كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاءات العريضة وحقائق الواقع الصلبة"
إبراهيم عوض
هل كان محمد مندور ناقدا كبيرا؟ ولماذا فشل في الحصول على الدكتوراه من باريس (1-3
)

بقلم إبراهيم عوض

بدأت معرفتی بكتابات د. محمد مندور النقدية أثناء دراستى الجامعية، وقد أعجبنى فيها الدفُء والوضوحُ وبساطةُ العبارة والبعدُ عن التحذلق والاهتمام بضرب الأمثلة لتقريب الفكرة وشرح جوانبها المختلفة. لكن لفت نظرى فى ذات الوقت أن صاحبها لا يشير إلى أى مصدر أو مرجع استفاد منه، اللهم إلا فى كتاب "النقد المنهجى عند العرب"، والسبب فى ذلك أنه كان فى الأصل رسالته التى حاز بها درجة الدكتورية. وكانت هذه الملاحظة وراء سؤال لم يعتّم أن انبثق فى نفسى، وهو: ما دور د. مندور فى هذه الكتب التى تُنْسَبُ إليه؟ وكان الجواب الذى افترضته هو أنه يلخّص ما يقرؤه فى المراجع الفرنسية تلخيصاً سهلاً جذابا يلم أطراف الموضوع بمهارة ويضعه بين يدى القارئ غنيمة باردة. ثم ظهر فى تلك الفترة فى سلسله "کتاب الهلال" كتاب (عشرة أدباء يتحدثون) للأستاذ فؤاد دوارة، وفيه حوار مع طائفة من الكتاب المصريين منهم د. مندور. وقد انبهرتُ بما جاء فيه عما حققه مندور فى بعثته إلى السربون التى بدت لى آنذاك، رغم عدم حصوله على الدكتوراه، نصرا مبينا. ثم كبرتُ واطَّلعت على ذلك الأمر برُمَّته فتبين لى أن المسألة لم تكن إلا دعاية زائفة أُجيد حبكها، فقد كانت تلك البعثة فشلاً ذريعاً، لكن الرجل و حوارييه استطاعوا أن يصوروا هذا الفشل بحيث يبدو وكأن صاحبه قد فتح عكّا وأتى بما لم يأت به الأوائل والأواخر، وهذا هو موضوع الفصل الأول من الكتاب الذى بين يدى القارئ الكريم.
تم أثيرت فى السنوات الأخيرة قضية اتهام مندور بسرقة كتابه "نماذج بشرية"، وهو كتاب يعدّه هو وأنصاره إبداعاً لا نظير له، فعكفتُ على المسألة أدرسها وأمحّصها، وإذا بها تنجلى عن حقيقة شديدة المرارة، وهى أنه قد سرقه فعلا من الكاتب الفرنسى المعروف جان كالفيـه. كذلك اكتشفتُ أنـه قـد سـطـا أيــضاً علـى كـتـاب د.نعمات أحمد فؤاد عن المازنى كما قالت هى تلميحا فى مقدمة الطبعة الثانية من ذلك الكتاب، ويجد القارئ معالجة مفصلة لهاتين القضيتين فى الفصل الثانى من كتابنا هذا.
وكنت قد قرأت "مدام بوفاری"، فى نصها الفرنسى، وبدا لی وأنا أقرؤها أن أقارن بينها وبين ترجمة د.مندور لها فهالنى كثرة أخطائه وشناعتها وتنوعها ما بين أخطاءٍ لغوية وأخطاءٍ فى الترجمة، فوضعتُ دراسة بهذا الذى عثرتُ عليه يجدها القارئ فى الفصل الثالث من الكتاب.
هذا، وإنى لأرجو ألا أكون ظلمتُ الرجلَ، فقدا استمتعت بكتاباته زمنا رغم كل شىء. ولقد حرصت فى دراستى هذه على التنقير والتمحيص والتوثيق، والأمر بَعْدُ متروك للقراء الكراء وحُكْمهم. هدانا الله جميعاً إلى سواء السبيـل!
بعثة مندور بين الحقيقة والأوهام
تمثّل بعثة مندور إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتورية حالة غريبة تحتاج إلى الدراسة والتفسير: فقد كان فى المرحلة الجامعية طالبا متفوقا بلغ من تفوقه أنه استطاع أن يَدْرُس فى كُلّيّتى الحقوق والآداب فى نفس الوقت بل وأن تكون دراسته فى هذه الأخيرة فى قسمين مختلفين وليس فى قسم واحد، إذ كان يدرس الأدب العربى وعلم الاجتماع معا، وإن لم يحصل منها إلا على ليسانس اللغة العربية وآدابها نظراً إلى انقطاعه عن متابعة دراسته فى قسم الاجتماع فى السنة الرابعة بعد أن لم يعد بينه وبين الحصول على ليسانس هذا القسم إلا "فركة كعب"، كما يقولون[]. وكان مستقبله واعداً بالإشراق الزاهر، وبخاصة بعد أنه رشحته الجامعة بمساعدة أستاذه الدكتور طه حسين لبعثة إلى فرنسا للدراسة فى السربون من أجل الحصول على الدكتورية فى الآداب فى سنة ١٩٣٠م. لكنه ما إن بدأ دراسته فى فرنسا حتى فوجئنا بنتائج امتحانات تختلف تماماً عما كان يحصل عليه من درجات فى مصر، وكان مصيره الإخفاق المتكرّر فى معظم الامتحانات التى خاصها، واضطربت الأمور بينه وبين إدارة البعثة فى باريس، التى اتهمته بإغفال واجباته العلمية والخروج على النظام والسفر خارج فرنسا دون تصريح منها بذلك. وكان مندور دائم الفزع أثناء هذا كله إلى الدكتور طه ليتوسط له عند المسؤولين فى مصر وفى إدارة البعثة المصرية فى باريس للحؤول بينه وبين الفصل. وفى النهاية عاد مندور إلى مصر فى سنة ١٩٣٩م، أى بعد أن قضى فى البعثة تسع سنوات كاملات، دون أن يحرز درجة الدكتوراه[]، وكل ما حصل عليه هو شهادة الليسانس فى بعض المواد اللغوية والأدبية، وهى لا تمثل إلا الشق الأول من البعثة المذكورة.

ومع هذا جميعه فإنه فى الحوار الذى أجراه معه فؤاد دوارة فى الستينات (ونشره أولا فى مجلة (المجلة) ثم جمعه مع أشباهه من حوارات فى كتابه "عشرة أدباء يتحدثون") يتكلم عن بعثته السوربونية بأسلوب يوحى بأنها مبعث فخار لما أحرزه فيها من شهادات وما فتح من فتوح دراسية لم تتيسر لغيره، حتى إننى، وأنا طالب بالجامعة، كنت أقرأ ذلك الحوار فى حالة انبهار كامل، وبخاصة كلامه عن تحول عقله من التفكير باللغة العربية إلى التفكير باللغة الفرنسية، التى تتميز (كما يقول) بالدقة والتحديد الصارم، وكذلك حديثه عن الشهادات التى ذكر أنه قد حصل عليها ثم اتضح بعد ذلك أنها فى أغلبها شهادات خاصة بمواد مفردة لا بمجموعة من المواد كما نفهم نحن الشهادات هنا فى مصر.
وسيكون سبيلى فى هذا الفصل هو التعرف إلى ما قاله د. مندور فى حواره مع الأستاذ دوارة ثم المقارنة بينه وبين ما جاء فى رسائله إلى الدكتور طه حسين فى أثناء فترة البعثة، تلك الرسائل التى نشر نبيل فرج عدداً منها كبيرا فى مجلة (القاهرة)، بدءاً من ديسمبر۱۹۹۳م ثم عاد فضمّها إلى مثيلات لها من عميد الأدب العربى أو له وأصدرها فى کتاب بعنوان "طه حسين ومعاصروه". وقد احتلت خطابات مندور إلى طه حسين، بما فيها خطاباته أثناء مرحلة الليسانس، حوالی نصف مساحة الكتاب وحدها، على حين شغلت الخطابات الأخرى كلها النصف الثانى من الكتاب. وتتسم رسائل مندور أثناء فترة البعثة بأنها مفعمة بالحرارة التى تشتد درجاتها حتى لتصبح لهيبا محرقا فى كثير من الأحيان، كما أن فيها قدرا كبيرا من القلق والسخط والتذمُّر الذى يبلغ فى بعض الظروف درجة التلويح بالانتحار. وسوف أستعين فى خلال هذا بما كتبه مندور فى بعض كتبه الأخرى وما كتبه عنه أصدقاؤه وحواريّوه.
يقول الدكتور مندور فى الحوار السالف الذكر إن الهدف من بعثته كان الحصول على ليسانس من السربون فى الآداب واللغات اليونانية القديمة واللاتينية والفرنسية وفقهها المقارن مع حضور محاضرات المستشرقين وتحضير دكتوراه فى الأدب العربى مع أحدهم، وإنه قد نفذ الجزء الأول فى تسع سنوات من ١٩٣٠م إلى ١٩٣٩م، ولكنه لم يقدم الدكتوراه لتجمُّع نُذُر الحرب العالمية الثانية فى الأفق آنذاك، إذ فضّل (كما يقول) العودة إلى مصر حيث كتبها وقدَّمها فى الجامعة المصرية، وإن كان قد حصل من السوربون أيضا على دبلوم فى القانون والاقتصاد السياسى والتشريع المالى.
أما عن باريس فيـقـول إنها مدينة بالغة الخطورة، إذ فيها الجِدّ الصارم والمغريات المهلكة جميعا، وإنه قد أخذ من كلا الأمرين بنصيب. كما أكد أهمية المغريات الباريسية فى حياته وشخصيته العقلية والعاطفية بسبب تمكينها إياه من الاختلاط بدَهْماء الفن والأدب فى مونبرناس والحى اللاتينى والكباريهات حيث تلقائية الأحاديث والتبسط الصادق فى الاعترافات الذاتية فى ساعات الحظ. وكثيرا ما كانت نقوده تَنْفَد قبل حلول آخر الشهر كما ذكر لنا، وعندئذ كان يكتفى بأكلة شعبية من أحد المسامط أو ببعض القهوة والخبز.
ويخبرنا مندور أيضا أنه كان حريصاً كل الحرص على عدم الاختلاط هناك بأمثاله من المصريين حتى يكون حديثه كله طوال الوقت بالفرنسية ما أمكن، وهو ما كانت ثمرته أن تحوَّل (كما يقص عليا) من التفكير باللغة العربية إلى التفكير بالفرنسية، التى تعلم منها الدقة والتحديد وصرامة التعبير، ومع هذا فإن نعمان عاشور، وكان من تلامذة مندور المحبين له والمتعلقين به أشد التعلق، يقول واصـفا نطق أستاذه للفرنسية والإنجليزية: "كنت دائما وفى هذه الـــسنوات الباكرة التى عرفتُه فيها (يقصد أيام كان يدرّس لهم، فى قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، مادة الترجمة من الإنجليزية فى بداية الأربعينات) أستغرب أن يكون قد عاش فى لندن وباريس وهو على ما هو عليه: ريفى كأنه لم يخرج من القرية التى وُلِد فيها بالشرقية، وكنت أستغرب حين أسمعه يتحدث بالإنجليزية أو الفرنسية لأنه كان ينطقها بلهجة فلاح أصيل، وكأنه تعلمها فى كُتّاب القرية ولم يدرسها فى أكسفورد أو السربون. وأرْجَحُ الحسبان أن الدكتور مندور كان يغالى فى الحديث عن نفسه وإنجازاته فى هذه البعثة، وإلا فكيف يكون هذا مستواه فى مجرد النطق بالفرنسية رغم حرصه المطلق على الانغمار فى المجتمع الفرنسى والابتعاد بكل قواه عن الخلطة بزملائه المصريين رغبةً فى إتقان الفرنسية تفكيرا ونطقا كما يقول؟

ومن بين ما يذكر مندور فى حواره مع فؤاد دوارة سفره إلى أثينا بعد فراغه من دراسةاليونانية القديمة، ذلك السفر الذى أثار زوبعة بينه وبين مدير البعثة التعليمية المصرية فى باريس، الأستاذ الديوانى. ومندور، فى هذا الحديث، يقرّ بأن مدير البعثة قد اعترض على هذه الرحلة، إلا أنه لم يعبأ بذلك الاعتراض ومضى فى خطته قُدُما فسافر إلى بلاد اليونان. وهو يؤكد أن هذه الرحلة قد ثبّتت فى ذهنه كل ما كان يعرفه من التراث اليونانى، وذلك من خلال زياراته لجزر بحر إيجه وبقايا بعض المعابد، وأنها لم تكن نزوة سياحية كما ظنَّ مدير البعثة، الذى فوجىء مندور، بعد عودته إلى باريس، بأنه قد أوقف مرتبه وكتب إلى الجامعة طالبا فصله من البعثة، وأنه لولا تدخل مكرم عبيد، الذى تصادف مروره بباريس فى ذلك الوقت، لما استطاع إعادة صرف المرتب. كما أن مدير الجامعة (أحمد لطفى السيد) لم يوافق على فصله، وذلك بفضل الدكتور طه، الذى كان دائم العطف عليه والوقوف إلى جواره فى كل محنة مرت به هناك.
ويضيف مندور أنه بعد هذا قد عَدَل عن دراسة النحو المقارن للّغات القديمة مفضلا دراسة أصوات اللغة دراسة معملية فى معهد باريس الخاص بذلك، حيث كتب بحثا بالفرنسية عن موسيقى الشعر العربى وأوزانه بوساطة آلة الكيموجراف التى تسجل الأصوات الحساسة وذبذباتها.
وبعد عودة الدكتور مندور إلى مصر كانت تنتظره بعض المتاعب فى عمله بكلية الآداب، التى لم يرحب أى من أقسامها المختلفة به بين أعضاء هيئة تدريسه، إلى أن استطاع د. أحمد أمين أن يدبّر له عددا من الساعات يدرّس فيها الترجمة من الإنجليزية إلى العربية، ثم دبّر له د. طه حسين فى السنة التالية بضع ساعات أخرى للترجمة من الفرنسية إلى العربية. كما درّس فى المعهد العالى للصحافة مادتى الترجمة من الفرنسية واللغة الفرنسية وآدابها. وفى عام ١٩٤٢م عُيّن فى جامعة الإسكندرية الوليدة دوندكتوراه. وفى تلك الأثناء سجل مع د. أحمد أمين رسالته فى النقد العربى القديم التى ظهرت بعد ذلك فى كتاب بعنوان (النقد المنهجى عند العرب) والتى رفض طه حسين الاشتراك فى مناقشتها سنة ١٩٤٣ م سخطا منه على صاحبها لِلِواذه بأحمد أمين بدلا منه. كذلك رفض الدكتور طه، فيما يخبرنا مندور أيضا، أن يرقّيه بعـد حصوله على الدكتوراه إلى درجة مدرس (أ) من الدرجة الرابعة رفضا حاداً دفعه إلى الاستقالة من الجامعة والعمل بصحيفة "المصرى" لصاحبها محمود أبو الفتح.
هذا ما جاء فى الحوار الذى دار بينه وبين الأستاذ فؤاد دوارة، فماذا تقول الخطابات التى كان يرسلها إلى الدكتور طه حسين؟

أول ما جاء فى تلك الخطابات مما يتعلق بموضوعنا هو قول مندور، فى خطاب له بتاريخ أول إبريل ١٩٣١م، إنه أرسل إلى مجلة الجامعة بحثا له كان قد قدمه لأحد أساتذته بالسربون ونال عليه درجة أرقى من درجة زملائه الفرنسيين بعد أن وسَّعه وأضاف إليه بعض التوضيحات. ولكن للأسف لم ينبئنا مندور بشىء عن موضوع هذا البحث،كما أنى لا أذكر أنه عرض له فى أى من كتبه الأخرى التى قرأتها له. وأغلب الظن أنه لا علاقة لهذا البحث بالأدب العربى، لأنه كان لا يزال آنئذ فى مرحلة الليسانس يَدْرُس الأدب الفرنسى واللغات القديمة. وأغلب الظن أيضا أن هذا البحث كان فى الأدب الفرنسى، إذ لا أظنه كان قادراً على كتابة بحث فى ذلك الوقت المبكر عن اليونانية أو اللاتينية، فقد كان لا يزال ينقل فيهما خطواته لأولى. كذلك لا أظن إلا أن هذا البحث كـان بالفرنسية، وهـو ما يعنى أن مقدرته على التعبير بهذه اللغة كانت كبيرة ما دام يقول إنه حصل به على درجة لم يحرزها أى من الطلبة الفرنسيين. لكن هذا يثير سؤالا فى غاية الأهمية، ألا وهو: إذا كانت فرنسية مندور فى أول سنة له بفرنـسا قد بلغت هذه الدرجة، فكيف نعلّل فشله المتكرر فى معظم الامتحانات التى دخلها هناك، وهى كلها بتلك اللغة؟ هذا أمر محير! ترى أكان مندور يبالغ فى الثناء على لغته وبحثه؟ إن ذلك غير مستبعد كما سوف نرى من خلال المقارنة بين ما ذكره عن بعض الأمور فى رسائله إلى الدكتور طه وما أدلى به للأستـاذ دوارة فى الحوار الذى أجراه معه.

وفى هذا الخطاب أيضا يشير مندور إلى أنه بسبيل الاستعداد لامتحان يونيه التالى الخاص بالأدب الفرنسى وامتحان نوفمبر الخاص باللاتينية. فماذا كانت نتيجة هذين الامتحانين؟ فأما أولهما فقد أخفق مندور فيه، وهذا مذكور فى خطابه المؤرخ فى 3 سبتمبر ۱۹۳۱م، الذى يتحدث فيه عن (صدمة الامتحان) وأثرها المؤلم العنيف فى نفسه، والذى يحاول فيه أيضاً أن يدفع عن نفسه شبهة عدم الرغبة فى مقابلة الدكتور طه عند وصوله إلى فرنسا، إذ يبدو أن الدكتور طه قد قرَّعه على ذلك على طريقته فى لحن القول. وأما الامتحان الثانى فلا ذكر له فى الخطابات التى بين أيدينا والتى تتخللها فجوة كبيرة تفصل بين الخطاب السابق والخطاب الذى تلاه، وهو بتاريخ 4 نوفمبر ١٩٣٥م.
وفى هذا الخطاب الأخير يخبر مندور أستاذه بأنه يستعد للمرة الثانية لامتحان الدراسات اليونانية، التى يقول إن إخوانه يشكون من صعوبتها، ولكنه، على العكس منهم، يعتقد كل الاعتقاد أن النجاح فيها ليس عسيرا بشرط أن يقصر الطالب جهوده على ما جاء فى المقرر لا يعدوه. ثم يضيف قائلا إنه لا يستطيع للأسف أن ينهج نهج الطلبة الفرنسيين الذين لا يعرفون شيئا خارج حدود الكتب الجامعية، فهو يعانى من العجز المطلق عن الوقوف عند الجزء دون الإلمام بالكل، ومن ثم فهو يقرأ كل ما تصل إليه يده من الكتب عن الأدب اليونانى فى الوقت الذى لا يطالع فيه من النصوص اليونانيةنفسها إلا القليل. وفى الخطاب أيضا حديث عن اجتيازه لشهادة الأدب الفرنسى ولغته واطلاعه الواسع على ما كُتِب فى ذلك الأدب وفى حضارة الفرنسيين. ثم ينتقل إلى الكلام على اللغة اللاتينية، التى يقول إنه قد وصل فيها إلى درجة لا بأس بها، ويتساءل: هل من الممكن أن يكتفى بشهادة "les antiquités Latines" بدلا من "les études Latines"؟ وواضح من كلامه أن الأولى أسهل، وإن ذكر أن الثانية أنفع له. ثم يعقّب قائلا إنه لم يبق بعد ذلك إلا اجتياز الامتحان، وهـو (فى نظـره ونظـر الدكتور طه كما يقول) "مسألة ثانوية". ومما جاء فى هذا الخطاب أيضاً قوله إنه قرأ كل ما كتبه الإغريق وإنه عازم على أن يقضى العام القادم فى قراءة ما كتبه الرومان أيضا بنفس الطريقة التى جرى عليها فى تثقيف نفسه فى الأدب الإغريقى، أى طريق قراءة الكتب الفرنسية عن أدب الرومان والاجتزاء بقراءة بعض النصوص المكتوبة باللاتينية نفسها.

ولی تعلیق صغير على قوله إنه قرأ كل ما كتبه الإغريق إذ إن فى هذا القول مبالغة جِدّ هائلة، إلا إذا كان قصده أنه قرأ كل ما وقعت عليه يده مما تُرْجِم من تراثهم الأدبى أو الفكرى مثلا إلى اللغة الفرنسية، أما أن يكون قد قرأ كل هذا التراث فعلا كتاباً كتاباً كما تقول عبارته بمنتهى الوضوح، فهذا لا أدرى كيف يكون، وإلا كان تراث الإغريق من الهُزال بمكان.
وهو يكرر القول بأنه، بعد كل هذا التأخير، قد حصل على شهادة فى الأدب الفرنسى ومثلها فى فقه اللغة الفرنسية، وأنه بعد يومين سيتقدم لامتحان الدراسات اليونانية، وإن لم يوفَّق فسوف يتقدم للامتحان فى العام القادم للحصول على بعض الشهادات البديلة السهلة. وهذه هى عبارته التى يشير فيها إلى نجاحه فى امتحان الأدب الفرنسى واللغة الفرنسية: "حصلت إلى الآن، مع الأسف الشديد لتأخرى من الناحية المدرسية ولا أقول: من الناحية العلمية، على شهادتين: ۱ــــ الأدب الفرنسى، ۲ــــــ فقه اللغة الفرنسية".
ومن الواضح أنه لم ينجح فى امتحان الشهادة الخاصة بالأدب الفرنسى ولغته إلا بعد مرور أربعة أعوام، ومع هذا فإنه يقـول لفؤاد دوارة إنه قد نجح "بما يشبه المعجزة فى لـيـسانس الأدب الفرنـسى التحريرى بعد عام واحد". ولست فى الحقيقة أدرى كيف يكون ذلك، وهذه خطاباته لأستاذه طه حسين تقول إنه فشل فى أول امتحان له بعد مرور عام من التحاقه بالسربون، وإنه لم يجتز ذلك الامتحان إلا بعد انصرام أربعة أعوام؟ ومع هذا لا يكتفى فؤاد قنديل بالقول بأن منـدور نجح بعـد سـنـة واحدة فى امتحان الأدب الفرنسى (التحريرى) بل يزيـد فيقـول إنه أصبح "يجيد الفرنسية تماما". هو حكم حماسىّ، فإن مندور فى خطاباته إلى الدكتور طه يقع فى أخطاء فاحشة كثيرة فى لغته الأم، فكيف يقال هكذا بمنتهى البساطة إنه أصبح يجيد الفرنسية تماما، وهى اللغة الغربية عنه؟ وإلى جـانب هـذا فإن ترجمته لرواية فلوبير "مدام بوفاری"، كما سيتضح من الفصـل الخاص بها فى هذه الدراسة ، تبيّن بأجلى بيان أنه لم يكن يجيد الفرنسية تماما.
وفى آخر الخطاب المذكور يتحدث مندور عن سفره إلى اليونان وتعريجه هو وزميله الفرنسى الذى كان يصحبه فى تلك الرحلة على مصر لمدة ستة أيام، ذاكرا أنه بعد عودته قد أخبر بذلك الديوانى بك، الذى أتهمه أن المسألة ليست هيئة كما يظن، ثم يطلب من الدكتور طه حسين أن يتدارك الأمر إذا دعت الحاجة إلى تدخله. وقد وصلته من أستاذه طه حسين بتاريخ ١٢ أغسطس ١٩٣٦م، بسبب سفر مشابه إلى إيطاليا، رسالة تقريعية يتهمه فيها بالتقصير والتفريط وعدم الصراحة والاتساع فى الحيلة، ويُبْدِی شکه فى أن يكون قد بذل فى دراسته الجهد المطلوب، وإن أحسن الظن فى ذات الوقت بملكاته الطبيعية. وقد أفزعت مندور هذه الرسالة فرد عليها محاولا أن يزيل ما بنفس أستاذه تجاهه مؤكدا أنه يستفرغ كل مجهوداته فى خدمة الوطن وفى بناء مستقبله وأنه لا يعمل على إطالة بقائه فى أوربا طلباً للّهو أو رغد الحياة.
وفى رده يؤكد مندور أيضا أنه لا يفهم كيف أن السفر خارج فرنسا أثناء البعثة يُعَدّخروجا على القانون، وأنه على كل حال قد أخبر مدير البعثة بعزمه على السفر قبل القيام به وأوضح له أن غايته منه هى غاية علمية لا ترفيهية. ثم ذكر أن سرّ ضيق الأستاذ الديوانى به راجع فى الحقيقة إلى إخفاقه فى الامتحان، وأضاف أن نهب الامتحان نهبا، كما هو مطلوب منه، هو أمر فوق طاقة البشر.
ولا يمر أثنا عشر يوماً إلا وتجده يكتب، رسالة أخرى إلى الدكتور طه يخبره فيها بأنه قد تسلم خطابا من أهله يتضمن نبأ فصله من البعثة وتألــُم والده بسب ذلك بل وتنكّره له "بعد أن اطلع على قرار حضرة مدير البعثة بأنى لا أواظب على عملى ولم أمرّ امتحاناتى وأن لى موارد رزق خفية وأنى فى غير حاجة للبعثة وأنى أتنقل فى بلاد لا يعلمها". ثم يستعطف أستاذه بأن يهبّ لنجدته وإنقاذ مستقبله وحياته متعللا بأن دراسته حملها ثقيل، ومعبّرا عن حزنه الشديد لأنه بعد مضىّ ستة أعوام من حياته فى فرنسا ودنوّ الوقت الذى يستطيع جَنْى ثمرة تعبه فيه يجد نفسه وقد حيل بينه وبين ذلك وتحطمت آماله. وفى نهاية الرسالة يلمح لأستاذه بأنه عازم، لا على ترك مكانه فى البعثة فقط لمن هو أحق منه بملئه، بل على ترك مكانه فى الحياة أيضا. يقول هذا وهو يبكى أشد البكاء كما ذكر فى آخر سطور الرسالة.
أما الخطاب التالى لهذا، وهو محرَّر بعده بخمسة أيام ليس إلا، فقد اختفى منه تلويح مندور بالانتحار وحل محلّه كلام عن بدء عودة الهدوء إلى نفسه وانصرافه التام إلى الدراسة. وفيه أيضاً إشارة إلى أنه قدوصله خطاب من ابن عمه يدعوه فيه إلى نسيان الماضى وطىّ صفحته التى يقول له إنه لا يريد النبش فيها لأن كليهما يعلم ما تحتويه. وقد أثار هذا التلميح مندور إثارة شديدة جعلته يكاد يُـجَنّ جنونا على حد تعبيره. ورغم أننا لا ندرى، من حديث مندور عن هذا الخطاب، طبيعة التلميح الذى يتضمنه، فإن فى تعقيبه عليه ما يفيد أن الأمر يتصل بعلاقاته مع النساء، إذ نسمعه يدافع عن عفته وطهارة نفسه ويؤكد أنه لم يعرف إلا فتانين زميلتين له: إحداهما ألمانية كانت تريد الزواج منه ولكنه لم يوافق، والثانية فرنسية كان يرغب فى الاقتران بها لكن أهلها رفضوا أن يزوجوها بشابّ غريب عن بلادها ويدين بدين غير دينها، ومع ذلك فعندما كتبوا إلى أبيه ليوسطوه فى ثَنْيِه عن عزمه أثْنَوْا على طهارة سلوكه. كما أكد لأستاذه أيضا أنه لا يعرف الخمر ولا القِمار بل ينفر منهما نفورا طبيعيا، فضلا عن أنه شاب جادّ طموح كثير الهموم دائم العبوس، فلا محل فى نفسه لهذه الصغائر كما يقول. وزاد على ذلك أنه بطبيعته مدّخِر، ومن ثمفهو لا يشكو من أية مشكلة فيما يتعلّق بأمور المال والمرتب حتى أن الأستاذ الديوانى يطن أنه غنىّ لا حاجة به إلى البعثة.

هذا ما قاله مندور لأسـتاذة الدكتور طه حسين فى خطابه السالف الذكر، فماذا عما جاء فى حواره مع فؤاد دوارة ؟ لقد ذكر أنه قام بهذه الرحلة سنة 1936م بعد أن فرغ من دراسة اليونانية القديمة وآدابها، وهو ما يُفْهَم منه أنه قد نجح فى ذلك، على حين أنه قد ذكر للدكتور طه أن حَنَق مدير البعثة عليه إنما يرجع إلى رسوبه فى الامتحان، فكيف نوفق بين الأمرين؟ أضف إلى هذا أن كلامه للدكتور طه عن تلك الرحلة وغضب مدير البعثة عليه بسببها قد ورد (كما رأينا) فى خاتمة خطابه بتاريخ 4 نوفمبر ١٩٣٥م بعد توقيعه، بينما يقول هو لفؤاد دوارة إنه قد عمل هذه الرحلة فى ١٩٣٦م، وهذا ما يحتاج أيضا إلى توفيق!

كذلك فإنه يقول لأستاذه إنه عندما عاد من الرحلة ذهب إلى الأستاذ الديوانى واعتذر له عن عدم استئذانه قبل الذهاب إلى مصر من بلاد اليونان، وأوضح له أنه لم يكن لديه نية فى أن يعرج من هناك على أرض الوطن، بل هى مجرد فكرة خطرت له هو وزميله فجأة وهما فى اليونان. وهو ما يعنى أن المشكلة لم تكن تَرْكَ فرنسا بل مجرد السفر إلى مصر. أما فى حواره مع الأستاذ دوارة فيقول إن مدير البعثة لم يوافق على السفر إلى بلاد اليونان أصلا وإنه رغم ذلك لم يأبه بهذا الاعتراض ومضى قدما مع خطته فى الذهاب إلى هناك ومعنى هذا أنه لم يصارح الدكتور طه بحقيقة الأمر تفصيلا مكتفياً بتصويره من الزاوية التى لا تدينه.

وبالمناسبة فليس فى حديثه مع الأستاذ دوارة شىء ذو بالٍ عن الآثار التى ذكر أنه شاهدها فى اليونان، إذ كل ما قاله فى هذا الصدد هو أنه وجد جزيرة تيلوس مغطاة ببقايا المعابد القديمة. ومع هذا فإنه يقفز فى جرأة إلى الادعاء بأنه فى وحدة هذه الجزيرة ووسط أنقاضها قد تشرَّب هو وزميله الروح الهلينية كلها، وهى روح تمتاز بالصفاء وهدوء القلب وحرارة الفكر وانفعاله، لأن اليونانى القديم كان يحس بعقله ويدرك بقلبه، ففى عقله حرارة العاطفة، وفى قلبه ضوء العقل.وهذا نص كلامه بالحرف. ولا أظن عاقلا يمكن أن يأخذ هذه الدعوى مأخذ الجِدّ، فليس من المستطاع تشرّب روححضارة ما من مجرد رؤية بعض الأنقاض التى خلّفتها، وإلا فليخبرنى أحد كيف يمكن أن توحى أنقاض بعض المعابد الإغريقية بأن الروح الهلينية تمتاز بالصفاء وهدوء القلب وحرارة الفكر وانفعاله... إلخ؟

ومما يحتاج إلى توفيق أيضاً أن مندور، فى حديثه إلى الدكتور طه حسين، يؤكد تأكيدا قويا عفته وطهارة نفسه مبديا ألمه من تلميحات ابن عمه فى هذا الصدد، بينما فى حديثه إلى فؤاد دوارة نراه "يذكر مغريات باريس المهلكة" باعتزاز شديد مؤكدا أنه قد أخذ منها بنصيب وأنها قد أفادته كثيرا من الناحية العاطفية والثقافية، إذ مكنته من الاختلاط بدهماء الفن والأدب فى مونبرناس والحى اللاتينى وفى الكباريهات (أو "عُلَب الليل" كما سماها) حيث الأحاديث التلقائية والاعترافات الصادقة فى ساعات الحظ ولمس نفوس البشر عن قرب عارية صريحة غير مقنَّعة ولا متوارية على حد تعبيره.

وبالمثل نراه فى خطابه إلى طه حسين يشير إلى ادخاره وحسن تدبيره فى أمور المال، أما مع فؤاد دوارة فيقول إنه كان يجوب أحياء باريس كما كان يفعل جافروش بطل رواية هوجو "البؤساء" (ذلك الصبى البوهيمى المتشرد الذى لا يأبه بشىء)، وإنه عندما تَنْفَد النقود فى أواخر الشهر كان يلجأ إلى بعض المطاعم الشعبية الرخيصة التى تشبه مسامط القاهرة، بل كان فى كثير من الأحيان يكتفى ببعض الكرواسان مع كوب من القهوة باللبن. وليس فى هذا الأسلوب المعيشى، كما هو واضح، ما ينم عن قدرة على الادخار أو ميل إليه أو حتى تفكير فيه.
ويتدخل طه حسين كالعادة لمصلحة مندور ويعاد تقييده فى البعثة من جديد كما جاء فى خطابه إلى أستاذه فى ١٢ سبتمبر ١٩٣٦م. وفى هذا الخطاب نسمعه يَعِدُه بكل قوة وثقة بالنجاح فى الامتحان المقبل مؤكدا أنه لا يقل فى شىء عن زملائه الفرنسيين الذين ينجحون فى امتحاناتهم (أو على حد تعبيره "الذين يمرون مثل تلك الامتحانات")، بل يزيد عنهم نضوجاً وقدره على التحصيل. ثم يضيف قائلاً: "إن السقوط ومعاودة الكرة مرارا ومرارا لا يمكن إلا أن يعود علىَّ بالخير ويزيدنى نضوجا وتثبتاً مما أدرس، وإنه من الأفضل لى ألف مرة أن أمرّ بعد عدة محاولات وأنا ثابت القدم من أن أمر بالصدفة والاتفاق"، وهى حجة عجيبة تفلسف الرسوب فى سفسطة مضحكة، وإلا فمن الممكن الرد على ذلك بالسؤال التالى: ولماذا ينبغى أن توضع القضية على هذا النحو وكأنه ليس أمام الطالب إلا أن يرسب مرارا قبل أن يتعلم جيدا، أو أن ينجح من أول مـرة مصادفة واتفاقا؟ ترى ألا يمكن اجتماع النجاح مع الدراسة الجيدة والتثبت المخلص؟ أحسب أن القارئ الآن قد أبصر جيدا المزلق الخطير الذى يريد التلميذ أن يسحب أستاذه إليه!
على أنه لا يمر إلا شهران وأسبوع تقريبا حتى يكتب التلميذ لأستاذه بأنه قد أخفق فىامتحان فقه اللغات. وهو لا يكفيه أن وعوده القوية الواثقة قد تبخرت فى الهواء، بل يزيد فيؤكد بملء فمه أنه غير آسف على ذلك الإخفاق، بل هو فىالحقيقة يفضله لأن تحضيره لفقه اللغتين اللاتينية والفرنسية القديمة لم يكن كما يجب. وعبثا يحاول الإنسان أن يعرف لماذا كان الأمر كذلك بعد أن وعد مندور الدكتور طه بأنه لن يرى منه بعد ذلك إلا خيرا وأنه سيطيل رقبته بنجاحه الوشيك. ويمضى مندور فيتحجج بقلة المعاجم فى يديه ويطالب الدكتور طه أن يتدخل لدى البعثة لتعطيه أثمان القاموس الفلانى والقاموس العلّانى والقاموس الترتانى... إلخ، وكأنه لا توجد مكتبات فى الجامعة يستطيع استخدام ما فيها من معاجم ودوائر معارف، وكأنه أيضا لم تكفه السنوات الأربع كى يقطع شوطاً فى هذا المقرر يعينه على المضىّ فى دراسته فى يسر. وفى الخطاب أيضا وصف لحالته النفسية المتأرجحة "بين حماسة تقرب من الجنون إلى يأس وألم يتركنى بلا حراك كالمغمى عليه. هذا ما يقوله مندور عن نفسه بعد مرور أربع سنوات على بدء بعثته، ومع ذلك يأنس بعض من يكتبون عنه فى نفوسهم الجرأة للادعاءات الواسعة التى ما أنزل الله بها من سلطان عن مباحثات مندور مع كبار الساسة والأدباء والمستشرقين فى فرنسا فى ذلك الوقت!

ثم يختتم مندور خطابه بأن الوقت قد ضاق به وكذلك قدرة الله عن نجاحه ووفائه بوعده، إذ ليس فى النتيجة إلا ما يغمّ، ثم يدعو لنفسه ولأستاذه وأسرته أن تشملهم رحمة الله جميعا.
وفى خطابه التالى (وهو بتاریخ ۲۲ نوفمبر 1936م، أى بعد الخطاب السابق بيوم) يعود مـندور إلى السفسطة فيقول إن الامتحانات لا يمكن أن تكون هى الدليل على كمال الإنسان أو نقصه، بل الطالب أدرى من الأستاذ الممتحن بمواضع نقصه أو قوته. وهذا قد يكون صحيحا إذا كان للأستاذ موقف ظالم من تلميذه أو كان غير مؤهل لوظيفته، لكن لا أظن أنه كانت لمندور أية شكوى من هذه الناحية أو تلك، وهذه خطاباته إلى الدكتور طه خير شاهد على ما أقول، فهى خالية تماما من مجرد الإشارة إلى شىء من هذا. وعلى أية حال فهذه درجاته كما جاء فى ذلك الخطاب: اليونانى واللاتينى 8 من ٢٠ ، والفرنسى 9 من ٢٠، واليونانى 3 من۲۰.
ورغم ذلك نراه مرة أخرى لا يبالى بالقواعد المنظَّمة للبعثات فيسافر إلى خارج فرنسا، ولا يكلف نفسه أن يذهب إلى مدير البعثة ليخبره بنتيجة الامتحان، بل يكتفى بمهاتفته متعللا بأنه مريض لا يستطيع الذهاب إليه، فما كان من المدير إلا أن أخذ يتهكم عليه وعلى تحججه بالمرض قائلا له إنه يحمد الله أن كان الألم فى رأسه لا فى قدمه. ويشعر مندور أنه ينظر إليه على أنه منافق أو نصاب أو ممثل هزلى، وقد حاول بعد ذلك، كما ورد فى خطابه، أن يقابله لكنه رفض أن يراه، وهو ما يستغربه مندور أشد الاستغراب، إذ كيف يخاصم مدير البعثة طالبا تحت إشرافه؟ هكذا يتساءل مندور وبراءة الأطفال فى عينيه، وكأنه لم يفعل شيئا، وكأن مدير البعثة يتجنى عليه هكذا لوجه الله! ولم لا؟ أليس هو على الأقل إنسانا مستنيرا حساسا كريم النفس كما وصف نفسه فى خطابه المؤرخ فى ۲۷ نوفمبر ١٩٣٦م إلى أستاذه طه حسين؟ وللمرة التى لا أدرى كَمْ يناشد الدكتور طه أن يتدخل ليخرجه كالعادة من ورطته.

وفى خطابه التالى (وهو بتاريخ 14 ديسمبر ١٩٣٦م) يخبر أستاذه بما أنبأه به مدير البعثة من أن قرار فصله قد أتى من مصر وبأن عليه الاستعداد للرجوع إلى الوطن. كما يشكو من أن مكتب البعثات فى باريس لا يريد إعطاءه متأخراته المالية. وكالعادة أيضا يرجو أستاذه أن يتدخل لحل تلك المشكلة. وفى نهاية الخطاب يتساءل فى سخط: "أيجوز أن ترغمنى الحكومة بهذا الشكل على الرجوع إلى مصر دون إتمام دراستى وأنا شديد الأمل والرغبة والنشاط فى الانتهاء منها؟". وهو كلام تكذّبه الوقائع ويدل على أن مندور كان بارعا فى قلب الحقائق وإلباس الباطل ثوب الحقّ اطمئنانا منه إلى أن بمكنته كسب أستاذه إلى جانبه.

أما رجاء النقاش فإنه يفسّر موقف مندور بأنه برهان على "ما طُبِعّتْ عليه شخصيته من صفاء وإشراق وبعد عن السوداوية القاتمة، فمهما كانت المشاكل التى تواجهه صلبة وعسيرة فإنه كان يحمل فى نفسه أملا فى الحل وإصرارا وعنادا فى البحث عن هذا الحلّ. فلو تعرَّض طالب آخر لمثل هذه المشكلة التى تعرض لها مندور فى باريس لكان من الممكن أن تمتلئ نفسه بالمرارة والتشاؤم واليأس، ولكن مندور ظل يكافح ويبحث لنفسه عن سبيل للخروج من أزمته حتى وجد ما أراد. كان مندور دائما علـى هـذه الصورة: لا يستسلم ولا يعرف اليأس". والواقع أن الأستاذ النقاش، فى دفاعه عن مندور، إنما يجرى على نفس الخطة التى كان يتبعها مندور فى تسويغ إخفاقه المتوالى بسبب تصرفاته اللامسؤولة، إذ بدلا من أن يشعر بالخجل وتأنيب الضمير ويعترف بتقصيره ويعزم عزما صادقا على الرجوع عن خطئه نجده يهاجم مدير البعثة والامتحانات والأساتذة ويتهم العالمين جميعا إلا نفسه. إنها السياسة القائلة بأن "الهجوم خير وسيلة للدفاع". ولو كان كلام الأستاذ رجاء فى محله لعمل مندور على أن يقوم بواجبه وينجح فى دراسته، إن لم يكن من أجل شىء فمن أجـل بلـده الـذى ينفق عليـه من عرق الفلاحين والعمـال (أو "الشغّيلة" كما يحب بعض الناس أن يقولوا)، أما أن يتحجج لمدير البعثة بأنه مريض لا يقوى على الذهاب لمقابلته ليقص عليه نتيجة امتحاناته ثم يفاجىء مكتب البعثات بسفره إلى إيطاليا ومطالبتهم من الفنادق التى كان ينزل بها أثناء السفر بأن يسددوا عنه أجرة المبيت والطعام، فهذه تصرفات لا تدل أبدا على ما يدعيه رجاء النقاش لمندور بلى على أنه لم يكن يشعر بالمسؤولية أو تبكيت الضمير. إن ما يقوله الأستاذ النقاش ما هو إلا تلاعب بالألفاظ بكل أسف!

وعلى هذا فليس الأمر، كما ادعى د. مندور فى حواره مع فؤاد دواره، هو أن مدير البعثة قد عاقبه لأنه لم يطع رأيه وسافر ليستزيد من المعرفة، بل الأمر هو أنه كان يهمل دراسته إهمالا شنيعاً ولا يبدى شيئا ينم عن تألم لفشله فى الامتحانات وتضييع أموال الدولة على مجرد البقاء فى باريس والعيش فيها بأسلوب جافروش الصبىّ المتشرد عبر المبالى فى رواية فكتور هيجو "البؤساء" كما يقول مندور فى فخر.
ويلى ذلك خطاب غیر مؤرخ يندب فيه مندور حظه ویبكى فى انهيار تام على مستقبله ذاكرا أن مدير البعثة يتهمه بالإهمال وبالسفر إلى جهات لا يعلمها خارجا بذلك على القواعد، ومؤكدا أنه لم يكن فى رفقه إحدى النساء كما يظن البعض، وأنه إنما كان فى زيارة لآثار إيطاليا تثبيتا لما تلقاء فى الجامعـة مـن معارف علميـة. وهو يتساءل فى حسرة مخاطبا عميد الأدب بقوله: "أيومن أسـتـاذى حقيقة بينه وبين نفسه أنى أجرمتُ بزيارتى تلك البلاد إجراما يستحق تحطيم مستقبلى بهذا الشكل المحزن وتحطيم ثقة أهلى فىّ بهذه القسـوة...؟". وهو بهذا يتجاهل السبب الحقيقى، ألا وهو إخفاقه فى الامتحانات رغم تقدُّم النُّذُر بأنه سيُفْصَل إذا استمرت أوضاعه على ما كانت عليه ورغم وعوده المتكررة والمغلَّظة للدكتور طه بأنه سينجح فى الامتحان القادم. ويمضى فيقول إن مدير البعثة يتهمه بأن له موردا آخر غير مرتب البعثة مع أن والده لا يملك إلا سبعة وعشرين فدانا ويعول ثمانية أبناء، وكل ما استطاع هو أن يقتصـده لا يتجاوز ألفا وخمسمائة فرنك أنفقها على تلك الرحلة. ومع ذلك فإنه لا يجد منـاصـاً من إيراد تهمة المدير له بالتقصير فى الدراسة، ثم يقارن بين تفوقه فى مصر وتعثره المتكرر فى باريس لامساًبذلك لبَّ المشكلة والعقدة التى يدور حولها الفصل الحالى من كتابنا. ومن بين ما قاله أنه لو كان أعدَّ رسالة الدكتوراه فى القانون مثلا لكان حظه فى الحياة أفضل من ذلك، وكذلك نصيبه من الرزق. وهو يؤكد أن مستواه فى اللغات الثلاث التى درسها قد وصل إلى درجة طيبة، متناسيا بذلك أنه لو كان هذا الذى يقوله صحيحاً لكان قد نجح، فإن العبرة بالإنجازات لا بالأقوال، وإلا فكل إنسان يستطيع أن يدَّعى ما يشاء، اللهم إلا إذا كان أساتذته يقصدونه بالأذى والظلم، وهو ما لم يدَّعه مجرد ادعاء فى أى خطاب من خطاباته إلى أستاذه ولا فى أى مقال أو كتاب ألفه. ويتجاهل منـدور أيضا كثرة وعوده التى لم تتحقق فَيَعِد أستاذه من جديد بأنه سينجح، ثم يعطيه عهداً بأن لهم أن يشنقوه إذا لم يُوَفّق.
ويُلْمِح مندور من طرف خفى إلى أن الدكتور طه هو الذى ساقه فى هذا الطريق، طريق البعثة للحصول على الليسانس والدكتوراه وذلك عندما يقول له: "لست أحمّلكم أية مسؤولية عن تحطيم حياتى ولا عن خاتمتى المحزنة، فقد قبلتُ الـبعثـةَ بإرادتى، ومسؤوليتى لا يبررها جهلى بموضوع بعثتى وتقديم هذا الموضوع بالقياس إلى قدرتى بل مقدرة أى بشر غيرى فى حدود الزمن الممنوح له. وقد كان علىَّ أن أذكر أن أهلى فى حاجة لى وأن أكسب حياتى، وكنت مسلَّحاً بليسانسین". وهو بهذا يضع يده على ذلك اللغز الغريب وإن لم يَـحُلَه، لغز تفوقه البارز فى أثناء الدراسة الجامعية فى مصر ثم إخفاقه المتلاحق فى باريس رغم كثرة الدعاوى التى يملأ بها خطاباته إلى الدكتور طه وكذلك المزاعم التى يطنطن بها أنصاره وتلاميذه فى مقالاتهم ودراساتهم عنه.
ولا يقنع مندور بهذا بل يهدد تلميحا بأن فى مستطاعه اللجوء إلى القضاء: "أما يظن أستاذى أنى لو كنتُ فرنسيا أو إنجليزيا ورفعت أمرى إلى القضاء لأنصفنى؟ بل لو طاوعتنى نفسى بأنها لن تُغْضِب أحداً ممن يعزّ علىَّ أن أغضبهم ورفعتُ أمرى للقضاء فى مصر أأعجز أن أجد قاضيا عادلا يقول الحق وينطق بالعدل؟ وإلى من أقول كل هذا؟ أأقوله لمن يعرف فوق ما أعرف أنه لا آلـم فى النفس من الشعور بالظلم إلا عدم القدرة من الانتصاف من ذلك الظلم؟".
وواضح أن الدكتور طه قد خفّ لنجدته كسُنّته معه، إذ إن مندور فى الخطاب التالى (وهو كسابقه غير مؤرخ) يبدی فرحته ببرقية وصلته من الدكتور طه قائلا إنه لو كان أمامه لانهار على يديه الطاهرتين الكريمتين بالتقبيل اعترافا منه بجميله الذى أنقذه مما كان فيه من يأس مهلك. وبعد هذا يَعِدُه من جديد بأن يكون شكره إياه على تلك المنّة التى أسداها له هو أن يحصل فى نوفمبر التالى على شهادتى اللغة اليونانية وفقه اللغات المقارن ويرسلهما إليه فى مصر وأن يحرز فى العام المقبل على أكثر تقدير شهادة اللاتينى والدبلوم، وإلا فَلْيُنْكِرْه ويـَحْرِمْه من أبوته الروحية. ثم ينتقل من ذلك مباشرة إلى رجائه بالتوسط له عند مدير البعثة لتسوية أوضاعه المالية حتى يستطيع أن يحقق هذه المواعيد، وكذلك بالكتابة إلـى والـده لطمأنته على أنه ليس شابا غوياً فاسد السـلوك. ولا ينسى فى غمرة كل هذا أن يعرّج على الديوانى بك فيغمزه بأنه، على ما يظهر من شكله، ترکی الأصل. يريد أن يقول إنه متعنّت متعجرف دون سبب، وهى تـهمة غير صحيحة بطبيعة الحال، فليس من المعقول أن يطالَب مسؤول فى مثل منصبه بمقابلة هذا الفشل المتكرر من طالب بعثة تحت إشراقه بالتصفيق والتهليل والتربيت على كتفيه. إن مندور، بكلامه هذا وأشباه له من قبل، يريدا أن يلغى مبدأ الثواب والعقاب بل يريد أن يقلب الأوضاع فيجعل الحق باطلا والباطل حقا. إننى أومن أنه لو كان قد انصرف فى باريس إلى تأدية وأجبه، ولم يغترّ بقدراته أو يَسْعَ إلى الصدام دون حقّ مع المسؤولين فى مكتب البعثات بباريس وأقـبل صـادقا على مقرراته يستذكرها كما ينبغى، وبخاصة اللغات والآداب القديمة والقراءة "فيهـا" بدلا من الاعتماد على القراءة "عنها" باللغة الفرنسية كما ذكر أكثر من مرة لأستاذه الدكتور طه، وابتعد عن أسلوب الحياة الجافروشى البوهيمى القائم على الجرى فى أرجاء العاصمة الفرنسية طولا وعرضا وشرقا وغربا وارتياد علب الليل لكان لأحواله هناك شأن آخر، فإن طالبا يجمع مثله بين الدراسة فى الجامعة المصرية فى ثلاثة تخصصات مختلفة فى ذات الوقت وينجح فى امتحاناتها جميعا لعدة سنوات لهو قادر، لو أخلص النية والجهد، على إحراز الليسانس والدكتوراه من السربون فى أقصر مدة مع التبحر فى القراءة وارتياد المتاحف والمسارح والقيام بالرحلات الترفيهية والعلمية بشرط أن يراعى الاعتدال والتوازن بين هذه الواجبات المختلفة، وهو ما يبدو أن مندور لم يفعله، فكانت النتيجة للأسف هى هذا الهوان الذى كان يطارده ويلاحقه من كل جانب ونَشْر خَبَر فَصْله من البعثة فى الصحف المصرية مما أفزعه أشد الفزع وكتب إلى أستاذه يستجير به منه.

ونصل إلى آخر خطاب فى كتاب نبيل فرج مما أرسله مندور من فرنسا لأستاذه قافزين فوق بعض الرسائل التى لا تهمنا فى هذا السياق كثيراً، وهو الخطاب المؤرخ فى ٢٥ مايو ١٩٣٧م، وفيه يكرر مندور وعده للدكتور طه بأنه سينجح وسيجعل الامتحان هو الذى يتكلم بدلا منه، وليس فيه شىء آخر مما يتعلق بموضوعنا الذى نعالجه فى هذا الفصل. ومع هذا فهناك مسألة لابد من إضافتها هنا، فقد ذكر مندور فى إحدى رسائله التى بعث بها لطه حسين بعد عودته من البعثة أنه لم يتم فصله بل صدر قرار من مجلس الكلية يـخيّره فيه بين الرجوع إلى الكلية والاستمرار فى باريس على نفقته الخاصة، وأنه آثر البقاء لدراسة علم الأصوات التجريبى. كذلك فهو يؤكد للدكتور طه أن بعثته لم تفشل رغم عدم حصوله على الدكتوراه. والحق أن الإنسان لا يدرى كيف يتعامل مع مثل هذا المنطق، إذ ما هو الفشل إذن فى بعثة كان المفروض أن يحصل صاحبها على درجة الدكتوراه فلم يحصل عليها بعد أن هيأت له الدولةُ طوال ثمانى سنوات ثم أسرتُه للسنة التاسعة كلّ ما يلزمه لإحراز هذا النجاح؟ من الواضح أن مندور كان يتمتع بـجرأة يـُحْـسَد عليها ومقدرة على إلباس الباطل ثياب الحقّ واتباع سياسة "الهجوم خير وسيلة للدفاع" كما سبق القول.

وفى آخر رسالة من مندور لطه حسين بعد عودته من البعثة، وقد وقّع عليها معه زميله فى البعثة على حافظ بهنسى، نــجد نبرة صوت مندور فى مخاطبته لأستاذه تتغير، إذ بعد الودّ والتخاشع الزائد والتفانى فى الثناء عليه والتهافت على تقبيل يديه الكريمتين الطاهرتين نسمع مثل العبارة التالية: "سيدى الأستاذ، نحييكم تحية خالصة مخلصة ثم نسألكم أن تعبأوا بأمرنا فى الكلية التى صرنا فيها كسقط المتاع ولا يُلْقَى علينا من الدروس إلا أشياء أولية كمبادئ النحو اللاتينى واليونانى لطلبة لا يدرسون هذه اللغات دراسة جدية... ولسنا ندرى علام بَذَلْنا من شبابنا تسعة أعوام نـحصّل ونعمل ثم لا نـجد من يزكّينا ولا يقرّبنا من الخير بل لا نـجد إلا دعاة النميمـة يقطعـون علينا كل سبيل، ويرموننا عند من لا يقدّر دراستنا بالجهل مرة وبالغرور مرات ثم بالثورة أحيانا... ونحن مؤمنون رغم كل شىء أن بيدك أن تفعل الخير إن أردت... إلخ".

والحقيقة والواقع أن هذا هو التمرد والغرور بعينه، وإلا فماذا نسمّى مثل هذا الموقف وتلك اللهجة من مبعوث سلخ من عمره تسع سنوات يدخل الامتحان تلو الامتحان ويفشل فى معظمها ولا يحصل إلا على ليسانس ثم يريد أن يفرض شروطه على الكلية التى يعمل بـها ظنا منه أن من حقه أن يُعَامَل معاملة الحاصلين على درجة الدكتوراه؟ وانظر إلى كلامه للدكتور طه، الذى وقف إلى جانبه وكان يـَحُلّ له أولا بأول مشاكله التى ورط نفسه فيها فى بلاد الفرنسيس بإهماله واجباته والعيش فى شرنقة الادعاءات الجوفاء، تَرَ كيف تَنَكَّر جملة واحدة لكل ما صنعه من أجله هذا الأستاذ!

ومعروف أن مندور قد ابتعد بعد هذا عن الدكتور طه وأقبل على الدكتور أحمد أمين، الذى أعد معه رسالة عن النقد العربى القديم حصل بها على الدكتورية سنة ١٩٤٣ م، وهى الرسالة التى ظهرت لاحقا فى كتاب بعنوان "النقد المنهجى عند العرب" والتى ظن نعمان عاشور خطأ أن عميد الأدب العربى كان هو المشرف عليها.
ومعروف أيضا أن مـندور ترك الجامعة بعد ذلك واشتغل بالصحافة، وقد برّر هذا بأن طه حسين قد حَنِقَ عليه لإقباله على أحمد أمين فرفض، عندما كان مديرا لجامعة الإسكندرية التى كان يعمل بها مندور، أن يرقّيه إلى وظيفة مدرس (أ) من الدرجة الرابعة.
ويتبنى الأستاذ رجاء النقاش وجهة نظر مندور بل يزيد عليها قوله إنه سمع عدداً كبيراً من تلاميذ الدكتور طه يؤكدون "أنه كان فى معاملته لطلابه عاطفيا شديد الحساسية سريع التأثر، فهو يقف بحرارة وراء الذين يـحبهم بل وما زال يقف وراءهم إلى اليوم يزكّيهم ويسهل لهم فرص العلم والحياة، بينما كان شديد العنف على الذين يثيرون كراهيته بين الطلاب فيقف ضدهم مواقف حادة قاسية. وقصة مندور شاهد على ذلك. ولا شك أن هذا الموقف يـمثل جانبا من جوانب الضعف فى شخصية ذلك الأستاذ العظيم طه حسين، وهو ضعف إنسانى طبيعى". ويبدى الأستاذ النقاش استنكاره ودهشته إزاء هذا الضعف الطَاهَوِىّ.
وهناك تفسير أخر لترك مندور الجامعة يقدمه الأستاذ نعمان عاشور، إذ أرجح ذلك إلى "انغماره فى الحياة العامة وتأثره بالتيار الاشتراكى القوى الذى غيّر الحياة الثقافية على نهاية الحرب العالمية الثانية". وبقريب من ذلك يقول الأستاذ فتحى رضوان، الذى يؤكد أن مندور قد آثر الصحافة على الوظيفة الجامعية المرموقة والمرتب المضمون، وذلك لإحساسه "أن دورا كبيرا من النضال والعمل الحرّ ينتظره، فلم يتردد فى توقيع العقد بينه وبين صاحب جريدة (المصرى) غير آبهٍ بما قد تـجره عليه الأيام من متاعب تحصيل العيش فى أيام كان دخل الأديب ضئيلاً". ولا يبتعد كثيرا عن هذا التفسير الأستاذ فؤاد قنديل، الذى يضيف أن مندور قد "أدرك أنه لن يستطيع أن يقدم القرابين لأحد لأن كرامته فوق أى حق من حقوقه مهما غلا... وأن طبعه لا يتفق مع الجامعة والكلاسيكية المطلوبة لها مع قدر من التزمت والجمود وقدر آخر من العزلة والترفع عن المجتمع والبعد عن مشاكله والاكتفاء بتعليم النظريات وشرح الأفكار والفلسفات". ولكنى أعتقد أن الحديث عن مغالاة مندور بكرامته هو حديث مبالغ فيه، فقد ذكر غير واحد أن لقمة العيش كثيرا ما جعلته يتغاضى عن مسألة الكرامة هذه. أضف إلى ذلك أن خطاباته لأستاذه طه حسين جمعاء (اللهم إلا الفقرات الأخيرة من خطابه الأخير) تقول عكس ذلك. أما دعوى التنافر بين طبع مندور وأوضاع التدريس فى الجامعة لـما يحفّ بها من تزمت وجمود وترفع عن المجتمع وانعزال عنه، فإن حياة مندور وكلامه ينقضانـها، إذ ظل، بعد تركه الجامعة، يحاضر فى بعض المعاهد العالية، كما أنه يقول بصريح اللفظ فى أحد فصول كتابه (قضايا جديدة فى أدبنا الحديث): "يظهر أنى خُلِقْتُ لأكون مدرسا. وبالفعل لـم أهجر قط هذه المهنة رغم تقلبات حياتى المتعاقبة، فقد واصلتُ التدريس وأنا أعمل بالصحافة أو المحاماة أو البرلمان. ولا أخفى أن هذه المهنة قد كانت دائما من مصادر بهجتى وعزائى فى الحياة. ولا أظن فرحة تعدل فرحتى برؤية زهرة من زهرات الشباب تتفتح بين يدىّ أو تـَهَشّ للقائى".

أيا ما يكن الأمر فمن المفيد أن نتعرف على وجهة نظر الدكتور طه فى هذه القضية وفى شخصية الدكتور مندور بوجه عام. لقد قال طه حسين ذات مرة للدكتور محمد الدسوقى الذى اشتغل بالقراءة والكتابة له فى أخريات حياته: "إن الدكتور مندور ليس ذا بال فى الثقافة"، فرد عليه هذا قائلا: "إن الدكتور مندور قد أسهم فى حياتنا الفكرية المعاصرة إسهاما طيبا، وله مؤلفات علمية جديرة بالخلود"، فقال العميد: "مثل ماذا؟" فأجابه د. الدسوقى: (مثل كتاب: النقد المنهجى عند العرب"، فقال: "هذا كتاب (هايف)، واعلم أن هذا الكتاب هو رسالة الدكتوراه التى تقدم بها الدكتور مندور إلى جامعةالقاهرة، فقد أوفدته فى بعثة فى باريس ومكث بها اثنتى عشرة سنة، ولم يتمكن طوال هذه المدة إلا من الحصول على درجة الليسانس فى اليونانى بسبب عبثه ولهوه وعدم إخلاصه للعمل، وبعد عودته قدم ذلك الكتاب كرسالة حصد بها درجة الدكتوراه". هذا ما قاله الدكتور طه عن شخصية مندور العلمية والخلقية، أما عن سبب تركه للجامعة فيقول: "إن الدكتور مندور... كان يحرص على المادة، فحين كان أستاذا مساعدا بجامعة الإسكندرية عرض عليه الأستاذ أحمد أبو الفتح أن يدفع راتبا مقداره 125 جنبها لقاء عمله فى صحيفة (المصرى) ، وجاء إلىَّ الدكتور مندور (فقد كنت مديرا للجامعة) وقدّم إلىَّ استقالته، فحاولت أن أثْنِيَه عن عزمه وأذكّره بمستقبلة فى الجامعة، بيد أنه أصر على رغبته فى الاستقالة، فالراتب الذى سيحصل عليه من العمل فى الصحافة ضِعْف راتبه فى الجامعة. وبعد فترة اختلف مع الأستاذ أبو الفتح ووصل الأمر بينهما إلى القضاء " ثم بعد فترة صمت قليلة أضاف قائلا: "والذى أحمده للدكتور مندور وفاءه وحسن تقديره لأساتذته وأدبه معهم فى الجدل والنقاش.

فأين الحقيقة فى هـذه الروايات المختلفة عن استقالة مندور من الجامعة؟ يبدو لى أن رواية طه حسين ربما كانت أقرب إلى الواقع، ودليل ذلك أن مندور فى حوار له مع عبد التواب عبد الحىّ لا يذكر متاعبه مع إدارة الجامعة بل لا يشير إليها مجرد إشارة ولو من بعيد، وكل ما قاله هو أن محمود أبو الفتح قد أبدى إعجابه بمقالاته التى كانت تنشرها له مجلة "الثقافة" وأرسـل يـفاوضه فى أن يشتغـل معه فى صحيفة "المصرى"، عارضا عليه مرتبا شهريا قدره خمسة وسبعون جنيها بعقدٍ مدته خمس سنوات فقبل فورا. ويؤكد هذا ما أبداه مندور نفسه للأستاذ عبد الحى من ندم على هذا الاختيار، وهذا هو نص كلامه: "لست أدرى كيف زلّت قدمى فدخلتُ هذ الطريق المظلم المسدود. وندمه نابع، فيما أتصور، من أنه قد خرج من الجامعة ولم يستطع أن يعود إليها وأن أحلامه المالية المتعلقة بالصحافة وراتبها الكبير قد انتهت إلى لا شىء، وقد نستطيع أن نضيف إلى ما قاله الدكتور طه عن سبب استقالة مندور من الجامعة إحساسه بأنه مهما فعل فسيظل دون زملائه الذين حصلوا قبله على الدكتوراه ولم يتعرضوا لما تعرّض له من الإخفاق المتكرر.

ومع ذلك فإن الإنسان لا يستطيع إلا أن يعجب أشد العجب من قول د. لويس عوض، تعليقا على طول مدة البعثة التى قضاها مندور فى فرنسا ورجوعه بعد انصرام تسع سنوات دون إحراز درجة الدكتورية، إن مندور "لـم يشأ أن يخطف العلم خطفا ويعود بعد أربع سنوات حاملا دكتوراه الجامعة أو حتى دكتوراه الدولة فى الأدب العربى كما كان مقررا له أن يفعل، بل رأى فى بعثته الفرنسية فرصته الثمينة للتغلغل فى أسرار الحضارة الأوربية ودراسة الأدب والفن على الطبيعة وليس فى صحائف الكتب التى كان يستطيع أن يستقدمها إلى القاهرة دون حاجة للسفر إلى الخارج". وهو نفس ما قاله د. مندور عن لويس عوض فى كتابه (النقد والنقاد المعاصرون)، وكأنهما الصوت والصدى[]، ووجه العجب فى هذا الكلام ما فيه من سفسطة، وإلا فإن لويس عوض نفسه هو، بمقتضى كلامه هذا، واحد ممن خطفوا العلم خطفا، إذ لـم يقض فى بعثته كل هذه المدة التى قضاها مندور ورغم هذا حصل على درجة الدكتوراه التى لم يُكْتَب لمندور الحصول عليها. كما أن هذه السفسطة تشجّع المبعوثين على إطالة مدة بعثهم وتكبيد الدولة الأموال الطائلة بحجة أنهم يَبْغُون الرسوخ فى العلم وعدم خطفه خطفا. ولو كان هذا منطقا صائبا لرأينا الغربيين حينما يأتون إلى بلادنا لدراسة آدابنا وديننا، وهم قليلا ما يفعلون، يحرصون على إطالة أمر بقائهم بين ظَهْرانَيْنا كيلا يكون علمهم خطفاً. والملاحظ أن هذه السفسطة هى حجة الذين لا يوفّقون عادة فى بعثتهم. ثم ألا يكفى المبعوثَ أربعُ سنوات أو خمسٌ أو ستٌ كى يتعرف على الحضارة الأوربية ويتقن تخصصه ويحصل على شهادة الدكتوراه التى أرسلته الدولة من أجلها؟ إن فى التحجج بأن الشهادات ليست هى كل شىء أو ليست هى المرادة من طلب العلم تناقضا شديدا، لأن السؤال المنطقى فى هذه الحالة هو: ولـم حرص صاحب هذه الحجة على نيل الشهادات السابقة على الدكتوراه ولم يقنع بمجرد طلب العلم؟ وفضلا عن ذلك فلست فى الحقيقة أدرى كيف يمكن دراسة الأدب على الطبيعة فى فرنسا؟ أيقصد الدكتور لويس الأفلام والأعمال المسرحية؟ لكن هل كل النصوص الأدبية روايات ومسرحيات؟ وعلى أية حال أفلم يكن من الممكن مشاهدة الأفلام والمسرحيات فى مصر؟ وأخيرا أفلا يمكن أن يحقق المبعوث الهدفين معا: دراسة الأدب والفن فى الحياة، ودراستهما فى نفس الوقت فى الكتب والحصول من ثم على الشهادة التى تثبت أنه قد بذل جهده فى البحث والدرس وأن عنده من الفهم والمعرفة ما يمكنه من أن يكون مدرسا ينقل علمه للأجيال التى تليه ؟ إن معظم المبعوثين يفعلون ذلك.

وجريا على خُطَا لويس عوض فى هذا المضمار يكتب فؤاد دوارة فى الكتاب الذى ألفه عن الدكتور مندور فى سلسلة (نقاد الأدب) فيقول إنه "خلال إقامته الطويلة فى باريس لم يكتف مندور بمتابعة المناهج التى فرض على نفسه دراستها بل انفتحت شهيته العلمية للمواظبة على حضور الكثير من المحاضرات لكبار أساتذة الفلسفة والتاريخ والاجتماع وعلم النفس خارج البرامج المحددة لدراسته، فضلا عما اكتسبه خلال تلك السنوات من ثقافة خصبة عميقة من حياته العريضة الحرة فى باريس ورحلاته الكثيرة خارجها وفى بعض الدول الأوربية، وبخاصة اليونان مهد الحضارة الإغريقية". وبغض النظر عن مدى الدقة فى هذا الكلام أو المبالغة فيه إلى الدرجة التى يقول دوارة عندها إن مثل هذا الزاد الثقافى الضخم لم يتوفر لأحد من أساتذة الأدب العربى من جيل مندور، نتساءل إذا كان الأمر كذلك فما الذى حال بين مندور صاحب كل هذه الهمة الثقافية والقدرات الدراسية وبين النجاح فيما هو أدنى من ذلك وأسهل تحصيلا؟ أو لماذا لم يهتم بأن يجمع بين الحسنيين: تحصيل هذه الألوان الثقافية المختلفة الحرة، والنجاح فى المواد المقررة؟ هل هناك تعارض بين الأمرين؟ كلا ثم كلا، فضلا عن أن هناك نقاداً فى جيل مندور وفى الأجيال السابقة والتالية قد تركوا أعمالاً نقدية أكثر وأعمق وتدل على أن الجهد المبذول فيها أضخم كثيرا من جهد مندور فيما خلَّف من كتب ودراسات، فإن معظم ما كتب مندور فى مجال النقد النظرى إن هو إلا تلخيصات أو ترجمات لأصول فرنسية لا يعنّى نفسه حتى بمجرد الإشارة إليها. وأوضح مثال على ذلك كتـاب چـان كالفيـه فى (النماذج العالمية)، الذى سطا عليه وأخذه كما هو لم يفعل فيه شيئا فى الغالب سوى أن قدم بعض فقراته وأخر، وهو ما سوف نبحثه تفصيلا فى الفصل التالى من هذه الدراسة .

ويردد فؤاد قنديل ما يقوله لويس عوض وفؤاد دوارة مع شىء من التلوين والتفصيل فيقول: "لقد قرأ مندور فى هذه الفترة مئات الكتب وقابل عشرات الشخصيات البارزة من السياسيين والأدباء الفرنسيين والمستشرقين الأوربيين ودارت بينه وبينهم مناقشات ومساجلات جادة وعميقة فىشتى القضايا، فضلا عن مشاهداته فى المعابد والمتاحف والمعارض والمكتبات". ثم يضيف قائلا: "كان صوت الحياة فى أذن وقلب مندور أعلى، ونبرته أوضح، فاستجاب لها وجرفه تيارها وظل الوطن فى عينيه وفى قلبه هما أوحدا. إن الحياة المجنونة فى باريس هى التى جذبته إلى الحياة لا إلى باريس. لقد عمقت فى نفسه إحساسه بالحياة والعمل والكفاح. ولعل هذا ما يؤكد لنا أن نية مندور فى إعداد رسالة الدكتوراه فى الأدب العربى قد بدأت فى التلاشى تدريجيا بعد وصوله إلى باريس وحياته فيها ومعايشته للتيارات العنيفة التى كانت تعصف بأوروبا، وهو الذى جاء من مياه ضحلة ومن سكون أشبه بسكون الصحراء. كان يندفع نـحو الحياة ليأخذ منها أوفر الجرعات لأنه عن قريب سيعود إلى المياه الضحلة وإلى سكون الصحراء".
وهذا فى الواقع كلام كبير، ولكنه فى نهاية المطاف مجرد كلام لا أكثر، فمن أين للأستاذ قنديل أن مندور قابل عشرات السياسيين والأدباء والمستشرقين البارزين وناقشهم وباحتهم أثناء دراسته فى فرنسا؟ إن مندور نفسه لم يقل ذلك، فهل ينبغى أن نكون مندوريين أكثر من مندور؟ إن خطابات مندور لأستاذه الدكتور طه كما سبق أن بينا فى هذا الفصل، تصوره دائم العثرات والتخبط والإخفاق، وليس فيها أى حديث عن مستشرقين أو سياسيين كبار أو صغار، وقد بلغ من تكرر تعثره أن أخذ يبكى ويهدد بالانتحار كما رأينا. والحق أنه لولا تدخل الدكتور طه من أجله فى كل مشكلة يجلبها لنفسـه بسبب عدم اهتمامه بدراسته ومن ثم فشله فى معظم الامتحانات التى دخلها لأعيد من البعثة مبكرا. والحق أيضا أن مندور كان بارعا فى معرفة المنافذ التى يستطيع أن يدخل منها إلى قلب الدكتور طه. ولقد ظلّ يُطْنِب فى الثناء عليه وكَيْل المديح والدعاء له ولأفراد أسرته إلى أن ضاق به الدكتور طه ورفع يده عن مساعدته فانقلب عليه مندور وتحول إلى الدكتور أحمد أمين، ثم بعد ذلك كتب مقالا نقديا عن (دعاء الكروان)، أخذ يتحذلق فيه ويتعالم على أستاذه ونسى ما كان يقوله من قبل فيه. ولست أقصد أن أدافع عن الدكتور طه ولا عن روايته، فإن رأيى فيها أشد مما قاله الدكتور مندور، ولكنى أريد أن ألفت النظر إلى انقلاب مندور الفجائى على أستاذه الذى كان يملأ أسماع الدنيا ضجيجا بالتغزل فى محاسن عقله ونفسه، وذلك بمجرد أن قبض يده عن انتشاله من الحُفَر التى كان دائم الوقوع فيها.

ومع ذلك فإن فؤاد قنديل قد سها فوضع يده على الحقيقة ونطق بها دون أن يدرى ظنا منه أنه يدافع عن مندور، بينما هو فى الواقع يكشف عواره وضعفه، وذلك حين قال إن الحياة الباريسية المجنونة قد شغلته عن دراسته فأخذت نيته فى إعداد رسالة الدكتوراه فى الأدب العربى تتلاشى... إلخ. ونزيد علىذلك أن اهتمامه بالدراسة التحضيرية لرسالة الدكتوراه كان هو أيضا ضئيلا جدا، إذ لم ينجح فى الحصول على الليسانس إلا بعد تسع سنوات بالتمام والكمال.
هذا، وقد كنتُ أشرتُ فيما سبق من صفحات فى هذا الفصل إلى أن مندور كان يخطئ أخطاء فاحشة فى لغته الأم كما تُبيّن لنا خطاباته التى كان يرسلها من فرنسا إلى أستاذه الدكتور طه والتى نشرها نبيل فرج فى كتابه (طه حسين ومعاصروه). وهأنذا أستعرض مع القارئ فى عَجَلٍ هذه الأخطاء، وهى أقوى ردّ على من يكيلون لمندور المدح جزافا من هذه الناحية. وسوف أعض الطَّرْف عما يمكن أن يكون مَرُجِعُه إلى الأخطاء المطبعية، وستكون خطتى هى ذكر الجملة التى ورد فيها الخطأ ثم شَفْعه بالتصويب عقبه مباشرة بين قوسين:
-... لأنى واثق أنكم لن تَرَوْنَ (تَرَوْا) إلا الخير (108).

- ولعل أستاذى علم بأن لى صديقا من الـــــ "Ecole nor male" ومرشَّح (مرشّحاً) للـــــــ Ecole d Aimenes"" أُحَضّر معه امتحاناتی (ص ۱۰۰).
- قبل أن يبتدأ (يبتدئ) العام الدراسى (ص ۱۱۳).
- وأما الرسالتين (الرسالتان) فربــما كانتا كالآتى:... (ص۱۱۳).
-لم أنساك (أنْسَكَ) يا أستاذى (ص ١١٤).
- واعتذرت له عن عدم استأذانه (استئذانه) قبل زيارة مصر (ص ١١٥).
- ولكن فيما (فيم) العجب؟ (ص ١١٦).
- ما أظنه سمح يوما... أن تضطرد (تطّرد) أيام شبابى حلوة فى غير مرارة (من ١١٦).

- ما أظنكم تطالبونى (تطالبوننی) بهذا (ص ۱۱۸).

- وصلنى من أخى خطاب ومن أحد أبناء عمى خطاب آخر يخبرانى (يخبراننی) بخبر فصلى من البعثة (ص ۱۲۰).
- وكنت أظن أنكم ستصدّقونى (ستصدقوننى) فيما أقول (ص ۱۲۱).

- سامحكم الله، وعشتم سعيدون موفقون (سعيدين موفقين) (ص ۱۲۲).

- عاقبنی لخروجى عن رأيه... عقابا ليس دونه (ليس وراءه، أو ليس بعده) عقاب (ص ۱۲۷).

- وكم يكون امتنانى (شعورى بالمنة)[] لو سمح وقتكم وتفضلتم بإخبارى عن مجمل شعورکم نحوی (ص ۱۳۲).
- ليس لدينا مثلا (مثلٌ) أصح ولا أسلم لدراسة تاريخ وتطور اللغات غير هذا المثل (ص ۱۳۳).
- كما لا يخفاكم (يخفى عليكم) ( ص 133. وقد تكررت عدة مرات أخرى فى ص ١٣٤، ١٤١، ١٥٠، ٢٠٤ - 5 ٢٠، ٢٠٦).
- من يستطيع أن يدّعى دراسة اللغة الفرنسية دون أن يكون فى متناولـه علـى الأقـل الكتابين الهامين (الكتابـان الهامان) الذى (اللذان) أقتصر على ذكرهما...؟ (ص ۱۳۷).
- ... دون أن يصلنى أى رد من حضرة مدير البعثة على خطابىَّ الذى (اللذين) أخبرته فيهما بما كان من أمر امتحاناتى (ص ١٤٤).
- أَلْفِتْ نظر عزتكم إلى أننى لم أرجو (أَرْجُ) معالى مكرم باشا ليتدخل فى الأمر إلا لضيق ذات يدى (ص ١٤٥).
- هل من النبل وكرم النفس أن يختصم مديرُ بعثِة طالـب (طالباً) تحت إشرافه، طالِب (طاِلباً) لا حول له ولا قوة...؟ (ص ١٤٧).
- وهأنا أرسل لكم إحداها مؤقتا لتَرَوْن (لتَرَوْا) بأنفسكم صدق ما أقول (ص ١٤٩).
- هل تريدون أن أقبل معاملة كهذه، لا أقول بصفتى تلميذكم، بل بصفتى إنسان (إنسانا) على الأقل مستنير ( مستنيرا)...؟ (ص150).
- ما كنت أنتظر مِنْ وراءها (ورائها) شيئا (ص ١٥٣).

- رجائى الأخير الحار هو أن تتفضلوا فتكتبون (فتكتبوا ) لى عن رأيكم (ص ١٥٨). - وقد بحثتُ عبثا فى الجرائد عن ملخصا ( ملخص، لـما قلـتم فلم أجد شيئا (159).
- ولكلاهما (لكليهما) أثر واضح فى حياتنا اليومية (ص ١٦٣).

- وهم فلاسفة أىْ مفكّرين (مفكّرون) (ص ١٦٥).
- کانوا فلاسفة أكثر من رياضيين (أكثر منهم رياضيين) (ص 167).
- ... وإلا لفضّلتُ رأيه وذهبتُ إلى إحدى القرى فى فرنسا أو إحدى (أحَد) شواطئ البحار ( ص ١٧٤).
- ومهما يصيبنى (يُصِبْنى) من أذى فَأَشَدّه فى نفسى ما أصاب أهلى من حسرة (ص ۱۷۷).
- وإذا كان إخواننا الفلاسفة والمؤرخين (والمؤرخون) أضاعوا خمسة أو ستة أعوام فى تحضير ليسانس فلسفة أو تاريخ... وأما (أفما) يصحّ عَدْلا أن تعطونا سنـة أكثر منهم على الأقل...؟ ( ص ۱۸۰).
- أما كان من الواجب... أن تحققوا معى... وتعـاقـبـوننی (وتعاقبونی) بخصم مرتبى مثلا أسبوعا أو اثنين أو شهرا ؟ (ص 181).
- أظن هذا لا ترضوه (لا تَرْضَـوْنه) ولا يرضاه إنسـان (ص 183).
-لـم يُغْوينى (يُغْوِنى) أحد عن نفسى (ص ١٨٥).
- وهانا أشعر بأنى مُسَاق (مَسُوق) نـحوك فى راحة نفس (ص ۱۸۸).
- وهـنا يأتى دور السبب الآخر لـخفوقى (لإخفاقى) فى البعثة (ص ١٩٤).
- إلى هذا يجب أن ينصرف مجمعنا لو كان لرأيى قيمة أو لو سُأِلْتُ (سُئِلْتُ) فى ذلك (ص ٢٠٤).

- ماذا نفعل بالثمانيـة (بالثمـانى) سـنواتالأخرى...؟ ( ص ۲۲۳) .

ويرى القارئ معى كيف أن الأخطاء الإملائية واللغوية فى تلك الخطابات كثيرة وباهظة وأنها فى أمور ابتدائية غير معقدة ولا تليق بأى حال بطالب يدرس للحصول على الدكتورية فى اللغة العربية وآدابها وفى ذلك الوقت المبكر من عمر التعليم المصرى قبل أن تفسد الأمور على النحو الذى نعرفه الآن. وسوف يقابل القارئ مثل هذه الأخطاء فى ترجمة مندور لرواية فلوبير "مدام بوفاری".
إن للدكتور مندور رأياً فى مسألة الصحة والخطإ فى اللغة يعارض ملاحظاتنا السابقة على أخطائه، إذ يقول: "إن مسألة الصحة والخطإ فى اللغات أصبحت مسألة تافهة لا يـُحْرَص عليها فى غير مجال التعليم المدرسى، وأما العلم فقد تقدم وأصبحت المناهج تاريخية، فترى العلماء اليوم لا يقررون الخطأ والصواب فى اللغات، وإنما يستقرئون الاستعمالات عند كبار الكتـاب ويفسرون ما يطرأ على اللغة من تطور". بَيْدَ أنى لا أستطيع الموافقة على هذا الكلام، إذ لا بد أن يظل هناك معيار للصواب والانحراف فى كل مجالات الحياة، ومنها اللغة. وبإمكان كبار الكتاب أن يبتدعوا تعبيرات وصورا وتراكيب جديدة يُغْنون بها اللغة ونقبلها على الرأس والعين ما دامت تجرى على القواعد العامة للغة ولا تصادمها. أما تحطيم الإعراب على النحو الذى رأينا فى خطابات مندور لعميد الأدب العربى فهو مرفوض تماماً، لا من الناحية اللغوية فحسب بل من الناحية الذوقية الجمالية أيضا، إذ ما معنى أن أحذف نون الأفعال الخمسة فى بعض حالات النصب والجزم مثلا ولا أحذفها فى بعضها الآخر؟ إن فى هذا خروجا على التناسق والنظام، وهو ما يؤذى النفس والعين.

هل كان محمد مندور ناقدا كبيرا (2-3) السرقات الأدبية

بقلم إبراهيم عوض

اتهام مندور بسرقة كتابيه: «نماذج بشرية» و «مـحـاضـرات عـــن إبـراهـيـــــم المـازنـى»
فى الأعوام الأخيرة ثار كلام حول الدكتور محمد مندور بخصوص کتابه "نماذج بشرية"،الذى يحوى عدة دراسات نقدية نشرها منجَّمةً فى مجلة "الثقافة" فى الأربعينات ثم جمعها بعد ذلك فى كتاب، إذ وجَّه إليه د. الطاهر مكى التهمة بأنه سرقه كله تقريبامن کتاب جان كالفيه أستاذ النقد الفرنسى الذى كان يدرِّس (كما يقول) فى جامعة السربون فى الوقت الذى كان فيه مندور مبعوثا إلى فرنسا للحصول على درجة الدكتوراه، وهو كتاب من ثلاثة أجزاء بعنوان "النماذج العالمية فى الأدب الفرنسى والعالمى": فالنماذج التى درسها مندور هى هى النماذج التى درسهـا كالفيـه ما عدا نموذج "إبراهيم الكاتب" للمازنى، والموضوعات هى هى، وكذلك المنهج والاستشـهـادات. ولم يُعَنّ مندور نَفْسَـه بالإشارة إلى هذا المرجع الفرنسى، ومـن ثـم فعمله يدخل فى باب "النسخ" و "السرقة الأدبية"، على حد تعبيره.

ثم تابع د عبد اللطيـف عبـد الحليم هذه القضية بجريدة "الأهرام"، فى صفحة "الأهرام الأدبى"، التى فتحت "ملف السرقات الأدبية" واستهلته بمقال للدكتور عبد اللطيف عنوانه "المازنى وكامل حسين ومندور هل كانوا يعترفون بالحقوق المحفوظة للمؤلف؟" تعرض فيه لعدد من قضايا السرقات الفكرية والأدبية منها الاتهام الذى يلاحق كتاب الدكتور مندور "نماذج بشرية"، فذكر مقالا نشرته مجلة "الأقلام" العراقية فى يناير ١٩٦٧م لعبد المطلب صالح بعنوان "هل الدكتور مندور هو المؤلف الحقيقى لكتاب: نماذج بشرية؟"، ودراسة للأستاذة الإسبانية ماريا خيسـومـن بيجيرا نشرتهـا فى مجلـة Al Menara"" تحت عنوان "دون کیخوتى فى النقد المصرى"، فضلا عن السطور التى خصصها د. الطاهر مكى فى كتابه (الأدب المقارن)، وهى السطور التى لخصنا ما جاء فيها قبل قليل. ولم يكتف الدكتور عبد اللطيف بهذا بل دعا النقاد وأساتذة الأدب الفرنـسى، وبخاصة الذين عندهم الأصل الفرنسى الذى سطا عليه د. مندور، أن يـهتكوا أستار الصمت وأن يجهروا بالحقيقة، بل توقع أن ينحّى بعض الدارسين عنصر المجاملة ويضع رسالة صغيرة فى هذا الموضوع الذى يدخل فى مجالالأدب المقارن.
وقد ردت السيدة ملك عبد العزيز (زوجة الدكتور مندور) فركزت على ما نقله د. عبد اللطيف من كتاب الدكتور مکی ولم تتعرض للأسف بشىء لمقال عبد المطلب صالح ولا لدراسة الأستاذة الإسبانية. ويتلخص ردها على د. مکی بأن حكمه هو مجرد انطباعات عامة لا تقوم على أسانيد حقيقية، إذ اكتفى ببعض الملاحظات الخارجية كقوله إن كتاب (نماذج بشرية)، لا يشتمل إلا على نموذج واحد من عند الدكتـور منـدور نفسه هر نموذج (إبراهيم الكاتب). وقد علَّلت هذه الملاحظة الأخيرة بأن الأدب المصرى بل الأدب العربى الحديث كله لم يكن فيه فى ذلك الوقت (١٩٤٠ م ١٩٤١م) إلا ثلات روايات هى "سارة" للعقاد و "زينب" لهيكل و "إبراهيم الكاتب" للمازنى. أما بعد أن ظهرت روايات نجيب محفوظ والسباعى وغيرهما فقد أضاف مندور إلى النماذج السابقة عدة نماذج أخرى مستقاة من أعمال هذين الكاتبين وغيرهما، وذلك فى كتابه "قضايا جديدة فى أدبنا الحديث".

وفيما يتعلق بتماثل النماذج فى كتابى كالفيه ومندور فإن السيدة ملك عبد العزيز تعلّله بأن عيون الأدب العالمى التى أُخِذَتْ منها تلك النماذج معروفة للجميع، كما أنها قُتِلت بحثا ودرسا وتحليلا قبل أن يتناولها زوجها، ومن الممكن إذن ألا يكون فيما أتى به كالفيه ومندور أى جديد، وعلى أية حال فقد كان الدكتور مندور، كما تقول، يقرأ أوّلا الرواية أو المسرحية التى يريد أن يدرس شخصيتها الرئيسية مبلورا فى أثناء ذلك أفكاره، ثم لا يرجع إليها إلا حينما يورد استشهادا منها بعينه. وهى لا تستبعد أن يكون الدكتور مندور قد قرأ كتاب كالفيه أو غيره من الدراسات التى تتناول ذات الموضوع، ولكن هذا لا يعنى أنه سرقها، وبخاصة أن ما كتبه يتسـم بالأسلوب الحار والتحمس الشديد للفقراء والمواهب المتألقة التى تقوم فى سبيلهـا العقبات الكئود. أما بالنسبة للنصّ المنقول من مسرحية "زواج فيجارو" لموليير فهو نص لا بد لكل من يدرس هذه المسرحية من الاستشهاد به كاملا لأنه لب المسرحية وحكمتها الوحيدة. وفى النهاية تدعو الشاعرة الفاضلة أساتذة دار العلوم ألا يـسرفوا فى اتباع المنهج النقدى للعرب القدماء الذى يَكْلَف باتهام الأدباء والشعراء بالسرقة وأن يكتفوا بما يُؤْثِره النقد الحديث من الكلام عن "التأثر" أو "توارد الخواطر".
هذه زبدة ما قالته الأستاذة ملك، وهو يستلزم بعض التعقيبات: فقد رمت سـيـادتُـهـا أساتذة دار العلوم بأنهم ينهجون نهج نقادنا القدماء فيسرفون فى الاتهام بالسرقات الأدبية. ولـستُ أدرى الحكمة فى تخصيص الدراعمة بذلك، فهم يدرسون نفس ما ندرسه نحن فى كليات الآداب من مناهج ومواد. أَلأَنه قد تصادف أن كان متَّهِمَا الدكتور مندور بالسرقة أستاذين مندار العلوم ، فأرادت أن تعيبهما كما عابا زوجها؟ أعتقد أن الجواب لا يمكن أن يكون إلا بالإيجاب، وإلا فلماذا تجاهلت الأستاذ عبد المطلب صالح والأستاذة ماريا خيسومن بيجيرا؟ ولقد كان د. مکی، فى ردّه على هذه النقطة، على حقّ حين ذكـر مـن بين المتَّهِمين المحدثين بالسرقة عبد الرحمن شكرى (الذى اتهم المازنى بسرقة بعض أشـعـاره من كتاب (الذخيرة الذهبية)، وعباس محمود العقاد (الذى اتهم د. محمد کامل حسـين بسرقة كتابه (وحدة المعرفة)، وكذلك الدكتور مندور نفسـه (الذى اتهم إحـسان عبد القدوس بأنه سرق إحدى قصصه من القصاص النمساوى ستيفان زفايج)، وهؤلاء الثلاثة جميعا من غير أبناء دار العلوم. وبطبيعة الحال فإن قائمة المتهمين بالسرقة من أبناء الكليات الأخرى مليئة بالأسماء، وبمستطاعنا أن نشير على وجه العجلة إلى محمود شاكر واتهامه للدكتور طه حسين بالسطو على مقالة مرجليوث عن الشعر الجاهلى، والمازنى والقضية التى رفعها ضد إبراهيم رمزى بدعوى السطو على أحد أعماله وترافع فيها عن هذا الأخير د. محمد لطفى جمعة، ورمزى مفتاح وادعائه أن فى شعر العقاد سرقات من صديقه شكرى، وفؤاد دوارة وما كتبه عن أخذ إحسان عبد القدوس إحدى قصصه من الكاتبة الفرنسية فرانسواز ساجان، وأبناء الدكتور عبد العليم النجار والقضية التى رفعوها ضد د. رمضان عبد التواب يتهمونه بالسطو على ترجمة والدهـم لكتاب "العربية" ليوهان فك، وكذلك القضية التى انتُدِبْتُ خبيرا فيها وكانت خاصة بدعوى رفعها أحد الصحفيين يتهم كاتبا للسينارير بأنه سرق أقصوصة له وحولها إلى فلم... إلخ، وهو ما يعنى أن ردّ السيدة ملك هو ردّ فى غير محله، بل هو ردّ العاجز الذى لا يجد ما يقوله سوى اتهام المتحدثين بما ليس فيهم لعلّه بذلك يشغلهم بالدفاع عن أنفسهم عما هم بسبيله. كذلك لو كان الأمر على النحو الذى تصوّره حرم الدكتور مندور لما وجدنا القانون يهتم بهذه المسألة ولا رجال القانون يصنفون فيها الكتب، مثل الدكتور أحمد سويلم العمرى، الذى له فى هذا المجال كتاب هام جدا بعنوان "حقوق الإنتاج الذهنى" والدكتـور عـبد الرشيد مأمـون صاحب "الحقّ الأدبى للمؤلف" و "أبحاث فى حق المؤلف"، والدكتور سيـنوت حلیم دوس، الذى كتب فى هذا الموضوع عدة دراسات منها "قراصنـة الفكر" ، والدكتور أبو اليزيد المتيت مصنف کتاب "حقوق المؤلف الأدبية طبقا للقانون ٣٠٤ لسنة ١٩٥٤"،والدكتور مختار القاضى مؤلف كتاب "حق المؤلف"... إلخ، وذلك من القانونيين المصريين وحدهم. وأيا ما يكن الحال فالأمر هنا ينبغى أن يجرى على القاعدة المعروفة: "انظر إلى ما قيل لا إلى من قال"، وعلى هذا فعندنا تهمة محدَّدة موجهة إلى الدكتور مندور من الدراعمة ومن غير الدراعمة، وعلينا أن نفصل فيها، وهو ما سوف نقوم به بعد قليل.

كذلك ادّعت الأستاذة ملك، كما رأينا، أن الأدب العربى الحديث لم يكن يعرف فى أوائل الأربعينات إلا ثلاث روايـات تقريبا هی "زینب" و "إبراهيم الكاتب" و "سارة"، وهـو ادعاء غير صحيـح بتة. وقد ردّ عليه د. مكى وذكر عددا من الروايات المصرية قال إنها ظهرت قبل ذلك، وهى "عودة الروح" للحكيم (۱۹۳۳م) و "أديب" لطه حسين (١٩٣٥م) و"الـقـصـر المسحور" له وللحكيم (١٩٣٦م) و "الحب الضائع" (١٩٤٢م) و "أحلام شهر زاد" (1943م) و "شجرة البـؤس"، (1944م) لعميد الأدب العربى و "قنديل أم هاشم" ليحيى حقى (١٩٤٤م) و "مليم الأكبر" لعادل كامل (١٩٤٤م). ولكن يبدو أن السهو قد لعب لعبته هنا فأورد الأستاذ الدكتور عناوين بعض الروايات التى ظهرت بعد مقالات مندور عن النمادج البشرية كما هو بيّن. ومع ذلك فبإمكاننا أن نضيف قصصا أخرى صدرت قبل مقالات مندور مثل "فتاة مصر" ليعقوب صروف (١٩٠٥ م) و "فى وادی الهموم" لمحمد لطفى جمعة (١٩٠٥م) و "عذراء دنشوای" لمحمود طاهر حقی (١٩٠٦م) و "الشيخ سيد العبيط" لمحمـود تيمـور (١٩٢٦م) و "حواء بلا آدم" لمحمـود طاهـر لاشين (١٩٣٤م) و "البوسطحی" ليحيى حقى (1934م) و "باب القمر" لإبراهيم رمزى (١٩٣٦م) و "عصفور من الشرق" و "يوميات نائب فى الأرياف" لتوفيق الحكيم (۱۹۳۷م) و "قلب غانية" ، (١٩٣٧م) و "نداء المجهول" (۱۹۳۹م) لتيمور و "عاصفة فوق مصر" لعصام الدين حفنی ناصف (۱۹۳۹م) و "النقاب الطائر" لمحمود طاهـر لاشين (١٩٤٠م) و "عبث الأقدار" لنجيب محفوظ (1940م) وهذه ليست إلا أمثلة قليلة، ومن الأدب المصرى وحده، وللمشاهير ليس إلا. ومع ذلك فقد عادت الأستاذة ملك فكررت هذه الدعوى بعد ذلك رغم تفنيد د. مکی لها، وذلك فى حديث صحفى لها تال على رده عليها.

وهناك نقطة ثالثة ردّ عليها د. مكى قائلاً إنه لم يثرها فى حديثه عن سرقة د. مندور لـــ "نماذحه الشرية" من كالفيه، ألا وهى الإشارة إلى الاستشهاد بالمونولوج الشهير فى مسرحية (زواج فيجارو).

ومع هذا فقد عادت الأستاذة ملك إلى ترديدها فى الحديث الصحفى التالى لمقال د. مكى، ولست أستطيع أن أعرف السبب فى عودتها إلى تردید هاتين الدَّعْوَيَيْن رغم ردّ الأستاذ الدكتور عليهما: ترى ألم تقرأ ما كتب؟ أم تراها قرأته ونسيته؟ أم يا ترى قرأته ولم تنسه ولكنها أرادت أن تُوقِع فى رُوع القراء أن الحجج التى يستند إليها الدكتور مكى فى اتهام زوجها حجج واهنة؟ ذلك أنه كان ينبغى عليها، إن أصرت على أن تكـرر ما كانت قالتـه من قبل، أن توضحلماذا تعود إلى ترديده بعد الردّ عليه.
كذلك ففى هذا الحديث الصحفى تتطرق الأستاذة ملك إلى أن السبب فى الهجوم على زوجها هو أنه لم يعترف بشاعرية على الجارم (الذى يُفْهَم من السياق أنه كانت هناك حلقة عنه فى برنامج "مع النقاد" كان ضيفاها د. الطاهر مکی و د. عبد اللطيف عبد الحليم، اللذين تعرضا، ضمن ما تعرضا له فيها، إلى اتهام د مندور بسرقة "نماذج بشرية"، ففهمت السيدة الفاضلة أن الأستاذين الدكتورين قد هاجما زوجها إرضاءً للدكتور أحمد الجارم، الذى استضافهما للحديث عن أبيه على الجارم فى الحلقة المذكورة.
وبعيد عندى أن يكون هذا هو سبب اتهام الأستاذين المذكورين الدكتور مندور بالسرقة، فقد سبق أن كتب هذان الأستاذان فى هذا الموضوع قبل ذلك، فضلا عن أنهما (فيما يخيَّل إلىّ) أحرص على سمعتهما من أن يقولا ما قالاه عن د. مندور مراعاةً لخاطر أحد من أسرة الجارم. ثم إن القضية مثارة قبل ذلك بأعوام فى مصر والعراق وإسبانيا، فلا داعى من ثم للتمحُّك بهجوم د. مندور على شعر الأستاذ الجارم. وأحسب أن الدكتور الطاهر مكى هو آخر من يستطاع اتهامه بممالأة شاعر تقول الأستاذة ملك إنه كان شاعر الملك فاروق، فالدكتور الطاهر بالذات كان إلى وقت قريب مُحْـتَفىً به أشد الاحتفاء لدن من يسمون أنفسهم بالتقدميين، فكيف بالله يحسب من الرجعين؟
كذلك أكدت السيدة الفاضلة أن الدكتور مندور كان يملى عليها، وهو رائح جاءٍ فى الغرف، "نماذجه البشرية" من ذهنه مباشرة. تريد أن تقول إنه لم يكن يمسك فى يده أثناءها كتاب جان كالفيه، ومن ثم فلا مجال للقول بالسرقة، وهذه، فى الواقع، شهادة كأية شهادة تحتاج إلى فحص ومراجعة لنرى مدى ما فيها من صدق ودقة، وذلك بالرجوع إلى كتابَیّ كالفيه ومندور والمقارنة بينهما، وعندئذ نعرف طبيعة العلاقة بينهما وهل هى مجرد تأثر عادىّ، أم هل هى سرقه حقيقية ويكون قول الأستاذة ملك إنها مجرد تأثر نوعاً من تحلية الـبضاعة كتسمية المرتشى للرشوة "هدية" أو "عمولة" مثلا.
ومن جانبه هو عاد الدكتور الطاهر مكى فكرر أنه كان فى الجزائر منذ عدة سنوات واطلع على كتاب جان كالفيه فوجد أن هناك تطابقا بينه وبين كتاب الدكتور مندور فى الأمثلة والنماذج والأسماء وطريقة اختيار الشواهد، ومعنى ذلك (كما قال) أن مندور قرأ كتاب كالفيه ونقله حرفيا ونسبه إلى نفسه، ثم أضاف أنه بصدد البحث عن كتاب الأستاذ الفرنسى لمقارنته بكتاب الدكتور مندور، وعندئذ سيكون الحكم للنقاد والأدباء. وكان الأستاذ الدكتور قد قال فى كتابه: (الأدب المقارن) إن كتاب كالفيه قد صدر فى ثلاثة أجزاء: اثنان منها يحتويان على نماذج من الأدب الفرنسى، والثالث على نماذج من الآداب الأوربية الأخرى.

والواقع أن هذه القضية قد شغلتنى منذ أن أثيرت: شغلتنى أولاً الشغلان العام الذى يقع لأمثالى من المهتمين بحكم تخصصهم بالحركة الأدبية والنقدية، ثم زاد هذا الشغلان فى السنة الأخيرة بفعل بعض الظروف الخاصة، فطفقت أبحث عن كتاب كالفيه فى كل المظانّ إلى أن وجدته عند أحد الأصدقاء فاستعرته منه ورحت أقلب صفحاته أولا لأعرف النماذج المشتركة بينه وبين كتاب الدكتور مندور فوجدت أنها لا تعدو أن تكون أربعة هى: "جفروش" و "ألسـت" و "جولیان سوريل" و "راستنياك"، على حين أن فى كتاب مـندور ثلاثة عشر نموذجا أوربيا آخر لا وجود لها عند كالفيه، وفى کتاب هذا ثمانية نماذج لا توجد فى كتاب مندور، فعدت أسأل صدیقی صاحب الكتاب عن السر فى هذا فقال إن الكتاب الذى أعارنيه هو جزء من أجزاء، وإنه هو الجزء الوحيد الذى استطاع الحصول عليه من فرنسا بعد جهد طويل مُضْنٍ. لكنى لم أكتف بهذا وهاتفت الدكتور مكى فأكد لى ما سمعته من الصديق المذكور. ولما راجعت كتابه "الأدب المقارن" والمقالات التى نشرت حول هذا الموضوع فى الصحف وجدته يقول الشىء ذاته، فعدت أسأل بعض من أعرف من أساتذة الأدب الفرنسى فى الكلية، بل طلبتُ من أحد تلاميذى السابقين ممن يتعاملون مع الحاسوب أن يجمع لى من الإنترنت كل ما يقدر على جمعه من معلومات عن ذلك الكتاب فلم نظفر بطائل. وكنتُ قد تنبهت إلى أن الجزء الذى معى إنما هو الجزء الثانى من الكتاب، وبرق فى ذهنى أن أبحث عن باقى الأجزاء فى مكتبة الدير الدومينكانى بالعباسية فوجدت الجزأين الخاصين بالأدب الفرنسى (ط 1932م)، وعثرتُ فى أولهما على ثلاثة نماذج أخـرى مـوجـودة أيضا فى كتاب مندور، وهى "فيجارو" و "ترتران الترسکونی" و"بتلان". فهذا هو وضع القضية مبدئيا، وعلى ذلك فسوف تكون المقارنة بين ما قاله كالفيه ومندور فى هذه النـمـاذج السبعة فحسب إلى أن يقع فى يدى كتاب كالفيه الآخر الخاص بالنماذج البشرية فى الآداب الأوربية. وعنوان كتاب كالفيه الذى عثرت عليه هو

ture Française" Les Types Universels dans la Litera"، وهو صادر عن دار Fernard Lanore"" بباريس، أما طبعة "نماذج بشرية" التى فى يدى فهى الطبعـة الرابعـة، وقد صدرت عن "دار نهضة مصر" بالقاهرة دون تاريـخ.
والآن وقد أصبحنا أمام الكتابين وجها لوجه أحسّ أن القراء متعطشون إلى أن يسمعوا النتيجة التى وصلت إليها، وسوف أكون عند توقعهم فأبادرهم بالحكم الذى كونته من خلال المقارنة بين الكتابين على وجه الإجمال لأشفى غليلهم ثم أعود فأفصّل القول فى ذلك.
وهذا هو الحكم الإجمالى:
أولا: العنوانان متشابهان جدا كما هو واضح.
ثانيا: هناك سبعة نماذج مشتركة على الأقل بين الكتابين كما سبق أن وضحنا.
ثالثا: عدد الصفحات التى يشتمل عليها كل فصل فى كتاب كالفيه أكبر من مثيلاتها فى كتاب مندور، وقد تصل إلى الضعف.

رابعا: لاحظت أن الدكتور مندور قد أخذ ما كتبه المؤلف الفرنسى بنصه (فى معظم الأحيان) أو بعد أن لخصه (فى بعض الأحيان فقط).
خامسا: ترك الدكتور مندور ما توسع به الأستاذ الفرنسى حين كان يتبع الشخصية موضع الدراسة فى أعمال الأدباء الآخرين.
سادسا: النصوص المقتبسة عند مندور هى هى بنصها فى الكتاب الفرنسى (فى أغلب الأحيان) أو ملخصة (فى القليل منها)، ولم يحدث أن نقل د. مندور أى اقتباس آخر غير ما فى كتاب کالفیه.
سابعا: لم يضف مندور إلى ما قاله کالفيه سوی بعض سطور هنا أو ههنا، وبخاصة فى بداية الفصل وخاتمته، وهى عبارة عن كلام عام أو تعليق خاطف.
ثامنا: توجد أخطاء غير قليلة فى الترجمة.
تاسعا: من اللافت للنظر أن مندور فى النموذج البشرى المصرى الوحيد قـد أشار إلى أرقام الصفحات التى نقل عنها من رواية "إبراهيم الكاتب"، أما فى النماذج الفرنسية فلا، ولهذا دلاله التى لا تـَخْفَى.
هذا هو الحكمالإجمالى، أما تفصيله فهو ذا. وسنبدأ بنموذج (جفروش)، وهذه هى الملاحظات التى خرجنا بها:
يفتتح الدكتور مندور الفصل الذى خصصه لهذا الصبى بالكلام عن الخَلْق الأدبى ومسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" للمسرحى الإيطالى بيرانديللو مشيرا إلى أن الشخصيات الأدبية تتمتع بالخلود بل تبقى على الزمن أطول مما يبقاه البشر، ثم ينتقل إلى الكلام عن جفروش أحد أبطال رواية "البؤساء" لهيجو وكيف أنه لم يكن يعرف مواضعات الأخلاق التى تعارف عليها الناس، إذ كانت حياته خروجا على هذه المواضعات وسَخَراً بالقوانين، ولم يكن يحس بما نسميه وخزات الضمير.
وفى الفقرة الثانية من الفصل الخاص بذلك النـمـوذج عند كالفيه نجد كلاما عن خَلْق هيجو النموذج جفروش، الذى أصبح شخصية خالدة، والذى تحول اسمه من اسم علم إلى اسم جنس، وهى فكرة سيرددها مندور بعد قليل حين يقول: "هذا هو جفروش كما يعرفه كل الفرنسيين وكل من يتكلم الفرنسية حيث خلدت اللغة هذه الشخصية الأصيلة الجذابة بأن أدخلتها بين مفرداتها کاسم ذات وكصفة، وهم يدعون الرجل "جفروش roche"Cest un gay، كما يصفونه بتلك الروح التى صورنا: "Il a l'espit gayroche" ، وليس بعد ذلك دليل على خلود هذا الأنموذج لبشرى بين ما خَلَقَ الأدب من نماذج". كذلك فإن حديث مندور عن خروج هذا الصبى على مواضعات المجتمع وقوانينه موجود بنصه عند كالفيه وهذه هى عبارته: "يشتهر صبيان باريس... بلا مبالاتهم بقوانين المجتمع وتقاليده وبلغتهم المنحطة... إلخ.

أما بقية الفصل عند مندور فكلها تقريبا اقتباسات من رواية هيجو أو تلخيص لبعض أحداثها التى تبرز فيها بطولة هذا الصبى جفروش، وجميع ذلك موجود فى الدراسة التى وضعها كالفيه لا يكاد مندور يزيد عنها شيئا، وإن كانت عند كالفيه نقول أخرى وتعليقات لم يوردها مندور فى كتابه: فمثلا يقول مندور بعد أن نقل بعض الفقرات التى استشهد بها كالفيه فى وصفه أطفال باريس المشردين: "ولنتتبع جفروش قليلا فى أزقة باريس وهو يبحث عن عشائه"، وهى نفس العبارة التى قالها كالفيه تمهيدا لمرافقته جفروش فى رحلته بحثا عن الطعام، ثم يهمل مندور بعض الأسطر ليصل إلى كلام كالفيه عن الحديقة التى بلغها جفروش فينقله ملخصا مع بعض الأخطاء التى سنشير إليها حالا، أى أنه لا يكتفى بنقل استشهادات كالفيه كما هى بل يأخذ أيضا تلخيصاته وتعليقاته من مثل وصف الأستاذ الفرنسى لجفروش بعد أن سرق محفظة النقود من مونبارناس وألقى بها من فوق سياج الحديقة للأب مابوف بــــ "أنه فنان"، إذ نری مندور يردد نفس الوصف قائلاً إن "مزاجه مزاج فنان"، وكقول كالفيه عن جفروش إنه حين يأتى ما يأتيه من خير لا يتّبع تفكيره بل ينساق وراء وحى غريزته، وهو ما تجده عـد مندور فى قوله إنه "لا يعرف للشر أو للخير معنى ولا يأتى بهما عن حساب أو تقدير، وإنما هى طبيعته تسوقه إلى ما يفعل". ومثل ذلك عبارة مندور التى يقول فيها عن مغامرات جفروش الصغيرة إنها "لا تُظْهِر ما بنفس هذا الطفل الحائر من غنى، وأما اليوم الذى تجلت فيه ثروته الروحية فكان يوم ثورة سنة ١٨٣٢"، فإنها ليست شيئا آخر غير قول كالفيه فى نفس الموضوع: "ولكن كان لا بد له من ظروف استثنائية كى يستطيع غنى شخصيته أن يعبر عن نفسه بكل طاقته"، يقصد ثورة 1832م. كذلك فعندما يقول مندور معلقا على خلوّ البندقية التى وجدها جفروش أثناء الثورة من البارود: "لعل هيجو لم يشأ أن يجعل منه سفاكا للدماء" نجد أن هذه هى نفسها عبارة كالفيه.
والدكتور مندور حين يترجم ما استشهد به كافيه من اقتباسات قد يتصرف فيها فيحذف بعض التفاصيل أو يترجم بعض العبارات ترجمة غير دقيقة تماما أو يقدم فقرة ويؤخر أخرى: فمثلا لم يترجم عبارة هيجو التى تصف طفل باريس بأن "سِنَة تتراوح بين السابعة والثالثة عشرة"، وكذلك وصف الحمّالة بالصُّفْرة (بعد ذلك بثلاثة أسطر). كما أنه فقز، بعد الفقرة الأولى من الصفحة الثالثة والعشرين، فوق فقرة كاملة فى الأصل الفرنسى (وهى الفقرة فى ص 162)، وهذه أمثلة للتوضيح لا أكثر. أما الأخطاء فمنها ترجمته لكلمة "un bambin" بـــــ "الشحاذين"، على حين أنها تعنى "الطفل/ الأطفال". ومنها قوله، فى وصف المعركة التى دارت بين العجوز والشاب عند الحديقة، إن الشيخ قد أنهض الفتى "آخذا بتلابيبه كما يفعل قط بفأر"، بينما عند كافيه أنه "قد أمسك بذراعيه فى قبضة واحدة". ومنها هذا الخطأ الشنيع الذى تحول فيه تمثال الفيل الضخم الذى تخيله نابليون إلى تمثال لنابليون نفسه قال مندور إن جفروش قد مهّد للطفلين التائهين عند ساقه مضجعاً ينامان فيه مستعينا فى ذلك بما يسرقه من أخشاب السياج الخاص بحديقة النباتات. أما تصويب ذلك فيستلزم أن ننقل عبارة كالفيه بنصها، وهذه هى: "وهنا أشرقت فى عقل جفروش فكرة عبقرية، إذ كان هناك فى ركن منعزل من ميدان الباستيل تصميم خشبى لنُصُبٍ هائل من بنات خيال نابليون، وهو عبارة عن فيل يرتفع فى الجوّ أربعين قدما ويحمل فوق ظهره برجاً يشبه منزلا من المنازل، وكان يحيط بهذا الوحش سياج متداع. ولم يكن هناك من لا يزال يذكر هذا التمثال أو يلمّ به سوی جفروش، الذى وضع ساکِنَيْه داخل جانبى الحيوان... لقد ثبَّت سلما إلى بطن الفيل حيث أحدث فتحة ووضع الصبيين فى ركن يجدان فيه الحماية من أذى الجرذان بوساطة شبكة من الحديد سرقها من حديقة النباتات".
ويرى القارئ الكريم كم الأخطاء الفادحة التى ارتكبها د. مندور فى فهم هذا النص السهل القصير! وبالمثل يتحول عنده محلّ بيع الأشياء القديمة إلى "مخزن أسلحة".
وإذا كان مندور قد وقف فى فصله الذى نحن بصدده عند جفروش "البؤساء" فقد مضى كالفيه فى الصفحتين الأخيرتين منفصله عن (جفروش) (ص ۱۷۰۱۷۲) يتتبعه فى أعمال بعض من أتوا بعد هيجو من الكتّاب الفرنسيين وتناولوه فى صور أخرى.
مما تقدم يتضح لنا أن مندور، فيما كتبه عن نموذج جفروش، لم يكد يأتى بشىء من عنده، إنما هو ناقل، وفى بعض الأحيان ملخّص، لما قاله كالفيه. ويضاف إلى ذلك أن فهمه لما ترجمه أو لخَّصه لم يكن دائما بالفهم السليم أو الدقيق.

فإذا انتقلنا إلى نموذج "فيجارو" فسوف نجد منـدور فى أول الفقرة الثانية من ص ٢٨ يقرر أن هذا الشخص هو أحد من مهدوا للثورة الفرنسية، وهو ما نـجده عند كالفيه، الذى يقول إننا نراه دائماً فى نهاية الـــــ folle journee"" ينظم الثورة التى توشك أن تبدأ، إذ لا ريب فى أن "زواج فيجارو" ،هو أول أحداث تلك الثورة.
وعند مندور نقرأ آن سخرية فيجارو "هى انتقام مرّ من نظام بلغ من فـساده أن كان الشعب يسعى إلى هدمه دون أن يفكر فيما يريد أن يقيم على أنقاضه من نظام"، وهو ما لا يبعد عن قول كالفيه عن مؤلف فيجاور من أنه: "كان هو أيضاً رجلا من رجال تلك الفترة العجيبة التى كان يشعر فيها الناس بأن ثمة مجتمعا تفكك دون أن يفكروا فى النظام الذى سيحل محله عندما يتحول إلى أنقاض".
وفى المقارنة بين فيجارو وجيل بلاس (بطل إحدى روايات الكاتب الفرنسى لوساج) يقول د. مندور: "لو أن فيجارو أراد لوصل إلى ما وصل إليه جيل بلاس من قبل، ولكنه أبىّ النفس يرفض أن يميل مع الرياح ليمر على عنفه رجال جاءتهم الأقدار على غير فضل فيهم أو رَفَعَهم حمقى البشر فوق ما كان يجب أن يبقيهم اتضاع نفوسهم". ونتساءل عن السّر الذى جعل مندور يفكر فى مقارنة فيجارو بجيل بلاس بالذات، بيد أن السر سرعان ما ينكشف عندما نجد أن كالفيه قد قارن من قبل بين هاتين الشخصيتين وقال نفس الكلام. فلننصت إذن: "إن فيجارو هو أخو جيل بلاس. ولقد دخل الاثنان كلاهما إلى الحياة والمجتمع دون مقومات الوجود ولاحظا مسيرته وكانا شاهدين على الشرّ والغباء الإنسانيين اللذين استغلاهما لكى يعيشا وحكما عليهما دون رأفة. ولكن بعد مرور الوقت استطاع جيل بلاس أن يتكيف واضعا بذلك يده على سرّ الوصول. وها هو ذا بعد وصوله يصبح أكثر تسامحا... أما فيجارو الذى بدأ من مستوى اجتماعى أحطّ، فإنه لم يصل إلى ذات المرتبة التى بلغها بلاس، إلا أنه کال يـخفی تحت بدلة الخادم شخصية أقوى واستغلالاً أكبر. وقد استفاد هو أيضا من عيوب النظام الاجتماعى، لكنه كان ينتقدها بوقاحة، كما وضع نفسه فى نفس مستوى كبار القـوم بوساطة السخرية، ذلك السلاح الذى يفوق فى تحقيق المساواة بين الناس كل ما يتخيلون. وبالمناسبة فإن د. مندور قد كرّر فى الفصل الذى نحن بصدده كلمة (الوقاحة) عدة مرات، وهو ذاته ما فعله كالفيه قبله فى الفصل المناظر. على أن ثمة شيئا مُهِماً نـجده عند كالفيه ولم يتعرض له مندور، ألا وهو السبب فى هذا الاختلاف بين الشخصيتين، إذ يعلّله كالفيه باختلاف الفترة التى عاش فيها كل منهما والروح التى كانت سائدة فيها.
ويتحدث مندور عن أصل فيجارو وكيف التقى به بومارشيه والكتب التى ألفها عنه فنجده ذات الحديث الذى تحدَّثه كالفيه. يقول مندور: "وُلِد فيجارو ابنا طبيعيا لطبيب وخادمته وتخلى عـه آباؤه وسط أمواج الحياة فزاول الطفل كل المهن احتيالا على الحياة الغشوم، وبخاصة مهنة الحلاقة وبلغ من نجاحه فى تلك المهنة أن أصبح كل حلاقى الأرض يحملون اليوم ذلك الاسم. ولقيه المؤلف بومارشيه وقد سئم مهنته، ومنذ ذلك اليوم أحبه فصاحب خطاه فى الحياة، وقص عليه نبأه فى روايات مسرحية ثلاث: "حلاق إشبيلية" و "زواج فيجارو" و "الأم الجانية". وقد مُثّلت الروايات الثلاث تباعاً فی سنی 1775 و ۱٧٨٤ و ۱۷۹۰. ومرت السنون وفيجارو يجالد الحياة وهو هو ذلك المرح الصاخب الذى يلتمس فى كل ألم جانبه المضحك. وانصرمت الأيام، وكل ما فيها من ألم لا يستطيع أن يخلّف فى نفسه غير ابتسامة هادئة، وأما الغد فما كان يُعْنَى بأمره. وما له سلاح غير تلك السخرية يرسلها سهاما لمن يـَمَسّه بسوء فيبلغ ما يريد من خصمه دون أن يترك جراحا ظاهرة".

ويقول كالفيه: "تصوّر المسرحية لنا هذا الفيجارو ابنا طبيعيا لبارتولو الطبيب ومارسيلين الخادمة اللذين تخليا عنه وفقداه فى زحام الحياة حيث امتهن كل المهن، وبخاصة مهنة الحلاقة، التى أحرز فيها من النجاح ما جعل كل حلاق منذ ذلك الحين يسمَّى "فيجارو"،وذلك قبل أن يصبح خادماً لدى الكونت ألمافيفا. وقد رسم له بومارشيه ثلات صور: فى "حلاق إشبيلية"... وفى "زواج فيجارو"... وفى "الأم الجانية"... ويستطيع الإنسان، فى خلال متابعته لهذه المسرحيات حسب الترتيب الذى ظهرت به على خشـة المـسرح ( ١٧٧٥م و ١٧٨٤م و۱۷۹۰م)، أن يدرس التطور الذى أصـاب هذه الشخصية... وفى "زواج فيجارو" يبدو لنا بطلنا فى شخصيته الأساسية... ألا وهى المرح التلقائى، والمهارة فى استخلاص البهجة من كل شىء حتى لو كان فى هذا الشىء إساءة لنا، واللامبالاة التى تبعث على احتقار متاعب الماضى وتمنع من التفكير فيما يدّخره المستقبل من آلام. إنها الروح المبتهجة المندفعة المجنحة التى تنطلق منه كالسهم بمجرد أن يمسه أى إنسان ناشبةً فى جلد محدثه خادشة إياه خدشا صغيرا يكفى لإيقاظه لكنه لا يسبب له أية جراح". ترى هل أتى مندور بشىء لم يقله كالفيه؟ وهل هذا الذى قاله د. مندور هو مما يمكن أن يوصف بأنه أفكار وتعبيرات عامة تستطيع أن تخطر لأى إنسان؟
وحين يقدم لنا د. مندور فيجارو يقدّمه بهذه الكلمات: "ها هو حلاق إشبيلية يقفز إلى المسرح وكأنما يعلو منبرا، وها نحن نراه أول ما يبدو فى أحد شوارع إشبيلية وقد علق فى ظهره قيثارته بشريط عريض من الحرير، وها هو يوهم نفسه أنه قادر على كتابة أغنية يشيد فيها بالخمر والكسل اللذين يقتسمان قلبه، وما هو يعثر مصادفة بالكونت ألمافيفا أحد زبائنه القدماء فيقص عليه ما كان له من أحداث کصبى بصيدلية وكممثل مسرحى فيسأله الكونت لماذا ترك مدريد؟ فيجارو: هو طالعى السعيد يا مولاى... إلخ".
وقد جرى مندور فى هذا على نفس الطريقة التى قدمه إلينا به كالفيه، الذى يقول: "يظهر لنا فيجارو فى أحد شوارع إشبيلية وعلى ظهره جيتار مربوط بشريط عريض. وها هو ذا يغنى فى مرح وفى يده ورق وقلم، وقد أخذ يحاول إثارة قريحته ويتسلى بنظم أغنية عن الخمر والكسل اللذين يقتسمان قلبه. ويعثر مصادفة بالكويت ألمافيفا، الذى كان يعرفه من قبل فى مدريد فيقص عليه تاريخ حياته الملىء بالمغامرات أو الحوادث المزعجة التى كان هو أول الضاحكين منها. لقد ذاق الكثير من مرارات الحياة صبيا فى صيدلية، ومؤلفا دراميا يسخر منه الجمهور، وانتهى أمره بإعلان مبادئه، إذ يجيب الكونت الذى سأله عن السبب الذى حدا به إلى ترك مدريد قائلا: إنه طالعى السعيد يا مولاى... إلخ".
ومن الواضح الجلىّ أن مندور لم يضف شيئا من عنده سوى القول بأن الشريط الذى كان مربوطا به الجيتار كان من حرير. أما باقى الكلام فقد أدّاه كما قرأه عند كالفيه بالحرف. حتى السؤال الذى طرحه الكونت على فيجارو عن سبب تركه مدريد أورده د. مندور بصيغة الكلام غير المباشر كما هو فى كتاب كالفيه، إذ لم يقل إن الكونت قد سأله قائلا: "ما الذى حملك على ترك مدريد؟" بل قال (كما قال الأستـاذ الفرنسى): "يسأله الكونت لماذا ترك مدريد؟". وإن جاءت ترجمته لجملة
et s'encourageant lui-même à avoir de l'esprit, il s'amuse à faire une " chanson sur le vin et la paresse غير دقيقة، إذ جعلها هكذا: "وها هو يوهم نفسه أنه قادر على كتابة أغنية"، على حين أنها أقرب ما تكون إلى ما جاء فى ترجمتى.
ويصف د. مندور سرعه حركات فيجارو وخفتها وما تنطوى عليه تصرفاته من مفاجأة غير متوقعة قائلا إنه "كنسمات الريح تحس بها ولكن لا تستطيع لها لمسا. وإنه لأهون على من يريد أن يمـسك بنغمة من قيثارة فيجارو من أن يمسك بالرجل. وما لشخصه من وجود مُـحَسّ أكثر مما لأغانيه التى تشيع فى الفضاء. تراه فى المنزل وما تدرى من أين دخل. تغلق الباب فيأتيك من النافذة. تحسبه بالداخل بينما هو فى الخارج. أليس هو فيجارو مضرب المثل فى الخفة والمهارة؟ أليس هو فيجارو الذى يعرف كيف يستفيد لا من أغلاطه فحسب بل ومن أغلاط الآخرين؟"، لكننا حين نعود إلى كالفيه نجد أن كاتبنا المصرى لم يفعل شيئا أكثر من أنه فتح كتاب المؤلف الفرنسى ونقل ما فيه مع شىء من الاضطراب فى نسخ بعض العبارات. يقول كالفيه: "ها هو ذا فيجارو، كما سيكون طوال حياته، يتوقد نشاطا ويقفز ولا يعرف السكون، حتى إنه لأسهل على الإنسان أن يمسك وهو عابر بنغمة من قيثارته. وليس له من الوجود أكثر مما للأغانى التى يدندنها. إنه يدخل ويـخرج دون أن يعرف الإنسان كيف. وعندما تكون الأبواب مغلقة فإنه يتسلق من خلال النافذة. وهو يكون بالداخل بينما يعتقد الناس أنه بالخارج. وله من المرونة والنشاط ما يمكّنه من الاستفادة من أخطائه مثل استفادته من أخطاء الآخرين". صحيح أن د. مندور يصف "الأغانى" بأنها الأغانى "التى تشيع فى الفضاء"، على حين أنها فى الأصل الفرنسى "الأغانى التى يدندنها فيجارو"، وصحيح أيضاً أن مندور يـقـول: "تراه فى المنزل فلا تدرى من أين دخل، بينما فى النص الفرنسى: "إنه يدخل ويخرج دون أن يعرف الإنسان كيف"، بيد أن هذا أمر غير ذى بال. أما الذى أريد لفت النظر إلى ما أصابه الاضطراب من كلام منـدور فهو قوله: "تحسبه بالداخل بينما هو فى الخارج"، الذى عكس الوضع، إذ إن الأصل الفرنسى يقول ما معناه أن فيجارو يكون بالداخل على حين يظن الناس أنه بالخارج. ومثلُ ذلك الجملة الأخيرة فى النصين: فاستفادة فيجارو من أخطاء الآخرين هى الأصل فى النص الفرنسى، ثم قيست عليها استفادته من أخطائه هو، أما عند مندور فالعكس.
وتبقى الاسشهادات التى يوردها د. مندور، وهى فى الواقع لا تخرج عما نقله كالفيه فى كتابه من المسرحية المذكورة. وقد سبق أن سقنا أحد هذه الاقتباسات؛ الاقتباس الذى يبدأ بقول فيجارو: "هو طالعى السعيد يا مولاى". وهناك نص آخر من أربعة أسطر فى أول ص ٢٩ من النشر العربى عبارة عن حوار بين الكونت وفيجارو، وهو موجود عند كالفيه فى منتصف ص ۱۸۹، ويشمل أربعة أسطر أيضاً. أما النص الثالث الموجود فى أوائل ص ۳۲ عند د.مندور، وأوله قـول الكونت: "لماذا يلوح على كل ما تفعل شىء من الالتواء؟"، يستطيع القارئ أن يعثر عليه بدءاً من الفقرة الثالثة من ص ١٩٠ فى الجزء الثانى من الكتاب الفرنسى. ويبقى الاستشهاد الرابع والأخير فى كتاب مندور، وهو يبدأ مع بداية الصفحة الثالثة والثلاثين، التى يكاد أن يستغرقها كلها، وهذا الاستشهاد موجود فى ص ١٩۱ من الجزء الثانى من النص الفرنسى، وإن كان هناك أطول منه عند مندور، لأنه لم ينقله من كالفيه كاملا بل أسقط كثيرا من عباراته.
هذا ما أخذه مندور من كالفيـه فـى الفصـل الخاص بنموذج (فيجارو)، وهو يكاد أن يكون كل شىء ذى قيمة فى هذا الفصل، أما الباقى فلا يقدم أو يؤخر، أو على الأقل لا يقدم ولا يؤخر كثيرا، فما هو فى الواقع سوى بعض الجمل المنشورة هنا وهناك مما لا دخل له فى صلب الموضوع أو أفكاره الرئيسية.
أما بالنسبة لنموذج "ألْسِـسْت" فالسطران الأولان اللذان يبدأ بهما مندور الفصل الخاص به هما هما ما جاء فى الفقرة الأولى الصغيرة عند كالفيه: فمندور يقـول: "ألْسِسْت بطل كوميديا لموليير اسمهـا "عدو البشر"، ولكن هذا العنوان لا يستنفد كل ما اجتمع لتلك الشخصية من صفات"، وهو نفسه ما يقوله كالفيه موسَّعا بعض الشىء، وهـذا هو نص كلامه: "لقد جعل موليير عبارة "عدو البشر" عنوانا للمسرحية التى يملؤها ألسست بحضوره وكلامه المتهيّج، إلا أن هذه التسمية لا تستغرق كل شخصيته التى تشبه الحياة فى تعقيدها وامتلائها بالتقابلات والتناقضات". وكما يرى القارئ لم يأت الدكتور مندور بشىء هنا سوى أنه لخص فكرة كالفيه. ثم يلى ذلك عنده السؤال التالى: أيهما أفضل: "أن نحيا حياة ألسست موطّدين العزم على ألا نقول إلا ما نؤمن به بل وأن نقول كل ما نؤمن به ولو كان فى ذلك شقاؤنا وأصبحنا به موضع سخرية الناس أجمعين أم نصانع الناس ونداريهم وننزل على مواضعاتهم الاجتماعية مهما يكن خلقها من مَلَق ونفاق كما فعل فيلانت صديق ألسست فى نفس المسرحية؟"، وهو موجود بالمعنى عند كالفيه فى الفقرة الثانية من ص۲۳ ولكن موسعاً أيضا، وهذا هو نص كلامه: "ألسست رجل نبيل دخل إلى الحياة بضمير نقى سليم ثابت على مبادئه. وقد أخذ العهد على نفسه ألا يقول الكذب فى أية صورة من صوره مهما يكن الأمر بل ينطق بالحق فى جميع الأحوال. لقد رأى أن الكذب أصبح فاشيا وأن هَتْك أقنعته هو عمل لا يصل الإنسان منه إلى نهاية. وكذلك لاحظ أن قول الصدق هو، فى نظر قطاع كبير من الخلق، بمثابة تعريض النفس للاغتيال. ورغم أنه كان لا يزال شابا صغيرا فقد كان عنده الوقت الكافى للمعاناة من موقفه هذا. بيد أنه، لصلابة طبعه، ظل متمسكا بقوةٍ بمبادئه التى كانت سببا فى هذه المعاناة". وبعد قليل سوف نرى منـدور ينقل هذا الكلام بنصه، وذلك بدءا من السطر الثانى من الفقرة الثالثة فى ص ۸۷ حين يقول: "دلف إلى الوجود بضمير نقى صلب، وقد وطد النفس على مطاردة الكذب أنىكان، وعلى الجهر بالحق فى كل مجال. ولم يغب عنه أن الكذب ملء الآفاق وأن مهاجمته تتطلب جهدا لا ينقضى. ولقد حُدِّث عما فى قول كل الحق من خطورة على قائله وعلى الغير، ولكن قوة ضميره تأبى أن تلين"، وكما ترى فالكلام واحد، وإن كانت ترجمة مندور أكثر حرية (أو قل: أقل دقة) فى الجمل الأخيرة.

ثم يمضى مندور فيتحدث عن وقوع ألسِسْت فى غرام سيميلين اللعوب المتصنعة الكلمات والإشارات والأصباغ والتى هى بمثابة أكذوبة تتحرك، وعن سخطه على نفسه لوقوعه فى مثل هذا الحب الذى هو خيانة لمبادئه. وهو نفسه ما يقوله كالفيه فى الفقرة الرابعة من ص ۲۳ بقضه وقضيضه.
بعد هذا يبدأ كالفيه فى تلخيص أحداث المسرحية، ويمشى مندور فى أثره خطوة خطوه مرددا ما يقوله وبنفس الطريقة، إلى أن يصل الأمر إلى استشهاد بنصّ من المسرحية فيستشهد به هو أيضا ناقلاً التعليقات التى يَزُجّها كالفيه بين الحين والحين كما هى. كل ما هنالك أن كالفيه يتوسع فى القول دائما ومندور يقتصد فيه أحيانا، كما أن كالفيه يتطرق إلى أعمال أدبية أخرى تدور حول شخصية مثل شخصية ألسست، وهو ما لا يفعله مندور.
وعلى الناحية الأخرى نـجد عند مندور فى ص ٨٤ ٨٥ مثلا فقرة طويلة بعض الطول تليها فقرة قصيرة لا يقابلهما شىء فى كتاب كالفيه، وهما الفقرتان اللتان تبدأ أولاهما بالجملة التالية: "ولو أننا سألنا موليير نفسه جوابا للزم الصمت قائلا: دونكم وقائعَ الرواية... إلخ". والحق أنى لا أدرى كيف يلزم مـولـيـيـر الـصـمت وفى نفس الوقت ينطلق مجيبا عن سؤالنا فى ما يزيد عن عشرين سطرا، وعلى كل حال فما قاله الدكتور مندور فى هاتين الفقرتين هو كلام عام لا يخرج فى فحواه غالبا عما جاء فى تحليل كالفيه لشخصية ألسست.

ونصل إلى ما كتبه مندور عن نمودج راستنياك، وهذه هى ملاحظاتى بشأن المقارنة بين ما قاله وما وجدته عند كالفيه:
۱- حذف مندور الإشارة إلى سوريل الموجودة فى النص الفرنسى وكذلك المقارنات التى عقدها كالفيه بين شخصيته وشخصية راستنياك.
٢- بعد أن انتهى مندور من نقل النص الفرنسى الذى اقتبسـه كالفيه من رواية:
""Le Pere Goriot لبلزاك مضى فنقل كلام كالفيه فى التعقيب على هذا النصّ كأنه كلامه هو.
3 ـ وهو نفس ما فعله مع التعليق الذى كتبه كالفيه على نص آخر لبلزاك.
4 - ومثلُ ذلك الكلامُ الذى يبدأ من منتصف الفقرة الثانية من ص 105 فى كتاب كالفيه، إذ نجده بمعناه فى الفقرة الثانية من ص ١٥٤ وما يليها من فقرات حتى منتصف الفقرة الثانية فى الصفحة التى تلى ذلك من كتاب مندور، الذى اكتفى هنا بتلخيص كلام الأستاذ الفرنسى دون أن يضيف إليه شيئا.
5- كذلك فالنص المقتبس من رواية بلزاك فى الفقرة الأخيرة من ص ١٠٥ فى الأصل الفرنسى موجود بعينه فى "نماذج بشرية" بدءا من منتصف الفقرة الثانية من ص 155 دون أن يزيد فيه مندور أو ينقص منه شيئا.
6- ثم إن الفقرة الثانية من ص 154 فى كتاب مندور مأخوذة بنصها تقريبا من الفقرة الثانية فى ص 107 من كتاب كالفيه.
7 - وهناك نص مقتبس آخر من رواية بلزاك فى كتاب كالفيه (أسفل ص ۱۰۷) نقله مندور كما هو (أسفل ص ١٥٤ عنده)، وهو يتمثل فى الخطابين المتبادلين بين راستنياك ومدام دى نوسنجان.
٨ - كما يردد مندور أيضا فى أوائل الفقرة الثانية فى ص 155من (نماذج بشرية) حديث كالفيـه عن شخصية راستنياك ورغباته وإقدامه.
9 ـ وأخيرا وليس آخرا فإن السطور الثلاثة التى تنتهى بها الفقرة الأولى فى ص ١٤٣ من كتاب مندور موجودة بنصها فى الأصل الفرنسى فى الفقرة الثانية من ص۱۰۹.
أما "ترتران الترسكونى" (بطل ثلاث من قصص الكاتب الفرنسى الشهير الفونس دوديه) فليس الفصل الذى خصصه له د. مندور فى مجمله إلا خلاصة الفصل المناظر له فى كتاب كالفيه مع الاحتفاظ بعدد غير قليل من عبارات الأستاذ الفرنسى بنصها. أما الاقتباسات التى أوردها كالفيـه فلـم ينقل منها مندور شيئا بنصه فى کتابه مكتفياً بتلخيص ما جاء فيها عند الحاجة إليه. والملاحظ أن الفصول الأخيرة فى كتاب مندور أصغر من فصوله الأولى. ويبدو أنه كان قد ملّ النقل الحرفى لفقرات كالفيه واقتباساته فآثر النقل المختصر لأفكار الرجل، وإن كانت عادة السطو على عبارات كالفيه لم تفارقه تماماً، ولنعط بعض الأمثلة على ما نقول:
ففی ص ٢١٦ من كتاب د مندور نسمعه يتحدث عن شهرة اسم ترتران بين مثقفى العالم منذ أن خلق شخصيته ألفونس دوديه مصورا من خلالها جانباً من أخلاق البروفنسيين فى جنوب فرنسا، وهو جانب الثرثرة والزهو وادعاء البطولة الفارغة، وكيف أنه بذلك قد اغضب هؤلاء القوم الذين أكد لهم معتذرا أن هذا لا ينفى ما يتمتعون به من خصائص روحية وشعرية.
وهذا الكلام هو هو نفسه قد قاله كالفيه فى الصفحتين ۲۳۷ - ۲۳۸ من الجزء الأول من كتابه، وليرجع القارئ إلى الكتابين ليقارن بنفسه بين الكلام هنا وهناك، ولسوف يجد مصداق ما نقول، ولقد حافظ مندور على بعض عبارات كالفيه بنصها، مثل قوله: "لا نظن أن اسم ترتران مجهول من أبعد المثقفين... منذ أن... خلق منه (ألفونس دوديه) أنموذجا حيا لذلك النوع من الناس الذين لا يعرفون غير الثرثرة والزهو وادعاء البطولة... والحق أن ترتران لقهقهة فى فم الزمن، وقصته إن هى إلا قصة فشّار يعتقد أنه من قتلة الأسود فيبحر ذات صباح إلى الجزائر بشمال إفريقيا ليصطاد عددا منها ثم يعود فخورا مزهوا، مع أنه لا يحمل غير جلد أسد واحد أعمى أصيب بكساح من النقرس ومات فى إحدى الحظائر... إلخ". فهنا الكلام يكاد يكون مأخوذا بنصه و فصّه من كالفيه، مع إضافة كلمة (بشمال إفريقيا) بعد كلمة (الجزائر) (وهى غير موجود فى النص الفرنسى) وتغيير كلمة "منتصرا: triumphant" إلى فخورا مزهوا"، والخطإ فى ترجمة ""un lion de ménagerie, aveugle et rheumatisant التى تحولت فى لسان الضاد إلى "أسد أعمى أصيب بكساح من النقرس ومـات بإحدى الحظائر"، على حين أن معناها "أسد من أسود السيرك أعمى مصاب بالروماتيزم". وهكذا استحال السيرك عند د. مندور فأصبح حظيرة، كما أن تشخيصه لآلام الأسد المسكين يختلف عما قرره دوديه، إذ نسبها إلى النقرس رغم تشخيص المؤلف الفرنسى لها بأنها روماتيزم. وبالمناسبة فقد وقع د. مندور فى غلطة نحوية مضحكة، وذلك فى قوله: "تلكما الشخصيتين، وصوابها "تَيْنِك الشخصيتين". ووجه الخطإ فى هـذا هـو أنه ثّنى حرف الخطاب "ــــكُمَا" وأبقى على اسم الإشارة مفردا، بينما الصواب هو العكس.
كذلك ففى وصف كالفيه لتسلق ترتران وصديقه الجبل مربوطين فى حبل واحد نـجد هذه العبارة Chacun eroit que l'autre est en train de rouler aux abîmes Alors, geste sublime, tous les deux, en même temps. avec la même spontanéité, ils coupent la corde er tombent, l'un en France, l'autre en Italie" ،ومعناها: "ظن كل منهما أن الآخر يـهـوى الآن من حالق. وعندئذ، وفى بادرة عظيمة، قام الاثنان فى نفس الوقت، وبتلقائية واحدة، بقطع الحبل فسقطا: أحدهما فى فرنسا والآخر فى إيطاليا"، لكننا نقرؤها عند مندور على النحو التالى: "أخذ كل منها يحدث نفسه بقطع الحبل لينجو بحياته حتى انتهى بهما الأمر إلى قطعه فى وقت واحد، وإذا بأحدهما يتدحرج فى أرض فرنسا والآخر فى أرض إيطاليا"، وذلك رغم أنه لا يوجد فى النص الفرنسى أن أيا منهما قد حدثته نفسه بقطع الحبل لينجو بحياته.
وعندما يشبه كالفيه الأميرة ليكيريکی (بنت نيجونكو ملك سكان جزيرة البولونيزياوان المتوحشين) بإحدى إناث القردة التى تسكن أعالى الأشجار، يظن د. مندور أن الأميرة هى أيضاً تسكن أعالى الأشجار مثل هذه القردة. وهذان هما النصان: الفرنسى والعربى، أسوقهما كما هما بين يديى القارئ:
"Il épouse la fille du roi sauvage. la princesse Likiriki. une sorte de guenon malpropre qui habite plus particulièrement au sommet des arbres" )
"وتزوح من بنت الملك المتوحش الشديدة الشبه بالقردة حتى فى اتخاذها أغصان الأشجار مأوى لها".
وبعد "ترتران الترسكونى" يأتى نموذج (جولیان سوریل)، الذى أخذ مندور ما كتبه عنه كالفيه من أن أحداث حياته هى نفسها أحداث حياة ستندال مؤلف الرواية الذى يمثل دور البطولة فيها بما فى ذلك فقدان عطف الأم والشقاء بقسوة الأب، وأنه فى الواقع رمز لأحلام ستندال، إذ حقق فيه ما عجز هو عن تحقيقه فى حياته، وأن ستندال كان ممن يدينون بمبدإ القوة الذى تنم عنه كل رواياته.
كذلك فإن النصوص التى استشهد بها مندور والوقائع التى لخصها من حياة سوريل لا تخرج فى شىء تقريبا عما فى كتاب كالفيه، وإن كان الكاتب الفرنسى قد توسع كالعادة أكثر مما فعل مندور. وبالمثل نجد عند مندور، كما عند كالفيه، كلاما عن الثورة الفرنسية ونابليون. إلا أن فى كتاب مندور ثلاث فقرات لا يوجد نظير مباشر لها فى كتاب الأستاذ الفرنسى، وهى الفقرتان الأُولَيان فى هذا الفصل والفقرة الأخيرة منه. وفى الفقرتين الأُولَيَيْن يتحدث مندور عن النفوس الممتازة الموهوبة التى تجد نفسها محرومة مما ينبغى لها من حقوق بسبب الوصولية والمحسوبية وما إليهما من ألوان الفساد السياسى والاجتماعى، أما فى الفقرة الأخيرة فيحاول أن يجيب على السؤال التالى: "بم تحكم على جولیان؟". وفى الجواب عنه نراه يؤكد أنه لم يكن خسـيـسا ولا شريرا بالفطرة بل كان حييا متواضعا، بيد أن الجماعة التى عاش بينها قد احتقرته فانتقم منها، إلا أن وسائل هذا الانتقام مما لا تطمئن إليه النفوس، وبالذات حين أصابت من كانوا يعطفون عليه.

وهكذا فإن أخْذَ مندور من كالفيه فى هذا الفصل ليس بنفس القوة التى نجدها فى الفصول الثلاثة السابقة.
وفى الفصل المخصص لنموذج (بتلان) (الذى أوثر أن يكتب بـــــ "الطلاء" لا بــــ "التـاء" ليوحى بالبُطْلان الذى يسـود أفكـاره وتصرفاته) لا نكاد نجد شيئا يستقل به مندور عن جان كالفيه، إذ قد تتبعت كل الفقرات التى تشكّل هذا الفصل فوجدتها كلها تقريبا منقولة عن الأستاذ الفرنسى، اللهم إلا فقرتين أو ثلاثا هى أشبه ما يكون بتلخيص ما قاله كالفيه فى عبارات عامة، ولنبدأ من البداية:

ففى الفقرة الأولى من ص 135 يخبرنا د مندور بتاريخ ظهور المسرحية الهزلية التى بطلها "المسيو بطلان" وتاريخ نشرها، والاختلاف حول مؤلفها من هو: أهو فـرانـــسوا فـيـون أم جيوم دى لوريس أم أنتوان دى لاسال؟ وهذا كله مأخوذ من كالفيه دون أدنى إضافة، إلا أنه عند مندور أوجز قليلاً مما فى الأصل الفرنسى. ثم إننا، فى الفقرة الثالثة من نفس الصفحة عند مندور، نجده يقول إنه قد بلغ من نجاح الأستاذ بتلان أن أصبح اسمه من مفردات اللغة الفرنسية، فيوصف الرجل بــــ (أنه بتلان: C'est un Pathelin" أى ماكر. ومن الاسم اشتُقَّ فعلٌ كما اشتُقّ مصدر، فيقال: "patheliner: يُبَتْلِن"، و "pathelinage: بَتْلَنَة" بمعنى "يـَمْكُر" و "مَكْر". وهذا بنصه موجـود عند كالفيه، الذى يقول ما ترجمته: "إن اسم بطلان بمثل نمطا معينا من الحياة والتفكير والتصرف تمثيلاً بلغ من دقته أن تحول هذا العَلَم إلى اسم جنس فقيل: "إن فلانا بطلان: Cest un Pathelin". ولقد أخَذَت الكلمةُ تدل على بعض الشيات الخاصة لدرجة أنها أصبحت مصدراً لبعض الكلمات الموحية مثل: "patheliner: يُبَطْلِن" و pathelinage": بَطْلَنَة"[].
ومنذ الصفحة الثانية من الفصل الذى كتبه مندور حول هذا النموذج نراه يلخص أحداث المسرحية ناقلاً بين الحين والحين بعضا من الحوار الذى يدور بين أبطالها ومعلَّقاً ببعض العبارات التى توضح تصرف هذه الشخصية أو تفسِّر كلام تلك. وهو نفسه ما نجده فى كتاب كالفيه، وإن كان كالفيه كالعادة أكثر تفصيلا. وإلى القارىء بعض الأمثلة على صدق ما نقول:
فمثلا الكلام الموجود فى الفقرة الثالثة من ص ١٣٦ عند مندور هو نفسه موجود فى الفقرة الثانية من ص 36 من الجزء الأول عند كالفيه بما فيه النص المقتبس من المسرحية وتعليقات المؤلف الفرنسى. ومن ذلك قول مندور عن بطلان إنه "انطلق إلى السوق يتحسس فرائسه"، فهو تعريب لعبارة كالفية التالية:
"Et voila Pathelin qui part pour la foire, le nez en l'air pour flairer de loin des dupes". ومثل ذلك قول مندور عن بطل المسرحية أنه فنان فى المكر، إذ يقول كالفيه هو أيضاً: Pathclin est un artiste".
وبعد أن يذهب مسيو بطلان إلى السوق ليوقع بأحد المغفلين يقول د. مندور: "وسبيل بتلان إلى ما يريد هو ما ذكرتُ من فن المكر. عليه أن يختلس ثقة السيد جيـوم"، وهو مأخوذ من قول كالفيه: "lui faut d'abord inspirer confiance". وبعد ذلك نجـد هنا وهناك نفس الاقتباس دون زيادة أو نقصان سوى أن مندر يختمه بكلمة "... إلخ" التى لا وجود لها عنـد كـالفيـه، وكأنه يريد إيهامنا بأنه ينقل من المسرحية ذاتها. ثم نقرأ عقب هذا نفس الكلام عند مندور وعند كالفيه، ذلك الكلام الذى ينتهى بهذه العبارة فى النص العربى: (وكان هذا أول نصر أحرزه الأستاذ"، وبتلك فى النص الفرنسى: -C'est une premiere vic toire".
وعند انتهاء قصة بطلال بنجاحه فى خديعة جِيّوم تاجر القماش يعلق مندور قائلاً: "بهذه الخاتمة كان من الممكن أن تنتهى القصة...، ولكن القصة فيما يظهر كانت شعبية الأصل، والشعب يعلم أن المكر السىء لا يحيق إلا بأهله...، وإذن فلا بد للقصة من خاتمة أخرى ينال فيها بتلان جزاءه، ومن ثم تصوَّر المؤلف حادثة أخرى من الممكن أن تكون قصة بذاتها، واتخذ منها خاتمة بتلان وجزاءً لمكره السىء". فإذا راجعنا كالفيه وجدناه يقول: La piece pour " rait finir là et ce serait le triomphe insolent de la fourberic patheline. Mais l'auteur qui n'est pas un amuseur vulgaire veut nous donner d'autres lecons Il a inventé une seconde intrigue savamment mêlée à la première qui nous montrera de nouvelles res sources dans le pathelinage et une conséquence inat tendue de la ruse trop rusée"
ويقـول د. منـدور معقبا على خـداع المتهم للمحامى بطلان: "على هذا النحو يكون المكر قد انتصر مرة أخرى، وبذلك تظل غريزة العدل غير راضية. والشعب حريص على العدل حتى فى مهازل المسرح"، ثم يضيف بعد ذلك بقليل قائلا: "وقد تعلَّم بتلان درسا صفق له الشعب أشد التصفيق، إذ وجد الماكر يـُمْكَر به". وعند كالفيه نقرأ الآتى : "Ainsi sexcerce une sorte de justice " immanente qui venge la morale outragée. Ah ! Certes, la morale reçoit de rudes atteintes dans cette farce, et ce n'est pas Thonnêteté qui l'emporte en dé finitive, mais le trompeur est trompé. le gabeur est gabé, et cela suffit à l'instinct populaire pour donner satisfaction a son vague .dear de justice". ومقارنة سريعة بين النصين تطلعنا على أن مندور لم يأت بشىء من عنده.

ومما يلفت النظر أن مندور لم يخرج فى نماذجه المستقاة من الأدب الفرنسى عما هو موجود عند كالفيه ما عدا نموذج (فيليسيتيه) لفلوبير، إذ لم أجده فى كتاب المؤلف الفرنسى.
والآن وبعد هذا التحليل وتلك المقارنة اللذين أثبتنا بهما أن مندور قد أخذ معظم ما كتبه فى "نماذج بشرية" عن بعض شخصيات الأدب الفرنسى من كالفيه، فإن الإنسان ليتعجب غاية العجب حين يرى مندور يتحدث منذ وقت مبكر فى زهوٍ وأستاذية عن الشخصيات التى (حلّلها) فى كتابه ذاك. ترى ما سر هذه الثقة فى أن أحدا لن يكتشف سرقته؟ هل كان يتصور أنه الوحيد الذى يعرف الفرنسية أو أن من يعرفها لن تضع الأقدار فى يده كتاب جان كالفيه أو أن الذين سيعرفون السرَ لن يفضحوه أو أنه قادر على أن يستخدم سلاح "الهجوم خير وسيلة للدفاع"؟ الحق أنها مسألة ملغزة ومحيرة! لكن مندور مع ذلك لم يكن ولن يكون أول من يسطو ويتباهى بالأصالة، فكلنا بشر. لكن رغم هذا فإن قليلا من الحياء والتواضع مطلوب!

أما إذا أراد بعضٌ أن يلطف هـذا السطـو فـيقـول إنه "تأثُـر" أو "توارُد خواطر" فهو حرّ، لكن هذه التسميات المخفقة لن تطمس معالم الجريمة، فإن مندور قد سطا على كتاب كالفيه فى هذه النماذج السبعة على الأقل إما سطوا صريحاً نقل فيه النصّ كما هو أو بعد أن لخَّصه دون أن يضيف من عنده شيئا يُذْكَر، وإن كان قد قدّم وأخر فى مواضع الفقرات التى أخذها.
ويكتب نعمان عاشور أحدُ تلامذة مندور فى الجامعة وأحدُ حوارييه عن شعور منـدور نحو كـتـاب: (نماذج بشرية) فيقول إنه "كان يعتز به أكثر من اعتزازه بأى عمل آخر من أعماله"، وإنه كـان يعتبره مـن أعظم ما كتب، ومع ذلك كان يسميه: "سقط المتاع". وأعتقد أن مندور كان يتظاهر أمام هذا التلميذ المتفانى فى حب أستاذه وتقديره بالتواضع ليزداد التلميذ به تعلقا وبالكتاب إشادة. والعجيب أن عاشور قد كتب هذا بعد أن نُشِرت مقالات فى بعض المجلات العربية تتهمان مندور بأخذ نماذجه من كافيه، ومع ذلك لا يجد هذا الحوارى أى داع لمناقشة القضية. والسبب هو، فيما أظن الرغبة فى إماتتها بالصمت والتجاهل.
على أن الأمر يزداد إيغالا فى الغرابة عندما يدرس باحثٌ مغربیَّ مندور الناقدَ للحصول على درجة الدكتوراه من جامعة باريس، أى فى بلد كالفيه المسطوّ عليه وتحت إشراف عالم من علماء ذلك البلد كان ينبغى أن تدفعه الغيرة الوطنية، إن لم تكن الرغبة فى التحقيق العلمى، إلى توجيه تلميذه الذى يشرف عليه لدرس هذه المسألة، ومع ذلك فلا التلميـذ (محمد برادة) ولا المشرف (أندريه ميكل) قد شعر بأية رغبة فى مثل ذلك التحقيق العلمى رغم أن باحثا جامعيا قد اتـهم د. مندور مرتين فى مجلتين مختلفتين تصدران فى بلدين عربيين (هما "الرسالة الجديدة" القاهرية، و "الأقلام" البغدادية) وبتاريخين متباعدين مما يجعلها فضيحة مدوّية. فكيف فات هذا كلُّه المستشرقَ الجليل وتلميذَه الأمين؟ ليخبط من كتب فى هذا الموضوع رأسه إذن فى أقرب جدار وليشرب من البحر!. وإن هذا ليذكرنى بالموقف المريب الذى اتخذه مرجليوث من طه حسين عندما اغتصب هذا نظرية ذاك فى إنكار الشعر الجاهلى وشعرائه ونَسَبها لنفسه بعد أن أدخل عليها بعض التحوير الذى لا يمس جوهرها فى شىء. لقد انبرى مرجليوث يدافع عن الدكتور طه ويدعى كذبا أنه قد أخرج بحثه فى نفس الوقت تقريبا الذى نشـر فيـه هو دراسته عن : "أصول الشعر". يريد أن يبرئه بهذا الكلام رغم أن براءة طه حسين لا معنى لها إلا أن تضيع على ذلك المستشرق الريادةُ فى القول بهذه النظرية. وهو زهد غريب ومريب، بيد أن الهدف الأبعد من وراء تلك التبرئة أهم عند مرجليوث وأمثاله من هذه الريادة، ألا وهو إنقاذ أحد دعاة الثقافة الغربية ومدّاحى المستشرقين والمدافعين عن خطاياهم الفكرية فى بلادنا. وكل ما قاله برادة فى "نماذج بشرية" هو أنها "مقاربة إبداعية" وأن مندور "يريد أن يعيننا على سَبْر أغوار النفس البشرية من خلال تصنيفها، على غرار ما حاول الناقد سانت بوف فى اتخاذه النقد الأدبى أساسا للعلم الأخلاقى".
ويشبه هذا الكلام ما كتبه فؤاد قندیل فى كتابه "محمد مندور شیخ النقاد"، إذ وصف هذه النماذج بأنها دراسة "لا تخلو من خَلْق غَذَّتْه موهبة وثقافة واسعة". أما أحمد محمد عطية صاحب العبارات الإنشائية الطنّانة فقد ذكر أن مندور فى كتابه ذاك "قد خلق النقد خلقا إبداعيا وثوريا ودفع برؤاه النضالية الشجاعة بين سطور نقده". وكان أولى بهذين الباحثين أن يحاولا معالجة التهمة المصلتة كالسيف على رأس مندور بدلاً من إدارة أعينهما بعيدا عنها. أما ما كتبته السيدة ملك عبد العزيز فى مقدمة كتاب زوجها الدكتور مندور مدحا للكتاب وثناء مغاليا عليه فيغنينا عن مناقشته ما سبق أن قلناه فى هذا الفصل.
وبالنسبة لحكاية "الخلق" و "الإبداع" هذه فربما كانت السيدة ملَك عبد العزيز هى المسؤولة عنها، فقد وصفت النماذج البشرية التى تحمل اسم زوجها بأنها "خَلْق". وقـد عللت ذلك بما تدّعيها لها من "صياغةٍ مـُحْكَمة أصيلة وأسلوب حار يضمنان لها الخلود كعمل فنى". وهى تستشهد على أسلوب مندور بعبارات مثل وصفه لسيميلين (فى مسرحية موليير) بأنها "أكذوبة اجتماعية تتحرك"، مع أن هذا الكلام هو لكالفيه كما بيّنتُ من قبل، وهذا هو نصه بالفرنسية: "Elle est un mensonge vi "vant, le chef-d'euvre du mensonge sccial . وإذا كانت السيدة ملك تؤكد أن هذا الوصف وحده هو الذى ينطبق تمام الانطباق على امرأة كسيميلين "كان فى حركات وجهها وابتسامات شفتيها وجرس ألفاظها من التكلف والصنعة قدر ما فى ألوان وجهها وأصباغ شعرها"، فإننا من جهتنا نؤكد أيضا بل نقسم بالله العظيم ثلاثا على أن هذا الكلام هو لكالفيه، وأن الدكتور مندور لـم يفعل أكثر من أنه ترجمه ثم نسبه إلى نفسه دون وجه حق. وهذه هى عبارة كالفيه فى أصلهـا الفرنـسى: "Ses mires, ses sourires, ses mots sont factices comme son teint et comme ses cheveux"
هذا عن التهمة الموجهة إلى الدكتور منـدر فيما يخص كتاب "نماذج بشرية"وتمحيصها. وهناك اتهام آخر له بخصوص محاضراته عن إبراهيم المازنى التى نشرها له معهد الدراسات العربية العالية التابع لجامعة الدول العربية سنة ١٩٥٤م، وإن لم يكن اتهاما صريحا للدكتور مندور بالاسم كالاتهـام السـابـق. وصاحبته هى د. نعمات أحمد فؤاد، التى كانت قد حصلت على درجة الماجستير فى الأدب العربى برسالة فى نفس الموضوع نشرتها قبل محاضرات مندور، ثم لما أعادت نشرها بعد الطبعة الأولى بنحو سبع سنين كتبت فى مقدمتها عما سمته بــــ "ما حدث للطبعة الأولى من إغارة ومسخ" مبديةً ألمها "أن يأتى هذا أساتذةٌ لهم تاريخهم ولهم شهرتهم، بل لعلهم استنادا إلى هذا فعلوا ما فعلوا ظانين أنهم فى مأمن من النقد أو ما يلحق فعلتهم من الشَّيْن والتجريح". ثم مضت تقصّ القصة على النحو التالى: "لقد صدر كتابى فى أول يناير سنة ١٩٥٤، فإذا أستاذ معروف يستعيره منى قبل التجليد فى رجاء متعجل. وفرحت يومئذ، إذ السن غضة والأمل ناشئ، أن يطلب إلىّ الشيوخُ كتابى. وما قدّرتُ لسذاجتى أن وراء هذا الطلب كُتيّباً عن المازنى صدر سنة ١٩٥٤ (بالطبع بعد يناير، وإنْ أغفل ذِكْرَ الشهر للتعمية حتى يلتقى مع كتابى فى سنة الصدور) فى صورة محاضرات تأكيدا للأستاذية، فإذا بالكتيّب تأييد غير شاكر أو ذاكر لما جاء فى كتابى عن تاريخ المازنى وحياته وبيئته وثقافته وأطوار أدبه مع اختلافٍ متعمّد فى بعض المواضع لينفى الاتفاق والتطابق. ومن طرائـف هـذا التأييد (ولا أقول: "الاقتباس" تأدبا، فإن الفاعل أستاذ مشهور) أنه يتمسك حتى بالشواهد التى اخترتها من أدب المازنى مع وجود نظائر لها وأشباه فى كتب المازنى لو أن المحاضر قصد إليها أو كلف نفسه جهدا فيها. وهو تأييد لا ينفيه اختلاف وجهات النظر فى موضعين أو بضعة مواضع اختلافا لابد من وجوده قصدا أو طييعة فى مثل هذه الظروف التى تكتنف تعدد الكتابة على موضوع واحد، مع تغيير النظام شيئا وترصيع المحاضرات على مسافات بعيدة بلمحة من الأدب الغربى وذكر أصحابه. وسكتُّ على مضض وكظَمْتُ على مرارة، ولكن الأستاذ غرّه السكوت وأغراه الصمت بالعودة فنشر فى مجلة (المجلة) سنة 1959 مقالين عن المازنى حيّا فيهما الصفحات ٩٦، ۹۷، ١٦٩، ۱۷۱، 174 من كتابى (الطبعة الأولى) تحية كاملة. فشكرا للطبعة الثانية التى أتاحت لى الإفراج عن صمتى. وإن كان قد بقى شىء لم أفصح عنه فذلك متروك لذكـاء القـارئ واطـلاعه، وإنى منهما لعلى يقين".

والأستاذة الدكتورة تقصد، فى إشارتها الأخيرة، أن تقول إنها تركت اسم الساطى لذكاء القارئ بعد أن أعطته المعلومات الكفيلة بإرشاده إليه، فقد ذكرتْ "كتيباً" قالت إنه (محاضرات)، وإنه صدر (سنة ١٩٥٤) دون تحديد الشهر، وإن صاحبه "أستاذ مشهور". ولا يوجد ما تنطبق عليه هذه الأوصاف إلا كتيب الدكتور مندور المسمى (محاضرات عن إبراهيم المازنى)، والذى يقع فى أقل من خمسين صفحة، ويحوى (كما قالت الدكتورة نعمات) بعض اللمحات عن الأدب الغربى وأعلامه مثل فيكتـور هيجـو وجورج ديهامل وأناتول فرانس وما يسميه الرومانسيون الأوربـيـون بـــــ "مرض العصر: mal de siècle" وسرفانتس وقصتـه عـن "دون كيشوت" و "الفرضية المسيحية" التى تقابل عندنا "الفنقلة الأزهرية".
وإن تصفُّحاً سريعا للوريقات المسماة بــــ "محاضرات عن إبراهيم المازنى" وللرسالة الدسمة التى حصلت بها الأستاذة الفاضلة على درجة الماجستير لكاف لإثبات صدق ما قالته: فالأفكار الموجودة بالمحاضرات هى الأفكار الموجودة برسالة الأستاذة الدكتورة، والاستشهادات هى هى إلا فى موضعين اثنين على طول الكتاب، فضلا عن أننا فى الوقت الذى نجد فيه د. نعمات حريصة على توثيق نقولها واستشهاداتها لا نرى الدكتور مندور يهتم بشىء من ذلك. وهذا طبيعى، فقد تعبت السيدة الباحثة وأفنت أيامها وليالها فى البحث عن مصادر رسالتها ومراجعها ومطالعتها ونقل ما تحتاجه منها فى جذاذاتها، أما الدكتور مندور فقد ألفى كل ذلك بين يديه صيدا ثمينا سهلا لا يـُحْوِجه إلى بذل جهد أو إنفاق وقت فلَمْ يشأ أن يضيع وقته الغالى وقام بالإغارة على ثمرة جهد الباحثة حلالا زلالا وأخرجه للقراء موسوماً باسمه حاملاً ملامح أستاذيته المفعمة بالثقة والاطمئنان التامَّيْن، وإن كان قدَّم وأخَّر فيما أغار عليه كما صنع فى "نماذج بشرية".







هل كان محمد مندور ناقدا كبيرا؟ (3-3(

بقلم إبراهيم عوض

تقويم ترجمة مندور لــــ "مدام بوفاری"

رواية "مدام بوفارى" من الروايات الشهيرة جدا فى الأدب العالمى، ومع ذلك فلا بد من المسارعة إلى الاعتراف بأنى لم أنل منها من المتعة ما كنت أقدّر أنى سأناله بعدما رأيت ما يحيطها به النقاد والكُتّاب من هالات المجد والعبقرية. لقد أحست بقدر غير ضئيل من الملل وأنا أقرؤها، وربما كان بعض ذلك راجعا إلى أنى لم أقرأها دفعة واحدة لا فى لغتها الأصلية ولا فى الترجمة العربية التى قام بها د محمد مندور، بل كنت أقرأ الفقرة أو عدة فقرات فى الأصل الفرنسى ثم انتقل إلى النص العربى مقارنا بين الاثنين لأرى مدى دقة الترجمة ونجاحها فى لقْف الإشعاعات والإيحاءات التى لا تكاد تحيط بها العبارة. وفضلا عن ذلك فقد اضطرتنى أشغالى الأخرى إلى أن أترك الرواية عدة مرات مما طال معه الوقت المنصرم بين بداية القراءة والفراغ منها. بيد أن الشعور بالملل يعود أساسا إلى خيبة الأمل التى يصاب بها القارئ حين يجد أن هذه الرواية تكاد أن تخلو من المفاجآت التى يظل طول الوقت يتوقعهـا، بل إن مشاعر بطلة القصة وعاشقها لا يَعْتَوِرها هى نفسها أى تغيير، ومع ذلك فإن هذا كله يزول فى نهاية الرواية حين تنتحر البطلة ويصف فلوبير انتحارها وآلامها ساعة الاحتضار ذلك الوصف العبقرى.

والرواية، كما هو مشهور، تدور حول زوحة طبيب من أطباء الريف والأقاليم تغلب عليها النزعة الخيالية التى لا تستطيع حقائقُ الواقع أن تخفف من غُلَوائها، فكانت فى حالة تهيؤ دائم للوقوع فى حبّ أول شخص يقابلها ويبدى شيئا من الرقة والاهتمام بها حتى لو تكشَّف بعد ذلك عن فظاظة طبع، مما يدل على أنها لم تكن تحسن قراءة الشخصيات، ولا استشفاف الأخلاق، بل كانت هذه النزعة الخيالية التى لم تـَخْلُ من تفاهة وسذاجة تُعْمِى عينيها وتضلّلها حتى انتهت إلى السقوط فى وحل الفضيحة وانتحرت بعد أن تخلى عنها عشيقاها اللذان ضحت بسمعتها ومالِ زوجها وحاجة ابنتها إلى حنان الأمومة من أجلهما.

ونحن نعرف أن فلوبير قد قُدِّم إلى المحاكمة بسبب هذه الرواية التى وصفتها الرقابة آنذاك بأنها تسىء إلى الدين والأخلاق. وقد أحسن د.مندور إذ شفع ترجمة الرواية بترجمة عريضة الاتهام ومرافعة محامى فلوبير، فإن دعوى النائب العام ورد المحالى عليه هما فى الواقع آيتان من آيات النقد الأدبى، وإن كنت أرى أن ردود محامى فلوبير أقوى وأكثر إقناعاً.
وأحب قبل أن أخطو إلى التعليق على الترجمة أن أقف عند بعض آراء النائب العام والمحامى التى تتعلق بالرواية، فقد أكد النائب العام أن اللون العام لصورة مدام بوفارى كما رسمها فلوبير، هو اللون الشهوانى، فهو يقول: "قد استخدم المؤلف كل غايته وسطوة أسلوبه لكى يصور هذه المرأة. ولكن هل حاول أن يظهرها من ناحية الذكاء؟ أبدا. أم من ناحية القلب؟ ولا هذا أيضا. أم من ناحية الروح؟ لا. أم من ناحية الجمال الجسمى؟ بل ولا هذا. أوه! إننى أعلم أن هناك صورة لمدام بوفارى بعد الزنا رائعة البريق، ولكن اللوحة شهوانية قبل كل شىء، والأوضاع شهوانية، وجمال مدام بوفاری جمال استثارة". والحق أن فى ادعاء النائب العام مبالغة شديدة. إننى لا أستطيع أن أنكر أنها كانت تخون زوجها، لكنها كانت فى ذات الوقت حريصة على التستر ما أمكن. وهى لم تكن بالمتهتكة لا فى ملابسها ولا فى حياتها الاجتماعية، بل ولم يكن اهتمامها اهتماما بجنس الرجال عموماً بل فقط بالرجل الذى كانت تحّبه وترنو إلى أن تجد عنده ما تبحث عنه من الحب الخيالى الذى كانت تقرأ عنه فى القصص العاطفية الحارة. لا، بل إنها فى مظهرها العام وتصرفاتها، حتى وهى خالية بعشيقها، كانت توحى بالرقة وتستثير الأحلام، وبالطبع تستثير الشهوة أيضاً، وإن لم تكن الشهوة هى العنصر الذى يحتل المقام الأول فيما يخرج به القارئ عن شخصيتها من انطباع. والغريب أن يرتكز النائب العام على الاعتبارات الدينية متجاهلاً ما فى الكتاب المقدس من قصص وحكايات تفيض عُهْرا وفُحشا کنشید الأناشيد مثلاً أو سَقْى ابنتى لوط عليه السلام أباهما خمرا ونومهما معه وحملهما منه إلخ... إلخ....
كذلك لا يستطيع الواحد منا أن يوافق النائب العام على ما يظنه من أن واجب الروائى هو أن يجعل أبطال رواياته وبطلاتها فضلاء ذوی خلق مستقيم، فإن انحرفوا عادرا فتابوا. والحمد لله أن ليست كل الروايات هكذا، وإلا كان الأمر مملا جدا وقمينا بأن يصرف الناس بعد فترة من الزمن طالت أم قصرت عن هذا الفنّ، لأنهم يدركون فى نهاية المطاف أن هذا تضليــل، إذ الحياة مختلفة عن ذلك، وليس معنى كلامى هذا أننى أدعو الروائيين إلى تمجيد العهر، بل كل ما أريده هو الصدق، مع عدم القصد إلى استثارة الغرائز الجنسية، فإن هذا بابٌ خَطِرٌ وُلُوجُه، والأَوْلَى فى هذه الحالة أن يكتفى الروائى بالإشارة والإيحاء.
وقد ترتب على هذا الفهم التبسيطى بل الساذج أن اعترض هذا النائب العام على قول فلوبير فى موضع ما من روايته، إشارة إلى ما كانت تحس به إمِّا البطلة من اشمئزاز من زوجها وخيبة أمل فى علاقتها بعشيقها: "آه لو أنها فى نضرة جمالها وقبل دنس الزواج وخيبة الأمل فى الزنا كانت قد استطاعت أن ترسى حياتها فوق قلب كبير متين، إذن لاختلطت الفضيلة والعاطفة واللذات والواجب ولما نزلت من هذه السعادة العالية"، قائلاً: "هناك من كان يستطيع أن يقول: خيبة الأمل فى الزواج ودنس الزنا"، وهو اعتراض لا معنى له. لأن فلوبير لم يكن يصف مشاعر النائب العام بل مشاعر إمّا، التى كانت تنظر إلى زوجها والزنا الذى انحدرت إليه هذه النظرة سواء وافقناها نحن أو المؤلف على هذا أو لا، وثانيا: لأن فلوبير لم يَدْعُ إلى الزنا فى روايته، وإلّا لما جعل نهاية بطلته الزانية بهذا الشكل الفظيع من التعاسة والفضيحة والعذاب. ومن ثم فقد جانب النائبَ العامَ الصوابُ تماما فى قرب نهاية عريضة الدعوى فى قوله عن إمّا: "ليس فى الكتاب شخصية واحدة تستطيع أن تدينها، وإذا استطعتم أن تجدوا شخصية واحدة حكيمة أو أن تعثروا على مبدإ واحد يمكن أن يدان به الزنا فأحكموا بأنى مخطئ. وإذن فإذا لم يكن فى الكتاب كله شخصية واحدة يمكن أن تحملها على أن تطأطئ الرأس، وإذا لم تكن هناك فكرة أو سطر يمكن أن يسفِّه به الزنا فإننى أكون على حق، ويكون الكتاب ضد الأخلاق"، إذ ليست العبرة بل ولا من مقتضيات الفن الرفيع أن يدين الروائىُّ على نحو سافر وبصوت مسموع أبطالَه الأشرار. ثم أى خزى أفطع من الخزى الذى جلّل إمّا فى نهاية المطاف حين سمّت نفسها وكُتِب عليها أن تتجرع العذاب غصصاً مروّعة أمام أعين الجميع وتُغَطِّى البقع جـسدها الجميل فتشوهه بل ويتدلى لسانها طويلاً من فمها حتى خافت ابنتها من هذا المنظر وبكت فأبعدوها؟ إن أحداً غيرها وغير عشيقها لم يكن يعرف بخيانتها، وعلى هذا فلم يكن أحد يستطيعأن يجعلها (بتعـبير النائب العام) تحنى رأسها، اللهم إلا تاجر الأقمشة المتجول الذى حَدَس شيئا مما كانت متورطة فيه، والذى أذلها بهذا القليل الذى كان يَحْدِسه.
وقد كانت ملاحظة محامى فلوبير صحيحة حين قال إن الدقة التصويرية والتفصيل الوصفى ليسا مقصورين على المشاهد التى رسم فيها المؤلف لقاء إمّا بعشيقها فى حجرة النوم (وإن كنت، من حيث المبدأ، أرى أنه كان يستطيع أن يحذف الوصف الصريح جدا، وهو قليل، مكتفيا بالإيحاء فى مثل هذا الموقف)، فقد تناول المؤلف، دون أى تحفظ، جميع أحداث حياة إمّا فى طفولتها وفى تربيتها بالدَّيْر، بل تناول بالتفصيل الشديد وصف كل شىء سواء كان يختص بإمّا أو لا، وهو تفصيل يذكّرنا فى بعض جوانبه بأسلوب توماس هاردی. والواقع أن هذا التريث الطويل فى وصف كل شىء هوأحد العوامل التى تجعل القارئ يشعر بالملل، وإن كان لا بد من الإقرار أن عبقرية فلوبير ونظيره الإنجليزى هى التى تجعلنا فى كثير من الأحيان نغمض الطرف عن هذا العيب ونَعْدُوه إلى المحاسن الأخرى. ويمكن القارئ أن يجد مثالاً على هذا التفصيل المرهق فى وصف فلوبير للاحتفال الذى وُزِّعَتْ فيه الجوائز على الفلاحين المهرة، ومثالا ثانيا فى وصفه للكاتدرائية التى تواعدت إمّا وليون على اللقاء عندها. والأمثلة بَعْدُ كثيرة.

كذلك فإن المحامى كان أيضا على حق حين رأى أنه ليس فى الفقرة المحذوفة المتعلقة بسقوط إمّا لأول مرة مع ليون ما يمكن أن يخدش الأخلاق ولو خدشاً بسيطا، ففى هذه الفقرة نشاهد العربة وهى منطلقة من هذا الشارع إلى ذلك الميدان، ومنه إلى الطريق المحاذى للنهر ثم إلى الريف، كل ذلك والحوذى يتصبب عرقا، والجوادان يلهب السوط ظهريهما، وكلّما تراخت العربة صاح به ليون من داخل العربة المسدلة الستائر أن "استمر فى السير" حتى كاد الحوذى يبكى من الإرهاق. والحقيقة أنى كدت، فى غمرة المقارنة بين الأصل والترجمة، أن أفرغ من تلك الفقرة دون أن أنتبه لما يحدث فى داخل العربة إلا حيما بلغتُ العبارة التالية: "وذات مرة فى وسط النهار، وفى قلب الحقول، وفى الوقت الذى كانت ترسل فيه الشمس أقوى أشعتها فوق المصابيح العتيقة الفضية اللون، مرت يد عارية من تحت الستائر الصغيرة الصفراء وألقت قصاصات من الورق انتشرت مع الريح (ملاحظة: كانت إمّا قد كتبت إلى ليون خطابا تتحلل من موعدها معه، ولكنها احتفظت به معها حتى تلك اللحظة)، وتساقطت عن بعد قريب كالفراشات البيـضاء فوق حقل من البرسيم الأحمر المزهر". وهذا كل ما هنالك، وهو يدل على أن الروائى البارع يستطيع أن يقول كل ما يريد فى وصف هذه المواقف وأشباهها من غير التصريح بكلمة واحدة.

لقد كان محامى فلوبير بارعا فى الدفاع عنه وفى كشف عُوَار الدعوى المرفوعة ضد موكّله. ولم يخل رده على النائب العام من بعض السخريات الألمعية اللاذعة كما فى تعليقه على اعتراض هذا النائب ضد ورود عبارات مثل: "وسقطت ملابسها كلها بحركة واحدة" بحجة أن فيهـا إساءة للأخلاق العامة. ونص تعليقه هو:"وفى الحق إنه لأمر مسرف السهولة أن تتهم بمثل هذه الطريقة، والله يحفظ مؤلفى المعاجم من أن يقعوا فى قبضة السيد محامى الإمبراطورية".
هذا، وفى ترجمة الرواية أخطاء نحوية ولغوية جِدَ كثيرة لا أدرى كيف وقع فى مثلها د. مندور، صحيح أن الدكتور مندور ليس بالكاتب الذى لا تتوقع منه مثل هذه الأخطاء، غير أن الذى يروعنا هنا هو كثرتها، فضلا عن أن الكثير منها أخطاء لا ينبغى أن يقع فيها أى طالب مجدّ فى دراسة لغة قومه.
هذا، وسوف أورد هنا بعض الأمثلة على هذه الأخطاء: فمن ذلك قوله: "بآنيتَىْ زهورٍ كبيرتين"، والصواب، كما لا يخفى، هو "بإنائى زهور كبيرين". لقد ثنَّى كاتبُنا الجمعَ، والمفروض أن يثنّى المفرد. وقد كان يستطيع أن يقول بدلاً من هذا: "بزهريتين كبيرتين" فيريح ويستريح. وفى موضع آخر نجده يقول: "محتضنة وجهه الجامد الطويل ذى العينين الصغيرتين"، وهو خطأ نحوى لأن (ذی) هنا نعتٌ لـــــ (وجهه)، وهو مفعول به، فحقها إذن أن تكون بالألف. وقد تكررت هذه الغلطة بعينها فى قوله "وهو يضم إلى جسمه... مِعْطَفَه المنزلىَّ ذى الأوشحة" مما ينفى شبهة الخطا المطبعى، ومما يلفت النظر أيضا استخدامه جمع التأنيث لاستغراق الجنس بدلا من صيغة جمع التكسير، فجمع التأنيث يدل على القلة عادة، أما الاستغراق فيحتاج إلى الصيغة التكسيرية فى حالة وجودها. وهذه هى عبارته: "ومهما يكن هذا الخالق الذى أوجدنا هنا لنؤدى واجباتنا كمواطنين وأرباب أسـرات"، وكان الأصح أن يقـول "مواطنين وأرباب أُسَر". أما الخطأ التالى فإنه خطأ شائع فى كتابات كثير من الكتاب حتى المشاهير منهم، وهو "ومع أنه... إلا أنه..."، وقد تكرر عدة مرات. ومثل هذا التركيب فى الخطإالتركيبان التاليان "وبرغم أنه... إلا أنه..." و "وهو وإن كان كذا إلا أنه كذا"، إذ ما معنى الاستثناء هنـا؟ فالـصـواب هو استبدال (الفاء) فى مثـل هـذه التركيبات بــــ (إلّا، وكسـر همزة (إنّ) بعدها. وهو يقول: "فطيلةَ أيام الآحاد نهارها ومساؤها"، والصحيح (ومسـائها، لأنها معطوفة على (نهارها)، وهى بدل من (أيام الآحاد)، التى تُعْرَب مضافا إليه. وقد تصح أيضاً أن تُنْصَب عطفاً على (نهارها)، التى ستكون فى هذه الحالة ظرفا ثانيا (والأول هو "أيام الآحـاد") . أما وصف الضحكة بأنها "أجشَّة" فهو غريب مضحك، إذ مـن ذا الذى يجهل أن المؤنث من "أجَشّ" هو "جَشّاء"؟ ومثله فى الغرابة استعمال "الكعب" فى مكان (العَقَب) جريا على أسلوب العامة، وكان ينبغى أن يفطن الدكتور لذلك. ومن الأخطاء أيضاً قوله: "خياطم الخنازير"، ولعله آراد (مخاطم الخنازير) أى أنوفها، كما وردت صيغة المفعول من (ذهل) بمعنى (ذاهل)، وهو خطأ شائع، فالمذهول (وكذلك المذهول عنه) هو الشىء الذى يتعلق به الذهول، أما الذى يقع منه الذهول فهو "ذاهل". أما الخطأ التالى فهـو شنيع، إذ لا يصحُّ أن يجهل المترجم أن خبر كان حقه النصب. والخطأ هو "كان المستشار ماضى فى خطابه". كما أن مندور فى وصفه (العنان) بأنه "مكسور" (بدل "مقطوع" أو "ممزق") إنما يترجم ترجمةً حرفيةً عبارة فلوبير:
"une des bides cassées" فالكسـر فى لغتنا يختصّ بالأشياء الصلبة، أما بالنسبة للعِنَان فنقول: (انقطع أو تمزق). وفى موضع آخر نقع على هذا التركيب الذى يكثر فى اللغة العامية "مبكّرا عن عادتـه"، والصواب هـو "أبكر من...". كذلك نجد مترجمنا يرفع الفعل المضارع بعـد (حتى) قائلا: "حتى لا يلوحان مضحكين"، وصحتها "حتى لا يلوحا". وقد تكررت هذه الغلطة فى قوله: "وحتى تصطدمان". أما فى قوله: « إن يـدىّ لا تزالا حارّتين من قبلاتك"، وقوله: "البرص والقراع اللذين يجلبوهما"، فخطؤه عكس ذلك. ومن الاستعمالات العامية كلمة (خطوبة)، والصواب (خِطْبة) (بكسر الخاء) ، ومثلها كلمة (مُرَبّات) (جمع "مربی)، والصحيح "مُرَبَّيات".
ومن الأخطاء الفظيعة إيراد اسم (أن) المتأخر مرفوعاً: "لأنّ هناك فـنانـون". ومثله فى الفظاعة نصب خبرى المبتدإ فى قوله: "كان كل منهما يكرر للآخر وهما واقفين ساكنين"، ولعله توهمهما حالين، بيما الواقع أن الحال هنا هو المبتدأ وخبراه معاً. ومنها استعماله صيغة الجمع وصفاً لشخصين اثنين، فإمّا تقول لعشيقها: "كم نكون سعداء..."، وهو يرد عليها بدوره متسائلاً: "أولسنا سعـداء؟، وهو خطـأ صوابـه (سعيدين). وهو يستخدم (اصطحب) فى محل (صحـب أو صاحَبَ)، وذلك فى قول هوميه: "آه! سأصطحبك"، يقصد أنه سيرافقه لا أنه سيأخذه معه.
ومن الأخطاء النحوية أيضا عدم نصب كلمة (ساع) فى قوله: "وكانوا كاتبا وفقيرين وساع". كذلك كان ينبغى أن تُحْذَف ياء (مهـاوی) مـع تنوين الواو بالكسـر فى قوله: (فى مهاوى لا حد لها". أما فى العبارة التالية: "وقال وهو يقدم يده إلى الأمام لكى يعينها على الصعود" فقد كان الأفصح (على الأقل) أن يقول: "وهو يمدّ يده.."، فنحن نقدِّم "إنسانا" على أنفسنا، أو نقدِّمه إلى شخص آخر ليتعارفا، أو نقدم هدية، أما يدنا فإننا "نمدّها".كما نجده قد أسند ضمير المثنَّى المذكّر إلى الفعل الماضى عدة مرات برغم أن الكـلام عـن امرأتين لا رجلين، فهو يقول: "وصعدت هاتان السيدتان إلى مخزن الحبوب واختفيا..."، مع أنه يقول بعد ذلك "وانتظرتا. ويبدو أن سبب وقوعه فى الخطإ مع الفعل (اختفى) هو أنه معتل الآخر يربك غير المتيقظ. وقد كرّر هذه الغلطة فى قوله عـن هـانين السيدتين: "ورأياهـا وهـى تـسير طولا وعرضا" (برغم قوله عنهما قبيل ذلك: "ميّزتا")، والسبب هو هو فيما أخمّن. أما فى قوله عنهما أيضا: "ثم لمحاها... فأخذا يضلان فى الفروض" فليس ثمة عذر بالمرة. ومن اختلاط الأمر فى استخدام الضمائر قوله: "وهى تغمض عينيها التى تُعْشِيهما المشاعل المتقدة". ومن الأغلاط اللغوية اللافتة للنظر أنه ما من مرة واحدة استخدم فيها مندور، كما هو المفروض، كلمة (مِسْح) ليدل بها على ثوب القسيس بل استخدم دائماً صيغة الجمع منهـا ظانا أنها مفرد. ومع ذلك فقد استخدم (مُسُوح) مرة واحدة استخداما صحيحاً، أى للدلالة على الجمع. وانظر أخيرا كيف يستعمل لأمر المذكر الصيغة التى ينبغى أن توجَّه للمؤنث، فالصيدلى يقول لشارل: ("اِبْكِى" بإثبات الياء، وكأنه امرأة.

وأود، قبل أن أنتقل إلى نقطة أخرى، أن أؤكد للقارئ أننى لا أتصيد الأخطاء تصيّدا، وإلا فهناك أخطاء يصعب حصرها عَزَوْتُها لإهمال الطابع، وأخطاء كثيرة أخرى لم أوردها هـنا لاحتمالها الصواب على رأى ضعيف، وذلك حاشا الغلطات الصريحة التى لم أشأ تسجيلها هنا لأننى فى مقام التمثيل لا التقصى. كذلك أودّ ألايفوتنى التنبيه إلى أنه ما من كاتب أو أديب إلا ويخطئ، ولكن ثـمة فرقا كبيرا بين خطإ يَخْفَى وجه الصواب فيه وبين هذه الأخطاء التى وقع فيها المترجم، فإن من الصعب العثور على عذر له فيها.
على أن ثمة عبياً آخر غير أخطاء النحو والصرف هو الركاكة الأسلوبية فى مواضع ليست بالقليلة، فالدكتور مندور ليس شابا مبتدئا حتى يقع فى مثل هذه الأخطاء. وجريا على عادتنا فى هذا البحث سنجتزئ ببعض الأمثلة التى يتبين معها للقارئ أن العيب المشار إليه يشكل ظاهرة تشد البصر:
فمثلا فى حديثه عن شعور إمّا بالوحدة فى مخدعها يقول إنها "تود لو هبطت لتستأنس بالحديث مع الخادم، لولا أن يمنعها الحياء". وهو يقصد: "لولا أن الحياء كان يمنعها". كذلك أظن أنه لو كان قال فى وصف إمّا: "مسامّ بَشَرتها" بدل "مسامّ جلدها" لكان أفضل، لأن استعمال كلمة "البشرة" أنـسب للمقام، إذ ترد فى وصف رقة بشرة إمّا وجمالها، أما لفظة (الجلد) فيحسن فى سياق آخر. وهو يترجم: Ses parents sont a leur use"" بقوله: (والداه فى يسر)، وهى عبارة تبدو وكأن كاتبها أجنبىّ، إذ الترجمة هنا حرفية. وكان يستطيع أن يترجمها مثلا إلى: "والداه ميسـوران". كذلك لا أظـن إلا أن ترجمة: Vous le savez bien" "Eh non بــــــــ "آه. لا. وهذا أنت تعرف جيدا" جِدّ ركيكة رغم أن العبارة لا تشكـل أية صعوبـة لا فى فهمها ولا فى نقلها إلى العربية (على النحو التالى: "... إنك تعرف ذلك جيدا").
وهو يقول: "واستشعرت إمّا بالندم"، ولا أدرى ما الذى تفعله الباء هنا. ولا عذر للكاتب فى إيرادها، فإن هذا الاستعمال ليس من الأخطاء الشائعة وليست هناك ضرورة شعرية. ثم إن اعتراض الباء هنا بين الفاعل والمفعول ثقيل كاللقمة التى تــسدّ الحلق. كذلك نراه يترجم: la parole humaine"" بـــــ "الحديث البشرى"، مع أن المقصود هو "اللغة الإنسانية" أو "كلام البشر"، وشتان بين هذا وذاك. أما: "par l'effet seul de ses habitudes des armoureuses" فترجمها بــــ "ولمجرد اعتيادها الغراميات (غيرت مدام بوفارى من طبائعها... إلخ"، وهى صياغة ركيكة، فضلاً عن عدم دقتها فى نقل العبارة الفرنسية. وربما كان قولنا: (وبتأثير ما تعودته كعاشقة..." أو "وبتأثير عاداتها فى الغرام..." أكثر توفيقاً. وفى ترجمة:
"Il me sermble que c'est tout. Ah ! cncore ceci, de peur qu'elle vienne à me relancer" نراه يقول: "أظن أن هذا هو كل شىء. آه (إلى هنا لا غبار على الترجمة، ولكن فلننظر فيما يأتىنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي ولكن هذا أيضا لكيلا تعود إلى مطاردتی" وكان ينبغى أن تكون الترجمة: "ولكن فلأضف هذا...". ومن الواضح أنه لم يحاول فى ترجمته الفَكاك من إسار تركيب العبارة الفرنسية مما جعل صياغته، إلى جانب ركاكتهـا، تبـدو غامضة المعنى. وهو يترجم "organisme" بـــــ "جهاز"، وذلك فى العبارة التالية التى تتحدث عن إصابة أحد الكلاب بالتشنج عندما قرّب صاحبه من أنفه علبة الطباق: "وهل يتصور الإنسان أن سَعُوطا بسيطا كهذا يمكن أن يحدث هذه الأحداث فى جهـاز ذوات الأربـع؟". والأجزل والأوضـح أن تتـرجـم بـــــ (بنية) لأن المقصود هنا هو مجموع أعضاء جسم الحيوان، ونحن قد درجنا فى لغتنا على استخدام مصطلح: "جهاز" (فى هذا المجـال) فيما هو أخص من ذلك، فنقول "الجهاز الهضمى" و "الجهاز التنفسى"... إلخ. وهـو يؤدى un fils de famille"" بهذه العبارة: "ابن أحد الأسر"، التى هى، فضلاً عما فيها من خطإ تذكيرِ "أحد"، لا تدل على شىء. إن المعنى هو "ابن إحدى الأسر الغنية". ويمكن تأديته ببساطة بـــــــ "أبن أسرة" (وبالعامية: ابن عيلة). أما عبارة المؤلف فمعناها "ابن أسرة من الأسر"، وهو ما ينطبق على كل إنسان، والملاحظ أن ركاكة الصياغة هنا وعدم دقتها ليسا راجعين، كما هو الحال فى بعض الأمثلة السابقة، إلى توخّى المترجم تأدية العبارة الفرنسية كما هى، لأن هذه العبارة، لو تُرْجِمَتْ حرفيا، (وهى لحسن الحظ الترجمة الصحيحة فى هذا السياق) لما كانت شيئا آخر غير ما قلناه.
أما التعبير التالى: (هذا هو ما يسمى باشتباك المناقير"، فهل من القراء من يدرك له معنى؟ لقد ورد هذا التعبير على لسان هوميه الصيدلى إثر مجادلة بينه وبين أحد القسس. ونصّ الأصل الفرنسى هو "Voilk ce qui s'appelle une prise de bec"، وليس فيه أى ذكر لــــــ "اشتباك مناقير" بل لــــ ""une prise de bec، ومعناه المجازی "مشاحنة/ خصومة/ مناقرة". ويبدو لى أنه يمكن ترجمته أفضل من ذلك على الـحـو التالى: "أرأيت هذه المناقشة الحامية؟) أو "أرأيت هذا النقار؟"، وهو ما يوحى باعتراز الصيدلى بنفسه وطريقته فى المعادلة واعتقاده أنه هزم القسيس أو طواه على حد تعبيره.

وفى ترجمة Tout passa pour elle dans l eloignement ، التى وردت ضمن وصف مشاعر إمّا وهى تشاهد العزف والغناء من مقصورتها فى أحد المسارح وكيف أنها انساقت مع أحلام اليقظة فلم تعد تنصت إلى الموسيقى، نجده يقول: "كلّ هذا مرَّ بالنسبة إليها قَصِياً". وهذه عجمة، وكان الذوق اللغوى العربى يقتضيه أن يترجمها كالآتى: "كان كل ذلك يأتيها من بعيـد" مثلا . كذلك نراه يقول: "والجرأة تتوقف على الأوساط التى يوجد المرء فيها"، وكان الأجزل أن يقول: "على الوسط الذى يكون فيه المرء" أو "على الظروف التى تحيط بالإنسان"، أما "الأوساط"، فلا تَعْذُب فى هذا السياق فى الأذن العربية. وحـين يضـع لـيـون يـده فى جيبه ويُخْرِج "une "piece blanche ويعطيها لحاجب الكنيسة، نرى د. مندور يترجم ذلك بــــــ "قطعة بيضاء". قطعة ماذا؟ لا ندرى. ولا أعرف لِـمَ لـَمْ يقل: "قطعة من النقود"، وهى ليست من الصعوبة بأى مكان. أما عبارة ll la regardait en face, d'une manière insupportable فيترجـم الجـزء الأخير منها هكذا: "فى هيئة لا تُـحْتَمل"، والأنسب أن يقول: "بطريقة لا تحتمل" أو "على نحو لا يـُحْتَمل"، فهكذا نعبرُ عـن هـذا المعنى، أمـا "الهيئة" فتعنى شيئا آخر.

والآن إلى الجملة التالية: ( ولكن هيفير (الحوذى)، الذى كان يحس بثقل الأعمى وهو متعلق بالعربة، كان يضربه ضربات قوية بسوطه فيصيب جراحه، ثم يسقط فى الوحل وهو يطلق الصيحات". ألستَ تستخلص من عطف "يسقط فى الوحـل" على "يصيب" و "يضربه" أن فاعلها جميعا واحدٌ هو الحوذى؟ ومع ذلك فإن الأصل الفرنسى ينص على أن الذى يسقط فى الوحل هو الأعمى. والسرّ فى وقوع المترجم فى هذه العبارة المضطربة هو أنه، حين تصرَّف فى الترجمة، لم يحسن التصرف فاضطربت الضمائر واختلطت فى يده، إذ إن الأصل الفرنسى، بعد أن يذكر أن هوفيه كـان يضرب الأعـمـى ضربات عنيفة، يقول: " وكان لـسان السوط يلهب جراحه فسقط فى الوحل... إلخ ".
كذلك فالمترجم بدل أن يقـول بـبساطة: "وأرادت... أن يكون له عُثْنون" أو "... أن يترك عثنونه ينبت" مثلا نجده يقول "وأرادت... أن يطلق عثنوناً فى ذقته"، وكأن العثنون فأر حبيس، وكأن ذقنه حجرة يمكن أن نطلقه فيها. كما أنه بدلا من أن يقول فى ترجمة ""dans ces punelles cgarées: "فى حدقتيها الشاردتين أو الزائغتين" يقول "فى حدقتيها الضالتين". وحين يشكو تاجر الأقمشة المتجول مـن عجزه عـن استرداد ديونه من مدينيه (وهذا هو النص الفرنسى: "On lui (mangeait la laine sur le dos يأتى المترجـم ليقول: "إنهم ليأكلون الصوف من فوق ظهره"، وهى ترجمة حرفية ركيكة، وكان بوسعه أن يستخدم العبارة الجارية: "يقصون ريشه". وانظر كذلك إلى هذا التعبير الذى لا يستقيم جزؤه المأخود تحته خط على سَنَن العربية مهما تقلّبه على هذا الجانب أو ذاك: "ولكيلا تحسّ فى الليل ملاصقا لحمها بذلك الرجل الذى ينام متمددا إلى جوارها"، وهو ترجمة للعبارة التالية: "pour ne pas avoir, la nuit aupres d'elle, cet " homime etendu dormait" أما الجملة التالية: Elle souhaitait des amours de prince" فإنه ينقلها إلى العربية على النحو الركيك التالى: "وتتمنـى غراميات أميـر" بدلا من "وتتمنى أن يعشقها أمير" أو "أن يقع فى غرامها أمير" مثلا. وهو يصف "الانفعالات" بأنها "شاسعة" (ترجمة لــــــ im-menees passions") فضلا عن أن معنى "passione" هو "عواطف" لا "انفعالات". وهو يترجم chez lui d'un air degage Elle se préeselita بــــــ "ودخلت عنده فى هيئة منطلقة" جامِعاً بذلك بين تهافت الأسلوب وغموض المعنى. والترجمة الصحيحة أو القريبة من الصواب هى: "وعليها سيما الارتياح" مثلاً. كذلك فبدلاً من أن يقول: "إننى سأطلعه على..." ترجمة للعبارة التالية: "...le lui momtom"، التى كررها التاجر مرتين وهو يلوح بورقة فى يده مهدّدا إمّا بأنه سيريها لزوجها) نراه قد ترجمها بـــــ "إننى سأُظْهِر له... إننى سأظهر له...". وحين يقول: "كانت مطروحة على ظهرها" نظن للتو،ومعنا كل الحق، أن شخصا قد طرحها علی ظهرها، بينما الأمر ببساطة، حسبما جاء فى الأصل الفرنسى، هو أنها "كانت مستلقية على ظهرها: "collice sur le don" وربما كان السبب فى هذا الخطأ هو أنه ظن أن عليه أن يترجم اسم المفعول "couchlie" باسم مفعول مثله مع أن اللغات غير متوازية دائماً. وأما حين تسأل الأم روليه عن الساعة فتجيب بأنها "Trois heurs, bientot " فإنه يترجم ذلك بأنها "الثالثة عما قريب" بدلا من "الثالثة تقريبا". أما قوله فى ترجمة " se raidissant contre l'émotion": "شدَّ نفسه ضد الانفعال" فهـو سريانى، وكأنه لم يكن مستطاعاً ترجمته بـــــــ "تـماسَكَ" أو "سيطر على مشاعـره" أو "ضبط انفعالاته" أو " تمالك جأشه"... الخ... الخ!
وهذه بعد ليست إلا أمثلة. إلا أن الإنصاف يقتضينا أن نقرر أن الترجمة بطبيعتها تقيّد حركة الكاتب وحريته، ويمكن تشبيه المترجم بالأحول الذى تنظر كل من عينيه فى اتجاه مخالف: فعينٌ على الترجمة، وعِين تحاول العثور على اللفظ والتركيب والتعبير المناسب. إنه، وهو يكتب، لا يَمْتَح من ذهنـه وخياله وعواطفه بل من ذهن كاتب آخر لا ينتمى إلى لغته ولا ثقافته، ومن عواطف ذلك الكاتب وخيالاته، وهذه كلها حواجر تجعل الترجمة أمرا مرهقا. ولهذا السبب قلما تجد أسلوب الترجمة طبيعيا كأسلوب الكتابة الأصلية. والذى يراجع أسلوب يحيى حقى مثلاً فى ترجمته لكتاب (القاهرة) لديزموند ستیوارت أو لسيرة إسكندر دوماس سوف يجده مختلفا عن أسلوبه فى كتاباته هو. أما المرحوم إبراهيم المازنى، الذى أثنى العقاد، طيب الله ثراء، على عبقرته فى الترجمة، فقد أثبتتد. نعمات فؤاد فى كتابها عنه أنه لم يكن يلتزم بالأصل التزاماً تاما، بل كانت تسقط منه أحيانا بعض الكلمات والعبارات، كما كان يتصرف فى عبارة الأصل حتى توافق الترجمة ذوقنا العربى، ومن هنا جاء أسلوبه فى الترجمة ناصعاً عليه سيما الجزالة والحيوية التى تطبع أسلوبه العبقرى المبين. أقول هذا لكى أبيّن أننا لا تنتظر أن تكون مهمة المترجم ميسورة، ولكن على من يضطلع بهذه المهمة أن يرهن نفسـه قليلاً وأن يتشكك فى صياغته ويفتح دائماً المعاجم التى يسعى أن يحيط نفسه بها، وليس فى هذا أية غضاضةٍ، فإن من يعرف لغة أجنبية لا يجد صعوبة فى فهم ما يقرأ فهماً واضحاً، إنما المشكلة تبدأ حين يكون عليه أن ينقل ما فهمه إلى لغته، إذ إن عملية الفهم شىء، والنقل شیء آخر. إننا نفهم النص الأجنبى بعقلية اللغة التى كُتِب بها، أما الترجمة فتحتاج عقلية أخرى هى عقلية اللغة التى سيتم النقل إليها. وإذا كان قد قيل عن كاتب القصة التى بين أيدينا إنه كان يعيد صياغة كثير من جمله وعباراته مراتٍ ومرات رغم أنه لم يكن يترجم بل ينشىء، فما بالنا بمن يترجم؟

لقد أشرت إشارة عارضة إلى أنه كان يسقط من الأستاذ المازنى، وهو يترجم بعض القصص الإنجليزى، أشياء من عبارة الأصل، وأود أن أشير بسرعـة هنا إلى أن هذه الملاحظـة صادقة أيضاً على ترجمة (مدام بوفارى) للدكتور مندور. وأستطيع أن أعد عشرات من الأمثلة على هذا ما بين كلمة وجملة طويلة. ترى هل من الممكن أن يكون د. مندور قد ترجم عن طبعة أخرى غير التى بين يدىَّ قد سقطت منها العبارات غير الموجودة فى ترجمته؟ ذلك أن فى ترجمته بعض الكلمات التى لا يوجد ما يقابلها فى طبعة الأصل التى فى حوزتى، وإن كنت أستبعد أن تكون هناك طبعة تعانى من كل هذا النقص.
والآن تنتقل إلى الترجمة نفسها. وأحب أن يكون واضحاً منذ الآن أنى لن أتبّلث أمام صحة الترجمة حين تكون صحيحة، إذ إن ذلك هو أقل ما يُنْتَظَر من الدكتور مندور، الذى قضى قريبا من عشرة أعوام فى فرنسا مختلطاً اختلاطاً واسعا بالحياة والثقافة الفرنسية كما يقول، وبخاصة أن الترجمة نفسها فى حالة صحتها ليست من الجودة بمكان. وفوق ذلك فهى تعانى من عيوب عدّةٍ ذكرت بعضها المتعلّق بالصياغة العربية، وهأنذا أُتَنِّى فأعرض لبعضها المتّصل بفهم النصّ الفرنسى ذاته.

وقبل الشروع فى هذا لا يفوتنى التنبيه إلى أن ترقيم الفصول فى الترجمة لم يطّرد إلى نهاية الرواية: إن الفصول فى الجزء الأول مرقمة، وكذلك أول فصل فى الجزء الثانى، وهو الفصل التاسع من القــسم الثانى من الرواية: أما بعد ذلك فيشار إلى بداية كل فصل بثلاثة نجوم، مع أن هذه العلامة قد استخدمت فى الجزء الأول لتقسيم الفصل الواحد إلى أجزاء، ولست أدرى لِـمَ لَـمْ يـَجْرِ المترجم على وتيرة واحدة. والآن إلى الترجمة:
وأول ما يلفت النظر هو أسلوب مندور فى ترجمته لأسماء الأعلام، بلادا كانت أو أشخاصاً أو صُحُفا... إلخ. وهذه بعض ملاحظات سريعة فى هذا الصدد: إنه يكتب اسم بطلة القصة هكذا:"إيـما"، وهى طريقة تبتعد عن النطق الصحيح لاسمها ((Emma، الذى كان ينبغى أن يُكْتَب بالعربية على النحو التالى: (إمّا)، بحذف الياء وتشديد الميم. أما بعض أسماء الشخصيات التى أتى ذكرها عرضاً فى الرواية فقد علق عليها بما يوضحها للقارئ، بيد أنه هنا أيضاً لم يسر على وتيرة مطردة: فمرة يكون التعليق فى صُلْب النص كما فى إضافته، بعد اسم "بولانجيه"، هذه العبارة: "مؤلف الأشعار الغنائية"، ومرة يَرِد فى الهامش مثلما هو الحال مع اسم "أبقراط". أما أسماء المدن فبعضها يـُحْتَفَظ به كما هو مثل "برتو" و "لونجفيل" و "سان فكتور"، وبعضها يُتَرْجَم نصفه إلى العربية، مثل "أبونفيل ــــــ الدير"، وذلك لأن فلوبير قد شرح سرّ تسميتها بهذا الاسم حين ذكرها لأول مرة. بَيْدَ أن فلوبير لم يعد إلى ذلك مرة أخرى، وكان ينبغى على الدكتور مندور أن يحذو حذوه، فإن أسماء الأعلام لا تُتَرْجَم، اللهم إلا إذا أراد المترجم لقارئه أن يلمح شيئا ذا دلالة خاصة فى أحدها، وحينئذ توضع الترجمة بين قوسين بعد إيراد الاسم كما هو. وقد فعل فلوبير ذلك مع "يونفيل لابى"، إذ ذكر بين قوسين سر تسميتها هكذا.
والطريف أن المترجم قد جرى فى ترجمة أسماء المحلات على هذه الطريقة على رغم عدم الحاجة إليها، إذ ما فائدة القارئ فى أن يعرف أن ترجمة اسم محل "التروا فرير" هى "الإخوة الثلاثة"،أو أن "البارب دور" (وهو اسم محل آخر ) یعنی "اللحية الذهبية"، أو أن "الجران سوفاج"، هو "المتوحش الكبير"، وبخاصة أن هذه المحلات لم يرد ذكرها إلا مرة واحدة عارضةً ثم نُسِيَتْ إلى الأبد؟
أيا ما يكن الرأى فإن د. مندور قد أورد اسم صحيفة "لاكوربى" من غير ترجمة،مع أنه قد شفع اسم مجلة "سيلف" بترجمته (هكذا: "حوريات الصالونات"). وهى ترجمة خاطئة لأكثر من اعتبـار، علاوة على أن اسم المجلة (أو الصحيفة) بالفرنسية هو le sylphe des salons"، أى "لوسيلف دى صالون" لا "سيلف" فقط).
ويتبقى من أسماء الأعلام اسم العربة، التى تُعَدّ فى الحقيقة إحدى شخصيات القصة البارزة. وقد سمّاها د.مندور "العصفورة"، مع أن هذه الكلمة ليست الترجمة الصحيحة لاسمها الفرنسى (وهو "L Hirondelle"). وكان يستطيع أن يحتفظ بالاسم الفرنسى كما هو مع ترجمته حين يرد ذكره للمرة الأولى. أما الترجمة الدقيقة له فهى: "عصفور الجنة"، ذلك الطائر الذى يشق الهواء شقا، أما العصفور العادىّ فلا يرتبط اسمه بالسرعة، التى ربما قُصـد تسميةُ العربية به للإيماء إليها. وقد تكون ترجمته بـــــ (الحمامة) أكثر ملاءمة لذوقنا الذى يرى فى ذلك الطائر رمزا على السرعة الشديدة.
ويمكن تصنيف ما يؤخذ على الترجمة إلى ملاحظات على ترجمة بعض الكلمات أو الجمل خطأ، وملاحظات على عدم الدقة فى نقلها إلى العربية، وملاحظات ثالثة على العجز عن إيجاد عبارة عربية تستطيع الاحتفاظ بالإيحاءات التى تشع من العبارة الفرنسية، وملاحظات أخيرة على تأدية عكس المعنى، وإن كان هذا المأخذ الأخير جِدَّ قليل. وهذه بعض الأمثلة على ما نقول:
فمثلاً يترجم د. مندور "Le médecin fut invité par M. Rouault lui même, à prendre un morceau, avant de partir" هكذا: "دعا مسيو روو الطبيب إلى بعض الطعام قبل رحيله". ومن الواضح أن العبارة المأخوذ تحتها خط لا تؤدى إشعاعات نظيرتها الفرنسية. وقد كانت الترجمة تكون أحسن لو أنها صيغت على هذا النحو: "... دُعِىَ الطبيب، من قبل مسيو روو نفسه، إلى أن "يأكل لقمة" قبل انصرافه". لقد كتب فلوبير هذه العبارة بالحروف المائلة، وهو ما يقابل فتح علامتى تنصيص لاستقبال عبارة عامية مثلاً أردنا أن نؤديها كما سمعناها. وأظن أن فلوبير قد هدف بهذه العبارة إلى الإيحاء بأن علاقة خاصة بين الطبيب وأسرة مريضه قد شرعت تَنْبُت فى تلك اللحظـة التـى دعاء فيها هذا إلى أن "يأكل لقمة" قبل أن ينصرف.
أما فى الصفحة التى تلى ذلك فى الترجمة فإنا نقرأ هذه الجملة فى وصف شَعر إمّا وهى جالسـة قبالة شارل تأكل معه اللقمة التى دُعِىَ إليها: "كانت رقبتها تظهر خلال باقة مزدوجة، وضفيرتاها السوداوان الناعمتان تـبدوان، لفرط نعومتهما، قطعة واحدة تنشق إلى شعـبتين عند منتصف الرأس بخط مستقيم يتبع استدارة الرأس، ثم تعود الشعبتان إلى الالتقاء خلف الرأس فى كعكة سميكة تنحدر منها خصلتان نحو الصدغ لا تكاد أذنا الفتاة تبينان خلالهما". والحق أن الأصل لا يقول هذا، بل يجرى الكلام فيه على النحو التالى: "وكان شعرها، الذى تبدو ضفيرتاه السوداوان كأن كلا منهما، لفرط ملامستها، قطعة واحدة تشقه فى منتصف الرأس فَرْقَة رقيقة... إلخ". فليست الضفيرتان هـمـا اللتين تبدوان كأنهما قطعة واحده، بل كلضفيرة على حده هى التى تبدو كذلك، وليست تلك القطعة الواحدة هى التى تنشق إلى شُعْبتين (أية شعبتين يا ترى؟ وهل كلمة "شعبة"، حتى إن صح أن الترجمة قد أدت المعنى، تناسب السياق؟) ، بل إن شعر الرأس كله هو الذى يوصف بأنه مفروق من الوسط... إلخ.
وحين يطلب شارل من مسيو روو يد ابنته نراه، حسب الترجمة، يردّ عليه بقوله: "إننى شخصيا لا أتمنى أفضل منك (الترجمة إلى هنا مقبولة)، ولكن للبُنَيّة رأيها (هنا الخلاف) ولا بد من سؤالها". والحقيقة أن حَـمَا المستقبل لم يصدر عنه ما تحته خط، بل نص عبارته هو: "Quoique sans doute la petite soit de mon idée, faut pourtant lul demander son avis"، وترجمتها هی: "وبرغم أنى لا يخالجنى شك فى أن موقف البُنَيّة هو نفس موقفى فينبغى مع ذلك أخذ رأيها".
كذلك يترجم مندور الجملة التالية التى تصف مركب عُرْس بين الحقول: -Et, en pretant l'oreille on entendait tou" jour le crincrin du ménétrier qui continuait à jouer dans la champagne" هكذا: "وكانت أنغام العازف الذى واصل العزف خلال الحقول تعلو إذا ما جنحوا إلى الصمت".، فإذا عرفنا أن "le crincain" هو الكمان الردىء، وأن"le ménétrier" هو "عازف كمان أو شبابة فى القرى للرقص" لم يكن من الصعب معرفة أن فلوبير يسخر من العازف وعزفه، وأن الترجمة ربما كانت أقرب إلى الصواب لو جاءت على النحو الآتى: "وحين كانوا يرهفون آذانهم كانوا يسمعون دائما كمانجة الكمانجاتى الماضى فى العزف خلال الحقول".

ولا شكأن مـندور قـد بـخس التعبير الفرنسى التالى "en arabesque de "nonpareille حقه حين أداه هكذا: (فى زخرفة عربية جميلة"، فإن "جميلة" تقلّ عن "nonpareitle" كثيرا، إذ هذه تعنى "فريدة / لا نظير لها... إلخ".
والآن إلى هذه الجملة ""La premiere netait point meuble التى تتحدث عن حجرة خالية تماما من الأثاث، والتى يترجمها مندور مع ذلك بقوله: (فإذا بأول حجراته تكاد تكون خالية من الأثاث تقريبا)، وهو ما يجمع بين خطإ الترجمة وإقحام لفظة "تقريبا" بلا داع، إذ إن الفعل "تكاد"، يكفى. والشىء ذاته يقال عـن هذه الجملـة: c'étaient là Elle songcait quelquefois que"
les plus beaux jours de sa vie "pourtant، فقد ترجمها بقوله: "على أنها كانت تخال أحيانا أن الأيام المقبلة هى أجمل أيام حياتها"، بينما الترجمة الصحيحة، فيما أظن، هى "... أن تلك الأيام، مع ذلك، هى أجمل أيام حياتها" ("تلك الأيام" لا "الأيام المقبلة"، علاوة على أنه قد أهمل ترجمة "مع ذلك").
على أننى أقدّر أن ترجمة "des rince bouche" بــــ "سلاطين تُمْلأ بالماء لتُغْمَس فيها الأصابع بعد تناول الحلوى" كانت سهوا مضحكا منه، إذ إنه، فيما يبدو، حين فتح المعجم ليبحث عن معنى هذه الكلمة التقطت عينه سهوا معنى الكلمة التى تليها، وهى ""des rince doigts.
ومرة أخرى تختلط الضمائر على مندور كما فى هذا المثال: "Elle lui appelait en manière de souvenirs, ses peines et ses sacrifices, et les comparant aux négli gences d' Emma, concluait qu'il n'etait point rai sonnable de l'adorer d'une façon si exclusive "، إذ يترجم الجملة على النحو التالى: (وكانت تروى له مشقاتها وتضحياتها على سبيل الذكرى، وتقارنها بإهمال إمّا عسى أن يستنتج أنْ ليس من الحكمة أن يعبد السيدة الشابة... إلخ"، مع أنها هى التى تنتهى، من خلال المقارنة، إلى هذه النتيجة. ثم إنها لا تأمل أن يستنتج ابنها هذا، بل هى التى تقرر له ذلك.
وفى أول جملة فى الفصل الثامن نجده قد تصرف فى تركيب العبارة تصرفا غير حميد، فهو يقول: "كان القصر مبنيا على الطراز الإيطالى الحديث: يمتد منه جناحان، وله ثلاثة مداخل تمضى إلى شرفات ذات درجات... وكان يقوم فى نهاية مرج واسع... إلخ"، أما النصّ فيقول ما معناه: "كان القصر المبنى على الطراز الإيطالى بجناحيه البارزين ومداخله الدَّرَجيّة ينبسط عند أسفل مرج واسع... إلخ"، أى أنه قد فتت الجملة الواحدة إلى عدة جمل من غير أن يكون هناك سبب واضح. إن المترجم قد يُضْطَرّ إلى مثل هذا لـو تعسَّـر عليه أن يضم أطراف الجملة فى خيط واحد، أما هنا فإن طول الجملة وتركيبها معقولان جدا. وبعد ذلك بأسطر معدودة نجده يترجم: batuments a toit de chaume des بــــــ "مبان مفروشة بالقش"، وهو ما يؤدى معنىً مغايرا تماما، إذ الكلام هنا عن (مبان مسقوفة بالقش)، وشتان بين الأمرين. وبالمثل فإن عبارة "وكان سرواله يضغط على بطنه، تتحول فى الترجمة إلى "بينما كان شارل يشد بنطلونه إلى وسطه...".
ويترجم مندور عبارة "Quand les mareyeurs, dans leurs charrettes, passaient sous ses fenêtres en chan " tant la "Marjolaine elle s'éveillait بــــ "وكان صيادو السمك يمرون فى الليل تحت نوافذ الدار وهم يرددون أناشيدهم، فكانت تستيقظ من نومها". ولن أقف هنا عند تركيب الجملة الذى قدم فيه وأخر بدون مسوغ، ولكنى أشير فقط إلى أن الــــــ marey curs"" هم "تجار السمك" لا "الصيادون"، وأن المترجم كان خليقا أن يرتاب فى ترجمته لو أنه تنبه إلى شبه جملة ""dans leurs churrettes، فإن غناء الصيادين مرتبط عادة بالقوارب والبحر وجوّه الشاعرى لا العربات الخشبية التى تقعقع عجلاتها على بلاط الشوارع. كذلك فإن ترجمة la Mariotine بــــــ (الأناشيد) تبدو لى غير مقنعة. وأظن، والله أعلم، أن هذه أغنية كانت شائعة فى ذلك الوقت وليست نشيدا، بله أناشيد.
كذلك نراه يترجم "favoris noirs" بــــ "شاربان أسودان". ولا أدرى كيف يكون للشخص الواحد شاربان إلا أن يكون المقصود طرفى الشارب. إن الحديث هنا عن وجه ذی favoris noirs""، والترجمة الصحيحة هى (عِذَاران أسودان). والعِذار، كما نعرف، هو ما ينبت على صفحة الخد.
أما الخطأ التالى فهو ليس بالخطإ الهين، ولا أعرف للمترجم فيه عذراً. إن الصيدلى يتحدث إلى صاحبة النزل منـتـقـدا بينـيه الـصـمـوت ومتهما إياه بالافتقار إلى الخيال والفكاهة، فتعترض عليه قائلة: "ومع ذلك فهم يقولون إن عنده مواهب ("ll a des moyens"، فيتساءل الصيدلى مستنكرا: "مواهب؟ مواهب؟ فى مهنته: هذا ممکن Dans sa partie c'est possible))". بيد أن مندور قد ترجمها هكذا: "ومع ذلك فإنهم يقولون إن له أصدقاء ومجالـس"، "مجالس!... مجالس!... من المحتمل أن تكون على شاكلته".
وحين يؤكد هذا الصيدلى أن الإنسان غير محتاج فى عبادته لله إلى الذهاب إلى الكنيسة ليقبّل الأوانى ويدفع من جيبه للقـسيس، ثم يعقب قائلا:"Car on peut l'honorer aussi bien dans un bois" يترجم مندور هذه العبارة قائلا: "إن المرء ليستطيع أن يهتدى إلى الله فى غابة...". والصواب هو: "إن المرء ليستطيع أن يعبد الله... إلخ". كما أنه يترجم هنا أيضا وصف الصيدلى للقُسُس بأنهم "un tas de farceurs" بـــــــ (رجالا لا يصلحون لشىء، ولا نفع منهم)، وهو حشو وتطويـل لا داعـى لـه، فوق أنه خطأ، إذ المعنى هو: "حشد من المهرجين". أما وصف آل تيفاش بأنهم "falsait beaucoup d'embarras" فيترجمه إلى (كما كان آل توفاش فى أفخم مظهر"،وهو كلام بعيد عن الصواب، والصحيح هو: "ثم إن عنـدك آل توفاش! اللى طالعين فيها قوى"، أى المتعجرفين الكثيرى الادعاء.

وبعد ثمانی صفحات نجد هذه العبارة عن الصيدلى (الصيدلى الذى يكره القساوسة ويسخر منهم دائما): (وكان يسرح مع الخيال إذا ما قرأ فقرات بديعة، ولكنه كان يغتم إذا تذكر أن أهل المجون والمهرجين قد يستغلونها فى ألاعيبهم على الغير". والواقع أنه لا ذكر هنا لمهرجين ولا يحزنون، بل الكلمة هى les colouns""، وهى لفظة تحقير للقُسُس أو أشياعهم. وها هى ذى الترجمة الصحيحة للعبارة "... إذا ما خطر له أن القساوسة سوف يضيفونها لبضائعهم، وحين يقـوَّم ليون بينه وبين نفسه شخصية زوجة الصيدلى فيرى أن فيها برغم طيبتها من العيوب ما لا يتصور معه أنها لا تصلح قط زوجة لأحد، يؤدى المترجم هذا على النحو التالى: "... حتى ما كان أحد ليتصور أنها تصلح زوجة لغير الصيدلى". والحقيقة أن معظم الفقرة التى وردت فيها هذه الجملة يسوده الاضطراب فى فهم المعنى وفى ترتيب الجمل. ولمن شاء أن يقابل بين النص الأصلى والترجمة.

وبالنسبة للعبارة التالية: Puis, quand il s'était pose à sa place contre la table entre les deux époux نجد مندور يترجمها بقوله: "فإذا اتخذ مجلـسه إلى مائدة الزوجين...". ولا شك أنك تستطيع أن تلاحظ بنفسـك عدم الدقة فى الترجمة، إذ النص يقول إن الصيدلى كان، عـندما يجلس فى مكانه إلى المائدة بين الزوجين،... إلخ.
ومن الخطإ ترجمة الـــــ nouveautés"" بـــــ "الكماليات"، إذ ترجمتـهـا الصحيحة: "الجديد من الأزياء". كذلك فإن ترجمة nez droit"" بـــ "أنف أَقْنَى" مجانبـة للصـواب، لأن "الأنف الأقنى" هو الذى ارتفع أعلاه، واحدودب وسطه، وضاق منخراه. أما "droit" فمعناها "مستقيم". ومثل ذلك فى الخطـإ ترجمة hirondelles"" بـــــ "بعض الطيور"، فالطيور أنواعها بالآلاف، فأى الطيور يقصد يا ترى؟ ولـِمَ لَـمْ يقل: "عصافير الجنة"؟ كذلك ترجم "un acacia" بــــ (شجرة لبخ)، وهـو خطإ. وللمرة الثانية أيضاً نراه يترجم "farceurs" بغير معناها، وإن جعلها هذه المرة "كلابا"،وزاد فوضعهـا بيـن قوسين! وهـو يتـرجـم harpes"" بــــــ (الأعـواد)، كما أن "صندوق الذحائر المقدسة: "un reliquaire ينقلب على سن قلمه إلى "أيقونة"، و"السرداب: un souterrain" إلى (تابوت)، و "الميدان: la place" إلى "شاطئ". وهـو يجعل الجملة الدعائية التالية: Dieu nous protene"" خبرا، مترجما إياها هكذا: "إن عنـايـة الله ترعانا".
وبعد عشر صفحات نقرأ الكلام التالى: "ولم تَدْرِ هل تندم لاستلامها له أم على العكس تأمل فى أن تزيده حبا، وهل ينقلب الصِّغار الذى أحسته لضعفها إلى حقد لا تطفئ ناره اللذات؟"، بينما كان ينبغى أن تكون الترجمة هكذا: "ولم تكن تدرى أهى نادمة على استسلامها له أم على العكس تتمنى أن تحبه أكثر. لقد كانت مَذَلّةُ شعورها بالضعف تنقلب إلى حقدٍ يلطّف منه ما تناله من ملّذات"، ويا له من فرق بين الترجمتين!
ومندور، بلا ريب، لم يكن موفقا حين ترجم إلى العربية هذه الجملة الإنجليزية التالية: That is the question""، التى طعّم بها الصيدلى حديثه مع الطبيب تخذلقاً. لقد كان ينبغى عليه أن يدرجها كما هى فى صلب الحوار ثم يترجمها بعد ذلك فى الهامش حتى لا يفوت القارئ ما قصده فلوبير من إجرائها على لسان الصيدلى، وهو ما فعله (حسبما أذكر) د شکری عیاد فی ترجمته لرواية (دخان) لترجنيف، إذ أبقى التعبيرات والجمل الفرنسية التى كان يتحذلق بها بعض شخصيات الرواية كما هى مع إيراد ترجمتها فى الهامش، وكان ينبعى على د. مندور أن يفعل نفس الشىء.
ويترجم مندور العبارة التالية: ""Et les chaste irs pantinent بــــ "واستأنف الصيادون غناءهم"، ولا أدرى لماذا. كذلك ترجم عبارة: "indécis entre la franchise de son plaisir et le: il respect qu'il portait aux opinions de sa femme" النحو التالى: (وهو يتأرجح بين حيرته الواضحة والاحترام الذى يحمله لآراء زوجتـه"، بينمـا صـواب ما تختـه خـط هو (سروره الواضح الصريح".
وهو يأتى بالترجمة التالية: "وكان ورق الحائط الأصفر يتلون من خلفها بأرضية مذهبة" فى مقابل "Le papier jaine de" la muraille faisait comme un fond d'or derrière "elle"، مع أن الصواب هو "وكان ورق الحائط الأصـفـر يبدو من ورائها كأنه خلفية مذهبة".
أما هذه الجملة: "puis setant fait defriser, se, frisa pour "donner à sa chevelure plus d'élégance naturelle فقد عكس معناها، إذ قال: "...تم جعّد شعره، وعاد فأسيله... إلخ"، بيـما الصواب "ثم بعد أن أزال تجعُّد شعره عاد فجعّده...".
وهناك غلطة طريفة وقع فيها د. مندور إذ وردت (فى جملة تتحدث عن إمّا وهى تصفف شعرها عند أحد مصففى الشعر) هاتان الكلمتان: oceur des fers""، فترجمهما بــــ "رائحة الحدائد"، مع أن الكلام عن رائحة مكاوى الشعر. وطرافة هذه الغلطة أن الدكتور مندور نفسه كان قد نقد الشاعر على محمود طه نقداً لاذعا لترجمته كلمة فرنسية فى صيغة الجمع بنفس المعنى الذى لها فى صيغة المفرد، وهى كلمة enfers))، ثم ها هو ذا الدكتور مندور يقع فى غلطة مشابهة.
وبعد، فهذه أمثلة فحسب من الأخطاء الكثيرة والمتنوعة التى تمتلئ بها ترجمة د. محمد مندور لرواية الأديب الفرنسى جوستاف فلوبير "مدام بوفارى"، وإذا كان الأمر كذلك فكيف وأتت المسؤولين فى دار الهلال أنفسُـهم على وصف تلك الترجمة بأنها "ترجمة كاملة ودقيقة"؟ الواقع الذى لا سبيل إلى الارتياب فيه هو أن هذا الكلام لا يعدو أن يكون حكما مرسلا ليس له أساس من المقارنة بين النص الفرنسى ونظيره العربى. إننا جميعا معرَّضون للوقوع فى الخطإ سواء فيما نؤلف أو نترجم من كتب، بيد أن تلك الكثرة الهائلة من الأخطاء هى مما تتجاوز مقدرة الضمير العلمى على الاحتمال، وأشدُّ من ذلك إغراقا فى التجاوز؛ هذا الحكم الذى أصدرته دار الهلال العريقة على الترجمة. إنه ببساطة حكم مضلِّل وغير مسؤول، والله يتولانا بفضله ورحمته.

وهناك نقطة أخيرة، وهى أن مندور، فى حديثه مع فؤاد دوارة، قد ذكر أنه زار كنيسة مدينة روان، التى ورد ذكرها فى بعض أعمال فلوبير وكذلك الدار الريفية التى اعتزل فيها هذا الأديب الفرنسى قريبا من تلك المدينة ليكتب (مدام بوفارى) والتى أحسَّ هو عند مشاهدته لها بأنه "أمام معبد رهيب" على حد تعبيره، وأن هذه الزيارة قد حولت ما كتبه فلوبير عن تلك الكنيسة "إلى حقائق حية نابضة موحية". لكن ها هى ذى ترجمته لرواية "مدام بوفاری" تدلعلى أن مثل هذا الكلام هو مجرد دعوى عريضة يناقضها الواقع، إذ قد تبيّن لنا فيما مرّ من صفحات أن فهمه للفلوبير وروايته وإحساسه بها معيبان أشد العيب، وهذا الادعاء العريض يذكّرنا بما قاله عن زيارته لبعض جزر الیونان وتشرّبه الروح الهلينية من مجرد رؤيته بعض الأحجار هنالك، وهى الزيارة التى خرج فيها على قواعد البعثات وجرّته إلى الصدام دون وجه حقّ مع المسؤولين فى مكتب البعثات المصرى بباريس .