبخل بشىء من طاقتها لدرجة أننا لا نلمح ولو ظل خاطر عن الزواج مر ببالها، حتى إذا قابلت رمزى (ولا أدرى لم لم تتسع القصة لرجل آخر أو أكثر إلى جانب رمزی. أمعقول أن حياة حواء قد خلت تماما من الشباب أو الرجال الذين يصلحون للزواج منها؟) أقول: حتى إذا قابلت رمزى اندفعت إليه بكل كيانها ولم تعد تفكر إلا فيه ولا ترى إلا إياه، وصار شغلها الشاغل وسرّ فرحها وألمها، وعندما صُدِمَت فى حبها له لم تكن صدمة عادية تدوى قليلا ثم يسحب عليها الزمن أذيال النسيان بل كانت صدمة مدوية رجّت حياتها رجّا رهيبا. يضاف إلى هذا أن حواء كانت فى ذلك الوقت فى الثانية والثلاثين من عمرها، وهذه سن متقدمة فى مصر، فإذا فات قطار الزواج واحدة فى هذه السن لم يكن الأمر سهلا. إنها تكاد أن تكون الفرصة الأخيرة.
ثم إن معرفتها، بعد شبوب عواطفها نحو رمزى وتدلهها فى هواء، أنه، وإن أثنى عليها لتعقلها وكفاحها، لا يبادلها حبا بحب فيها جرح أليم لكبريائها الشديدة كفتاة مثقفة لها نشاط اجتماعی بارز وصاحبة كلمة مسموعة وشخصية محترمة من الجميع.
ويجب أيضا ألا ننسى أنها كانت قد حرمت من حنان الأم وعطف الأب منذ زمن طويل صحيح أن جدتها قد استفرغت كل عنايتها فى تربيتها، لكن جدتها كانت سيدة عامية التفكير فجاء حنانهـا أقل مما كانت تحتاجه حواء المثقفة.
ومن الأسباب التى لا ينبغى أن تغيب عن البال أن رمزى كان شابا غنيا، وأسرته أسرة أرستقراطية. وهل هناك امرأة لا تهتم بالثروة والجاه؟ ولكننا ننفر من أفراد هذه الأسرة لأنهم أشخاص جُوفٌ، ومنهم رمزى، فما السر فى أن تتعلق حواء به وهى العاقلة المثقفة كل هذا التعلق؟ يبدو أن ذلك راجع إلى تقابل شخصيتيهما: فحواء امرأة تغلب عليها نزعة رجولية، ورمزى شاب فيه رقة تكاد أن تكون أنثوية. وهذه النزعـة ظاهرة فى علاقتها بالآخرين: ((فاقتصرت فى الاختلاط بزميلاتها المدرسات، وتكونت لها حيالهن شخصية فيها تعالٍ، ولكن ليس فيها حماقة، فكنّ يحترمنها ولا يكرهنها، بل كانت الحَكَم إذا اختلفن جميعا، ومرجع الرأى منهـم أفرادا)). وفى البيت ((كانت حواء تفضل الوحدة والانفراد، وإن لم يكن لديها سبب خاص)) (ص 60). وحين ابتدأت تهتم برمزی ((ذكرت على حين نجأة أنها فى الثانية والثلاثين من عمرها، وخُيِّل إليها أنها لم تنظر إلى المرآة من قبل، بل كانت ترجِّل شعرها أو تصلح من وجهها بكيفية آلية أو غريزية وهى تفكر فى أشياء أخرى: الجمعية، المشغل، المدرسة، الموسيقى وما إلى ذلك)).(ص 61).
إن من الغريب جدا، لأنه لا يتفق مع طبائع الأشياء، أن تظل فتاة إلى الثانية والثلاثين من عمرها لا تفكر فى الزواج، ويشغلها عن ذلك وظيفتها ونشاطها الاجتماعى حتى إنها حين تَخْطُب فى حفل أقامته الجمعية النسائية التى تمارس فيها نشاطها تَخْطُب ((وسط الجمع الحاشد رابطة الجأش طلقة اللسان)) (ص 49) ولا يهمها من أمور المنزل سوى أن تشتـرى النصف الباقى حتى يصبح ملكا خالصا لها. (ص 56، 57).
من الواضح أن شخصية حواء شخصية تغلب عليها النزعة الرجولية فى مقابل رمزى، الذى تقول هى عنه ((إنه شديد الحياء. وهل يكون خجولا فى عمله وفى حياته العامة على نحو ما يبدو أمامى؟ لخير له أن يكون أكثر حياة وجرأة وصراحة)) (ص 60) والذى يصـفـه لاشين بأنه ((رشيـق، وفى تقاسيم وجهه أنوثة تظهره أصغر منها سنا حتى ليحسبه الرائى طالبا لم يسـاهـم فى الحيـاة بعد (ص 65).
إنهما شخصيتان متقابلتان، وكان المفروض أن يتبادلا مكانيهما. والفقرة التالية تلخص هذا الأمر، يقول الكاتب: ((وكانت حواء بادئ الأمر تشفق على هذا الشاب من تفاهة تفكيره ولا ترتاح إلى مغالاته فى العناية بمظهره، وكانت تسائل نفسها: أى عمل جدِّىّ يمكن أن تضطلع به هذه الدمية؟ وتَعْجَب من إخلاده إلى البيت ومن تماديه فى الركود بينما هى مثقلة بواجبات لا تكاد ساعات النهار تكفى لجهودها)) (ص 67-68). وربما كان من الطريف أن نعرف أن الرقم الذى يشير إلى سنه هو نفس الرقم الذى يشير إلى سنهـا معكوسا، فعمرها ٣٢ عاما، وعمره ٢٣. ثم إنه أصغر منها سـنا، وكان المفروض أن يكون العكس.
ومن هنا نشأ حبها له. بدأ الحب نبتة صغيرة، إذ بعد أن كانت تشفق عليه ولا ترتاح إلى مغالاته فى العناية بمظهره وتَعْجَب من إخلاده إلى البيت ((لم تلبث أن أَلِفَتْ شخصية رمزى على علاتها، وأخذت تتلمس المعاذير عن صبيانيته بعدم حنكته، وعن مظهره بصغر سنه وما تبيحه ثروته)) (ص 68). تلك بداية الحب، وعين الرضا (كما يقال) عن كل عيب كليلة. ثم ((اعتادت حواء الجلوس إلى رمزى والتحدث إليه، ثم تطورت العادة إلى رغبة، والرغبة إلى إحساس بنعيم)) (ص 68). غير أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، لقد خاضت حواء بسببه صراعا داخليا، فقد حاولت ((ألا تعترف لنفسها بهذا النعيم، ومن ثم كانت جَدّتها بادئ الأمر لا تعرف لماذا يفـرح فؤادها ولــِمَ يحزن، ومم يَفْرَق تفكيرها ومم يطمئن، إلى أن صرحت الحرب بين عقلها، وقد حشد الدينَ والإيمان والعرف والخرافات، وبين قلبها، وليس له إلا الشباب المستميت. وكانت الحرب، سجالا، فهى حيالها فزعة أبداً)) (ص 68-69).
ولا بد من معرفة أن رمزى لم يكن خِلْوا من كل ميزة، إذ كان إلى جانب وسامته رزينا دمثا، وكان (كما وصفه المؤلف) مجيدا يراعى مشاعرها ويحرص على ألا يجرحها، بل كان يجاملها ويطلب منها كلما قابلها فى بيت أسرته أن تعزف له على البيانو ويثنى على عزفها، وكان ينقد تصرفات أبيه مع الفلاحين وقسوته عليهم، وعنده تذوق لفن التصوير، الذى مارسه زمنا وهو صغير (ص 65-66، 74-76، 82، 86، 91). ثم هناك مستوى أسرته المادى، ولا شك أن كل امرأة تتطلع إلى الرفاهة المادية، وخاصة إذا كانت كحواء قد عاشـت حياة جافة مرهقة، وهو أخيرا متخرج من مدرسة الزراعة العليا.
على أن طاهر لاشين قد استطاع أن يصور ببراعة شديدة حركة حواء النفسية والجسدية وهى فى أزمتها العاطفية، والعذاب الذى عانته: فنفسها تجيش بانفعالات طاغية تحاول أن تكفكفها وتعزّى نفسها فتتضاحك متظاهرة بألا شىء يضايقها، لكن عواطفها المعذبة وكبرياءها الجريحة تثوران ثورة هائلة وتكتسحان الحواجز فينتابها بكاء عنيف وتصرخ صراخا حادا فظيعا ويصيبها تشنج وتصلب يقطعان الأكباد. (فى ص 123، 130 تفصيل لهذا الوصف).
والمؤلف لا يلجأ إلى الوصف المباشر للمشاعر والتصرفات بل يلجأ مثلا إلى الأحلام ليطلعنا على فرح حواء وحزنها، أو على قلق الجدة بسببها. وفى الصفحة السادسة والتسعين واحد من هذه الأحلام العذبة التى تصوّر فرحة حواء العلوية برمزى. بل إن نهاية القصة نفسها قد أوحى بها لنا المؤلف من خلال قلق الجدة الذى تبدَّى لها على هيئة حلم غريب رأت فيه شمعة بطول القامة فى وسط الصالة، وكانت الشمعة مضاءة وتذوب بسرعة مدهشة حتى تلاشت فتكوّن من مادتها السائلة هيئة جسد نائم ملفف بغلالات رقيقة. وقد وردت الإشارة إلى هذا الحلم الذى يعكس قلق الجدة وخوفها على حفيدتها فى الفصل الأول، وذلك من خلال الحوار الذى دار بين الحاج إمام والشيخ مصطفى، ثم فصّل المؤلف الحلم فى الفصل الثانى ليفسره فى آخر القصة بما أقدمت عليه حواء من انتحار، فهى الشمعة التى كانت تذوب بسرعة، وهى الجسد النائم المتلفف فى غلائل رقيقة.
والكاتب فى تصويره للشخصيات كثيرا ما يوفق توفيقا كبيرا، إذ يستخدم الإيحاء بدلا من الوصف المريح فيجىء أوقـع وأشـد تمكنا فى النفس، فهـو حين يصف الجدة مثلا لا يذكر صراحة أن شخصيتها ضعيفة ضائعة، وإنما يقـو: ((هدوء فى البيت شامل، لا نَأْمَة ولا صـوت كـأن ليس فى البيت أحد! بل الجدة فى غرفتها، والجدة لا تُحْدِث نأمة ولا صوتا كأنها لا أحد)).( ص 28).
وقد قدم لاشين عددا من الشخصيات الثانوية (الشيخ مصطفى والحاج إمام والجدة) قبل الشخصية الرئيسية (حواء)، بل إنه قدَّم حواء على لسان الحاج إمام فى أثناء تحاوره مع الشيخ مصطفى فى الفصل الأول، وفى الفصل الثانى اهتم بالكلام عن بيتها، وفى الفصل الثالث استكمل الكلام عنها. أما فى الفصول الباقية فإنه عرض خيوط المشكلة وتابعها وهى تتعقد.
ولقد استخدم الكاتب أسلوب التشويق استخداما ذكيا، والنص التالى يوضح ذلك: ((لقد كانت حواء فى بيت الباشا تلاطف زيزى الصغيرة وتعدد لها فوائد البقرة انتظارا لرمزى، الذى أخبرها أنه سيعود حالا ليحدثها فى أمر هام، وإذا فريدة هانم قد أقبلت فجلست ثم صرفت ابنتها، وأدركت حواء من تهالك صديقتها على المقعد ومن جِدّ لهجتها حين أمرت زيزى بالانصراف أن بصديقتها هَمّا فابتدرتها قائلة:
- إيه المسألة؟
- أنا فى غاية الكرب.
- لا. لا.
- ومش عارفة أودّى وِشّى فين؟
فحملقت حواء وقالت بدهشة ولهفة:
- عجيبة! إزّاىْ؟
وخطر لحواء أَنْ ربما يكون الأمر خاصا بها وأن تكون فريدة هانم حضرت لتخبرها بما وعدها به رمزى وأن عجلته وتواريه ليسا فى شأن لوالده كما ادعى بل فرارا من خطورة الأمر، فدوت فى قلبها صدمة هائلة ارتفعت لها يدها إليه على غير إرادة منها، وسهمت فى الوجه المكفهر أمامها ثم قالت: إيه؟ إيه الخبر؟
- الباشا تصرَّف تصرُّف مش كويّس أبدا من غير علمی.
فلم يفد حواءَ هذا التصريحُ كثيرا، وودت لو أن ترى رمزى فى هذه اللحظة لتعرف فى وجهه ما وراء الأَكَمة، وهمت بأن تتلفت حولها لعله يكون فى زاوية يتوارى خجلا منها، ثم أحجمت فتحركت رأسها من أثر التردد حركة عصيبة أغضيتها. على أنها تعمّلت الابتسام وقالت:
- أى تصرف؟!
- أنا أقول لك، واحكمى بنفسك.
وتناولت مروحة من منضدة أمامها وجعلت تهوّى على وجهها طلبا للهدوء، وفى التوّ رنّ جرس التليفون فى الصالة، ثم دخل الخادم يطلب سيدته للتكلم:
- ألو.
ـــــــــ...
- أهلا وسهلا. إزيّك؟
ــــــــ...
- الله يبارك فيك. إنما يا اختى انت عرفت! وعرفت من مين؟
ــــــــ...
- يا سلام! على كدا البلد كلها عرفت قبل ما انا اعرف.
ــــــــ...
- لکی حق، شىء ما، شىء ما يدخلش العقل. إنما وحياتك انت انا ما كنت اعرف شىء عن الخطوبة دى أبدا. أبدا وحياتك. تصدقى ان الباشا ما جاب لى سيرة الخطوبة دى غير دلوقتى. ولو كنت كلمتينى قبل شوية كنت ظنيتك بتعملى كدبة إبريل مقدّما.
ــــــــ...
- رأیی؟ حسرة علىّ! أنا بقى لى رأى؟ الباشا فضل رايح لتفيدة هانم. جَىّ من عند تفيدة هانم، وأنا بسلامة نيتى فاكراه بيساعدها فى قضاياها ومشاكلها. أتابيهم الاثنين بيطبخوا الطبخة سوا.
ـــــــــــ...
- رمزى كان يعرفها ؟ لا والنبى أبدا، ولا عمره شافها، ولا انا حتى كنت شفتها إلا لما رحت أزور نينتها تفيدة هانم وهى عيانة. ألو ... إلخ)) (ص 102-106).
ولا شك أن حواء كانت قد خرجت روحها من جسدها أربعين مرة قبل أن تصك سمعَها العباراتُ الأخيرة التى نفهم منها أن الأمر متعلق بخِطْبة رمزى لبنت تفيدة هانم، رمزى الذى تدلهت فى حبه وطاش عقلها غراما به، وكانت إلى وقت قريب تعلم أنها بين ذراعيه وأنهما يشرفان من حبهما على مروج مزهرة. ((وكانت حواء فى مكانها تنصت فى ذهولِ مَنْ يسمع الحكم عليه بالإعدام، ثم تعطلت حواسها فلم تعد تسمع إلا طنينا، ولم تعد ترى ما حولها إلا ظلالا، وصارت فى شبه غيبوبة مرت على خاطرها أثناءها مناظر مبهمة)) (ص 107).
إن كل تصرف وكل كلمة قد شدّا منها الأعصاب واستجمعا الانتباه والترقب: ترى لماذا طلب منها رمزى الانتظار حتى يأتى من عند أبيه؟ أليصارحها بحبه؟ ولكن ما بال أمه هى أيضا تطلب رأيها فى أمر أتاه الباشا وسبب لها خجلا شديدا؟ وتستعد الأم لتفسر لحواء ما غمض عليها، غير أن التليفون يدق فيشغلها الرد عن حواء دقائق من المؤكد أنها كانت فى نظرها سنين. كل ذلك وهى لا تعرف من الكلام المتبادل عبر التليفون إلا العبارات الأخيرة التى تنزل على قلبها كسكين يمزقها تمزيقا ويُفْقِدها كل صواب.
على أن التشويق قد يَفْسُد نتيجة لمحاولة الكاتب المزاح مع القارئ فى غير مناسبة تدعو إلى ذلك كما هو الحال فى حديثه فى مفتتح القصة عن دكان الشيخ مصطفى بائع كافة أدوات السحر.
وهناك إلى جانب هذا عيب ثان يتمثل فى أن الكاتب يُعْنَى كثيرا بالجزئيات دونما داع فنى كما فى وصفه لمنزل حواء فى صفحة كاملة أو أكثر، هذا الوصف الذى يذكر فيه عدد الحجرات وشاغل كل حجرة، والصالة، والسـلم... إلخ.
على أنه أحيانا ما يستخدم أسلوب المفاجأة فى أثناء السرد أو الوصف فيقطع ما كان ماضيا فيه لينتقل فى التو إلى أمر آخر له علاقة به دون أن يمهّد لذلك. فهو مثلا فى أول سطر من الرواية يقول على لسان الحاج إمام الذى لم ينتبه إلى أن صديقه الشيخ مصطفى يصلى داخل دكانه: ((السلام عليكم يا أبا درش))، ثم يَمْضِى على مدى ثلاث صفحات فى وصف دكان الشيخ مصطفى، وكذلك الحاج إمام وكيف كان يمر يده على لحيته متمتما بآيات من القرآن، ((وبين فترة إلى أخرى كان يقبل عليه عارفو فضله فيلثمون يده ويسألونه الدعاء. على أن آخرين من شياطين الحى اتخذوا من عمامته هدفا لنكات وفكاهات.
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ها قد جاء رد التحية، وبرز بائع السحر فجلس إلى صاحبه)).
فبينما نكون مشغولين مع الحاج إمام بلحيته وتمتماته وشياطين الحى الذين يعابثونه إذا بنا نُفَاجَأ مثله برد السلام الذى ألقاه هو قبل نحو أربع صفحات فننتقل بذلك من جو إلى جو. وهذا ينشط القارئ ويوقظ فكره ويشـده إلى القصة، وهو عنصر من عناصر التشويق.
وقد راوح الكاتب أحيانا بين الحوار الداخلى والحوار الخارجى فكان يتحرك بذلك على مستويين، وهذا من شأنه أن يلقى ضوءا أشدّ على الموقف. لقد خرج رمزى يودع حواء وجرهما الكلام ورغبت فى أن تصطحبه إلى بيتها، وكانت أثناء ذلك تشترك فى الحديث بأقصر العبارات وعقلها فى تفكير آخر: ماذا عساها تصنع حين يصلان البيت، وسيصلانه بعد دقائق؟ أتترك الفرصة الذهبية تفلت بهذه السرعة؟ كلا، كلا. سوف تدعوه إلى دارها وتلحّ إذا اقتضى الحال)).
إنه هناك، وهى هنا. إنه يتحدث عن الفلاحين وكيف نهره أبوه لتعاطفه معهم بينما هى تفكر فى حبها له وكيف تستطيع أن تستبقيه معها أطول فترة ممكنة:
((تصـورى أن فيه قرى لو جَمَعْتِ كـل ما عندها تجديه لا يتجاوز جنيه واحد.
- هذا بؤس.
لكن بؤسها هى كان أشد وأعظم، ولذلك فقد مرّت فى خاطرها مقارنة بين البيتَيْن وبين الأهلَيْن. ولأول مرة فى حياتها تبينت أن جدتها يجب أن تكون أحسن مما هى عليه مظهرا، والحاج أمام! أوّاه لو دخلا وكان بقميصه وسرواله يتوضأ فى صحن الدار)).
إن من المضحك المبكى معا أن يتحرك كلام رمزى فى دائرة أرحب من الدائرة الذاتية التى تحصر حواء نفسها فيها وهى الجادة المثالية التى ضحت بهنائها فى سبيل خدمة المجتمع. والآن جاء الوقت الذى وجدت أن ذلك لا يغنى عن حاجتها الذانية فتيلا، فإن لها قلبا متعطشا إلى الحب، ومن حقها أن يكون هناك من يهتم بها من الرجال.
((تجديش فى الدنيا أعجب من كون الغلابة دول ما يناموش فى أوده مبنية بالطوب أو الدبش إلا إذا ماتوا.
- ملاحظة مدهشة)).
ولكنها كانت فى دنيا أخرى. لسانها معه، غير أن فكرها ومشاعرها وخيالها كانت فى البيت: أيليق باستقباله؟ أنستطيع أن تأخـذه معهـا إلـى هنـاك؟ ((كادت تعدل عما اعتزمت، ولكن قلبها تشبث بالفرصة السانحة. سوف تجلس إليه على انفراد يتحدثان بكامل الحرية ... إلخ)). (ص 75-76).
ومن الوسائل الفنية التى استخدمها الكاتب أيضا ما يشبه المعادل الموضوعى، فحواء تتعذب عذابا بالغا ولا تدرى الحكمة من وراء ذلك، وتستغرب كيف يعذبها الله وهى النقية الطاهرة التى بذلت كل ما فى وسعها لإرضاء الله وإرضاء ضميرها. وهنا تسمع حواء الحاج إمام ونجية يتذاكران قصة سيدنا موسى والخضر عليهما السلام حين خَفِيَتْ على موسى الحكمة من وراء تصرفات الخضر الغربية حتى وضحها له الأخير فى النهاية، وهمَّت بأن تصرخ فى وجه الحاج المتحمس: إذا كان موسى، وهو نبى، عجز عن معرفة إرادة الله فيما رأى بعينه فقط ولم يستطع عليه صبرا، فكيف بها هى، وهى ليست من النبوة فى شىء، وقـد أجرى الله عليها إرادة غامضة حطمتها تحطيما؟ من لها بخَضْرٍ آخر يجلو لها الحكمة ويحل لها اللغز؟ ومن يلومها إذا لم تستطع عليه صبرا)) (ص 155). على أن المحزن أن الحاج إمام ونجية كانا مسرورين بتذاكر هذه الحكاية التى أثارت عقـارب العذاب واليأس فى نفس حواء. فأى تناقض!
وبالمناسبة فالتناقض وسيلة أخرى من الوسائل الفنية التى استخدمها الكاتب فى قصته هذه ببراعة فائقة، ففى أشد المواقف هولا وألما تجده يبذر بذور التهكم والسخرية اللذين، بدلا من أن يثيرا فى نفس القارئ شعور الاستسماح، يملآن نفسه بالغيظ من الحياة التى تسحق قلوبنا تحت أقدامها أثناء مضيّها فى طريقها غير مبالية بصرخاتنا وعذاباتنا: ((ولكنها (أى حراء) فى طرفة عين اجترعت ما فى الزجاجة كله، وبينما كانت الجدة تداعب سرورا (عفريتها) فى أحلامها، وبينما كان الحاج يصمم على أن يطلب من حواء ثمن قفطان جديد له بمناسبة شفائها، وبينما كانت نجية تعانق طيف ابن الجزار، كانت حواء مستلقية على سريرها فى هيئة العروس تلفظ أنفاسها الأخيرة، وفى أذنيها صوت المغنيات يُنْشِدْن لرمزى وعروسه أنشودة الزفاف)). وبهذا تنتهى القصة، وكلٌ يغنى على ليلاه.