الاتجاه التشريحى (أو التفكيكى) عند عبد الله الغذامى
إبراهيم عوض

وبعد البنائية تأتى التفكيكية (أو التشريحية)، التى هى نقيضها بمعنى من المعانى. ونمثّل لها بكتاب ((الخطيئة والتكفير- من البنيوية إلى التشريحية- قراءة لنموذج إنسانىّ معاصر)) للدكتور عبد الله الغَذّامى. وهذا الكتاب تطبيق للمنهج التشريحى على إنتاج الأديب السعودى حمزة شحاتة، الذى يرى ناقدنا أن مفتاح فهمه هو تفسيره فى ضوء ما كان شحاتة، يرحمه الله، يعتقده فى نفسه (حسبما يَدَّعِى د. الغذامى) من أن وظيفته التكفير عن الخطيئة البشرية. وقد صدمنى عنوان هذا الكتاب صدمة هائلة، ذلك أن هذا العنوان هو بذاته أحد المعتقدات النصرانية، فكنت أتساءل فى دهشة وعجب: كيف يا ترى تسلل هذا المصطلح الكَنَسِىّ إلى كتاب نقدى صادر فى مهد الإسلام، ولم يرض دون احتلال عنوانه بديلا، والخطاب (كما يقال) يبين من عنوانه؟

إن الكنيسة تدّعى أن البشر جميعا قد ورثوا ((خطيئة)) أبيهم آدم التى أخرجته من الجنة، فأراد الله أن يطهرهم منها فبعث ابنه الوحيد، وهو المسيح عليه السلام فى زعمهم (تعالى الله عن هذا الشرك وتلك الخرافات الوثنية علوا أبديا)، ليُقْتَل على الصليب ((تكفيرا)) عن هذه الخطيئة. ((والخطيئة والتكفير)) سرّ من أسرار النصرانية التى لا يكون إيمانٌ عندهم إلا بالاعتقاد الجازم بها، مهما كانت مخالفتها للعقل والمنطق.
وهذه العقيدة تنافر الإسلام والعقل السليم منافرة تامة. نعم، لقد أخطأ آدم. ولكن الله سبحانه تاب عليه بعد إخراجه من الجنة: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾[1]. وهذا هو الأليق بعظمة الله ورحمته وواسع فضله، ولا معنى بعد ذلك للقول بأن البشر قد ورثوا الخطيئة عن أبيهم آدم، فهذه الخطيئة قد غُفِرَتْ بفضل من الله ورحمة. وحتى لو لم تكن قد غُفِرَتْ، فما معنى أن يتحمل وِزْرَها أبناؤه وذريته وهم لا ذنب لهم فيها بل لم يكونوا قد أَتَوْا حينذاك إلى الحياة أصلا؟ إن القرآن قاطع تماما هنا إذ يقول: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾[2]، وإذ يقول: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[3]، وإذ يقول: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾[4]. وبطبيعة الحال فلم يأت عيسى عليه السلام بهذا المعتقد، إذ إن عقائد الأديان السماوية واحدة، فكلها من الله، ومن ثم فلا يمكن أن تتناقض، وإنما الكنيسة هى التى لفقت هذه العقيدة وغيرها تلفيقا، وحجبت النور السماوى المطهّر. وهذا التلفيق لا يخفى على أى ذى عينين تبصران وعقل يفهم، وإن قراءة الأناجيل لمفيدة جدا فى هذا المقام. جاء مثلا فى إنجيل مَتَّى[5] أن يوحنا المعمدان[6] قبيل بعثة عيسى عليهما السلام قد أخذ ينادى فى اليهود أن ((توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات)). وإن الإنسان ليتساءل: ما معنى هذه الدعوة إلى التوبة ما دام المسيح بعد قليل سيتولى الكفّارة عن البشر جميعا يهودا وغير يهود؟ ويمضى كاتب هذا الإنجيل قائلا إن اليهود جميعا قد خرجوا وتلقَّوْا منه التعميد فى نهر الأردن معترفين بخطاياهم. لكن ما دام هؤلاء الناس قد اعترفوا بخطاياهم فهل تراهم ظلوا بحاجة إلى كفارة المسيح المزعومة؟ وإذا لم يكن للتعميد والتوبة من أثر، فلماذا دعا إليهما يحيى عليه السلام إذن؟ والعجيب أن المسيح نفسه قد قَدِم على يحيى ليتعمد على يديه بالماء، والتعميد بالماء إنما هو إعلان للتوبة. ونص كلام يحيى هو: ((أنا أعمِّدكم بماء التوبة))[7]. فكيف نوقف بين تعمّد المسيح بالماء على يد يحيى وبين كونه هو نفسه الفادى الذى يكفّر عن البشر ويخلصهم من آثامهم وخطاياهم؟ وهل يمكن أن نصدق أن هذا الذى جاء للتكفير عن البشر جميعا يصدر عنه هذا التوجيه لأتباعه: ((لا تُعْطُوا القدس للكلاب، ولا تطرحوا دُرَركم قدام الخنازير لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم))؟[8] إن المقصود بـــــــ ((الكلاب والخنازير)) هو فئات معينة من البشر، و ((القدس)) و ((الدُّرَر)) هما دعوة البشر إلى الإيمان بالمسيح ودعوته، فهل ينبغى أن نفهم من هذا أن الكفارة التى تقول الكنيسة إن المسيح قد أتى ليؤديها ليست لكل البشر؟ لكن هذا يتناقض مع عقيدة ((الخطيئة والتكفير)). بل هل يمكن أن نصدّق أن هذا الذى أتى للتكفير عن البشر يضيق بهؤلاء البشر إلى الحدّ الذى يجعله يصرخ فيهم قائلا: ((أيها الجيل غير المؤمن الملتوى، إلى متى أكون معكم؟ إلى متى أحتملكم))؟[9] أليس هذا هو بعينه الدليل على أن المسيح لم تَطُفْ بفكره حكاية التكفير عن البشر وكَونه أُنْزِل من السماء خِصِّيصاً لهذه المهمة؟
وإذا كان السيد المسيح قد أتى إلى العالم ليموت على الصليب كما يزعمون، فلماذا قال عن الشخص الذى سيسلمه من بين حوارييه للقتل والصلب: ((ويل لذلك الرجل الذى به يُسَلّم ابن الإنسان. كان خيرا لذلك الرجل لو لم يولد))؟[10] وقد أعاد هذا المعنى فى كلامه لبيلاطس، إذ قال له: ((لذلك الذى أسلمنى إليك له خطيّة أعظم))؟[11]. ألم يكن ذلك الرجل، على العكس من ذلك، يستحق أن يُثْنَى عليه ويُحْمَد له صنيعه لأنه ساعد على سرعة إتمام الخطة الإلهية؟ بل ألا يكون هو نفسه أكثر إدراكا للإرادة الربانية وأخلص فى تنفيذها من السيد المسيح نفسه، أستغفر الله؟ ثم لماذا يدعو المسيح ربه حين أحس اقتراب نهايته، قائلا: ((أجِزْ عنّى هذه الكأس))[12] إذا كان إنما أرسل إلى الأرض ليشرب هذه الكأس عينها، كأس القتل والصلب فداء للبشر؟ ثم أليس صراخه، وهو على الصليب، ينادى ربّه أن يدركه ويخلصه مما هو فيه، طعنةً أخرى قاتلة لهذه العقيدة المفتراة؟ وهذا هو نص كلامه على حسب روايات القوم أنفسهك: ((إيلى إيلى، لما شبقتنى؟ أى إلهى إلهى، لماذا تركتنى؟))[13].
كما نقرأ فى الإنجيل ذاته هذا القول المنسوب للسيد المسيح عليه السلام: ((لا تظنوا أنى جئت لأُلْقِىَ سلاما على الأرض. ما جئت لأُلْقِىَ سلاما بل سيفا))[14]. أليس هذا يتناقض مع الاعتقاد بأنه إنما أتى للتكفير عن الخطيئة الأزلية ومن ثم إشاعة السلام على الأرض؟
لقد علّم المسيح أتباعه كيف يصلّون. وِمْن بين ما علّمهم مِنْ أدعية أن يقولوا: ((اغفر لنا خطايانا، لأننا نحن أيضا نغفر لكل من يذنب إلينا))[15]. فهذا هو الوضع الصحيح للمسألة: أن يتجه البشر إلى ربّهم الغفور الرحيم يستميحونه أن يعفو عنهم وأن يكفر سيئاتهم وخطيئاتهم، لا أن يرسل اللهُ ابَنه (تعالى عن ذلك) ليُقْتَل ويُصْلَب كى يتم غفران ذنوبهم. وتأمل نهاية الدعاء: ((لأننا نحن أيضا نغفر لكل من يذنب إلينا))، وكذلك قوله عليه السلام لتلاميذه: ((إن أخطأ إليك أخوك فوجِّهْه، وإن تاب فاغفر له، وإن أخطأ إليك سبع مرات فى اليوم ورجع إليك سبع مرات فى اليوم قائلا: أنا تائب، فاغفر له))[16]. أيكون البشر أحكم من الله سبحانه وأرحم؟ حاشا لله! إنهم يغفرون مباشرة، أما هو فإنه (حسب عقيدة الكنيسة) لا يفعل هذا، وإنما يلف ويدور ويسلك سبيلا إلى ذلك شديدة التعقيد، فيرسل ابنه (المزعوم) الوحيد إلى الأرض ليقتله البشر حتى يغفر لهم خطاياهم، مع أن المفروض أن قتلهم له إنما يزيد هذه الخطايا ويجعلها أبشع وأغرق فى الفظاعة والشناعة والكفر والجحود والعصيان. لقد كانت الخطيئة الأصلية هى الأكل من الشجرة المحرمة من أشجار الجنة، أما هذه الخطيئة فهى قتل ابن الله الوحيد (أستغفره سبحانه). وأين تلك من هذه؟[17]
هذه بعض نصوص من الأناجيل نفسها تنقض دعواهم فى ((الخطيئة والتكفير)) نقضا. فإذا ثبت أن المسيح ذاته لم يأت للتكفير عن خطيئة آدم وذريته على خلاف ما يدّعيه النصارى فمن هو حمزة شحاته بالنسبة لهذا النبى الكريم حتى يقال إنه كان يؤمن بأنه قد أتى للتكفير عن خطيئة البشر؟ إننى لا أعنى أبدا أن أنال من الرجل، وإنما أردت بيان لا معقولية ما نُسِبَ إليه ظلما وزورا.
وقد استمد د. الغذامى فكرة ((الخطيئة والتكفير)) من الناقدة الأمريكية مود بودكين، التى أخذت من بونج مقولته عن ((النماذج العليا)) وطبَّقتها على الشعر. ومن هذه النماذج ((الخطيئة والتفكير)) و ((تشهَّى الموت والعودة إلى الرحم)) و ((الولادة الجديدة))... إلخ. وكان بونج يرى أن هذه النماذج العليا هى ((صور ابتدائية لا شعورية، أو رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية لا تُحْصَى، شارك فيها الأسلاف فى عصور بدائية. وقد وُرّثت فى أنسجة الدماغ بطريقة ما، فهى إذن صور من نماذج قديمة لتجربة إنسانية مركزة... وهذه النماذج العليا تقع فى جذور كل شِعْر أو كل فن آخر ذى ميزة عاطفية خاصة))، كما يرى أنها ((موجودة فى كل حلقات سلسلة النقل أو التعبير كتصورات فى اللاوعى عند الشاعر، وكموضوعات مترددة أو سلاسل من الصَّوَر فى الشعر، وكتصورات فى اللاوعى عند القارىء أو عند الجمهور. وهذا مبنىّ على فكرته عن ((اللاوعى الجماعى))، الذى يختزن الماضى الحسى، وهو الذى ولّد الأبطال الأسطوريين للبدائيين، ولا يزال يولّد أخيلة فردية مشابهة للرجل المتمدن، وهو الذى يجد تعبيره الأكبر فى رمزية تتجاوز حدود الزمان غير أنها مألوفة نسبيا، وهى رمزية ما تزال تتكرر أبدا)). كذلك يقول: ((إن الفنان والمريض عصبيا يعيدان بتفصيلٍ الأساطير المستمَدّة من التجارب الشعائرية عند الإنسان البدائى: أحيانا عن وعى، وأحيانا من خلال عملية حُلْمِيّة))[18].
وجدير بالذكر أن مقولة يونج هذه ليست إلا فرضية لا تستند ولا يمكن أن تستند إلى تجارب علمية، فهى إذن مجرد تخمين، وبالتالى فلا قداسة لها، بل ينبغى أن تُقابَل بعرضها على عقولنا وثقافتنا وفهمنا للحياة. وإذا كان من حق يونج أن يفترض فمن حقنا أن نحلل هذا الذى يفترضه لنرى مدى معقوليته أو عدمها ثُمَّ نقبله بعد ذلك أو نرفضه. وقد نخطىء، وهذا وارد، مثلما أنه أيضا قد يكون مخطئا فى فرضيته هذه، وهو ما يبدو لى أكيدا.
ولنأخذ نموذج ((تشهى الموت والعودة إلى الرحم)). وأنا ممن يصعب عليهم تماما أن يتقبلوا فكرة تشهى أى إنسانٍ الموت تشهيا حقيقيا نابعا من أعماق ذاته. إننا قد نضيف بالحياة نتيجة للإحباط مثلا واليأس من بلوغ أمنية عزيزة علينا أو نزول كارثة ماحقةٍ بنا لا نستطيع لها دفعا، ويبدى الإنسان حينئذ تمنيه للموت. بَيْدَ أن هذا التمنى لا يعدو أن يكون رغبة عارضة سطحية لا اتصال بينها وبين الغرائز البشرية الضاربة فى أعماق النفس. والدليل على ذلك أنه لو أقبلت مثلا فى تلك اللحظة سيارة مسرعة نحو ذلك الشخص فإنه سيقفز فى الحال بعيدا عنها نجاة بحياته، تلك الحياة التى كان يتمنى قبيل لحظات لو أنها انتهت. فهذا المثال يصور بوضوح الفرق بين رغبة عارضة سطحية وبين غرائز الحياة الأصلية التى لا تفارق الإنسان أبدا. إن البشر جميعا يَهْفُون إلى الخلود، وهذا هو سرّ الآلام ومشاعر القلق والضيق والكآبة وغير ذلك من الأحاسيس التى تعترى البشر فى مسيرة حياتهم، وهو السبب الكامن وراء كراهيتنا جميعا للموت. أما القول بتشهى هذا الموت فانه يبدو لى كلاما متهافتا يفتقر إلى أقل قدر من الإقناع. وربما رأى بعض الناس فى الانتحار معاكسة لما نقول. ولكن الانتحار حالة اضطراب نفسى حادة، فهى شذوذ لا يُتَّخَذ دليلا لنقض ما قلناه. ودعنا من حكاية ((العودة إلى الرحم))، التى لا أدرى كيف تكون ولا أستطيع أن أتخيلها مجرد تخيل. ودائما ما تنتهى محاولة التخيل هذه بالضحك العميق. إن هناك من الأفكار الشاذة فى الثقافة البشرية أضعاف ما فيها من أفكار جادة معتدلة فيما يبدو. ومع ذلك فلكلٍّ وجهته وعقله واقتناعه.
وقد قرأت مرة تفسيرا لنزول بطل قصةٍ ما البحرَ على أنه رغبة فى ((العودة إلى الرَّحِم))، فتأمل بالله عليك أيها القارىء هذه الطريقة فى تفسير الأعمال الأدبية، التى لو جرينا عليها لقلنا إن دخول الإنسان دورة المياه، أو ارتداءه ثوبا، أو نزوله إلى مترو الأنفاق، أو التفافه ببطانية أو لحاف، أو استخفاء الطفل فى لعبة ((الاستغماية))... إلخ، إن كان لذلك من آخر (كما يقول المازنى)، هو تعبير عن نفس الرغبة[19].
إننا لو فتحنا هذا الباب فلن يستطيع أحد إغلاقه. وعلى الإنسان أن يكون معتدلا فى افتراضاته وأفكاره وألا يأخذ بكل ما يفد على ذهنه. ولعله أن يكون مناسبا فى هذا المقام أن أحكى القصة التالية، فقد كان فى كلية الآداب (بجامعة عين شمس) في الثمانينات طالب فى الدراسات العليا، وأتى إلى حجرتى فى الكلية مع بعض زملائه، ودار حوار حول ما يدعيه بعض المتصوفة من ((الكشف))، فأكد ذلك الطالب مقدرة واحد يعرفه من هؤلاء على رؤية على بن أبى طالب عيانا. والعجيب فى الأمر أن هذا الطالب كان قبل ذلك يبدو لى فى منتهى العقل والاعتدال فى الفهم والنظر إلى الحياة والأحياء. وعبثا حاولت أن أبيّن عدم معقولية ذلك. وأخيرا قلت له فجأة، وكان يقف بينى وبين نافذة مفتوحة فى الغرفة: ((من فضلك تَنَحَّ قليلا)). قلت هذا وأنا أتظاهر بأننى أتابع مشهدا يقع فى تلك المسافة التى تفصل بينى وبين النافذة. فسألنى: ((ماذا هناك؟))، فقلت وعلى وجهى علائم الجِدّ التام: ((إننى أرى أبا بكر الصديق الآن وهو يعبر خلال النافذة على فرس، وكنت تحجبه عنى)). فأجاب على الفور : ((ولكن هذا غير ممكن)). فقلت ضاحكاً: ((ولم كانت رؤية صديقك المتصوف لعلى بن أبى طالب ممكنة؟ إن الحال من بعضه يا أخى)).
فإذا أتينا إلى ((نموذج الخطيئة والتكفير)) فإننا نلاحظ أن مثل هذه الفكرة لم تكن لتخطر إلّا على بال شخص يعيش فى بيئة ثقافية تعتقد فى هذا المفهوم أو لها اتصال قوى به. ويونج هو ابن الثقافة الغربية المؤسَّسَة، فيما هى مؤسسة عليه، على الديانة النصرانية، التى رغم نبذ المجتمعات الغربية فى الغالب لها فإنها لا تزال راقدة فى أعماق نفوس أفرادها على نحو أو على آخر.
إن هذه الديانة تقوم، فيما تقوم عليه، (كما هو معروف)، على مبدأ ((الخطيئة والتكفير)). ولسنا الآن بسبيل الكلام فى المصدر الذى استمدت منه النصرانيةُ هذه العقيدة. فمن المفهوم أن يخطر ليونج هذه الفكرة ويجعلها واحدا من نماذجه العليا. وقد أوردنا قبل قليل من الأناجيل نفسها ما يهدم هذه الدعوى هدما، فما معنى أن نردد نحن المسلمين ذلك الكلام، وهذا مبلغه من عدم المنطق، وقد لمسنا بأنفسنا منافرة كثير من النصوص الإنجيلية له؟ إن المسألة ليست تعصبا دينيا، بل هى عرض للفكرة من وجهها السليم. والإسلام يتمشى مع المنطق السليم، وعقيدتُه فى ((الخطيئة والتكفير)) هى العقيدة التى تدخل العقل وتتّشِح بالعدل والرحمة دون وثنيات وإراقة دمِ مخلوقٍ لا ذنب له.
هذا فى الجانب النظرى من ذلك المفهوم. والآن إلى الجانب التطبيقى على أدب حمزة شحاته كما جاء فى كلام د. الغذامى عن ذلك الأديب رحمه الله. قال الغذامى: ((ولو حاولنا تعريف هذا الاسم (حمزة شحاتة) بناء على ما نرمى إليه من معنى، فسيكون التعريف (وكلمة التعريف عندنا تتضمن أن الاسم نكرة، ونحن نسعى إلى تعريفه) = ابن آدم، ابن الخطإ، وارث الخطيئة عن أبيه: (المتنبى).
أبوكم آدمٌ سنّ المعاصى وعلَّمكم مفارقة الجِنانِ
ووراثة الخطيئة ليست حكرا على شحاتة، فكل البشر فيها سواء. ولكنها عند شحاتة تصبح عَلَماً عليه لشدة وعيه بها وهيمنة ذلك عليه. ومن قبل شحاته كان المعرى يصطلى نار الإحساس بالخطيئة. ولكن المعرى حسم الموقف بصرامة وعَزَلَ نفسه عن الناس وحَبَس كل حواسه التى كانت تغريه بالاحتكاك بهم، فصار رهين المحبسين: الحسّى والروحى. وبذلك أعلن إدانة أبيه وقرر البراءة لنفسه:
هذا جناه أبى علىّ، وما جنيتُ على أحد
ولكن حمزة شحاته تورط مع الحياة، على الرغم من احتراسه الشديد، فوقع فى الخطيئة معيدا بذلك قصة أبيه الأبدية. فالكل (آدم، وشحاته، وسواهما) برىءٌ فى الأصل وطاهر ونقى، ولكن الإغراء يصادفه ويغزو كل حواسه فيقاوم فى البداية ولكنه يسقط أخيرا. والساقط واقع فى الخطيئة، وهى هبوط من عليين إلى أسفل.
وصور الحياة الستُّ تؤكدها كلُّ المؤشرات الدينية والنفسية: فالصورة الأولى = البراءة، وهى تمثل حياة أبينا آدم فى الجنة حتى يوم أكله للتفاحة الحرام. وهذه البراءة تظهر مع كل مولود = ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه))، والفطرة هى البراءة الصافية قبل الإثم.
والصورة الثانية تأتى باقتران الإنسان بغيره، مما يمثل هوى فى نفسه يتحول إلى ضعف يصبح مدخلا إليه، ويكون مصدره النفس الموصوفة فى الأثر بأنها ((أمّارة بالسوء)). وهو فى قصة آدم اقترانه بحواء وتعلقه بها. وبها خطىء آدم فخطئت ذريته كما نقل الترمذى فى تفسيره لسورة ((الأعراف)). وهذه تظل ثغرة فى حياة المرء تنفذ منها الخطايا. ولهذا أغلقها المعرى طلبا للسلامة... إلخ))[20].
وواضح هنا النص المتكرر على أن ذرية آدم قد ورثت الخطيئة عنه، وهذا (كما قلنا) مفهومٌ وثَنىٌّ كَنَسِىٌّ الإسلامُ والعقل منه براء[21]، وإن حاول المؤلف أن يَعْزُوَه للإسلام مُحِيلا على الترمذى، وهو غير صحيح[22]. ومع ذلك فالكاتب قد ذكر مرة أن الإنسان يولد على الفطرة بريئا، وهو ما يعد تناقضا. لكن النغمة السائدة عنده هى نغمة وراثة الخطيئة. وسوف يعود الكاتب فى الصفحة التالية فيُعفّى على هذه البراءة ويثبت الخطيئة ثانية للإنسان. والمؤلف يستشهد ببيت المتنبى. والبيت للأسف لا يدل على ما يريد المؤلف أن يلويه إليه، فهو يتحدث عن ((تعليم)) آدم لأبنائه ((مفارقة الجنان))، لا عن ((توريثه)) إياهم ((الخطيئة)). وعلى أيه حال فليس هذا كلام المتنبى نفسه، إنما هو كلام ساقه على لسان حصانه للتفكّه، فهل كُتِب علينا أن ((تأخذ الحكمة من أفواه الخيول))؟
ثم ما حكاية ((التفاحة)) هذه التى يبدىء المؤلف فيها ويعيد على مدار بحثه عن المرحوم حمزة شحاتة؟ إننا لا ندرى أية شجرة تلك التى أكل منها آدم وزوجته، وهل كانت شجرة تفاح أم شجرة مشمش؟ إن ذلك من علم الغيب، وقد سكت عنه القرآن الكريم، فينبغى ألا نخبط فيه خبط عشواء. صحيح أن إبليس قد سماها (كما حكى لنا القرآن) ((شجرة الخلد))[23]، بيد أن هذا كلام أبالسة، ونحن لم نؤمر بأن ((نأخذ الحكمة من أفواه الأباليس)).
وخطيئة آدم[24] ليست كما يقول الدكتور الغذامى، هى الاقتران بحواء. كلا، ليست هذه خطيئة آدم، ولا يمكن أن تكون. كيف وقد شرع الله سبحانه فى كل الأديان الزواج بل امتنّه على عباده، ونعى على فريق من النصارى رهبانيتهم التى ابتدعوها من عند أنفسهم، وندّد رسولُنا الكريم بمن يَبْقَوْن عزّابا وهم قادرون على تكاليف الزواج، بل جعل الزواج نفسه من الفطرة وعدّة سنة من سننه الشريفة؟ وإذا كانت هذه خطيئة آدم، فما خطيئة حواء يا ترى؟ إن آدم وحواء قد أخطآ معا حين عصيا أمر الله بعدم الاقتراب من الشجرة التى نهاهما عنها وجاء إبليس فخدعهما بكلامه المعسول وأنساهما التحذير الإلهى. وقد تاب الله سبحانه عليهما كما سبق بيانه، فليس هناك وراثه خطيئة ولا يحزنون.
أما المعَرّى فهو لم يحبس نفسه تماما عن الناس، ولا هو حبس كل حواسه التى كانت تغريه بالاحتكال بهم كما يقول المؤلف. فقد كان يفتح داره لهم يأتون إليه ويسألون وينشدهم شعره. كما كان يأكل ويشرب ويلبس. إلا المرأة، فلم يتصل بها. ونحن لا نعرف سبب ذلك العزوف المعرّى عن النصف الحلو، وهل كان نتيجة لفشل عاطفى حادّ أو كان عجزا جنسيا عند الشاعر الكبير؟ لا ندرى. فينبغى إذن أن ننحِّى المعرى عن هذه المعمعة.
وفى الصفحتين الثانية والخمسين والثالثة والخمسين بعد المائة يسوق المؤلف أبياتا من قصيدة لشحاتة، قائلا أنها تدور على قصة الخطيئة الأولى وكيف عاف آدمُ الفردوسَ واستبدل به الكِبْر مركبا، وكيف شَقِىَ بالعقل بعد زمن البراءة الأولى. كما يقرّر أنها تُظْهر العلاقة المتوترة بين آدم وحواء، حيث يصفهما الشاعر بأنهما ((رفيقا متاهة)) وأنّهما ((حَريبان جمعتهما الضرورة كى يقطعا العمر فى رحلة العيش المقيَّدَيْن بها... إلخ))[25].
والذى يقرأ القصيدة يرى أن د. الغذامى قد أَغْرَق فى النَّزْع وأبعد الرمية، فليس فى ما قاله الشاعر على مدى قصيدته كلها أى شىء له علاقة بالخطيئة الأولى (ولا الأخيرة) من قريب أو بعيد. وليس فى الأبيات ما يصف ((العلاقة المتوترة بين آدم وحواء))، بل ليس ثمة ذِكْر لآدم وحواء بالمرة، وإنما الكلام عن الشاعر وحِجَاه (أى عقله)، الذى أتبعه بكثرة تفكيره وعُرَام رغبته فى الوصول إلى فهم أمور الحياة المعكوسة، إذ ينال الجاهلُ الفَدْمُ ما يريد منها، ويُحْرَم منه ذو الحِجَى المتطلع للمثال الأعلى:
تبدّلتُ من عزمى وجهل شبيبتى حِجىً لا يرى إلا المساوىَ والنُّكــْــرا
فعشت وإياه رفيقَىْ متاهة على غير قصد نَخْبطُ السهل والوعـــــرا
إن لبعض النقاد منهجهم فى تحميل النصوص ما لا تحتمل، وإن أنت قلت لهم ذلك أجابوك بأنك لم تحسن قراءة النصّ. حسن! إن فى مستطاعى، ما دامت المسألة هكذا، أن أقول مثلا إن الأبيات تعكس شعور الشاعر بألم المغص الكُلْوِىّ الذى أصابه فى يوم نظمه إياها، أو أقول إنها تصوّر حزنه وهو طفل لعدم استجابة والديه لرغبته فى شراء لعبة رآها فى واجهة أحد المحلات، أو إنّه يُسْتَشَفّ منها التذاذه بأكله دسمة تناولها فى مطعم، أو ربما هى رمز على الوجع الذى كان يحسه يومها فى رجله من مسمار ناتىء فى باطن حذائه، أو هى تعبير عن ضيقه بسبب عدم وجود سجائر فى جيبه أو نقود يشتريها بها، وقد تكون إيحاء بفرحته لأنه كان فى أول الشهر وفد قبض مرتبه لتوه. إى نعم، لم لا يكون هذا هو تفسير القصيدة؟ ألم يقل أحد النقاد إنها تصور الخطيئة الأولى؟ فأنا بدورى أرى أن واحداً من هذه التفسيرات (وربما هى كلها. أما كيف ذلك، فوالله لا أدرى، ولا يهمنى أن أدرى) هو التفسير السليم للقصيدة، ما دام النقد هو أن نملأ الصفحات بأى كلام، والسلام!
هذا عن القصيدة، أما ما قاله المؤلف عن كِبْر آدم الذى استبدل به الفردوس فلا أعرف من أين أتى به، فالمتكبر هو إبليس لا آدم، أما أبونا المسكين فقد انخدع بالكلام المعسول لذلك اللعين. كما ذكر الدكتور أن آدم قد شَقِىَ بالعقل بعد زمن البراءة الأولى، على حين أنه قد كرّر أن سبب شقائه هو أكله من التفاحة. فبأى القولين نأخذ؟ إن هذا لشىء محيِّر!
وتعليقا على أبيات لشحاتة من قصيدة بعنوان ((تحية))[26] يقول الدكتور: ((إنها تمثل نَدْباً لماض مشرق وتحسرا على حاضر أليم)) (يقصد بالماضى ((الفردوس)) وبالحاضر ((الأرض)))، مع أن الشاعر يؤكد أن ((الرَّىّ مباح له)) و ((الطعام موفور))، أى أن حاضره طيب، لكنه، لمحاولته التعمق فى فهم أمور الحياة التى يراها لا تستقيم لمنطق العدل، لا يستطيع أن يستمتع باللذائذ المتاحة له:
ظمآن والرىّ متاحٌ له يجيل فيه نظرة الناكر
طاوٍ على وفرة مطعومه تقرّه إعراضة الساخر
تؤوده أعباء إحساســـــــه بما يرى من كونه السادر
من صور العيش وأسراره أعيت على القائف والزاجر
كما يرى المؤلف أن الكلام التالى لشحاته من كتابه ((رفات عقل))، ونصُّه: "إن حياتى سلسلة طويلة من الاستشهاد: أفكارى، رغباتى، ميولى، أهوائى. هى أنا. ومن هنا يسهل أن نتصور أى إنسان تعس هذا الذى مات بعد الذى مات له من أفكار ورغبات وميول وأهواء))[27]، ينمّ على نموذج الخطيئة والتكفير[28]، مع أن النص يتحدث عن استشهاد رغبات شحاته رحمه الله وميوله وأهوائه، وليس عن تحقيقها. فأين الخطيئة إذن؟
ونفس السؤال نطرحه عند قراءتنا لما قاله المؤلف تعليقا على رفض شحاتة للوظائف وعجزه عن معاشرة المرأة وعزوفه عن المجد الشخصى من أن هذا كله يصور ذلك النموذج[29]، فنقول: أى خطيئة ارتكبها شحاتة؟ أم ترى الناقد سيقول إنه يكفر عن خطيئة أبيه آدم؟ ولكن ليس فى كلام شحاتة شىء من هذا البتة.
وأغرب من هذا أن يأتى الناقد إلى أبيات يصف شحاته فيها مدينة ((جدة)) ويبدى تدلهه فى هواها، فيراها هى أيضاً دالة على النموذج[30]. والله إن هذا لوسواس أثيم! إن الإنسان ليكاد يفقد عقله من جراء هذا الربط الآلى بين كل شىء (أى شىء) وبين ((الخطيئة والتكفير)) هذه! ما العلاقة يا إلهى بين حب الإنسان لمدينته (أو كراهيته لها) وبين ((الخطيئة والتكفير))؟
وأغرب وأغرب وأغرب أن يقول حمزة شحاتة لابنته فى إحدى رسائله إليها: ((لقد بلغت من العمر والتجربة والمعرفة بالحياة ما لا أتطلع بعده إلى مزيد غير موقف الجهاد والشهادة فى سبيل الله. أدعو الله مخلصا أن يحقق لى هذه الأمنية))[31]، فيفسر الدكتور الغَذّامى هذا المعنى الإسلامى التوحيدى الخالص محمّلا إياه مدلولا نصرانيا، إذ يقول: ((ليس بعد هذا لأحد أن يشك بوعى شحاته بالنموذج وإحساسه بالخطيئة، ثم بتحمله لها واعيا أو غير واع، فهو (كما قال عن نفسه قد أصبح مسؤولا عن خطايا البشرية، وليس لمن هذه حاله إلا التكفير. ولذك تمنى حمزة شحاتة رحمه الله أن يحظى بالموت استشهادا ليكون ذلك كفارة له. وهذا ما قاله لابنته فى الرسالة رقم 10 ص 54:...))، ثم يورد كلمات شحاتة السابقة. ويقول موجها الكلام إلى شحاتة: ((رحمك الله، وعفا عنك أيها البرىء! لقد حمَّلْتَ نفسك فوق ما تستطيع حمله من أعباء البشر وهمومهم وخطاياهم التى باتوا عنها سادرين وناموا قريرى الأعين، وأمضيت أنت ليلك ساهرا عنهم تدفع ضريبة آثامهم، وما دَرَوْا عنك ولا أحسّوا فيك... وعاش شحاتة منتظرا لحظة الصدق مع الله، لحظة تقديم النفس فداء))[32]. ترى هل ثمة فرق بين ما يقوله الدكتور الغذامى فى حمزة شحاتة وما يعتقده النصارى فى السيد المسيح عليه السلام؟ إنه هو هو، اللهم إلا أن د. الغذامى لم يقل إن حمزة شحاتة هو ابن الله! غفرانك اللهم! إن هذا لرهيب! وهذه هى الثمار السامة للمنهج التفكيكى!
وحين يكتب شحاته إلى صديقة عبد السلام الساسى (إثر نَشْرِه، فى جريدة ((عكاظ))- عدد 1195، قصيدة له لا يرضى عنها الشاعر، وتعليقهِ عليها بثناء رآه الشاعر مسرفا أشد الإسراف) واصفا الشعر المنشور بأنه ((سوأة شاعرك فى شر أشكالها وفى شر ظروف العرض)) يسرع الدكتور الغذامى قائلا: ((فى هذه الرسالة يبرز أحد عناصر النموذج فى قصة آدم عليه السلام حيث ظهور ((سوأته))، فآدم وحواء تنكشف لهما سوأتهما بعد أن أكلا من التفاحة المحرمة، وتتجسد هذه الذكرى لشحاتة بالنشر، إذ صار بمنزلة ظهور السوأة))[33].
وهو يعد ((نموذج)) حمزة خطيئة، وتكرُّرَه ثلاث مرات فى حياته ثلاث خطايا، رابطا بينه وبين آدم وحواء، التى يقول إنها أغرت زوجها بالتفاحة[34]. والحقيقة أن الزواج ليس خطيئة، بل الخطيئة فى الزنا. أما أن شحاتة لم يوفق فى زواجاته الثلاثة مما جعله حانقا على هذه التجربة فتلك مسألة أخرى لا علاقة لها بــــــ ((الخطيئة والتكفير))، التى سدّت على المؤلف الأفق فلم يعد يرى ولا يسمع ولا يشم إلا إياها. كما أن حواء ليست هى التى أغرت آدم بالتفاحة (ولا بالبرتقالة)، بل هى وهو كانا معا ضحية لخديعة إبليس!
وفى قصيدة لحمزة شحاتة بعنوان ((يا قلب، مُتْ ظمأ)) يسترجع فيها ماضيه الجميل مع حبيبه فؤاده قبل أن ينافسه عليها الآخرون وتصبح غير وفيه له نرى المؤلف يفسر تلك الأبيات على أنها حنين للفردوس[35]، مع أن المرأة عند المؤلف هى عدوة الرجل، والاتصال بها خطيئة. فكيف إذن يكون الحنين إلى الخطيئة حنينا إلى الفردوس؟ أليس هذا استهزاء بالعقل ووظيفته وقوانينه؟ طيب، فما قول د. الغذامى فى هذا البيت من القصيدة التى نحن بصددها:
يا قلب، غَرَّكَ من ماضيك رونقه وأن حظك فيه كان مؤتلقا؟
ترى كيف يحن الشاعر إلى الفردوس وهو واعٍ تمام الوعى بأنه قد غرّه؟
وفى أبيات أخرى للشاعر يخاطب فيها حبيبته وينكر منها تحولها عن عهدها معه ويصفها بأنها قد أصبحت جحيما نرى المؤلف يفسّر ذلك بأن الشاعر يشتاق إلى الفردوس، قائلا إن المقصود بـــــ ((طائف من الجحيم)) (وهى عبارةٌ وصف الشاعر بها حبيبته) هو إبليس[36]. فهل يمكن أن تكون الحبيبة هى الفردوس، وهى إبليس، وهى الأرض التى هبط إليها الشاعر فى ذات الوقت؟ إن الشاعر يقول عن حبيبته إنها كانت روضة غناء عندما كانت تبادله الحب والوفاء، ثم استحالت جحيما عندما تنكرت له وغدرت به. هذا كل ما هنالك، ولا فردوس ولا إبليس ولا خطيئة ولا تكفير... إلى آخر هذه الكلمات التى تطالعنا فى كل سطر من كلام الناقد بلا أى داع، وتكاد أن تخنقنا.
والدكتور الغدامى فى موضع آخر من دراسته يجعل الجسد خطيئة، والحبَّ تكفيراً عن هذه الخطيئة[37]. كيف هذا؟ لا أدرى. أليس الحب هو هفوّ شخصين إلى الاتصال جسدا وروحا؟ أم تراه يقصد حبا آخر؟ للأسف ليس هناك إلّا هذا الحب. أما غيره، إن وُجِد، فهو حب المصابين بالعُنّة والعياذ بالله! والجسد بَعْدُ ليس خطيئة، وإنما هو نعمة من الله لا يمكننا نحن البشر أن نشعر بالحياة بل لا يمكن أن يكون لنا وجود فى هذه الحياة الدنيا إلّا به. والاتصال الجسدى فى الإسلام غير محرم فى ذاته، بل المحرم هو الزنا، أما الزواج فهو نعمة إلهية لولا هى ما استمرت الحياة. إن هذه النظرة المرضيّة إلى الجسد هى نظرة الكنيسة، وليست نظرتنا نحن المسلمين، فديننا هو دين الفطرة. والله سبحانه يقول: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء...﴾[38]، وهو سبحانه حين يرغِّبنا فى الجنة يعرض علينا، فيما يعرض، الحور العين. وهذا هو الذى حفظ للمسلمين صحتهم النفسية من هذه الناحية.
وحين يعرض المؤلف للمال فى حياة شحاتة يقول إنه كان بالنسبة إليه مثل الجنس ((شهوانية مادية تغذى الحيوان الكامن فى الداخل وتحركه فتصبح أسباب شقاء وتعاسة. والحل هو الخلاص منها. وانتهى... المال بالتخلى عنه وعدم المطالبة بالضائع منه))[39]. يريد أن يقول إن المال كان فى نظر شحاتة خطيئة، وسبيل التكفير عنها هى نسيانه والزهد تماما فيه. وهذا غير صحيح البتة، ويكفى فى الردّ عليه ما ذكره الدكتور الغذامى نفسه قبل ذلك بصفحات قليلة، إذ قال عن الخلاف الذى وقع بين شحاتة وبين صديق له كان قد استودعه مالا ليتاجر له به فأضاع المال: ((ومما يُذْكَر هنا أن صديقة حاول تسوية الخلاف فعرض عليه تعويضا عقاريا، ولكن حمزة أصر على حقه كاملا))[40].
وبعد، فيكفى هذا، وإن كنت أحسب أننى قد أطلت. ولكن عذرى أنى أردت أن يطّلع القارىء على تهافت مفهوم ((الخطيئة والتكفير)) والاعتساف المرعب الذى استُخْدِم فى تطبيقه قَسْراً مع سبق الإصرار على أدب حمزة شحاتة الأديب السعودى المسلم الذى أقطع أنه لو بُعث وقرأ ما كتبه عنه الدكتور الغذامى لفغر فاه دهشة وتبرأ منه بالثُّلُث!
والدكتور الغذامى، كما قلنا، يدعو إلى منهج فى النقد يسميه ((التشريحية)). وقد شرح هذا المنهج وحاول تطبيقه فى كتبه التالية: ((الموقف من الحداثة ومسائل أخرى)) و ((الخطيئة والتكفير- من البنيوية إلى التشريحية- قراءة نقدية لنموذج إنسانى معاصر)) و "تشريح النصّ-مقاربات تشريحية لنصوص شعرية معاصرة)).
وقبل أن نحاول استعراض خصائص هذا المنهج نودّ أن نشير إلى أن د. الغذامى فى بعض ما كتب يبدى تفهمه لاختلاف مناهج النقد الأدبى بل يدعو إلى ذلك دعوة قوية مؤكدا أن ((طبيعة الحياة هى الاختلاف)) وأن الاختلاف إن كان فى جانب منه تنوعا وتباينا فهو ((أيضا إمكانية تعايش. وبدون هذه الامكانية يستحيل عليه (أى على الموجود) الوجود. فلولا قبول الصوت((نون)) بالتعايش مع الصوتين ((عين)) و ((ميم)) لما أمكننا إنشاء كلمة ((نعم))... ثم يخرج من ذلك بقوله: ((الاختلاف إذن ضرورة وجود، والتعايش ضرورة بقاء))، مضيفا بعد عدة سطور أنه لن يُكْتَب لأمة فعلٌ ثقافى إلا إذا تمكنت من تمثل هذا التعايش[41].
وعلى هذا الأساس فإنه يجد أن الساحة تتسع للأصوات النقدية المختلفة الموجودة فى المملكة من عمودىّ وحداثىّ وألسنىّ وانطباعىّ، ولا معنى إذن فى نظره لما يحاوله ((بعض العموديين)) (الذى يقول إنه عليهم مشفق ولهم محب) من ((قتل كل ما عداهم من حاملى الثقافة فى هذا البلد)). إنهم، كما جاء فى كلامه، ((لا يَسْعَوْن إلى الحوار والمناقشة، وإنما يسعون إلى تصفية الوجود، أى حذف الصوت المختلف من حروف المعجم. وهم بذلك يَنْسَوْن، هداهم الله أن الحذف والشطب ينتهى بصاحبه إلى صفحة فارغة... وهذا صنيع لا يخدم العمودية، إذ ما جدوى فارس لا مبارز له؟ وكان الأولى بهؤلاء أن يكونوا ذوى فكر بنّاء فَيَبْنُون[42] وجودهم ويرفعون عمادهم، بدلا من أن يهدروا وقتهم فى محاولة هدم بيوت الجيران))[43].
وهو كما ترى، كلام طيب وجميل. وأجمل منه وأطيب أنه لا يقصر نقده على ((معسكر الأعداء)) بل يوجه مثله إلى المعسكر الذى ينتمى إليه أيضا: ((وهناك من الحداثيين من يرى أن زمن العمودية قد مضى، وأن ليس لعمودى مكان بيننا اليوم... (و) هذا قول لا يمكن قبوله، ولا يمكن لمثقف أن يأخذ به، لأن من طبع المثقف أن يكون رحب الأفق عقلا ووجدانا. ورحابه الأقف لا تجعل المرء يصنف ربوع الوطن أو يحدد خارطته بحيث لا تتسع إلا له وحده أو من هم على منهجه، ولأن الصوت المتميز لا يقوم إلا على الاختلاف. وهذا لا يكون إلا بوجود المغاير، فإن انتفى المغاير استحال الاختلاف عندئذ، ولن يكون هنالك تميز. وهذا ما لا نريده))[44].
لكننا للأسف نفاجأ بالدكتور الغذامى (فى موضع آخر من نفس الكتاب الذى ننقل هذه النصوص منه) يشطب بجرة قلم كلّ من عداه هو وأصحابه من النقاد من الخريطة الأدبية والنقدية. يقول، من كلام له عمّن يهتم من النقاد بالدلالة الصريحة للنص الأدبى، إن ((هذه الدلالة تحمل معانى صحيحة ومنطقية. وفيما لو رأى أحد من الناس الاكتفاء بها، وقَصَر نفسه عليها، وأَخَذ يدرس الأدب من أجل معرفة عُقَد البشر أو تاريخهم أو حال مجتمعهم، وكان النص يدل (صراحة) على شىء من ذلك، فهل ترانى أنكر عليه رضاءه من الغنيمة بالإياب؟ طبعا لا. سأتركه وشأنه، وأقول عنه إنه من طلاب ((علم المضمون))، وله أن يفعل بنفسه ما شاء إلا أن يدعى أنه أديب، لأنه ليس بأديب، وإلا أن يدعى أن صنيعه نقد أدبى، فهذا ما ننكره عليه، لأنه لا هو بنقد أدبى ولا هو بعلم أدب))[45].
والحق أن المناهج النقدية السليمة يكمل بعضها بعض. وكلما اكُتِشف منهج جديد كان ذلك في الغالب اغناءً للعملية النقدية. وليس منهج منها بكافٍ وحده لبيان مضمون العمل الأدبى وإزاحة الحجاب عن وجه الجمال والمتعة فيه تماما. كذلك لا يخلو منهج من تلك المنهاج من أَوْجُهِ قصور و (ربما أيضاً) عناصر فساد. والناقد عند تناوله لعمل أدبى ما قد يختار بعض هذه المناهج أو على الأقل يجعل باله إليها وتركيزه عليها، أو قد يعمل على الاستعانة بها كلها، بل ربما أضاف إليها منهجا جديدا، وذلك كله حسب طبيعة النصّ، أو حسب الغرض الذى كتب نقده من أجله، أو حسب الجمهور الذى يتجه إليه بنقده، أو حسب السياق الذى يحيط بالعلمية النقدية... إلخ. أما التعبّد لمنهج فى النقد واحد والانغلاق عليه وإصمام الأذن والعين والقلب عمّا عداه فهو تطرّف ضارّ، أو على الأقل قد يحجب عن الناقد والقارىء خيراً غير قليل.
إن الدكتور الغذامى يُبْرِز دور التجريب والمغامرة واقتحام المجهول فى بناء الحضارة وإحراز التقدم[46]، كما يدعو إلى الانفتاح الثقافى على الأمم الأخرى وما عندها من علوم وفنون وثقافات حتى لا نختنق حضاريا وفنيا[47].
وهذه دعوة مشكورة، وإن لم يكن هو صاحبها، فقد سبقه إليها كثيرون من أهل الفكر والأدب. لكن لا بد أن تتذرع المغامرة بالوعى والاستعداد، وإلّا أضحت إلقاء باليد إلى التهلكة. كذلك فالانفتاح ينبغى أن يكون محكوما بالنظرة الفاحصة الناقدة التى لا تنبهر بكل ما هو وافد، بل تعتصم بالثقة بنفسها وبما فى تراثها وماضيها من عناصر الخير فلا تفرّط فيه لمجرد استبدال الجديد الطارىء به، فربما لم يكن هذا الطارىء أكثر من حُلِىّ من الزجاج الرخيص لا تبهر إلا الجهّال المتخلفين أو مَنْ فى قلوبهم زيغ وفتنة. وإذا كان كثير من الأمم الأخرى قد سبقنا وهَزَمَنَا واحتل بلادنا لفترة من الزمان بل وما زال يوجهنا ويسيطر على مقدَّراتنا سيطرة صريحة أو من طَرْف خفى، فهذا لا ينبغى أن يدفعنا إلى أن نستسلم له ونَبْصُم بالعشرة على كل ما يجيئنا منه ونخرّ لذقوننا سجَّدا أمام ما يقول. إننا إذا كنا قد حُرِمْنا التفوقَ فى الحقبة الحاضرة المخزية من تاريخنا فلَمْ نُحْرَم بَعْدُ بحمد الله، أو بالأحرى لم يُحْرَم بعضنا القدرةَ على الفحص والتمييز وقبول ما يراه نافعا ونبذ ما يعتقد ضرره أو على أقل تقدير ما يؤمن بعدم صلاحه لنا. وقد أحسن د. الغذامى صنعا حين أبرز أن التجديد الصحيح المقبول هو التجديد الذى يقوم على دراسة القديم والعلم به لا على الجهل والرغبة فى التمرد من أجل التمرد[48].
وتعالَوُا الآن إلى التعرف على المنهج الذى استورده الدكتور الغذامى وأمثاله من بعض النقاد الغربيين واستعراض سماته لنرى مدى تصديق فعله لكلامه أو ازوراره عنه، وكذلك مدى توفيقه فى الأفكار التى اجلتبها من أولئك النقاد أو عدمه.
إنه يرى أننا فى نقد الأدب ينبغى أن نضع معنى النص، أى دلالته الصريحة، فى الخلف ونهتم أساسيا بما يثيره هذا النص من انفعال جمالى. وهو يسمى النقد الأدبى حينئذ بــــــ ((علم الأدب))، ويترك لما يسميه ((علم المضمون)) الاهتمام بتلك الدلالة الصريحة للنص[49]. وهذا العلم الأخير عنده هو شىء آخر غير النقد الأدبى. ذلك أنه يرى أن النص الأدبى ليس هدفه نقل الأفكار والمعانى بين الأديب والقارىء، بل هو غاية فى ذاته. إن هدفه هو أن يغرس نفسه فى الجنس الأدبى الذى ينتمى إليه[50]. والشاعر ليس خلاق أفكار بل كلمات. والبحث عن المعنى فى النص هو سعى وراء الدلالة النفعية مما لا علاقة له بالأدب، الذى دلالته جمالية[51].
كذلك يدعو الدكتور الغذامى إلى عزل النص عن الظروف التى قيل فيها والدخول إليه مباشرة دون أية فكرة عن الظروف. وهو يؤكد أنه بهذا لا يلغى وجود المؤلف بل يُعْلِن موته فقط، ويبقى بعده عمله مستقلا كما يستقل الابن عن أبيه[52]، إذ ((إن اللغة (كما ينقل عن بارت) هى التى تتكلم وليس المؤلف))[53]. وبعد موت المؤلف يصبح النص ملكا للقارىء يعيطه هو معناه، فالقارىء لم يعد مستهلكا للنص، بل أصبح هو المنتج له. وهو يفعل ذلك ((بعيدا عن كل حدود المنطق والواقع))[54].
وفى رأى الدكتور الغذامى أن الدلالة التى يهبها القارىء للعمل الأدبى لا تحتلف باختلاف القراء فقط، بل باختلاف الأزمنة التى يقرؤه فيها القارىء الواحد نفسه. وهو لا يرى فى ذلك أى شر، بل كل ما يجده القارىء فى النص مقبول عنده، إذ لا وجود فى النص لأى معنى ثابت أو جوهرى كما يقول[55].
ومع هذا، ورغم قوله إن ((النص ذو دلالة دائمة التغير والتحول حسب ثقافة المتلقى وظروفه))[56]، فإنه فى موضع آخر يشترط أن يستهدى المتلقى فى قراءته للنص بسياق هذا النص. والسياق عنده نوعان: أكبر وأصغر. والأكبر هو تقاليد الجنس الأدبى الذى ينتمى إليه النص فى لغة من اللغات. والأصغر هو طريقة الشاعر فى استعمال اللغة، وهذا يقتضى قراءة كل أعماله. وبغير هذا الاستهداء لا يزيد النقد عن أن يكون مجرد إسقاط لما فى نفس القارىء[57].
إذن فليست المسألة متروكة لثقافة المتلقى وظروفه، وهذا ما يؤكده الدكتور الغذامى حين يقترح حلا لمشكلة القراءات والتفسيرات المختلفة للنص (حسب حالة القارىء النفسية أو الجو الثقافى أو الاجتماعى العام الذى تتم فيه عملية القراءة)، تلك المشكلة التى تؤدى إلى ضياع النموذج الشامل الذى ينبغى أن تكون هِجِّيرَى القارىء هى البحث عنه واستخلاصه من كل نتاج المؤلف. وهذا الحل المقترح يتثمل فى أن يكرر القارىء قراءة النص عدة مرات فى حالات وظروف مختلفة، وعندئذ يستطيع أن يخرج من ملاحظاته المتعددة بحكم عام. وهذا هو السبيل عنده للوصول إلى الموضوعية مع النص[58]، مع أنه سبق أن قال قبل صفحات قلائل إنه ليس ثمة من سبيل إلى قراءة موضوعية للنص، إذ سوف يظل النص يقبل تفسيرات مختلفة ومتعددة بعدد مرات قراءته[59].
ويرى الدكتور الغذامى أنه عند تناول نتاج أديب ما، ينبغى ألا نبالى بالتفرقة بين شعره ونثره، (لأن كل نص عنده الأستاذ الباحث، أيّاً كان نوعه، هو نص شاعرى) بل علينا أن نجمع كل النصوص التى له ونقسم كل نص إلى الجمل التى يتكون منها (والجملة هنا ليست هى الجملة النحوية، بل هى كل وحدة أدبية متمايزة متكاملة، سواء كانت هذه الوحدة مجموعة من الأبيات الشعرية أو عدة سطور فى نص نثرى)، ثم نقوم باستبعاد الجمل التى ليس لها حظ من الشاعرية، أما الجمل التى لها هذا الحظ فإننا نلتقطها ونجمعها معا، ويصبح بهذا عندنا النص الشامل للأديب المنقود، ذلك النص الذى يوضح لنا موقفه من العالم قبولا أو رفضا[60]. أما كيف يمكننا التمييز بين الجمل الشاعرية وغيرها فيبدو أن مدار الأمر عنده على التذوق وأن الجملة الشاعرية هى التى تثير فيه انفعالا جماليا[61].
ومع أن الغذامى يسعى إلى تجميع كل ما هو شاعرى من إنتاج الكاتب فى نصّ واحد شامل فإنه فى موضع آخر يشترط أن يُتِمّ الأديب كتابة نصّه فى فترة واحدة، وإلا لم يكن نصا واحدا بل عدة نصوص بعدد الفترات التى أنتجه فيها[62]. وهذا تناقض واضح، وفوق ذلك فهو،كما ترى، شرط لا يقدم ولا يؤخر وليس له أى مغزى، ما دام الناقد سيُجمِّع الشاعرىَّ من كل نصوص الكاتب (وهى بالطبع نتاج فترات مختلفة) فى نص شامل واحد.
هذا تلخيص سريع للخطوط العامة للمنهج النقدى الذى يتبعه د. الغذامى، والذى يسميه ((التشريحية)). ولم تكن مسالة التلخيص هذه سهلة، فهناك فقرات كثيرة جدا فى كتاب ((الخطيئة والتكفير))، (وهو الكتاب الذى وقفه المؤلف على عرض منهجه عرضا مفصلا) غير قابلة للفهم، وثمة تصورات ومفاهيم قد أجهد الكاتب نفسه عبثا فى شرحها وتوضيحها، علاوة على أنه كثيرا ما يناقض نفسه من موضع لآخر، ممّا بدأ الأمر معه أحيانا وكأن المؤلف يغمغم فيما بينه وبين نفسه، أو كأننا بإزاء هَيْنَمَةٍ تأتينا من بعيد فنعرف أن ثمة كلاماً ما لكنه كلام غير واضح ولا مفهوم. وأعترف أنى كثيرا ما أحسست بالدُّوَار وأنا أتابع المؤلف من صفحة إلى صفحة بل من فقره إلى أخرى. إن الكتاب يشبه سيْلاً يجرف أمامه وعلى أثباجه صخورا وحصى ونفايات وجذوع أشجار وحيوانات نافقة. وهو سيل لا يعرف طريقا معينا، بل تراه يمضى هنا وينحرف هاهنا، ويتجه يمينا ليعود فينعطف شمالا، وذلك حسب تضاريس الأرض نفسها التى يجرى عليها، وليس له من خاصية يمكن التقاطها إلّا أنه سيل هدّار لا يكف عن الانضباب والاقتحام وجَرْف كل ما يسوقه القدر إلى طريقة. وقد ذكر لى بعض من جرى ذكر د. الغذامى وكتابه أمامهم أنهم لم يستطيعوا المضىّ قى قراءته بعد الصفحات الأولى[63].
والآن إلى مناقشة هذا المنهج فى ضوء التلخيص الذى أوردناه: إن الدكتور الغذامى يؤكد أن النص الأدبى ليس هدفه نقل الأفكار والمعانى من الأديب إلى القارىء، بل غاية فى نفسه. والحق أننى لا أستطيع أن أتصور هذا ولا أقبله ، فكل نص يريد أن يقول شيئا. كل ما فى الأمر أنه يقوله بطريقة فنية ممتعة، أى بناء على قواعد الجنس الذى ينتمى إليه، مع احتمال التجديد دائما.
إن كل قصاص مثلا حينما يمسك بالقلم ليكتب فإنما غرضه أن يوصل لنا شيئا فى عقله وشعوره وخياله. وهذا المعنى بطبيعة الحال ليس معنى مجردا، وإلا لكان مكانة مقالا أو بحثا علميا، بل هو معنى نستلخصه من خلال حوادث القصة وشخصياتها وحواراتها والبناء الفنى الذى تقوم عليه. وكذلك الحال بالنسبة للشاعر . إنهما حينما يتناولان القلم لا يقصدان تضييع وقتهما أو وقتنا فى عبث لا معنى له، وإن كان بعض الأدباء يفعلون ذلك أحيانا، ولكن فعلهم هذا لا قيمة له فى الأدب الأصيل، رغم أن بعض المنتمين لدنيا النقد قد يطبّلون له ويزمّرون.
إن الأديب ليس خلاق كلمات وحسب كما يقول المؤلف، بل يوظف الكلمات ليقول لنا شيئا: ليوصل إلينا فكرة ما، أو يصف لنا شعورا يحس به، أو يصور لنا منظراً، أو يبدى لنا رأيا. وهدف الأدب هو الفائدة والمتعة معا. إن نجيب محفوظ مثلا فى ((ثلاثيته)) يقدم لنا صورة معاصرة لمصر متمثلة فى بعض أحياء القاهرة، صورة ثقافية واجتماعية وسياسية ومعمارية. وقد استطاع أن ينقذ القاهرة من أنياب الزمن، بل استطاع أن يصنع لنا دنيا وحياة تنبض بالحركة والفكر والمشاعر وتستولى منا على ألبابنا وقلوبنا وخيالنا. والمتنبى فى ميميته التى فجّرها فى مجلس سيف الدولة إنما يعبر عن حبه لذلك الأمير وعن عزة نفسه هو معا، ويعلن عن تحديه للجميع، ويهدد بالرحيل إذا ما استمرت الإساءة إليه.
لكن الدكتور الغذامى يرى مثلا أن ((الشحم والورم)) فى البيت التالى من قصيدة المتنبى هذه:
أُعيذها نظراتٍ منك صادقة أن تَحْسَب الشحم فيمن شحمهُ وَرَمُ
هما إشارتان حرتان. وعلى القارىء فى رأيه أن يعطيهما معناهما الغائب، فقد يكون معناهما الهدية والرشوة، أو المحبة والنفاق، أو العلم والجهل، أو أى متضادين قد ينبثقان فى ذهن القارىء لحظة احتكاكه بهاتين الاشارتين[64]. أما نحن فنرى أن ((الشحم والورم)) هنا مجازٌ، والذى يحدد معنى هذا المجاز هو السياق التاريخى والنفسى الذى قيلت فيه القصيدة، ومن ثم فإننا لا نقبل أن يُفَسّرا بـــــــ ((أى متضادين قد ينبثقان فى ذهن القارىء لحظة احتكاكه بهاتين الإشارتين))، فالمتضادات كثيرة وربما لا نهاية لها، إذ عندنا اليمين والشمال، وفوق وتحت، والسماء والأرض، وأبو تمام والبحترى، والأبيض والأسود، والزرع والصحراء، والطائرة والغواصة، والشمال والجنوب، والمتنبى وأبو فراس، والحرية والعبودية، والصدق والغدر، والشعر والنثر، والجنة والنار، والفيل والبرغوث، والصَّبا والدَّبُور، والجسد والروح، والقلم والورق، وأمريكا وروسيا، والماء والنار، والعقاد وطه حسين، والحداثة والتراث، والسكسون واللاتين... إلخ. وأستطيع أن أمضى فى العدّ فلا أنتهى لا غداً ولا بعد غد، بل وربما ولا بعد سنة، فهل كلّ هذا ممّا يجوز تفسير هاتين الكلمتين به؟ إن هذا لا يجوز فى شرعة العقل. وقد أراد المتنبى أن ينبه سيف الدولة إلى ألا ينخدع بما يقوله الوشاة فى حقه، ويَعْمَى عما يكنّه له من حب صادق وما يتمتع به من مواهب قد حُرِمها هؤلاء الوشاة الذين يحاولون القضاء عليه فى بلاط ذلك الأمير واحتلال المنزلة التى كان يحتلها فى قلبه.
إن نفى المعنى عن النص الأدبى معناه إغلاق الطرق والمنافذ فى وجه القارىء وتركه للضياع. والنتيجة هى ما وصل إليه الدكتور الغذامى مع ما خلّفه المرحوم حمزة شحاتة من أدب، هى القول بأن حمزة شحاتة يمثل نموذج ((الخطيئة والتكفير))، مع أنه لا يوجد فى أدب الرجل أى شىء (أى شىء على الإطلاق) من هذا الكلام. إن هذا المنهج يشبه صنيع رجل يقطن فى أعلى طابق فى ناطحة من نواطح السحاب قد أغلق على نفسه من الداخل باب شقته، ثم أمسك بالمفاتيح وألقاها من النافذة، وأخذ بعد ذلك يحاول الخروج منها. وقد كان أصدقاؤه قد جربوا بلا فائدة أن يقنعوه بأن هذا الذى هو مقدم عليه عبث فى عبث ولا يؤدى إلّا إلى الهلاك، فكان جوابه عليهم أن الخروج من الباب، كما يفعل سائر عباد الله، هو أسلوب قديم عقيم، وأنه لا بدّ من المغامرة والمخاطرة كنوع من التجديد والتجريب. حتى لو أدت إلى الهلاك؟ نعم، حتى لو أدت إلى الهلاك! ثم إن الأمر قد انتهى به إلى القفز من الشباك فاندق عنقه وتهشم رأسه وتناثر مخه وانسحقت عظامة. يا حرام!
إن النّص لا بد أن ينطوى على معنى. وقد يكون هذا المعنى مباشرا، وقد يكون غير مباشر. وقد يكون صريحا، وقد يكون رمزيا. وكل نص له وضعه الخاص الذى يُمْلِى على القارىء والناقد الأسلوبَ الذى ينبغى أن يتعاملا به معه ويفهماه على أساسه. إن اللغة قد خُلِقَتْ للتفاهم لا للتضليل والخداع. والله سبحانه قد وهبنا عقولا لنفهم بها ما نسمعه وما نقرؤه لا لنخلعها ونلقى بها فى صناديق القمامة والمخلفات. وكل ما يساعدنا على فهم معنى النص الأدبى فينبغى الاستعانة به: المعاجم، والقراءة الواسعة والمتعمقة فى كل ما نستطيع قراءته (وبخاصة ما كان له من فروع الثقافة اتصال بالنص الذى نقرؤه، وبالذات النقد ومناهجه المختلفة)، والظروف التى أُنْتج فيها هذا النص، وشخصية الأديب الذى أَلّفه، والحالة النفسية التى أنشأه فيها، وطبيعة الجمهور الذى كتبه لهم، والذوق الأدبى السائد فى عصره، وتقاليد الجنس الأدبى فى ذلك العصر وقبله أيضا، وما كتبه النقاد الذين سبقونا إلى تحليل النص وتفسيره والحكم عليه، وسائر إنتاج الأديب، ومعاودة النظر فى النص... وهلم جرا. وقد ذكر د. الغذامى بعض هذا فيما سماه بالسياق الأكبر والسياق الأصغر للنص، ولكنه وحده غير كاف. ومع ذلك فهو يصر على أن ننحّى كل شىء غير هذا الذى ذكره، وأن ننسى كل شىء عن حياة الأديب والظروف التى أنشا فيها النص، وهو ما نخالفه فيه أشد المخالفة.
والغريب العجيب أنه هو نفسه، بعد كل هذا، حين تناول أدب حمزة شحاتة قد نسى كل ما قاله عن الفصل التام بين حياة الأديب وظروفه وبين إنتاجه، وذَهَبَ يستعين بمن يعرف شحاتة من أصدقائه وأهل بيته للاستعلام عن سيرة حياة شحاتة بغية فهم ما كتبه، فذكر كيف سَجَنَ نفسه فى شقه معزولة فى القاهرة وحرَّم عليها كل متع الحياة، فلا وظيفة ولا زواج ولا اختلاط بغيره من البشر ولا سعى وراء الشهرة، وزاد على ذلك القيامَ بإحراق أدبه وتحريمَ نشر أى شىء من شعره والغضبَ على من يصفه بأنه أديب[65]. كما أشار د.الغذامى، أثناء تحليله لإحدى قصائد الشاعر، إلى بعض أحداث حياته وملامح شخصيته كمغادرته مكة للعيش فى القاهرة، ونزوعه إلى الكتمان الشديد[66].
وعلى أية حال فقد انحسرت، كما يقول عابد خزندار، موجة ((مدرسة النقد الجديد))، وبدأ النقاد والدارسون يبحثون فى حياة إليوت (الذى أخذ عنه البنيويون فكرتهم عن الفصل بين حياة المؤلف وإنتاجه منادين بــــــــ ((موت المؤلف))) عمّا يمكن أن يضىء شعره، وخاصة قصيدته ((اليباب))، ممّا أسفر عن إلقاء الكثر من الضوء على هذه القصيدة[67].
وإننا لنسأل الدكتور الغذامى عن القرآن الكريم، الذى قال عنه إنه أعلى النماذج الشاعرية[68]، أى يحتل ذروة الأدب: هل يمكن فهم آياته دون معرفة أسباب نزولها والملابسات التى صاحبت تلقى الرسول عليه السلام الوحى أثناءها؟ أليس هذا هو عين ما فعلته وتفعله الباطنية الذين يريدون تحريف الكلم عن مواضعه ليخلو الجو لهم فيقولوا فى القرآن ما يشاؤون ويهدموه هدما؟ أم تراه يقول إن القرآن لم ينزل من السماء لتأدية معنى أو إيصال فكرة بل لإحداث أثر انفعالى جمالى فى نفس المتلقى؟ وحتى لا يحسب القارىء أننى أتجنى على الأستاذ المؤلف بهذا السؤال هأنذا أسوق النصّ الذى وردت فيه إشارته إلى القرآن ليصدر هو بنفسه الحكم. يقول الدكتور الغذامى: ((الشاعر لا يقول الشعر ليُحْبِر، ولكنه يقوله لهدف انفعالى جمالى، ليحدث به أثرا انفعاليا جماليا فى نفس المتلقى. وهذه كلها جماليات لغوية نسميها اصطلاحا بالشاعرية. والشاعرية هى أعلى مستويات الجمال التعبيرى فى اللغة... وفى العربية يبلغ القرآن الكريم أعلى النماذج فى هذه الحال (أى أعلى نماذج الشاعرية)))[69].
ليس ذلك فقط، بل إنه رغم مهاجمته للذين يتخذون من إنتاج الأديب مِعْوَانا على فهم نفسيته وشخصيته[70] يرتدّ فيؤكد أنه، بعد التوصل إلى النموذج الشامل من خلال النصوص (الشاعرية؟) التى تركها لنا شحاتة ((نستطيع أن نفهم أدب شحاتة. وأهم من ذلك نستطيع أن نفهم نفسية حمزة شحاتة، مما يزيل عنا لغز هذا الرجل الذى بدا غريبا لكل من عرف حكايته، ولكن ذلك يصبح معقولا إذا نحن أخذنا بمفهوم النموذج))[71]. وحتى لو اقتصرنا، كما يريد منا الدكتور الغذامى، على السياق الأكبر والأصغر للنصّ فهل يسوّغ هذان السياقان مثلا أن نفسر، مثلما فعل هو، ((الظبية)) فى بيت للشريف الرضى بـــــ ((زمزم))؟[72]. إن الدكتور الغذامى قد لجأ إلى ((تاج العروس)) فوجد أن من معانى هذه الكلمة ((زمزم))، فأمسك بهذا المعنى وقسر الشاهد الشعرى الذى ورد فى ذلك المعجم على أن يسير فى هذا الاتجاه مع بيت الشريف الرضى المذكور. فهلّا رجع إلى السياقين اللذين أفاض فى الحديث عنهما وبيّن أهميتهما فى العملية النقدية ليرى هل كان الشعراء العرب طوال القرون الأربعة عشرة الماضية يستخدمون الكلمة بهذا المعنى، وهل استخدمها شحاتة بهذا المعنى فى نصوصه الأخرى. لكنه، مع شديد الأسف، لم يفعل شيئا من هذا. وأنا أجزم بضمير مطمئن مستريح أن الشريف الرضى لا يمكن أن يكون قد قصد هذا المعنى المجهول لكلمة ((ظبية))، إذ لا وجود له إلا فى بطون مبسوطات المعاجم التى تذكر كلّ ما هب ودب. ولولا أن الدكتور الغذامى قد وجده فى ((تاج العروس)) ما خطر له قط على خاطر. وهذا هو البيت الذى نحن بصدد الكلام عليه:
يا ظبية البان تَرْعَى فى خمائله لِيَهْنِكِ اليوم أن القلب مرعاكِ
ثم يأتى بعده فى هذه القصيدة الرائعة قول الشاعر:
الماء عندك مبذول لشاربه وليس يُرْويكِ إلا مدمعى الباكى
ومن أبيات القصيدة أيضاً:
حكت لحاظُك ما فى الريِّم من مُلَحٍ يوم اللقاء فكان الفضل للحاكى
فكما ترى فالظبية هنا صورة مجازية يراد بها الإيحاء بجمال المحبوبة و حَوَر عينيها ورشاقتها وضعفها ورقتها ونفارها... إلى آخر ما يفد إلى الذهن عند ذكر ((الظبية)) و ((الرِّيم)) وما قصده الشعراء العرب حينما شبهوا حبيباتهم بهما.
وبالله عليك كيف يمكن أن تكون ((الظبية)) هنا بمعنى ((زمزم))، والشاعر يقول إنها تهفو إلى أن ترتوى من مدمعه الباكى؟ هل يمكن أن يقصد أن ((زمزم)) المتفجرة أبدا بالماء تشعر بالظمإ وتريد أن ترتوى من دموعه؟ ترى هل هذا كلام يقال؟
هذا، وقد حاولت تقصّى كلمة ((ظبية)) فى ديوان الشريف الرضى، وهو السياق الأصغر لقصيدته المشار إليها، وإليك ما وجدته فى القصائد ذات قوافى الألف والباء وحدها:
والموت يقنص جمع كل قبيلة قَنَصَ المريع جآذرا وظباءَ
* * *
رضينا الظُّبَى من عناق الظِّباَ وضرب الطُّلا من وصال الطِّلا
* * *
حَييـــــــــــــــــــــــــــا دون الكثيــــــــــــــــــــــب مرتــــــــــــــــع الظبـــــى الربيـــــــــــــب
* * *
وعهدى بذاك الظبى إبان زرته رعانى ولم يحفل بِعَيْنَىْ رقيبهِ
وحكّم ثغرى فى إناء رضا به وأدنى جوادى من إناء حليبه
وأنا أدع للقارىء أن يجيب بنفسه على السؤال التالى: هل يمكن أن يكون بين ((الظبى))[73] فى أى من هذه الأبيات وبين ((زمزم)) أى ارتباط؟
أن الدكتور الغذامى يقول، كما مرّ بنا، إن لكل كلمة تاريخا طويلا ملتصقا بها. فليكن، لكن من قال إن كل شاعر لا بد أن يكون محيطا بتواريخ جميع الكلمات؟ أهو معجم؟ ثم أليس هذا تسوية بين جميع الشعراء؟ فكيف يتمايزون إذن؟ كذلك ألم يَعِبِ الدكتور الغذامى الرجوع إلى المعاجم اللغوية لاستفتائها فى معنى أى نص أدبى؟[74] فلماذا تجاهل ما أطال القول فيه عن السياق الأكبر والأصغر للنص ولجأ إلى معاجم اللغة؟
على أنه لم يكتف بهذا، رغم غرابته البالغة وافتقاره التام إلى أى منطق بل ذهب فربط بين كلمة ((ظبية)) عند الشريف الرضى (على أساس أنها تعنى ((زمزم)) كما تصادف أن وجد فى ((تاج العروس))) وبين كلمة ((نبع)) فى قصيدة حمزة شحاتة، بجامع أن كليمهما ماء[75]. فانظر الأسلوب العجيب فى فهم النصوص! أما السبب الذى جعله يختار قصيدة الشريف الرضى بالذات ليقرأ فى ضوئها قصيدة شحاتة فهو تماثل الوزن والقافية فيهما وتشابه بعض التعابير والصور من بعيد. وهذا هو بيت شحاتة:
يا أنتِ، يا نبع أحلامى وملهمتى سرّ الجمال تجلّى فى مزاياكِ
وهو من قصيدة نظمها الشاعر فى فتاة قاهرية اسمها ((نفيسة)) من حىّ بولاق، بعنوان ((غادة بولاق)). وهذه القصيدة مملوءة بمعان وصور لا يمكن أبدا أن تأتلف مع الجوّ الروحانى وإيحاءات التوحيد المقدسة التى تشعها لفظة ((زمزم)). اسمع:
يا جارة النيل، ما فاضت شواطئه سُكْراً وعَرْبَدَ إلا من حُمَيـــّــــــــاكِ
ولا ســــــــــــــــرت عبر مجراه نســـــــــــائمه إلا لتلثم فى صمت الدُّجَى فاك
وهل ترعرعتِ طفلا فى معــــــابده أم كاهنٌ فى رُبَا سيناء ربّاك؟
أم أنت روح ملاك حلّ فى امرأة فخافك الملأ الأعلى فأقصاك
أم أنت من كرم باخوسٍ معتقة قد انتفَضْتِ حياةً حين صفّاك
يا بنت آمون، هاتى السحر معتصرَا من كَرْم حسنك يذهلْ من تحداك
ومسرحا من ملاهى الحور راعشة أضــــواؤه يتبـــــــــــــــارى فيــــــــــــــه نهـــــــــــــداك
يا فجر، يا بدر، يا زهر المنى ابتسمتْ يا خمر، يا جمر فى إحساسىَ الذاكى[76]
وهاك مثالا آخر يبين كيف أن الدكتور الغذامى لم يلتزم بما دعا إليه ولا اتبع منهجا صحيحا فى قراءة النص. إنه عند تناوله لبيت الشابى التالى:
ودمدمت الريح بين الفجاج وفوق الجبال وتحت الشجر
يقول إن ((الريح هنا تأتى بسلطان غاشم يتسلل إلى الكون من كل المنافذ/ بين/ فوق/ تحت. وهذه مداخل لا تترك ركنا ساكنا ولا نفسا دون أن تعصف بها. وقدومها تدمدم غضبٌ وعذاب. فنحن نعرف من ورود ((الريح)) فى القرآن الكريم أنها فىى حالة العذاب تأتى مفردة كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾[77]، وإذا جاءت بصيغة الجمع فهى رحمة كقوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾[78]. وعليه جاءت إشارة ((الريح)) هنا حاملة الويل والثبور للجسد الميت ليتلبس بدماء الشباب وينطق عبر لسان الشابى معلنا لنفسه الحياة، ويقول:
فعجّت بقلبى دماء الشبـــــــــــــــــــــــــا ب، وضجت بصدرى رياحٌ أُخَرْ
وأطرقتُ أُصْغِى لقصف الرعو د وعزف الرياح ووقع المطـــــــــــــــــــــــــــــــر
ويدخل بذلك فى ألفة مع الكون حوله، فهو يطرق مصغيا. وهذه حالة صفاء ومحبة وانتشاء، ولذلك فإنه لا يداهَم بــــ ((ريح)) تدمدم، ولكنه يتلاقى مع ((رياح)) تعزف، لأنه خرج من دار الإثم والخطيئة[79] بريئا نقيا، كخروج لوط من سدوم، فسلم من الريح ولقى الرياح والرحمة. ويستقبل المطر الذى ينزل عليه نزولا موقَّعا: (((ووقع المطر))) فى تناغم مع عزف الرياح، فالمطر والرياح الكونية تأتى متجاوبة مع الرياح الناهضة فى صدر الشاعر الذى هو الوطن بدماء شبابه الجديد الذى يتجاوز عصر الريح، ويدخل فى عصر الرياح اللواقح التى تمد الزمن ببذور تحملها من الماضى المجيد ليحبل بها رحم الآتى، فيمتد العطاء وينمو))[80].
وتعليقى على ذلك هو الآتى:
أولا: الريح فى بيت الشابى ليست ريح ويل وثبور، بل ريح حماسة وطموح ومغالبة للعقاب وانتصار عليها. وهذا واضح وضوح الشمس.
ثانيا: استشهد الكاتب باستعمال القرآن الكريم للفظتى ((الريح)) و ((الرياح))، فهل القرآن الكريم ينتمى إلى السياق الأكبر لقصيدة الشابى، بله أن يكون شعرا حماسيا استنهاضيا؟ الجواب: كلا على الإطلاق. الدكتور الغذامى إذن قد تنكر هنا للقواعد التى وضعها بنفسه. ولو افترضنا جدلا أن القرآن المجيد يقع ضمن دائرة السياق الأكبر للقصيدة، أهو كل هذا السياق حتى يكون استعماله لشىءٍ ما هو الاستعمال الوحيد؟ بطبيعة الحال أيضاً كلّا. ومع ذلك، فلننس حكاية ((السياق الأكبر)) هذه وننظر فى القرآن الكريم لنرى هل يطرد استعماله لـــــ ((الريح)) و ((الرياح)) على النحو الذى ذكره الدكتور الغذامى. لقد نقل الدكتور الغذامى ملاحظته تلك عن علماء القرآن ومفسّريه، ولكنه لم يَعْزُها إليهم ولا كان دقيقا فى النقل، فقد وضّح الزركشى مثلا أن الأمر ليس مطرداً اطرادا تاما[81]. ولقد كان باستطاعة د. الغذامى أن يرجع إلى ((المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم)) على سبيل المثال ليجد أن ((الريح)) قد وردت فى الآيات التالية: ﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾[82]، ﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾[83]، ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾[84]، ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا﴾[85]، ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ﴾[86]، ﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ (أى السفن) رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ (أى على ظهر البحر)﴾[87]، ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾[88] دالةً على الخير والبركة والنعمة، وأن لفظة ((الرياح)) فى قوله تعالى: ﴿فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ﴾[89] إنما تدل على الإهلاك والتدمير[90].
ثالثا: ألم يناد الدكتور الغذامى، عند قراءتنا لنصّ ما، أن نرجع أيضا إلى السياق الأصغر، ويقصد به مجموع نتاج الكاتب؟ أفما كان ينبغى عليه، ما دام قد تصدى لنقد قصيدة ((إرادة الحياة)) للشابى، أن يراجع ديوانه على الأقل؟ لقد جمعتُ من ديوان الشابى الأبيات التى وردت فيها لفظة ((الريح)) أو "الرياح))، وهأنذا أضع الحصاد بين يدى القارىء:

ما للرياح تهب فى الدنيا ويدركها اللغوب إلا رياحى، فهى جامحة تمردها عصيب؟[91]

والريح تعصف بالورو د، فعشت سخرية الخطوب[92]
* * *
أين نايى؟ هل ترامته الرياح؟ أين غابى؟ أين محراب السجود[93]
* * *
أنت يا قلبىَ عُشٌّ نَفَرَتْ عنه القطاةْ
فأطارته إلى النهر الرياح العاتيات[94]
* * *
يا ريح الوجود، سِيرى بعنف وتَغَنــــــــِّىْ بصـــــــــــوتك الأواه[95]
* * *
ليتنى كنت كالرياح فأطوى كل ما يخنق الزهور بنحسى[96]
* * *
يا قلب، كم فيك من غاب ومن جبل تَدْوِى به الريح أو تسمو به القمم![97]
* * *

يمشى فتصرعه الرياح فينثنى متوجّعا كالطائـــــــــــــــــر المكســـــــــــــــــــــــــور[98]
* * *
وينثرها فى الفراغ المخيف كما تنثر الوردَ ريح شـــــــــــــــَـــــــــــــــــــرُود[99]
* * *
نبنى فتهدمها الرياح فلا نضجّ ولا نثور[100]
* * *
فارموا على ظل الحجارة واختفوا خوف الرياح الهوج والأنواء[101]
* * *
لو كانت الأيام فى قبضتى أذريتها للريح مثل الرمال
وقلت: يا ريح، بها فاذهبى وبدّديها فى سحيق الجبال[102]
* * *
رُوَيْدَكَ، لا يَخْدَعَنْك الربيع وصحو الفضاء وضوء الصباح
ففى الأفق الرحب هزل الظلام وقصف الرعود وعصف الرياح[103]
* * *
ولكم أصَخْتٌ إلى أناشيد الأسى وتنهُّــــــــــد الآلام والأسقــــــــــــام
وإلى الرياح النائحات كأنهــــــــــــــــــــــــــــــا فى الغاب تبكى ميت الأيام[104]
* * *
وتغزلت بالربيع وبالفجــــر فماذا ستفعل الريح بعدى؟[105]
وهذه هى كل المواضع تقريبا التى وردت فيها كلمتا ((الريح)) و ((الرياح)) فى ديوان الشاعر، إلى جانب البيتين اللذين استشهد بهما د. الغذامى فى النص الذى نقلته عنه. ومن الواضح أن ((الريح)) و ((الرياح)) فى غالب شعر الشابى هما كلتاهما للهلاك والتدمير. وعلى هذا تكون ملاحظة الدكتور الغذامى غير صحيحة، والتفسير الذى أقامه عليها تفسيرا لا يستند إلى أى أساس[106].
وإذا أراد القارى أمثلة أخرى على عدم التزام د. الغذامى بما دعا إليه أو اتباعه منهجا نقديا صحيحا فإنى أحيله على إعرابه لــــــ ((الواو)) فى أو سطر من أحد مقاطع قصيدة لعبد الله الصيخان على أنها ((واو عطف))، هذا الإعراب الذى ترتب عليه قوله إنه ينبغى ((ألا يفوتنا الدور العضوى لحرف العطف ((واو))، الذى يفرض علينا التفكير بالجملة (يقصد الجملة التى بدئت بهذا الحرف، ونصها: ((ومات بشير عريسا))) على أنها دخول إلى سياق ذهنى يجب علينا استحضاره زمن التلقى، فالعطف يتطلب معطوفا عليه، ولكن المعطوف غير حاضر أمامنا. إذن هناك غياب لا بد من إحضاره... إلخ))[107]. وهذا الإعراب غير صحيح، ((والواو)) المذكورة هى ((واو استئناف)) لا عطف، ومن ثم فكل ما قاله الدكتور عن ((الدور العضوى لحرف العطف ((الواو)) والغائب الذى لا بد من إحضاره)) لا محلّ له.
هذه بعض أمثلة فقط، وإلّا فبمستطاعى أن أورد الكثير. وهذا دليل على أن الطاقة الكبيرة والحماسة الشديدة اللتين يتمتع بهما الدكتور الغذامى لم توظّفا للأسف فيما هو مُجْدٍ ومعقول.
إن الدكتور الغذامى يردد دائما أننا عندما نتعامل مع نصٍّ ما ينبغى أن نضع معنى هذا النص فى الخلف ونهتم فقط بما يثيره النص من انفعال جمالى. ولكن هل يمكن وجود هذا الانفعال دون المعنى؟ أم هل يكن فصله عنه؟ وهو حين يطبق هذا الكلام على قصيدة ((بانت سعاد)) لكعب بن زهير يرى أن الدلالة الإخبارية فى هذه القصيدة (وهى أن للشاعر علاقة بفتاة اسممها سعاد) ليست هى هدف الشاعر، بل المقصود هو الدلالة الضمنية، وهذه الدلالة يفسرها الدكتور الغذامى بأنها ((هى إحداث الانفعال الوجدانى واللغوى الذى يحاول أن يقول فيه للرسول عليه السلام إنه نادم أولا على ما جرى على لسانه من شعر، ثانيا بأن ذلك الشعر الذى رُوِى كان لشاعر يقول ما لا يفعل"[108].
فما رأى الدكتور الغذامى فى أن الشاعر قد عبّر عن ندمه وتنصّل مما قال قى حق الرسول تعبيراً وتنصلا صريحين لا ضمنيين؟ وأى تصريح أشد من أن يقول:
أُنْبِئْتُ أن رسول الله أوعـــــــــــــــــــــدنى والعفو عند رسول الله مأمولُ
مهلا، هداك الذى أعطاك نافلة الــــ ــــقرآن فيها مواعيظٌ وتفصيل
لا تأخذنّى بأقوال الوشاة، ولـــــــــم أُذْنِبْ، ولو كَثُرَتْ فىّ الأقاويل؟
ويضيف د. الغذامى أن الرسول عليه السلام لو كان قد فهم شعر كعب بدلالته الصريحة لأقام عليه حدّ القذف[109]. فهل يقام فى الإسلام حدّ القذف على رجل لمجرد أنه أدّعى، صدقا أو كذبا، أنه يحب إحدى النساء؟ إن حدّ القذف إنما يُوقَع على شخص يتهم آخر بالزنا. فهل أتهم كعبٌ سعادَ هذه بالزنا؟ وحتى لو كان قد فعل (وهو بالقطع لم يفعل، بل اكتفى بالحديث عن حبه لها، ووصَف عذوبة ريقها، وعاب عليها عدم وفائها)، فهل سمّاها تسمية تعرّف القوم بها بحيث يكون هذا قذفا؟ ثم ما رأى الدكتور الغذامى فى أن الرسول عليه السلام قد أتاه رجل من المسلمين واعترف له بأنه قد اجترح خطيئة الزنا، فراجعه الرسول عليه السلام عدة مرات إرادةَ أن يفتح له باباً للتوبة يَلِجُه ويستر على نفسه ولا يعود بعدها لمثل ذلك؟ أترانا ينبغى أن نقول هنا أيضاً إن الرسول عليه السلام لم يأخذ ذلك الرجل بدلالة كلامه الصريحة بل الضمنية؟ لكن الرجل عندما أتى الرسول عليه الصلاة والسلام معترفا قد اعترف بكلام عادى ليس من الأدب فى شىء حنى نقول إن للأدب وضعا خاصا. ثم إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام، فى رأى الدكتور الغذامى، لم يحاسب كعبا لأنه يعرف أن الشعر لا يؤخذ بدلالته الصريحة، فلم أهدر دمه على ما قاله فى حقه قبل ذلك، وكان قد قاله شعرا أيضاً؟ أترى الرسول (أستغفر الله) يقيس بمقياسين؟ ألا يرى الدكتور الغذامى كيف يؤدى منهجه إلى كثير من المآزق والمزالق بل والمعاطب؟
وإذا كان الرسول عليه السلام يفهم الشعر على أن المقصود فيه هو دلالته الضمنية لا الصريحة، فلم سأل النابغة الجعدى (حين أنشده هذا البيت:
بلغنا السماءَ مجدنا وجدودنا وإنا لنبغى فوق ذلك مظهرا)
قائلا: ((فأين المظهر يا أبا ليلى؟)) ليرد عليه الشاعر مُطَمْئِنا له عليه السلام: ((الجنة يا رسول الله))[110]. أليس هذا برهانا آخر على أنه عليه السلام كان يأخذ الشعراء، فى الظروف المعتادة على الأقل، بدلالاتهم الصريحة؟
ثم لما عاقب عمرُ رضى الله عنه (وكان من المقريبن الملتصقين بالنبى عليه السلام ويسير على سنته ويفهم مراميه) الحُطَيْئة على هجائه لأعراض المسلمين، ثم رأى بعد أن استعطفه الشاعر ورقّق قلبه على أولاده الجياع أن يشترى منه أعراض المسلمين بمبلغ من بيت المال يسدّ به حاجته ويغنيه عن اللجوء إلى فُحْش القول؟ أليس ذلك معناه أن عمر قد فهم شعر الحطيئة بدلالته الصريحة؟
على أنه لا ينبغى أن يُفْهَم من هذا أننا نقول فى كل الأحوال بأنه لا يوجد فى الشعر (والأدب بوجه عام) إلا الدلالة الصريحة، فهناك من الأعمال الأدبية ما لا يستقيم فهمه على وجه الظاهرى، بل لا بد من حمله على المجاز أو الرمز أو التلميح. وقد يكون حمله على الوجهين ممكنا بل ومطلوبا. والنص وتركيبه وسياقه والظروف التى قيل فيها والمنطق الإنسانى وبصر الناقد، كل ذلك هو الذى يحدد أى هذه المناهج هو الذى ينبغى استصحابه أثناء نقد العمل الأدبى.
أما الزعم بأن المقصود بقول الرسول عليه السلام: ((إن من البيان لسحرا)) هو الاهتمام بما لم يلقه الأديب لا بما قاله[111]، فهو لىّ لكلام الرسول عن مواضعه. ومن الواضح أنه صلى الله عليه وسلم يشير فى كلامه الشريف إلى أنّ للأدب مقدرة على التغلغل فى النفس والتأثير فيها ببراعة وخفة وخفاء تشبه فعل السحر. وكيف بالله يمكن أن يقصد الرسول عليه السلام ما فسّر به الدكتور الغذامى كلامه الشريف؟ إن هذا ليس له من معنى إلا أن الرسول يقول إن مهمّة البيان ليست التبيين والتوضيح بل التغميض والتلبيس والإبهام. فهل هذ معقول؟
إن المنهج الذى يدعو إليه الدكتور الغذامى وحاول تطبيقه على كتابات الأديب السعودى حمزة شحاتة رحمه الله هو منهج خطر، وإن النتيجة التى يؤدى إليها هذا المنهج هو التفلّت وإعطاء الناقد الفرصة كاملة لكى يعيث فى النص إفسادا وتحطيما ويضفى عليه ما ليس فيه وينسب إلى صاحبه ما لم يقله ولا يمكن أن يقوله، كل ذلك فى أمانٍ من أن يعقّب عليه أحد أو يراجعه. وهذا هو ما فعله ويفعله الباطنية بالنصوص القرآنية. ألم يقل الدكتور الغذامى بــــــ ((موت الكاتب))؟ لكن الكاتب لا يموت إلا بعد أن يتوفاه الله. أما نحن البشر فلا يملك أحد منا أن يميته بجرة قلم! ونحن لا نواقف الدكتور الغذامى على ما قاله من أن النص، بعد أن يصدر عن المؤلف، يستقل عنه كما يستقل الابن عن أبيه[112]. إن الابن (بفرض تسليمنا بتشبيه د. الغذامى) هو أولاً كائن بشرى ينتمى إلى نفس الجنس الذى أبوه فرد منه، أما النص فهو إنتاج لغوى صادر عن كائن بشرى وليس هو نفسه كائنا بشريا. ومع ذلك فالابن، كما لا أدرى كيف غاب ذلك عن الدكتور الغذامى، يحمل ملامح آبائه، ويظل يُنْسَب إلى أبيه حتى بعد أن يموت هذا الأب: يموت موتا حقيقيا، لا على الورق كما يريد الدكتور الغذامى.
[1] البقرة/ 37.

[2] المدثر/ 38.

[3] الإسراء/ 15، والنجم/ 38.

[4] النجم/ 39.

[5] الأصحاح الثالث/ 1-2.

[6] هو ((يحيى)) عندنا كما جاء فى القرآن. ويمكن تسميته بالعربية ((يحيى المعمّد)) كما وجدت عند بعض الكتّاب.

[7] متى/ 3/ 11.

[8] الأصحاح السابع/ 6.

[9] الأصحاح السابع عشر/ 17.

[10] مرقس/ 14-22.

[11] يوحنا/ 19/ 11.

[12] مرقس/ 14/ 36.

[13] متى/ 27/ 46، ومرقس/ 15/ 34. وانظر هذه النقطة الأخيرة بشىء من التوسع فى كتابى ((مصدر القرآن- دراسة لشبهات المستشرقين والمبشرين حول الوحى المحمدى))/ مكتبة زهراء الشرق/ 1417هــ - 1997م/ 234- 237.

[14] الأصحاح العاشر/ 4.

[15] لوقا/ 11/ 4.

[16] لوقا/ 17/ 3-4.

[17] ومن العجيب أن رؤساء هؤلاء الذين يقولون إن البشر قد ورثوا خطيئة آدم هم أنفسهم الذين أعلنوا فى عصرنا هذا أن اليهود الحاليين ليس لهم ذنب فيما جناه آباؤهم قَتَلَةُ المسيح على زعمهم! أليس هذا كيلا بمكيالين؟

[18] ستانلى هايمن/ النقد الأدبى ومدارسه الحديثة/ ترجمة د. إحسان عباس و د. محمد يوسف نجم/ دار الثقافة/ بيروت/ جــ1/ 241-245. وانظر أيضا ديفيد ديتش/ مناهج النقد الأدبى بين النظرية والتطبيق/ ترجمة د. محمد يوسف نجم، ومراجعة د. إحسان عباس/ دار صادر/ بيروت/ 1967م/ 258-264و :
20th century Literary criticism, edited by David Lodge, Longman, 1976, pp. 174, 189: Watson, The Great psychologists, Lippincot, 4th edition, pp. 541-543, and Elmer Barklund, Contemporary Literary Critics, st. James' press (London) & st. Martin's press (New York), 1977, p. 77.

[19]الواقع أن كلمة ((الرحم))، بمعناها العضوى لا بمعناها الاجتماعى، من الألفاظ التى انتشرت كالوباء فى الشعر العربى الحديث. وليس هذا مقصورا على الأدب الرجالى، ففى ((الجسد حقيبة مسافر)) مثلا للكاتبة السورة غادة السمان (منشورات غادة السمان/ ط2/ 1980م) يصفع أعيننَا ومشاعرنا وأذواقنا قولُها مثلا عن حقيبة النوم التى قضت فيها ليلة جليدية على الرصيف فى مدينة زيوريخ والتى عندما استيقظت وجدت الجليد قد تراكم على سحّابها (أى السوستة) فاستغاثت بمجموعة من الشبان كانوا عابرين: ((ووسط غيمة من الضحك والهتاف باللغة الألمانية التى لا أفقه منها شيئا استطاع الشبان تخليصى من الرحم الجليدى الذى وجدتُنى سجينة فيه)) (ص/ 335). وتقول: ((الشىء المشترك بين الحقيقة المطلقة ولندن هو الضباب. كلتاهما تقطن فى رحم الضباب)) (ص/ 341). وقولها عن تابوت رأته فى أحد متاحف بغداد على شكل رحم (والعهدة عليها): ((إنه... يخلص الحكاية كلها من الرحم إلى الرحم. ومن رحم الأم إلى رحم الموت)) (ص/ 373). وتصوَّر شعورها وهى واقفة أمام حوض أسماك فى متحف برلين الغربية: ((وتشعر بحنين للرحيل إلى رحم الماء اللزج الدافىء)) (ص/ 385)، وغير ذلك كثير. وهكذا فإن لكل شىء عند غادة السمان رحما. حتى ((العودة إلى الرحم)) نجدها أيضا: ((دخلتُ إلى الحمام، واغتسلت، وصليت للإله لأنه منحنا الماء والصابون والدفء ووَهْم العودة إلى الرحم...)) (زمن الحب الآخر/ ط2/ منشورات غداة السمان/ بيروت/ 1972/ ص 37).

[20] الخطيئة والتكفير- من البنيوية إلى التشريحية- قراءة نقدية لنموذج إنسانى معاصر/ النادى الأدبى بجدة/ 1405هــ ـــ 1985م/ ص 149-150. وبالمناسبة فإن وصف النفس بأنها ((أمارة بالسوء)) قد ورد فى القرآن (يوسف/ 53) لا فى الأثر. وهذا أمر مشهور يعرفه العامّى والخاصّىّ.

[21] كنت وأنا أكتب هذا الفصل أقرأ فى كتاب ((شعر أبى تمام بين النقد القديم ورؤية النقد الجديد)) لسعيد مصلح السريحى، فإذا به هو أيضا يتحدث عن ((الخطيئة الأولى التى تولد مع الإنسان))، و ((تطهير الجسد من أدران الخطيئة)) (ص 154-155، 186/ ط. النادى الأدبى بجدة/ 1404هــ ـــ 1983م).

[22] الذى جاء فى الترمذى عند تفسير قوله تعالى:﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ...﴾ (الأعراف/ 172) أن آدم أعجبه من ذريته رجل اسمه داود، فتنازل آدم له عن أربعين سنة من عمره ليعيش داود هذا مائة عام بدلا من ستين. وعندما جاء ملك الموت ليقبض روح آدم قال: أولم يبق من عمرى أربعون سنة؟ فقيل له: إنه تنازل عنها لداود. ((قال: فجَحَد آدمُ فجحدتْ ذريته، ونسى آدم فنسيتْ ذريته، وخطىء آدم فخطئتْ ذريته)). ومن هذا الحديث، بغض النظر عن إسناده، نرى أن الخطأ هو خطأ النسيان والجَحْد الذى سببه حب الحياة وكراهية الموت. فما لهذا وللتفاحة وحواء ووراثة الخطيئة، تلك المفاهيم الوثنية الكنسية؟

[23] طه/ 120.

[24] وذريته أيضاً كما جاء مراراً فى النصّ.

[25] ذكر المؤلف فى الهامش أنها فى الصفحتين السادسة والسابعة من مخطوطة شيرين ابنة الشاعر. وهى فى، ((ديوان حمزة شحاتة))، الذى طبع بعد ذلك (1408هـــ-1988م) برعاية الأمير عبد الله الفيصل وإشراف الأستاذين محمد على مغربى وعبد الحميد شبكشى، موجودة فى ص 161-162، تحت عنوان ((حظوظ)).

[26] ص/ 153.

[27] ص 155.

[28] هناك نصوص أخرى لشحاتة أوردها المؤلف فى نفس الصفحة لا علاقة بينها وبين هذا النموذج الموهوم.

[29] انظر ص 162-163.

[30] ص 164. والقصيدة بأكملها موجودة فى ((ديوان حمزة شحاتة))/ 67-70.

[31] ص 166. وهى موجودة فى ((رسائل إلى ابنتى شيرين))/ ط. تهامة/ الرسالة العاشرة/ 54.

[32] ص 167.

[33] ص 172-173.

[34] ص 112، 176.

[35] ص 181.

[36] ص 182.

[37] ص 217، 243.

[38] آل عمران/ 14.

[39] ص 219.

[40] ص 211/ هامش 97.

[41] الموقف من الحداثة ومسائل أخرى/ ط1/ 1407هـــ ـــ 1987م/ 8-9.

[42] كذا. والصواب: ((فيبنوا))، عطفاً على ((يكونوا)).

[43] المرجع السابق/ 9-10.

[44] السابق/ 12.

[45] ص 100. وانظر كذلك ص 155-156.

[46] ص 17.

[47] انظر ص 18.

[48] ص 23.

[49] ص 76-77. وانظر كذلك ص 95-96.

[50] الخطيئة والتكفير/ 8.

[51] المرجع السابق/ 10، 18.

[52] الموقف من الحداثة/ 86-87.

[53] الخطيئة والتكفير/ 71.

[54] المرجع السابق/ 71-74.

[55] السابق/ 80-81، والموقف من الحداثة/ 74.

[56] الموقف من الحداثة/ ص 74.

[57]المرجع السابق/ 91. وانظر كذلك ((الخطيئة والتكفير))/ 84. ومما له علاقة بالسياق الأكبر للنص قول الدكتور الغذامى إن الكلمة فى النص الأدبى تحمل معها تاريخا مديدا ومتنوعا وَعَى الكاتبُ بعضَه وغاب عنه البعض الآخر. ولكن هذا التاريخ يظل مرتبطا بالكلمة لا يغيب عنها، فهى دائما حُبْلَى به (الخطيئة والتكفير/ 79).

[58] الخطيئة والتكفير/ 87-88.

[59] المرجع السابق/ 83. وانظر كذلك ((تشريح النص))/ دار الطليعة/ بيروت/ 1987م/ 14.

[60] الخطيئة والتكفير/ 91-93. ولاحظ أنه عاد فاهتم هنا بالمؤلف وموقفه من العالم!

[61] انظر/ 93 من المرجع السابق.

[62] السابق/ 102-103.

[63] جاء فى كتاب عابد خزندار ((حديث الحداثة)) (المكتب المصرى الحديث/ القاهرة/ 134، 136 عن بارت، (الناقد الفرنسى الذى يقتفى الدكتور الغذامى خطاه وأفكاره وبإخلاص عجيب) ما يلى: ((ولأنه متمرد فإن أطروحاته رغم منهجيتها لا تنتظم فى كتاب واحد. إنها مبثوثة فى كتب عديدة ومقالات شتى. وهى كتب ينقض بعضها البعض الآخر. وقد قضيت عمراً ليس بالقصير فى محاولة فهم نظرية بارت فى ((القراءة)). وهو أحد الرواد فى هذا المجال الذى يضم بين دفتيه قضية العصر، عصر القارىء وليس عصر المؤلف، عصر خالق النص، وهو القارىء وليس المؤلف، كما يقرر بارت... بارت كاتب... من الصعب أن نفهم ما يقوله، وأعرف بأننى لم أفهم ما يقوله إلا بعد عشر سنين من الجهد المضنى)). ليس ذلك فقط، فإن خزندار يقرر أنه فى سبيل إعداد الدراسة التى كتبها عن بارت فى كتابه الذى نقلنا منه هذا الكلام (حديث الحداثة) لم يرجع إلى ما كتبه بارت نفسه، الذى كرر القول إنه مبعثر فى عدة كتب ومن الصعب جدا متابعته، بل استعان بتلخيص نومى شور الباحثة الأمريكية لآراء بارت فى مقال لها واحد. والحق أن هذه شجاعة أدبية من عابد خزندار ينبغى تحيته وتهنئته عليها، وهى تدلنا على المدى الرهيب الذى وصل إليه الدجل فى بعض مجالات النقد الأدبى.

[64] انظر ((الخطيئة والتكفير))/ 81.

[65] الخطيئة والتكفير/ 12، 149، 195 وما بعدها.

[66] ص 331. وانظر أيضا ص 92 حيث يعتمد على ما هو معروف من حياة دريد بن الصمة فى توجيه معنى بيت له. وهناك أمثلة أخرى فى الكتاب.

[67] انظر عابد خزندار/ حديث الحداثة/ 144-115.

[68] انظر ((الموقف من الحداثة))/ 85.

[69] المرجع السابق/ 84-85.

[70] السابق/ 57.

[71] الخطيئة والتكفير/ 113-114.

[72] انظر ص 330-330 من المرجع السابق.

[73] لنلاحظ أن الشعراء قد يشبهون المرأة بالظبى، وقد يشبهونها بالظبية. لا فرق. فإذا كانت ((ظبية)) (بالتأنيث) هى زمزم، فماذا يكون ((ظبى)) (بالتذكير)؟

[74] انظر مثلا ((تشريح النص))/ 78.

[75] الخطيئة والتكفير/ 331.

[76] تجد القصيدة كلها فى ص 344 وما بعدها من كتاب ((الخطيئة والتكفير))، أمّا فى الديوان فتلقاها تحت عنوان آخر هو ((نفيسة))/ ص 55 فصاعدا.

[77] الحاقة/ 6.

[78] الحجر/ 22.

[79] لاحظ إلحاح الكاتب على مفهوم ((الخطيئة)) الكنسى.

[80] تشريح النص/ 29. ولاحظ استخدام المؤلف لكلمة ((الرحم)) هو أيضاً.

[81] انظر كتابه ((البرهان فى علوم القرآن))/ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ دار الجيل/ بيروت/ 1408هــ ــ 1988م/ 4/ 10-11.

[82] يونس/ 22.

[83] يوسف/ 94.

[84] الأنبياء/ 81.

[85] سبأ/ 12.

[86] ص/ 36.

[87] الشورى/ 33.

[88] الأنفال/ 46.

[89] الكهف/ 45.

[90] وقد حقق د. على محمد حسن العمارى فيما بعد هذه النقطة وانتهى إلى نفس النتيجة التى أثبتناها هنا (انظر كتابه ((الريح والرياح فى القرآن الكريم وفى كلام العرب))/ ملحق مجلة ((الأزهر))/ شوال 1417هــ). أقول: ((فيما بعد)) لأن ما كتبته عن د. الغذامى قدر صدر لأول مرة قبل بحث د. العمارى بعدة سنوات فى كتابى ((أدباء سعوديون)) الذى نشرته مكتبة شقير بالطائف (1412هــ ـــ 1991م).

[91] أبو القاسم الشابى/ أغانى الحياة/ الدار التونسية للنشر/ 1966م/ 123.

[92] المرجع السابق/ 126.

[93] السابق/ 133.

[94] ص 135.

[95] ص 147.

[96] ص 149.

[97] ص 155.

[98] ص 191.

[99] ص 203.

[100] ص 214.

[101] ص 228.

[102] ص 229.

[103] ص 246.

[104] ص 268.

[105] ص 273.

[106] هذا ما كنت انتهيت إليه بالنسبة لاستعمال هاتين الكلمتين فى شعر الشابى فقط. وقد بحث د. العمارى، فى دراسته المشار إليها قبل قليل، هذا الاستعمال فى بعض مختارات الشعر القديم فوجد أن كلتا الكلمتين تُسْتَعْمَل فى الضر والنفع معا (انظر كتابه ((الريح والرياح فى القرآن الكريم وفى كلام العرب))/ 61-71). ومعنى هذا أيضاً أن ما قاله د. الغذامى فى هذه المسألة كلام مرسل دون أدنى تثبت.

[107] تشريح النص/ 47.

[108] الموقف من الحداثة/ 76-78.

[109] المرجع السابق/ 67، 68، والخطيئة والتكفير/ 262.

[110] انظر د. شوقى ضيف/ العصر الإسلامى/ ط7/ دار المعارف/ 100-101.

[111] انظر ((الخطيئة والتكفير))/ 121.

[112] الموقف من الحداثة/ 86-87. وانظر ((الخطيئة والتكفير))/ 71-72.