ثروت عكاشة وجبران خليل جبران
إبراهيم عوض
حين أراد د. ثروت عكاشة أن يسجل لدرجة الدكتوراه فى السوربون كان فى ذهنه أن تكون رسالته عن جبران خليل جبران، بيد أنه فوجئ أن باحثا لبنانيا قد سبقه إلى تسجيل هذا الموضوع، فصدم صدمة شديدة لولا أن المستشرق الفرنسى ريجى بلاشير قد اقترح عليه اختيار ابن قتيبة بدلا من جبران وتحقيق كتابه: "المعارف"، فقبل كاتبنا بعد فترة من التردد استطاع بلاشير أثناءها أن يزيل مخاوفه وأسباب تردده واحدا واحدا، فتم التسجيل. لكن عكاشة رغم ذلك ظل متعلقا بجبران تعلقا شديدا، بل إنه لم يرتبط بأديب عربى فى القديم والحديث ارتباطه بجبران حتى إنه لم يكتب بعد حصوله على درجة الدكتورية إلا عن جبران، إذ انقطع له وقتا طويلا من عمره مترجما ومقدما كتبه الإنجليزية إلى القراء العرب رغم أن هناك ترجمات أخرى لتلك الكتب أو لبعضها على الأقل.
ولا أكتم القارئ أننى لا أشارك د. عكاشة هذا الهيام بجبران. إنه ليس بغيضا لدىّ، فقد قرأت بعض كتبه العربية أو المترجمة إلى العربية، وبدأت أهتم به منذ مرحلة المراهقة حين وقع فى يدى كتاباه: "الأجنحة المتكسرة" و"الأرواح المتمردة" فى طبعة دار الهلال ذات الغلاف الأخضر الذهبى فيما أذكر، ولا أظن إلا أننى استمتعت بهما كما كنت أستمتع بكل ما أقرأ فى تلك الأيام النضرة، إذ كان الكتاب يمثل لى عالما سحريا ويحرك فىّ أجمل ما فى طبيعتى وشخصيتى، فكنت أحس أننى محمول على أجنحة النسور إلى الأعالى حيث يسكن الكتاب والأدباء، وبخاصة المشاهير منهم كالمنفلوطى والعقاد والمازنى وأحمد أمين وجرجى زيدان وجبران وحسين عفيف وعلى الجارم وتوماس هاردى وإميلى برونتى وأختها تشارلوت وغيرهم. كما قرأت قبل نحو تسع سنوات من الآن كتابه عن "عيسى ابن الإنسان" من ترجمة الأرشمندريت أنطونيوس بشير. وأغلب الظن أنى قرأت له فيما بين ذلك "دمعة وابتسامة"، وبكل تأكيد قرأت له شيئا غير قليل من رسائله إلى مى وغير مى، أما أن أكون قد قرأت له أشياء أخرى فلا أستطيع أن أتذكر، والذاكرة كثيرا ما تخذل صاحبها، وليس هذا بغريب. ولهذا يصفونها بأنها خوانة. أما "عن" الرجل فقد قرأت كثيرا: كتبا ومقالات وفصولا فى كتب، وبخاصة فى تلك الكتب التى تتناول أدباء المهجر: شعرهم ونثرهم، إذ كان جبران يحتل مقعدا فى الصف الأول منها دائما، فضلا عن شعره، الذى قرأت شيئا منه مع الشعراء الشوام المهاجرين إلى أمريكا.
لكننى بعد الاستمتاعة الأولى التى أشرت إليها لم أعد أشعر بميل قوى نحو كتابات جبران ولا كنت حريصا أن أقرأ له كل ما كتب كما هو واضح. ثم إننى، حين اقتربت منه من خلال ما كُتِب عنه على يد من كانوا على صلة حميمة به، شعرت بأنه يبتعد عنى. لقد فهمت أنه كان يتظاهر بما ليس فيه فيزعم مثلا أنه من أسرة أرستقراطية، على حين كان أهله ناسا بسطاء كأهلينا، وربما أقل[1]، لكنه كان يشعر بنقص يداريه فى هذا التظاهر، وهو ما ينبغى أن يتنزه عنه الواحد منا، إذ ليست العبرة فى وضع الأسرة المادى والاجتماعى، بل فى وضع الشخص ذاته. وما أكثر العظماء الذين كانت منابتهم الاجتماعية ضئيلة الشأن طبقا للعرف الاجتماعى! وكذلك ما أكثر المجرمين الذين انحدروا من بيئات اجتماعية ومالية متميزة!
ومعروف أنه كان يعيش فى أمريكا عالة على أخته، التى كانت ترهق عينيها بأشغال الإبرة حتى توفر لنفسها وله الطعام والشراب والمسكن والملبس[2]. كما ذهب إلى باريس وعاش هناك فترة يدرس الفن من مال امرأة أمريكية ناظرة مدرسة تسمى: مارى هسكل تكبره فى السنّ كانت تحبه (فى حين كان هو مغرما بفتاة باريسية جميلة كانت تعمل مدرّسة تحت رئاستها فى نيويورك) رغم أن طلب الفن فى باريس لم يكن ليُعْجِز طالبَه عن السعى وراء لقمة العيش. بل لقد حملت منه الفتاة الفرنسية الجميلة سفاحا، وتبعته إلى باريس تطلب منه أن يعقد عليها، إلا أنه أبى. ولم يقف عون مارى هسكل له عند عودته من باريس، بل ظلت تمده بالمال فى أمريكا[3]. ثم إن موقفه من مى زيادة، التى كانت تحبه ويحبها كما كتب الكاتبون وحلل المحللون، هو أيضا من المواقف التى صغّرت شأنه فى عينى. ترى لماذا لم يستجب لنداء الحب ويتزوجها؟
لقد كان كثير الكلام عن الحب ويراه شيئا مقدسا يعلو فوق كل اعتبار آخر حتى لقد كان يرى أنه لا شىء على المرأة المتزوجة التى تحب رجلا آخر وتلقاه من خلف ظهر زوجها وتناجيه وتحتضنه وتقبله وتقضى معه الوقت الطويل، وهو ما لا أفهمه رغم معرفتى وإقرارى بأن الحب عاطفة فريدة عجيبة ساحرة[4]، إذ أرى فى ذات الوقت أن الواجبات الأخلاقية والاجتماعية مقدسة لا ينبغى التفريط فيها رغم افتقارها إلى حلاوته وسحره، وإلا انهدم المجتمع وتفككت الأسر وخربت البيوت وتشردت الذرية. ولقد انْتَقَدَتْ هذا منه، ضمن من انتقدوه من الكتاب والنقاد، مى زيادة وأنكرته إنكارا شديدا رغم ما قيل عن حبها الشديد له. وقد أورد د. عكاشة نص كلامها فى مقدمة ترجمته لكتاب "النبى"[5]. بل لقد دافع جبران فى قصة "الأرواح المتمردة" عن هروب المرأة من بيت الزوجية وعيشها مع عشيقها تعاشره معاشرة الأزواج لأن المهم عنده هو الحب، فهو يسميه: "شريعة السماء"، لا الزواج، الذى يقلل من شأنه واصفا إياه على سبيل التحقير بأنه "شريعة الأرض" [6]. وهو يجعل الزوجة الخائنة تصف معاشرتها لزوجها، الذى لا تحبه، بأنها "زنا"، مما استفز المنفلوطى، فحمل على القصة وصاحبها حملة مدمدمة رغم أنه لم يسمها ولا سمى مؤلفها[7]. ولقد دفع جبران ضريبة هذا كله حين مرض وشعر بدنو أجله، إذ كان يتمنى لو كان قد تزوج وأنجب أطفالا يرعاهم وينفق عليهم هو الذى قضى حياته يرعاه الآخرون ويقومون بحاجاته رغم تشدقه كثيرا بوجوب العمل والتأكيد بأن الحياة هى الحب، والحب هو الحياة. إلا أن الوقت كان قد فات، فمات جبران دون أن تتحقق أمنيته[8].
وزاده ابتعادا عنى، أو قل: زادنى ابتعادا عنه، أنه مغرم إلى درجة مغالية بحشد الصور البيانية فى كتبه وفصوله مع الحرص دائما على افتراع الصور الجديدة المدهشة التى قد تسحر العين للوهلة الأولى، لكن سرعان ما تخبو ولا يعود لها أثر يُذْكَر مثلما يفعل الحجر حين نقذفه فى البركة، إذ ينشئ للتو دوائر تنداح وتنداح، ليهدأ كل شىء فى النهاية كما بدأ، ولا يبقى ما يدل على أن حجرا قد قُذِف فى الماء وصنع ما صنع. لا بل إن هذا الوَلَه بالصور المجنَّحة وتعمد الإتيان فيها بالجديد دائما قد يكون الآن، بعدما كبرتُ ونضجتُ، أقرب فى بعض الأحيان إلى تمويع نفسى منه إلى لَذَّتها. كما أن أفكاره بوجه عام تبدو لى مهوّمة، إن لم أقل: مهوّشة، وفى كثير منها مغالاة لا أتجاوب معها. وهو لا يبالى أن يدعو الناس إلى أشياء يكون هو أول من يتجافى عنها ولا يعملها[9]. ومن هنا أستغرب أشد الاستغراب أن يصل الحال باللبنانيين إلى أن يكتبوا على شاهد قبره حين وصل نعشه ودفنوه عندهم: "هنا يرقد نبينا جبران"، فليست النبوة لعبة نتسلى بها، وبخاصة إذا أُضْفِيَتْ على واحد كجبران، وإن عادوا فبدلوا العبارة إلى "هنا يرقد بيننا جبران"[10].
وكان جبران مدمنا للتدخين مفرطا مكثرا من احتساء الخمر حتى أصيب بسرطان الكبد ومات جَرّاءه، مع بدايات سُلّ[11]. وأنا ممن ينفرون من التبغ والخمر ولا أطيقهما ولا أستطيع تحمل رائحتهما فى أفواههم. ورغم أننى قد مكثت سنوات فى بريطانيا وشهدت فى أوكسفورد حفلات جامعية كثيرة تقدم فيها المشروبات الكحولية كنت أشمئز من منظر محتسيها، وبخاصة النبيذ الأحمر، الذى كان يخيِّل لى أننى أرى فى محتسيه دراكولا مصاص الدماء بتأثير اللون الأحمر الفاقع على شفاههم. وكنت فى تلك الحفلات أقبل على عصير البرتقال والتفاح وما أشبه مما يسمونه: "المشروبات الطرية"، تاركا الخمور (أو "الهارْد دِرِنْكس" فى التعبير الإنجليزى) للأوربيين والأمريكان وبعض الدارسين العرب الذين كانوا يشاركونهم الغرام بأم الخبائث. بل إنى لأتصور أننى، لو لم أكن مسلما، لربما بقيت على نفورى من الخمر ولم أفكر فى الاقتراب منها، بَلْهَ شُرْبَها.
هذا هو رأيى فى جبران، لكن الأذواق والآراء تختلف من شخص إلى آخر كما يعرف كل أحد، وما يراه ناقد أو أديب من الكُتّاب قد يرى غيرَه ناقد أو أديب آخر. وقد أكد د. ثروت عكاشة أنه مرتبط، منذ صباه، مع جبران فى فكره وشاعريته ورومانسيته، وأن رومانسية الأديب اللبنانى المهاجر قد امتزجت بحسه ووجدانه تمام الامتزاج، وأن كتاباته تهبنا لونا من المواساة وتأخذنا فى رحلة من التأمل العميق لأسرار الوجود، وأن نزعته فى أدبه هى العناق بين الدين والحياة[12]. ولكن أية مواساة تهبنا إياها كتابات جبران؟ وأى دين ذلك الذى يعانق الحياة فى كتابات جبران؟ وكيف يكون هذا العناق؟ لقد كان الرجل ثائرا على الدين.
ومع هذا فثروت عكاشة حر فى هيامه بجبران، هذا الهيام الذى سبب له صدمة كبيرة حين فوجئ بأنه لن يستطيع أن يتخذ من أديبه الأثير على حد قوله موضوعا لأطروحته التى كان يريد الحصول بها على درجة الدكتورية من السوربون عام 19م على ما مر بيانه فى أحد فصول الكتاب الذى بيد القراء. ورغم أن عكاشة قد تحول، بناء على اقتراح المستشرق الفرنسى ريجى بلاشير، الذى أشرف عليه فى جامعة باريس، إلى دراسة ابن قتيبة وكتابه: "المعارف"، فإنه ما إن انتهى من كتابة الرسالة، وإن لم يحصل على الدكتورية إلا بعد ذلك بعدة سنين نظرا إلى العدوان الثلاثى، الذى اشتركت فى شنه على مصر الدولة الفرنسية، حتى شرع فى العكوف على جبران وترجمة آثاره المكتوبة بالإنجليزية، فترجم أول شىء كتاب "النبى" عام 1959م، ثم أتبعه بترجمة "حديقة النبى" بعده بعام، لتكون ترجمة "عيسى ابن الإنسان" عام 1962م هى ثالثة الترجمات، وترجمة"رمل وزَبَد" بعدها بعام واحد هى رابعتها، وترجمة "أرباب الأرض" عام 1965م هى الخامسة، ثم ننتهى أخيرا مع "روائع جبران خليل جبران- الأعمال المتكاملة" عام 1980م[13].
وقد كتب د. عكاشة مقدمة طويلة لترجمة كتاب "النبى" تناول فييها عة من القضايا المتصلة بحياة جبران وأدبه، وبخاصة ذلك الكتاب. وفى كلامه عن حياته لم يخرج عما نعرفه من أحداث تلك الحياة مما تعرضت أنا لبعضه فى الصفحات المارة من الفصل الحالى، ومنها علاقته بمارى هاسكل، تلك العلاقة التى رأى عكاشة أنها انعكاس لعقدة أوديب: فهاسكل تمثل لجبران أمه بعطفها عليه ورعايتها له، وهو رغم تعلقه بها لم يكن يريد معاشرتها جنسيا لهذا السبب، لأن مضاجعة الأم أمر محرم. وإذا كان قد عرض عليها الزواج فإنه لم يكن جادا فى ذلك العرض، بل ذكره وفاء لما صنعته من جميل معه. ولكن الرد على ذلك سهل يسير، إذ سبق لجبران أن عرف امرأة أمريكية تكبره أكبر من هاسكل، التى لم يكن يزيد الفرق بينها وبينه عن عشر سنوات، وكان هو وقتذاك أصغر سنا بكثير، ومع ذلك قامت بينهما علاقة آثمة رغم أن المرأة كانت زوجا لأحد التجار. ثم ما دامت مضاجعة هاسكل أمرا محرما بصفتها فى مقام أمه فلم يا ترى عرض عليها الزواج مرارا، والزواج بطبيعة الحال يتضمن تلك المضاجعة؟ هل يعرض ابنٌ على أمه أن يتزوجها؟ وهل كان جبران يهتم أصلا بحلال أو حرام، وهو الذى نبذ التقاليد والأخلاق التى تعرف عليها الناس ونادت بها الأديان حسبما وضحت فى الصفحات السابقة من هذا الفصل؟ ولقد ذكر نعيمة أنها، حين عرض عليها جبران الزواج عقب عودته من فرنسا، سألته: أأنت نظيف؟ تقصد أن تطمئن إلى أنه ليس مريضا بمرض تناسلى يعديها به. فهى إذن التى رفضته لا هو. كما أن هذا الرد قد آلمه إيلاما مفرطا طبقا لما ذكره نعيمة. أفلو كان ينظر إليها تلك النظرة البنوية التى يفسر بها عكاشة أمره معها، أكان يتألم من ملاحظتها كما يتألم الرجل من امرأة يريد أن يثبت رجولته فى عينيها؟ ويبدو لى فوق ذلك أن هاسكل لم تكن امرأة قوية الجاذبية.
كما أن جبران أقام، وهو فى فرنسا، علاقات بأكثر من فتاة جميلة، وهذا من شأنه أن يجعل هاسكل تبدو أقل إثارة، فضلا عن أنه ربما كان لا يريد أن يرى أمامه طول النهار والليل فى البيت من يذكّره بأنه كثيرا ما مد يده إليه بالعطاء، وهو المتنفِّج الذى يحب أن يعيش فى أوهام العظمة والغنى كما رأينا. وأخيرا من الواضح أن جبران ليس إنسان زواج: رأيناه يتهرب من ميشيل الفتاة التى كان يحبها ويشتهيها، وعاشرها وحملت منه. ورأيناه يتهرب من مى زيادة ولا يحاول أن يصل بعلاقته بها إلى النهاية الطبيعية التى يحلم بها كل رجل طبيعى، وكل امرأة طبيعية. بل لم نره فكر يوما فى التزوج بأية امرأة. فلم نذهب فنحمّل علاقته بمارى هاسكل ما لا تحتمل؟ ولقد أورد د. عكاشة لجبران بعض الأقوال التى تكشف عن أعماقه فى هذا الصدد، إذ يسهل علىّ أن أفسر عزوفه عن الزواج بأنه لم يكن على استعداد لتحمل مسؤولية إنشاء بيت وأسرة والنهوض بالتكاليف التى يستلزمها ذلك بكل ألوانها من مالية ونفسية واجتماعية وأخلاقية. ولقد سبق أن قلت إن الحب شهى أشهى من الزواج بكل تأكيد، إلا أن الحياة لا يمكن أن تقوم على الحب واختطاف اللذة والسعادة اختطافا، بل تُكَبِّدُنا لقاء هذا ضروبا من الواجبات لا بد لنا من النهوض بها، وإلا فشلت الحياة وانهارت ولم تستقم. لقد طلب مثلا من مى زيادة أيام تراسلهما أن تأتيه فى بوسطن[14]، ولم يتجشم أن يسال نفسه: ولم لا يذهب هو إليها فى القاهرة، وهو الرجل، وهى المرأة، وأى امرأة؟ إنها امرأة شرقية حساسة وخجولة وعلى قدر كبير من الثقافة والأدب والشهرة، ما دام يحس بالوحدة والاغتراب ويحتاج إلى إنسانة مثلها إلى جانبه؟ وفوق ذلك أورد عكاشة إيراد المندهش قول جبران إن "تاريخ العالم لم يفسح إلامجالا نادرا لزيجات حقيقية. وليس يعنى إنجاب الأطفال إنجاب الحياة. وماأسعد النباتات لأنها لاتعانى من ضغوط الحياة الاجتماعية!"[15]. إنها الأنانية والعجز عن القيام بواجب الحياة، تلك التى يسفسط عنها زاعما أن إنجاب الأطفال لا يعنى إنجاب الحياة، وكأن الحياة يمكن أن تستمر دون تلك الأوراق الجديدة التى تظهر على أغصان الشجره بعد سقوط الأوراق الجافة. أم تراه كان يظن بأن الأطفال يمكن الحصول عليهم من أمام أبواب الكنائس فى نيويورك؟ ولكن فاته أن مثل أولئك الأطفال لا بد أن يأتوا هم أيضا ثمرة للمضاجعة بين رجل وامرأة؟ وبالله لو أن أبا جبران كانت له فلسفته تلك السوفسطائية الأنانية، فهل كان جبران ليرى نور الحياة؟ وبالله مرة أخرى كيف تحلو الحياة دون أطفال؟ صدق الله العظيم: "المال والبنون زينة الحياة الدنيا".
وإنى لأجد الآن سعادة عظيمة لا تعادلها سعادة وأنا ألاعب أحفادى وأقبّلهم، وأشترى لهم الحلوى واللعب وكل ما يحبون، وأعطيهم النقود وألعب معهم، وأنسى كثيرا من متاعبى وهمومى وأنا فى حضرتهم رغم صغر سنهم الشديد، فكبراهم لا يزيد عمرها عن ثلاث سنوات. إن جبران، لأنانيته وسوفسطائيته، يريد أن يعيش كالبشر فى إشباع شهوته مع امرأة جميلة فى كل مرة تثور به الشهوة، ولكن كالنباتات فى عدم إنجابها. بَيْدَ أن النباتات، يا سيد جبران، تنجب هى أيضا، ولكن بطريقتها، وإلا فمن أين لك بدقيق رغيف الخبر وبطبق البامية أو الكوسة أو البازلاء مثلا إذا لم تكن النباتات تتكاثر؟ ومن أين لك بقطعة الجبن وكوب اللبن وشريحة اللحم التى تزدردها لو جرت الحيوانات على أسلوبك البوهيمى الأنانى الضيق الأفق فلم تنجب أبقارا وجواميس وأغناما ودجاجا وديوكا وحماما وبطا وإوزا وأرانب وأسماكا جديدة؟
وكذلك الحال مع أولادى قبل أن يكبروا، فقد متعنى الله بهم وسقانى قدرا غير قليل من السعادة قبل أن يشبّوا ويتزوجوا وينجبوا هم أيضا أطفالا. بل إنه لا يزال يمتعنى بهم رغم أنهم صاروا رجالا ونساء حين يأتون لزيارتى أنا وأمهم وأعطيهم أحيانا بعض ما أتصور أنه يعوزهم أو ما أشعر أنه يسعدهم حتى لو لم يكونوا فى حاجة إليه. والآن عندما يخطر لى الموت فإنى لا آسى على شىء، فقد وهبنى الله نصيبا لا بأس به من السعادة، والحمد لله. ولقد أحسست إحساسا قويا بألم الندم الذى أحس به جبران عندما شعر بدنو الموت إثر إصابته بالعلل المستعصية، وتعاطفتُ معه تعاطفا قويا لشعورى باشتراكه معى فى الإنسانية والعروبة والتأليف، فضلا عن ميتته المحزنة فى الغربة دون أب أو أم أو قريب، ودون أن يبكيه ابن أو ابنة أو زوجة، ودون أن يخلف وراءه ذرية تحمل اسمه إلى جانب أعماله التى حفظت وسوف تحفظ بمشيئة الله ذكره ما بقيت العربية وبقى أحد يقرؤها رغم ما سلف أن قلته من رأى فى تلك الأعمال، فهذا موضوع آخر، إذ لست أنا كل القراء ولا كل النقاد.
هذا، ولم أتعرض لمدى لياقة ما يسمى: "عقدة أوديب: Oedipus complex"، تلك العقدة التى فسر بها د. عكاشة حالة جبران فى موقفه العاطفى والجنسى من مارى هاسكل. وهذه العقدة عقدة نفسية تتسم بتعلق الولد بأمه تعلقا جنسيا مصحوبا عادة بغيرة من الأب أو بكراهية شديدة له. تظهر عند الأطفال فيما بين سن الثالثة وسن الخامسة، وقد تكون مصدر اضطراب في شخصية البالغ إذا لم تُحَلّ. وقد طلع فرويد على الناس بهذه الفكرة في كتابه "تأويل الأحلام: Die Traumdeutung" عام 1899م، وأطلق عليها هذا الاسم، وفيه إشارة إلى أسطورة أوديب. وتعرّف "الموسوعة العربية العالمية" "عُقْدَةُ أودِيب" بأنها "مفهوم اسْتُخْدِم في التحليل النفسي، وهو رغبة الطفل غيرالواعية في الاستئثار بحب الطرف المضاد لجنسه من والديه (الولد للأم، والبنت للأب). وتشتمل هذه الرغبة على الغيرة من الولد تجاه الأب، أو البنت تجاه الأم، والرغبة غيرالواعية في موت الأم أو الأب. أول من استخدم مصطلح عقدة أوديب العالم النفسي النمساوي سيجموند فرويد، وجاءالمصطلح من أسطورة أوديب، البطل الإغريقي الذي يقال إنه قتل أباه وتزوج أمه. استخدم فرويد المصطلح لوصف الشعورغير الواعي للأطفال من كلا الجنسين تجاه والديهم. ولكن فيما بعد استخدم الباحثونمصطلح"عقدة إلكترا"لهذه العقدة عند البنات. فطبقًا لرواية إغريقية ساعدتامرأة تدعى إلكترا في التخطيط لقتل أمها. يعتقد فرويد أن عقدة أوديب جزء من نمو الإنسان النفسي، ويفترض أن ينتهي تطورالمرحلة الأوديبية في عمر 5,2 إلى 6 سنوات. ففي هذه الفترة يعرف الإنسان المشاعرالفياضة من حب وكراهية وغيرة وخوف وغضب مما يُحْدِث لديه اضطرابات عاطفية. ويتغلب معظم الناس، مع النمو، على عقدة أوديب. غير أن بعض الأفراد المرضى عقليا تظهر لديهمعقدة أوديب بقوة وهم كبار. ويرجع فرويد سبب ذلك إلى الخوف من عقاب الأب. وقد اعتقد فرويد أن جميع الناس لديهم عقدة أوديب. ولكن كثيرًا من علماء علمالإنسان (الأنثروبولوجيا) والباحثين في التحليل النفسي يشكون في وجودالعقدةفي بعض المجتمعات، ويعتقدون أنها تتطور نتيجة للبيئة الخاصة بمجتمع الشخص ولا توجدلدى كل فرد".
وفى ترجمة فرويد فى النسخة العربية من "موسوعة الويكييديا" أن عقدة أوديب مرحلة في تطور الطفل بين ثلاث سنوات وست سنوات تتميز برغبة الطفل في الاستئتار بأمه، لكنه يصطدم بواقع أنها ملك لأبيه، مما يجعل الطفل في هذه المرحلة من تطوره التي تمتد من السن الثالثة إلى التاسعة يحمل شعورا متناقضا تجاه أبيه: يكرهه لتملكه أمه حسبما يتصور، ويحبه جراء المشاعر الإيجابية التي يشمل بها الأب ابنه، وأن تلك العقدة تجد حلها عادة في تماهي الطفل مع أبيه لأن الطفل لا يستطيع أن يقاوم الأب وقوته فإنه يمتص قوانين الاب. وهنا يأتى تمثل عادات الأب وأفكاره وقوانينه في قالب فكرى لدى الطفل، وأن فرويد يرى أن السمات الأساسية لشخصية الطفل تتحدد في هذه الفترة التي تشكل جسر مرور للصغير من طور الطبيعة إلى طور الثقافة، لأنه بتعذر امتلاكه الأم يكتشف أحد مكونات القانون متمثلا في قاعدة منع زنا المحارم.
ونقرأ أيضا فى "الموسوعة العربية العالمية" فى التعريف بأوديب أنه "ملك طيبة في الأسطورة الإغريقية. قتل أباه من غير أن يعرفه وتزوجأمه عن طريق الخطأ أيضًا... والرواية التالية اقتُبِسَتْ من المأساة التي كتبها المسرحي الإغريقي سوفوكليس باسمالملك أوديب. أَخْبَر كاهنُ دلفي ملكَ طيبه ليوسَ أن زوجته الملكة جوكاستا ستلد طفلاً يقتل أباه الملك. وعندما ولدت جوكاستا أمر ليوس بقتل الطفل. ولكن قام راعٍ بإنقاذ الطفل وأحضره إلى الملكبوليبس ملك كورنث.، فتبنى بوليبس الطفل وأسماه: أوديب. ترعرع أوديب في كورنث، وعرف من الكاهن منذ صباه أنه سيقتل أباه ويتزوج أمه. ولأنه كان يعتقد أن بوليبس هو والده فقد حاول تفادي وقوع هذه النبوءة بالهرب من كورنث. وفي طريقه إلى طيبة تشاجر مع رجل وقتله. كان هذا الغريب الملك لويسنفسه. التقى أوديب بالقرب من طيبة بأبي الهول، وهو كائن له جسم أسد وأجنحة ورأس امرأة. كان أبو الهول يقتل كل من لا يجيب عن اللغز الذي يطرحه وهو: ما الشيء الذي له صوتواحد، ويمكن أن يكون بأربع أرجل أو برجلين أو ثلاث؟ سأل أبو الهول أوديب عن حلاللغز، الذي لم يستطيع أحد الإجابة عنه، فأجاب أوديب: الإنسان. فهو يحبو على أربع وهوطفل، ثم يمشي على رجلين، وفي الكبر يحتاج إلى عصا يتوكأ عليها ليمشي. فانتحرأبوالهول من فوره لأن أوديب حل اللغز. وكوفئ أوديب بأن صار ملكًا على طيبة، وتزوج منجوكاستا الملكة الأرملة.
بعد عدة سنوات ضرب الطاعون طيبة، فنادى الكاهن بأن الطاعون سيظل يحصد الأرواح إلىأن يُطْرَد قاتل الملك ليوس من طيبة. حقق أوديب في حادثة مصرع الملك، فتبين له أن ليوسماهو إلا الرجل الذي قتله وهو في طريقه إلى طيبة. وعرف أن ليوس هو أبوه، وجوكاستا هيأمه، فما كان منه إلا أن فقأ عينيه وصار أعمى، أما جوكاستا فقد انتحرت شنقًا. نُفِيَ أوديب من طيبة، وتوفي في كولونس بالقرب من أثينا. وكان الملك ثيسيوس ملكأثينا قد وعده بأن يقوم بدفنه هناك دفنًا لائقًا لأن روحه سوف تحمي المنطقة منالأذى".
والآ، هل كان جبران يشتهى أمه؟ ليس فى أخبار الرجل شىء من هذا على الإطلاق، بل كانت علاقته بها وبأبيه علاقة عادية، إذ لم نسمع أنه كان يكرهه أو يتمنى موته، أو ذَكَره بسوء قط. ثم أين كانت تلك العقدة، وجبران يقيم العلاقات الجنسية والعاطفية الواحدة بعد الأخرى مع فتيات عاديات ليس بينهن وبين أمه من شبه لا فى الملامح ولا فى السن ولا فى الثقافة ولا فى العادات والتقاليد ولا فى الملابس، ولم يحدث أن تحرج فى ممارسة الجنس معهن تحت أى حجة من الحجج؟ كذلك فعكاشة يقول إن جبران لم يكن يريد الزواج حقا من مارى هاسكل لأنها كانت تمثل له أمه، على حين أن عقدة أوديب تقول إن الرجل المصاب بعقدة أوديب يكون متعلقا بأمه أشد التعلق. وهناك أيضا الكلام عن الخوف من الأب بوصفه عنصرا من عناصر تلك العقدة. لكن أين كان أبو جبران حينذاك؟ لقد تركته الأسرة وراءها فى لبنان، وانتهى أمره بالنسبة لجبران من الناحية النفسية على الأقل قبل أن يموت فينتهى فعليا.
والواقع أن ما يسمى بـ"عقدة أوديب" أو "عقدة إلكترا" هى مجرد نظرية قد تصيب، وقد تخطئ. ولسوف نرى بعد قليل أنها تفتقر إلى الأساس العلمى تماما، بل تناقض المنطق مناقضة بلقاء، إلا أن كثيرا منا للأسف قد تعودوا على ترديد كل ما يأتينا من الغربيين مهما يكن السخف الذى يتسربل به ومهما تبد مدابرته للعقل فى كثير من الأحيان. ترى كيف عرف فرويد نفسية الطفل فى تلك السن الصغيرة التى لا يستطيع فيها الطفل أن يفهم شيئا أو يعبر عن شىء، فضلا عن أن يشرح لنا تلك المشاعر المعقدة الشاذة؟ ومتى كان الآباء يمتلكون الأمهات؟ وكيف يعى الطفل ذلك يا ترى، وأمه توليه هو وأبوه من الاهتمام ما لايمكن أن يدور فى نفسية الصغير شىء من هذا الذى يتقوله فرويد؟ إن الأبوين يكادان يعبدان الصغير عادة ويترقبان كل شاردة وورادة من بُغَامه وحركاته مهما تكن سذاجتها، وكأنه كنز سماوى لا تجوز الغفلة عنه ولو لثانية. ثم ماذا ينبغى أن تفعل الأم لطفلها أكثر مما تفعل حتى لا يغار ابنها من أبيه حسبما يزعم فرويد، وهى التى تجعل من بكائه أو ضحكه أوامر لا تقبل الإهمال إلا فى الشاذ من الحالات؟ إنها لتقوم من أحلى نومة لترضعه أو تغير له ملابسه أو لتربت عليه حتى ينام أو لتعطيه الدواء أو لتهدئ مخاوفه. بل إن الصغير كثيرا ما ينام مع أبويه ينعم بدفء عطفهما وحنانهما إلى أن يكبر ويستطيع الاستقلال بسرير خاص به. والأب بدوره يعمل كل ما فى وسعه لإسعاده، فيشترى له الحلوى والألعاب والملابس، ويرسله إلى المدرسة ليتعلم، ويسليه برواية الحكايات، ويصحبه معه فى كثير من الأوقات خارج البيت كى يعرّفه على الدنيا. وبوجه عام فإن الآباء قلما يقضون وقتهم داخل البيت، تاركين الأبناء مع أمهم معظم الوقت بهذه الطريقة لا يشاركونهم فيها، بَلْهَ يمتلكونها امتلاكا كما يزعم فرويد أن الأطفال يتصورون[16]. وفى حالة جبران بالذات كانت الأم، صاحبة فكرة الهجرة من لبنان إلى أمريكا، خالصة له هو وإخوته من دون الأب، الذى بقى فى لبنان لم يهاجر معهم إلى أمريكا. فماذا يقول عكاشة فى هذا؟[17]
ثم هل كلام فرويد وأشباهه من المحللين النفسيين وحىٌ أنزله الله من السمماء فلا تصح مخالفته؟ إن الوحى السماوى يَلْقَى من كثير من الناس، وبخاصة فى عصرنا، قدرا كبيرا من التكذيب والإنكار والتسفيه. فلِمَ ينبغى أن نخرّ على ما يقوله فرويد فى هذه القضية صُمًّا وبُكْمًا وعُمْيًا؟ لا ينبغى أن يقال إن هذا هو صوت العلم، فليس فى الأمر تجارب علمية ولا يحزنون، بل مجرد فروض وتخمينات يسمونها فى أحسن الأحوال: نظريات، وما أبعد الشُّقَّة بين النظرية والحقيقة العلمية. بل ما أكثر الأمور التى قد يتسرع العلماء فيحسبونها حقائق علمية، ثم يعيد فيها العلماء أنفسهم النظر فيعدّلون ما قالوه بشأنها قليلا أو كثيرا. الحق أننا لو أردنا أن نصدق هذا الهراء الذى يتنطع به فرويد لتوجب علينا أن ننسى تجاربنا مع آبائنا وأمهاتنا التى لم يكن فيها لا غيرة من جانبنا على أمهاتنا ولا حقد على آبائنا ورغبة فى قتلهم.
ثم إن الحكاية التى استند إليها فرويد فى القول بما سماه: "عقدة أوديب" هى أسطورة لا منطق فيها ولا عقل، أسطورة تستند إلى عقيدة وثنية متخلفة كان ينبغى ألا نقف أمامها ولو لحظة. كيف؟ لقد كان أوديب فى الأسطورة واقعا تحت إكراه قَدَرِىّ غشوم لا قِبَل له بمقاومته، ومن ثم كان لا بد أن يقع ما وقع، فما ذنبه فى هذه الحالة؟ كما أنها تقوم على أن التنبؤ بالغيب ممكن للعرافين والكهان، وهو ما لا يعترف به الإسلام ولا العلم. الشىء الثانى أن أوديب لم يكن يشتهى أمه على الإطلاق: لا أمه الحقيقية زوجة لايوس، إذ حُرِم منها ومن أبيه وهو لا يزال طفلا رضيعا حديث عهد بالدنيا، ولا أمه المتوهمة زوجة بوليبس. بل إنه ما إن عرف أنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه حتى اتخذ الاحتياطات اللازمة لتجنب وقوع هذه المصيبة، وغادر المملكة كى يكون بعيدا عن البلاد تماما فلا يحدث ما يخشاه. لكن الأقدار العمياء التى لا تعرف التفاهم ولا تترك للإنسان أى قدر من الحرية حسبما تروى الأسطورة أوقعته رغم أنفه وإرادته وتصميمه فيما كان قد هرب منه. فما ذنبه مرة أخرى؟ ليس هذا فحسب، إذ رأينا ذلك الشاب المتحرج الذى لم يكن يتشهى أمه ولا كان يبغض أباه، بل أبوه هو الذى كان يبغضه، وأمه لم تفعل أى شىء تجاه ما قرره أبوه من قتله والتخلص منه، رأيناه يفقأ عينيه فور علمه بأنه إنما قتل أباه وتزوج أمه، رغم أنه لم يكن أمامه إلا أن يصارع الأب الذى قابله فى الطريق وتحرش به، ورغم أنه لم يعرف أن من تزوجها هى أمه، ولا كان فى خياله أن يتزوجها حتى حين لم يكن يعرف أنها أمه، بل أهل المدينة هم الذين كافأوه بها حين نجح فى حل اللغز العبيط. ومرة أخرى ليس ذلك فقط، بل كان المجتمع الجديد الذى صادفه أثناء سفره هو الذى أملى عليه أن يتزوج جوكاستا أمه مكافأة له على قتل الوحش. ومرة أخرى ما ذنبه فيما حدث؟ ثم كيف يحرص ثيسيوس ملكأثينا على دفنه قرب بلده اعتقادا منه أن جثمانه سوف يحمى المنطقة، والمفروض حسب عقيدة القوم أنه قد ارتكب إثما فظيعا بقتله أباه واقترانه بأمه؟
إن الأمر كله فى عقدة أوديب الفرويدية، كما يرى القارئ، هو خبص فى لبص: فلا أوديب كان يعانى من تلك العقدة التى عُزِيَتْ إليه زورا وظلما، ولا جبران كان يتطلع إلى أمه فى اشتهاء أو إلى أبيه فى حقد يريد أن يقتله، ولا كان خائفا منه ذلك الخوف الذى تتحدث عنه تلك العقدة اللعينة ولا كان يغار منه فى يوم من الأيام. كما أنه ليس من الإنصاف ولا من المنطق أن يعاقب أوديب على شىء لا ذنب له فيه بتاتا. وفى القرآن الكريم: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها". وفى الحديث النبوى الشريف أن الحساب والعقاب قد رُفعَ عن أمة الإسلام فى الخطإ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه. ولا شك أن أوديب المسكين كان واقعا تحت هذه الأمور الثلاثة. وهو أيضا حكم العقل الإنسانى السليم غير الملتاث بلُوثَات الوثنية. ومع هذا كله يريدون منا أن نصدق هذا الهراء السخيف ونصدق أنه فكر علمى! الحق أن أفكار فرويد العجيبة تتسم فى كثير من الأحيان بالتهور والمغالاة الجامحة.
ثم إن عقدة أوديب تفترض أن جميع المجتمعات تحرّم قيام علاقة جنسية بين الأب أو الأم وبين الابنة أو الابن[18]. فهل هذا صحيح؟ المعروف أن الفرس مثلا فى فترة من الفترات كانوا يحلون زواج الأب بابنته. وفى "جمع الجواهر فى الـمُلَح والنوادر" و"زهر الآداب وثمر الألباب" للحصرى القيروانى أن جواري الخليفة العباسى المهدي قلن له ذات يوم عن الشاعر الضرير بَشّار بن بُرْد الفارسى الأصل: إن بشارا لأطيب الناس مفاكهةً، وهو ضرير البصر، ولا غيرة بك علينا معه إذ لا يرانا، فلو أدخلتَه إلينا؟ ففعل. فبادرنه وطايبنه وقلن: إنك أبونا. فقال: ونحن على دين كسرى (أى ممن يحلون زواج الآباء من بناتهم. وقد قالها بطبيعة الحال من باب المزاح رغم أن ذلك التشريع الفارسى كان حقيقيا). فبلغ ذلك المهديَّ، فمنعه فيما بعد من الدخول عليهن. وقد روى هذه الحكاية أيضا عبد الله بن المعتز فى كتابه: "طبقات الشعراء" مع بعض الاختلافات الطفيفة التى لا تمس جوهرها. كما حكاها ابن الجوزى فى كتاب "الأذكياء" مختصرة. وكان الفراعنة، حسبما جاء فى"موسوعة الويكيبيديا" فى مادة "زواج الأقارب"، يسمحون بزواج الأخ من أخته، واستمر ذلك إلى عهد البطالمة خلفاء الاسكندر المقدوني، إذ تزوجت كليوباترا الثانية من أخيها الملك بطليموس السادس، وعندما وافته المنية تزوجت من أخيها الثاني بطليموس الثامن لتحافظ على سيطرتها الشاملة على البلاد. وكان العربى الجاهلى يستطيع، متى أراد، أن يرث زوجة أبيه رغم أنفها، وهذا أمر معروف.
وفى "موسوعة تاريخ الزواج" لويسترمارك أن بعض المجتمعات كانت تُحِلّ زواج الآباء ببناتهم، والأبناء بأمهاتهم، والإخوة بأخواتهم، والأخوال ببنات أخواتهم، والأعمام ببنات إخوتهم، وأولاد الأخت بخالاتهم، وأولاد الأخ بعماتهم. صحيح أن مثل تلك الأنواع من الزواج لم يكن لها شيوع واسع، إلا أنها، على أية حال، كانت موجودة فى مناطق مختلفة من العالم شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، وفى مجتمعات متباينة من حيث الثقافة والأعراف والتقاليد، متفاوتة فى درجة التحضر كالتفاوت بين الفرس والمصريين القدماء وبين قبائل الإسكيمو وأفريقيا وأمريكا الجنوبية إلى وقت قريب[19]. كذلك لا ينبغى أن يفوتنى النص على أن من المحللين النفسيين فى الغرب ذاته من يختلفون مع فرويد وعقدة أوديبه اختلافا تاما، ولا يقولون بها[20].
وفى مقدمة ترجمة "النبى" أيضا كلام عن المناهل التى استقى منها جبران أفكاره وإلهامه، ومنها الصوفية المسلمين ممن كانوا يؤمنون بوحدة الوجود، ودافنشى وشكسبير وفولتير وروسو ورُودَان ووليام بليك وشيلى وسوينبرن وكيتس ونيتشه جوته وموسيه وشاتوبريان وهوجو ونوفاليس ولامارتين وهولدرين وويتمان وإمرسونوغيرهم. ويُفْهَم مما كتبه د. عكاشة فى هذا الموضوع أن جبران كان يتقلب من مفكر أو أديب أو فنان إلى آخر فتتحول مع هذا التحول أفكاره وآراؤه، وإن حاول عكاشة أن يؤكد وجود فكره الخاص به رغم كل ذلك. كما تكلم عن فنه التصويرى وعن تعبيره الأدبى فى العربية والإنجليزية. لكنى أحب أن أتريث قليلا عند كتاب "النبى" بقدر ما يعكس أفكار جبران الدينية والفلسفية، أو دينه كما قال عكاشة.
ويرى د. ثروت أن جبران قد استلهم كتاب نيتشه: "هكذا تحدَّث زرادشت" وصاغ على منواله كتاب "النبى" من حيث إنه اتخذ من المصطفى، وهو اسم النبى فى الكتاب، صوتا له يبث آراءه من خلاله فى شكل عظات كما فعل نيتشه من خلال زرادشت[21]. لكنى ألا يمكن أن يكون المصطفى مزاجا مركبا من عدة أنبياء هم النبى محمد، الذى يلقب ضمن ما يلقب بـ"المصطفى"، والنبى يونس، الذى لم يصبر على قومه وأذاهم فركب سفينة ومضى تاركا بلده وعشيرته، والنبى عيسى، الذى كان أكثر ما اشتهر به موعظة الجبل، تلك التى تذكرنا بها موعظة المصطفى بعد نزوله من فوق التل، والتل والجبل قريب من قريب؟ ذلك أن المصطفى كان يتطلع إلى مغادرة أورفاليس وركوب السفنية تمضى به إلى بعيد فرارا مما كان يشعر به من وحدة وكآبة وألم وقيود ثقيلة. إلا أن فئة من أهل أورفاليس احتشدوا حوله يناشدونه أن يعظهم فوق ما فعل من قبل، وهو ما قد تختلف فيه قصة جبران عن قصة يونس فى نظر البعض، إذ كان سبب إباق يونس هو ضيقه بعناد من أُرْسِل إليهم. لكن لا ينبغى أن ننسى أن هؤلاء الذين أرسل إليهم يونس لم يكفروا كلهم به، بل آمن منهم نفر، وإن كان قليلا. ويمكن أن يقال إن الذين احتشدوا حول المصطفى ساعة الرحيل هم تلك الفئة المؤمنة. لكن ليس من السهل أن نتناسى خطبة النبى محمد عليه الصلاة والسلام هو أيضا من فوق جبل الصفا حين أعلن لعشيرته الأقربين أنه قد أتاهم بدين جديد، فما كان من أبى لهب عمه إلا أن أجابه بحمق وفظاظة: تَبًّا لك سائر هذا اليوم! ألهذا جَمَعْتَنا؟
أما كلامه عن المصباح وزيته فيغلب على ظنى أنه صدى لما جاء فى إنجيل متى فى أول الإصحاح الخامس والعشرين على لسان السيد المسيح عليه السلام: "يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ الْعَرِيسِ. 2وَكَانَ خَمْسٌ مِنْهُنَّ حَكِيمَاتٍ، وَخَمْسٌ جَاهِلاَتٍ. 3أَمَّا الْجَاهِلاَتُ فَأَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَلَمْ يَأْخُذْنَ مَعَهُنَّ زَيْتًا، 4وَأَمَّا الْحَكِيمَاتُ فَأَخَذْنَ زَيْتًا فِي آنِيَتِهِنَّ مَعَ مَصَابِيحِهِنَّ. 5وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ. 6فَفِي نِصْفِ اللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا الْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَاخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! 7فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولئِكَ الْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ. 8فَقَالَتِ الْجَاهِلاَتُ لِلْحَكِيمَاتِ: أَعْطِينَنَا مِنْ زَيْتِكُنَّ فَإِنَّ مَصَابِيحَنَا تَنْطَفِئُ. 9فَأَجَابَتِ الْحَكِيمَاتُ قَائِلاتٍ: لَعَلَّهُ لاَ يَكْفِي لَنَا وَلَكُنَّ، بَلِ اذْهَبْنَ إِلَى الْبَاعَةِ وَابْتَعْنَ لَكُنَّ. 10وَفِيمَا هُنَّ ذَاهِبَاتٌ لِيَبْتَعْنَ جَاءَ الْعَرِيسُ، وَالْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى الْعُرْسِ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ. 11أَخِيرًا جَاءَتْ بَقِيَّةُ الْعَذَارَى أَيْضًا قَائِلاَتٍ: يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، افْتَحْ لَنَا! 12فَأَجَابَ وَقَالَ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ". لكن لا ينبغى أن نتجاهل ما جاء فى سورة "النور" عن المشكاة التى فيها مصباح ، والمصباح فى زجاجة، والزجاجة كأنها كوكبٌ دُرِّىٌّ يُوقَد من شجرة مباركة زيتونة يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار، فهو نور على نور. كما تكرر ذكر السراج فى القرآن المجيد.
وفى خطبة المصطفى أيضا كلام عن الإكليل والصليب، وهما من الألفاظ الموجودة فى الأناجيل. ثم إنهم حين سألوه عن رأيه فى الزواج تَلَقَّوْا منه كلاما مهوما، لكنه أبعد ما يكون عن تحبيذه. وهذا هو موقف جبران العام، وإن كان قد ندم حين شعر بدنو أجله بعدا تبين له أنه يوشك أن يغادر الدنيا دون أن يتزوج وينجب أولادا. وفى ذات الوقت فإننا نعرف أن السيد المسيح لم يتزوج هو أيضا. كذلك قد يكون المصطفى فى ضيقه بأورفاليس، التى كان غريبا فيها وافدا عليها، هو فى ذات الوقت تعبيرا رمزيا عن ضيق جبران بأمريكا وتشوقه إلى العودة للبنان.وكان جبران، فيما أرجح، يتخيل قومه اللبنانيين وهو يخاطب ذلك المجموع من أهل أورفاليس عن أهله الذين أتى بعض ملاحيهم بسفينة كان ينتظرها طويلا ليستقلها عائدا إلى بلاده، إذ ذَكَرَ بفخرٍ أنهم ملاحون يحبون الهجرة وركوب البحر وأنهم بارعون فى ترويضه، بالإضافة إلى أن الفلاحين الذين خفوا إليه فى تلك الساعة كانوا قد تركوا معاصر كرومهم. وهذا كله يذكرنا بلبنان وأهل لبنان، وإن تكرر فى الأناجيل أيضا الكلام عن الكَرْم و الكَرّامين.
والبناء الفنى للكتاب ساذج، إذ ليس فيه إلا أن بعض أفراد الشعب كانوا يسألونه الواحد تلو الآخر عن أمر من الأمور كالحب والزواج والأولاد وما إلى ذلك، فيقول له الواحد منهم مثلا: َكلِّمْنا عن الحب، فينحرط فى الحال فى كلام طويل مهوِّم، لينبرى فرد آخر بعد ذلك بسؤال آخر عن موضوع آخر، وذلك دون أن يفكر أحد منهم فى مناقشة هذا الذى يجيب به على أسئلتهم استيضاحا أو اعتراضا أو استزادة أو دهشة. وهو ما يسبب للقارئ بعد قليلٍ الضيق والملل لخلو الكتاب من التنويع والوصف الحار والحوار الحى والسرد المشوق واللمسات الواقعية. إن الكتاب من أوله لآخره تقريبا يجرى على وتيرة واحدة لا يغيرها.
وعن مضمون كتاب "النبى" يقول د. ثروت عكاشة إن جبران "قد انتهى بعد كل ما مر به من تجارب ومحن إلى أن الحب بين الناس هو شريعة الحياة: عنده يلتقون، وأمامه يتساوَوْن، وعلى عتباته يزول ما بينهم من فوراق، ويذوب ما بينهم من خصومات. وعن الحب تتفرع جميع مظاهر الحياة: العمل أساه الحب، وكذلك الألم والدين والحرية والزواج، وكل رباط يربط بين القلوب والعقول والضمائر. ومشكلات الوجود جميعها، أولها وآخرها وما بينها من مراحل التقلب والتطور، ترجع عند جبران إلى أصل واحد يفسر لنا السر المختفى وراء هذا الوجود، وهو الحب. يقول عن العمل: "أنت، حين تعمل، مزمارٌ تتحول همسات لادهر فى جوفه إلى أنغام. ومن منكم يود لو يصبح قصبة خرساء بكماء، على حين تغنى الكائنات حوله فىوحدة وتآلف؟". ويمضى جبران خليل جبران يصور فى قوة واقتدار شرف العمل، وقداسة الواجب: "أما إذا خلتم، ساعة تضيقون بالحياة فتألمون، أن مولدكم بلاء، وأن تلبية مطالب الجسد لعنة سطرت على الجبين، فإنى أقول لكم: هيهات أن يمحو ما سُطِّر على الجبين إلا حباتُ العرق". ثم يمضى مرة أخرى يعرض جوانب العمل وأسراره فى عمق وبصيرة: "ولقد نُبِّئْتُم أيضا أن الحياة ظلام حتى أصبحتم ترددون من فرط الإنهاك ما يقوله المنهكون. ولَعَمْرِى إن الحياة ظلام إلا إذا صاحبها الحافز. وكل حافز ضرير إلا إذا اقترن بالمعرفة. وكل معرفة هباء إلا إذا رافقها العمل. وكل عمل خواء إلا إذا امتزج بالحب. فإذا امتزج عملك بالحب فقد وصلتَ نفسَك بنفسك وبالناس وبالله"[22]. ويرى القارئ بكل تأكيد أن هذا الذى يقوله جبران عن الحب والعمل هو كلام يفتقر إلى العمق لا يجهله أحد، وإن صاغه صاحبه فى أسلوب شاعرى مهوم يخلو من التفصيل والتحليل. ودعنا من أنه هو نفسه كان يكتفى بالكلام دون العمل. وما أسهل أن يأخذ الواحد منا فى الكلام فلا يتوقف ما دام لن يجشمه الكلام شيئا من جهد أو تضحية أو إيثار أوصبر على لأولاء الحياة.
ويقول د. عكاشة أيضا عن كتاب "النبى": "فى فم نبى جبران نشيد عاطفى راعش يتغنى بالإنسان والطبيعة والحب والحياة، وينسكب نورا لا ينير غير الجوانب الخيّرة الرائعة فى الحياة والإنسان، مؤمنا بنفع الإنسان وصلاحه وصفائه ونقائه من الشرور. إنه يهمس إلى الذات العظمى الكامنة فى البشر جميعا التى تنقلت من الصور المادية لتلتقى متحدة متآلفة فى عالم السماء. يتحدث إلى الإنسان العظيم الذى يمثل فى كيانه غير المحدود البشرَ أجمع لحما ودما والذى هو وحدة منه. فإيمانه بالطبيعة إيمان بمجموعة من الكائنات الحية يحس بها فى حركتها، ويتبينها فى روح الحب النابعة فى جميع المرئيات والمحسوسات التى ترتبط بالطبيعة برباط الأمومة: "كل شىء فى الطبيعة يرمز ويتكلم عن الأمومة، فالشمس هى أم الأرض، وهذه الأرض هى أم الأشجار والأزهار، وأم كل شىء فى الكون. هى الروح الأزلية الأبدية المترعة بالجمال والمحبة. والطبيعة ترتبط بذاته (الإنسانية) ارتباطا أعمق من ارتباط الجسد. إنها تهمس إلى روحه الكامنة فى الأعماق، ويحس بها هو حين يتحلل القناع المادى عن ذاته فتهفو روحه إلى الطبيعة كاشفة له عن أسرارها. فما أشبه التجاذب بينه وبين الطبيعة بالتجاذب بين الموجة والشاطئ، ما يكاد الموج يندفق حتى يعانق الشاطئَ الحبيب، فإذا ما انحسر استرخى على أقدام ذلك الشاطئ، وبالتجاذب بين المطر والروض حين يقول المطر: إذا ما رأيتُ روضةً جميلةً سقطتُ وقبَّلْتُ ثغورَ أزهارها وعانقت أغصانَها"[23].
والواقع أن كلام جبران هنا هو، ككل كلام جبران، مهوش مهوم: غامض فى بعض الأحيان لا يستطيع القارئ أن يقبض منه على شىء محدد، أو شاعرى لا يتطابق وواقع الحياة، وإن أعجبنا بصوره المجنحة. خذ مثلا قوله إن "الطبيعة ترتبط بذاته (الإنسانية) ارتباطا أعمق من ارتباط الجسد. إنها تهمس إلى روحه الكامنة فى الأعماق، ويحس بها هو حين يتحلل القناع المادى عن ذاته فتهفو روحه إلى الطبيعة كاشفة له عن أسرارها". هل يتحصل لك منه فى ذهنك شىء واضح؟ إنه مجرد كلام جميل فى ظاهره، لكن باطنه يخلو من معنى واضح مفهوم. أما قوله: "ما أشبه التجاذب بينه وبين الطبيعة بالتجاذب بين الموجة والشاطئ، ما يكاد الموج يندفق حتى يعانق الشاطئَ الحبيب، فإذا ما انحسر استرخى على أقدام ذلك الشاطئ، وبالتجاذب بين المطر والروض حين يقول المطر: إذا ما رأيتُ روضةً جميلةً سقطتُ وقبَّلْتُ ثغورَ أزهارها وعانقت أغصانَها" فهو كلام شاعرى يقوم على ما يسميه البلاغيون: حسن التعليل. يقصدون أن ما يسوقه الشعراء أحيانا من تعليلات يحاولون بها تفسير ما يقولون وإقناعنا به ليست أكثر من كلام منمق يفتن بما فيه من التفاتات خيالية مدهشة، لكنه يفتقر رغم ذلك إلى المنطق الصحيح. فمثلا حين يسقط المطر هل يسقط فقط على الرياض الجميلة؟ أبدا، بل يسقط على كل شىء من صحارى وأنهار وبرك وبحار وآبار وحقول وشوارع ومدارس وبيوت عبادة ومواخير ومنازل وملاعب ووسائل مواصلات ومصانع... إلخ. إلا أن جبران يحاول أن يوهمنا بأنه لا يسقط إلا إذا وجد روضة نضيرة، وعندذاك ينزل فيقبل ثغور أزهارها ويعانق أغصانها، مع أنه، حتى حين يسقط المطر على الرياض، كثيرا ما يسقط فوق رياض مصوحة جافة ليس فيها أزهار متفتحة ولا أغصان مورقة. كذلك فإن الموج حين يندفق فإنه لا يصل دائما إلى الشاطئ ولا يعانقه، إن كان له عنق، ولايترامى على أقدامه إن كانت له أقدام، وإلا فهل البحر من ضيق الرقعة بحيث يقاس بالأمتار؟ إنه يقاس بمئات الأميال وآلافها. ومن ثم فإذا ثارت أمواجه فإن معظمها لا يعرف للشاطئ طريقا، بل يصطفق ويتصادم داخل البحر وليس على شواطئه. ثم هل الحب هو كل شىء فى الوجود؟ وهل إذا بذلنا الحب ننجح حتما فى تليين القلوب الجاسية، والعقول المتحجرة، والضمائر العفنة المنتنة؟ هذا كلام جميل، لكن منطق الواقع الحى شىء آخر. ثم هل كان جبران يحب البشر على هذا النحو المثالى كما يريد منا أن نفهم من كلامه؟ ترى هل كان يحب ميشيلين فعلا حين أتته وأنبأته أنها حامل منه، وتريده أن يعقد عليها؟ بالطبع كلا، بل كان يحب نفسه، ونفسه فقط. لقد نال منها ما يبتغى، ولكنه عندما آن أوان القيام بالواجب كان فص ملح وذاب، وآثر أن تجهض الجميلة الفرنسية نفسها وتقتل الجنين الذى فى أحشائها بدلا من أن يتزوجها أو على الأقل: بدلا من الاعتراف بما فى بطنها من ثمرة خطيئته معها. وليقل د. ثروت عكاشة عن ذلك النبى الأنانى بعد ذلك ما يشاء له قلمه وتهويماته، فهيهات أن يقنعنا.
وبالمثل يؤمن جبران، كما يقول عكاشة، أن "الحب، حين ينفذ إلى قلبين عاشقين، يعيد إليهما الوحدة الأولى. ذلك أن جبران يرى أن كل عاشقين كانا متحدين فى الله منذ الأزل، ثم انفصلا حين هبطا إلى العالم الأرضى، وسيظلان شقيين ما لم يلتقيا. فالوحدة قاسية وسط الطبيعة التى يتحدث كل شىء فيها عن الحب، حتى إذا عز لقاء العاشقين انقلب الإحساس بالوحدة إلى تعطش إلى الموت الذى تعود معه أرواح العشاق إلى الاتحاد، وتقول روح كل عاشق لروح معشوقته: أنت رفيق نفسى الذى فقدته، ونصفى الجميل الذى انفصلت عنه عندما حُكِم علىَّ بالمجىء إلى هذا العالم"[24].
وهذا كلام يعجب المراهقين والمراهقات، فضلا عن أنه ليس من بُنَيَّات أفكار جبران، بل هو من أساطير الإغريق. وكنا نردده ونحن صغار فى بدايات تفتحنا العاطفى فى أُولَيَات الشباب دون أن نحاول التحقق من صحته ومعقوليته، إذ كان يفتن خيالاتنا فنكتفى بذلك دون أن نعرضه على عقولنا. ولو كان قد قيل لنا، بدلا من ذلك، إن كلام جبران الذى أخذه من أساطير الإغريق هو كلام خيالى يداعب عواطف الشاب لما اعترضنا. لكن جبران يُقَدَّم لنا بوصفه نبيا. فأى نبى هذا الذى يردد الأساطير ويقول كلاما لا وشيجة بينه وبين الواقع؟ الحق أنْ لو كان هذا الزعم صحيحا لوجدنا كل عاشقين يرتبطان ارتباطا أبديا بزواج لا فكاك منه يظلان يتقلبان فيه مع النعيم دون ملل أو ضيق أو خلاف ينشأ بينهما، ودون أن يفكر أى منهما فى غير رفيقه. فهل هذا هو واقع الحياة؟ طبعا لا، إذ هناك الملل والخصام والغيرة وتفكير كل من النصفين فى غير نصفه الآخر ونشوب الخلافات والخصام بينهما، تلك الخلافات التى كثيرا ما تستحيل عداوة وكراهية، وقد تصل إلى المحاكم يريد كل منهما تدمير الآخر. وحتى لو لم يقع الزواج واكتفى العاشقان بالعشق فإن النتيجة سوف تكون هى نفس النتيجة، إذ ليست العبرة بالزواج أو بالعشق، بل بالتلازم والاحتكاك بين الطرفين واطلاع كل منهما مع الأيام على عيوب الآخر ونقائصه[25]. بل لو كان هذا الزعم صحيحا لما أمكن أن يحب أى منا سوى شخص واحد لا غير هو نصفه الذى فقده فى السماء قبل النزول إلى الأرض. وهذا إن كنا فعلا قد عشنا فى السماء قبل معيشتنا هذه فوق البسيطة، إذ الواقع أننا إنما نبدأ حياتنا هنا على الأرض حين ننزل من بطون أمهاتنا، ولا وجود لنا يسبق هذا الوجود. ثم أين يقع من خريطة هذه الأسطورة من يموتون صغارا قبل أن يتزوجوا، أو من ليس لهم أرب فى الجنس الآخر فيظلون بلا زواج طوال حياتهم، أو من يقترنون بأكثر من زوج أو يخادنون أكثر من عشيق، أو أولئك اللواطيون والسحاقيات الذين لا يهفون إلا إلى واحد من أبناء جنسهم؟[26].
ونحن حين نبدأ وجودنا هذا فإننا نبدؤه من نقطة الصفر، ثم ننمو مع الأيام أفكارا ومشاعر وشعورا بالواجب الخلقى... وهكذا. والذى يحدث هو أننا كثيرا ما نقع فى غرام أشخاص عدة لا شخص واحد، سواء ارتبطنا بكل منهم أو ببعضهم أو لم نرتبط قط بأحد فيهم، وارتبطنا بشخص آخر تماما. فأى واحد من هؤلاء هو الذى كان يشكِّل فى السماء قبل مجيئنا إلى الأرض نصفنا الآخر يا ترى؟ لا بل لو كان هذا الزعم صحيحا فلم لا نحب إلا واحدا ممن نقابلهم بحيث تقع المقابلة أولا ثم يتم الحب ثانيا، ولا يحدث العكس فيأتى إلينا حيث نحن هذا الشخص موسوما بعلامة تدلنا على أنه هو نصفنا الذى انفصلنا عنه، هابطا علينا من الأفق الأعلى دون أن يكون فى بالنا شىء عن مجيئه؟ إن الحب إنما ينشأ بالاحتكاك هنا على الأرض وتكرُّر المشاهدة والسماع وتبادل النظرات وما إلى هذا لا من ارتباط سابق على وجودنا الأرضى. لو كان الكلام عن الجنسين بوجه عام لا عن عشاق معينين لما فتحنا أفواهنا بكلمة ولقلنا: نعم ونعام عين، إذ قد خلقنا الله ليبحث كل ذكر عن أثنى، وكل أنثى عن ذكر. أما أن يقع شخص معين فى غرام شخص معين آخر فهذا أمر تحدده الظروف التى يعيش فيها كل منا كما شرحت آنفا، فضلا عن أن طبيعة تعلق كل منا بالطرف الآخر تتباين من حالة إلى أخرى: فهذا تعلقٌ جسدىٌّ شهوانىٌّ، وذاك تعلقٌ قائمٌ على تقارب العمل والميول، وذلك تعلقٌ لا بالشخص ذاته فى الأساس، بل بحَسَبه ونَسَبه وثروته، وذَيَّاك تعلق بروح الطرف الآخر تعلقا شفافا رفيفا، وإن لم يخل من شهوة البدن، إلا أنها تتوارى تحت السطح حتى ليخيَّل لنا أنها غير موجودة... وهكذا. وأخيرا فلو كان هذا الزعم صحيحا فلماذا لم يعض جبران بالنواجذ والأظافر على من ألقت بها الأقدار فى طريقه باعتبارها نصفه الذى انفصل عنه فى السماء ثم وجده على الأرض؟ إن جبران لم يكن يضع فى اعتباره سوى تحقيق أقصى قدر من المتعة واللذة لنفسه دون أى اعتبار آخر، ثم حين يأتى أوان القيام بالواجب ينخرط فى كلام إنشائى لا يؤكّل عيشا حافيا. الخلاصة أن ما قاله جبران هو مجرد خيالات جميلة تعجب الشبان والمراهقين، لكنها لا تثبت على محك التمحيص.


[IMG]file:///C:\Users\T\AppData\Local\Temp\msohtml1\02\clip_ima ge002.jpg[/IMG]


ونأتى إلى كتاب "حديقة النبى"، ويقول فيه حنا الفاخورى: "كان جبران قد وضع منه بعض صفحات، فتولت برباة يونج جمعه من أوراق جبران، وأضافت إليه الكثير من أقوالها وبعض ما ورد لجبران فى كتبه العربية"، ثم طبعته بعد وفاته[27]. وفى مقدمة ترجمته لكتاب جبران: "حديقة النبى" يصول د. ثروت عكاشة ويجول شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، محاولا تتبع تاريخ الحدائق فى الواقع وفى الآداب والفنون، فى الماضى البعيد والقريب والحاض، وفى الحضارات المختلفة، كى يضع فى ختام الرحلة حديقة جبران فى موضعها المناسب بين نظائرها من الحداثق. وأنا، وإن كنت أقدر ما تجشمه عكاشة فى هذه الرحلة الطويلة المرهقة من جهد التتبع والشرح والربط والموازنة، لا أجد كبير حاجة فى هذا السياق إلى مثل تلك الرحلة وهذا الجهد وذلك الربط الذى يبدو عليه شىء من التعسف غير قليل، إلى جانب افتقاره للمنهجية فى الانتقال من نقطة إلى نقطةـ علاوة على التكلف الذى يتكلفه د. عكاشة فى بعض الأحيان كما هو الوضع حين يحاول التدليل على ارتباط الحديقة بالأديان، إذ لا يجد فى النصرانية إلا شجرة مريمـ التى يقول إن المسيح وأمه قد استظلا بها فى مصر، وإلا الشجرة التى تمت تحتها بيعة الرضوان فى عام الحديبية. فهل يقال عن شجرة واحدة إنها حديقة؟ الواقع أن هذا ربط متعسف أشد التعسف ولا معنى له، وليست له من ثمرة سوى تسويد الصفحات بأى كلام، والسلام. ثم إن البشر جميعا يحبون الحدائق، أما إذا كان هناك بعض شعراء غربيين أعلنوا عن نفورهم منها أو تعاليهم عليها كما ذكر د. ثروت فهم شذوذ على القاعدة المطلقة أو شبه المطلقة. بل إنه ليبدو لى أن موقفهم هذا هو موقف متصنَّع لا ينبع من القلب، بل يراد به لفت الأنظار. ومن ثم فلا معنى لتضييع الوقت بالإشارة إليهم.
وما دام البشر جميعا، كما بينت رحلة عكاشة الطويلة المرهقة، يحبون الحدائق لم يكن هناك معنى لمحاولة الربط بين اهتمام جبران بجعل الحديقة هى المسرح الذى تجرى عليه القصة فى الكتاب الذى بين أيدينا وبين شرقية صاحبه، إذ ما دام البشر جميعا من شرقيين وغربيين وشماليين وجنوبيين يحبون الحديقة فما الداعى إلى القول بأن اهتمام جبران بالحديقة هو انعكاس لشرقيته؟ ثم إن جبران قد عاش معظم حياته فى الغرب، وفى أمريكا بخاصة، وكان يكتب بإحدى لغات الغرب، وهى الإنجليزية، إلى جانب كتابته بالعربية. كما تأثر، طبقا لما بينه د. عكاشة ذاته فى مقدمة ترجمته لكتاب "النبى"، بالمفكرين والأدباء والشعراء الغربيين أكثر مما تأثر بنظرائهم العرب. فكيف يمكن تجاهل كل هذا، والعمل على رد حبه للحدائق واتخاذ الحديقة مسرحا لأحداث كتابه إلى شرقيته؟
إن الحداثق موجودة فى كل مكان، وليس فى بلاد العرب وحدها. بل إننا لنجد الغربيين فى العصر الحديث يهتمون بها أكثر من اهتمامنا نحن العرب. وهذا ليس تعصبا منى ضد عروبتى، بل هو إذعان للحقيقة، إذ إن هذا هو أحد مظاهر التخلف العربى عن مجاراة الغربيين فى العصر الحديث بعدما غبر علينا زمان كنا نحن من الناحية الحضارية والذوقية فى المقدمة، وهم فى المؤخرة. والأيام دول ودروات، وهذا ليس أوان دولتنا أو دورتنا. ومع ذلك فالكرة فى ملعبنا، ونستطيع لو أردنا أن نعود للصدارة، والمهم العزيمة والنية الصادقة، فهل نحن عازمون صادقون؟
ولكن هل توجد فى الكتاب حديقة تسوغ تسميته بهذا الاسم؟ نعم هناك حديقة بل حدائق، لكنها حدائق عادية، وفوق ذلك لم يفصّل جبران القول فى وصفها، بما يؤكد ما قلته من أنه لا يوجد ما يدعو إلى هذا البحث المطول عن الحدائق، وإن كان فى حد ذاته مفيدا كبحث علمى، إلا أن موضعه ليس هو مقدمة ترجمة الكتاب. لقد كانت لـ"كريمة" إحدى شخصيات الكتاب مثلا حديقة، وكان لبيت المصطفى حديقة، وهى ما تهمنا هنا ما دام اسم الكتاب: "حديقة النبى". إلا أنها حديقة عادية لا تتميز بشىء عن أية حديقة أخرى، علاوة على أنه لم يقع فيها شىء يستدعى تسمية الكتاب بها. صحيح أن بعض المناقشات بين المريدين والمعلم قد دارت فيها، لكن هذه النقاشات لا صلة بينها وبين الحديقة، بل كان من الممكن أن تدور فى أى مكان آخر. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، إذ نلاحظ أن المناقشات فى "حديقة النبى" لا تتميز عن المناقشات فى "النبى" بشىء سوى تلك السطور التى انتقد فيها المصطفى بلاده، وهى نفسها بلاد العرب فى القرون الأخيرة التى انحدرت فيها أوضاعها، وساءت أحوالها أيما إساءة، وصارت مضرب المثل فى التخلف والبلادة والهوان والغرام بشقشقة الكلام وكراهية المبادرة إلى الفعل والإنجاز كما سوف نرى بعد قليل. وإلى جانب ما مر ليس انعزال المصطفى بحوارييه فى حديقته بالأمر المفهوم ولا المقبول، إذ لم يكن هناك أذى يتهدده من الخروج إلى الناس والامتزاج بهم بدلا من الاقتصار طول الوقت على صحبة الحواريين التسعة. والأنبياء إنما أَتَوْا لكى يختلطوا بالناس لا لكى يتجنبوهم، وإلا فما فائدة النبوة والأنبياء؟ كذلك ليست مهمة الأنبياء هى الكلام والسلام، بل مهمتهم هى تغيير الناس والمجتمعات والحياة. لكننا نجد أنفسنا مع المصطفى طول الوقت فى أسئلة وأجوبة ليس إلا، وكأننا فى برنامج حوارى تلفازى يسأل مقدمه السؤال، فيقوم الضيف بالجواب عليه... وهلم جرا إلى أن ينقضى وقت البرنامج، ثم لا شىء يتغير فى الواقع، بل تظل الأمور على ما كانت عليه.
ويبدأ الكتاب بعبارة غامضة يصعب فهمها، وهى قول المصطفى للملاحين الذين قادوا السفينة به نحو وطنه: "تطلعوا: هذه هى الجزيرة التى فيها وُلِِدْنا، بل هنا طرحتْنا الأرض، فإذا نحن أنشودة، وإذا نحن أُحْجِيّة، وإذا الأنشودة تَعْرُج فى السماء، وإذا الأحجية تستقر على الأرض. وهل بين الأرض والسماء غير وجداننا يقوى على أن يضطلع بهذه الأنشودة، ويبلغ كنه هذه الأغنية؟ ويُسْلِمنا البحر ثانية إلى هذه الشطآن، فما نحن إلا موجة أخرى من موجاته نندفع قُدُمًا لنذيع حديثه. ولكن أَنَّى لنا أن نفعل هذا دون أن نحطم اتساق القلوب فوق الصخور والرمال؟"[28]. ترى ماذا يريد جبران أن يقول من خلال هذه الكلمات؟ لا أدرى.
كذلك من الغريب جدا أنه، عندما طلب البحارة من المصطفى أن يعلمهم، لم يكن له من رد سوى أنه ما جاء إلى جزيرة مولده ليكون معلما، فهو لا يزال خارج قيود الحكمة، وصغير السن غض الإهاب لدرجة لا تتيح له أن يتكلم عن أى شىء، اللهم إلا عن نفسه وحدها[29]. ووجه الغرابة أنه نبى، ومعنى ذلك أنه مسؤول عن تعليمهم لأن هذه هى الرسالة التى اختاره الله لتأديتها، فلا يصح له إذن النكول عنها. وبالمثل لا يصح أن يقال إنه بهذا الرد كان يتواضع ولا يقصد المعنى الحرفى. ذلك أن مثل هذا الأمر لا يصلح أن يكون موضعا لإبراز التواضع، إذ لم يأت فى سياق ثناء الناس على صفة متميزة فيه اكتسبها بجِدّه، فهو يحاول التقليل من شأنها حتى لا يصيبه الغرور أو الكبر أو يسبب للآخرين الذين حُرِموا هذه الصفة المتميزة ألما، بل نحن أمام نبى اختاره الله على عينه فميزه بالحكمة وأعده ليعلم الناس. فإذا قال إننى لست معلما فمعنى ذلك أنه ينكر أن يكون الله قد أحسن اختياره أو فضَّله بمزيد من الحكمة على الأشخاص العاديين، وأنه لم يكلفه بأى واجب. ثم إننا قد رأيناه، وهو فى بلاد الغربة، يقوم بمهمة المعلم ولا يحاول التظاهر بالتواضع الكاذب، فما من سؤال تم توجيهه إليه إلا وانبرى فى الحال منخرطا فى جواب مفصل طويل. فما عدا مما بدا؟
وشىء غريب آخر، ألا وهو أن البحارة قد سكتوا عن المصطفى طوال مدة الرحلة التى قادوا فيها مركب العودة إلى مسقط رأسه. أتراهم نَسُوا طَوَال الطريق أنه معهم ثم تذكروا ذلك بغتة بمجرد بلوغهم جزيرتهم؟ ألا إن هذا لغريب غاية الغرابة وغير مفهوم، ويدل على أن جبران لا يحكم القبض على أزمة فنه، فهو ينسى ما كان قد صنعه من قبل فى رسم الشخصية ورواية الوقائع، ومن أجل هذا يعيب التناقضُ رسمَ شخصياته وحكايةَ أحداث كتابه. ثم هناك ما هو أغرب، إذ ما إن انتهى المصطفى من إنكاره على البحارة أن ينتظروا منه قيامه بمهمة المعلم فينثر حكمته عليهم وعلى أهل الجزيرة حتى شرع من فوره فى نثر الحكمة فعلا، وكأنه لم يكن تواضعٌ ولا إنكارٌ ولا استنكار. لقد لعق ما كان قد قاله مع أنه لم يمر على ذلك إلا لُحَيْظَةٌ، وإن كان قد ادعى أنه مغنٍّ لا معلم، وهو ما لا يقدّم فى الأمر شيئا أو يؤخّر. ثم بعد قليل ينسى هذه أيضا وينطلق فى الإجابة على ما يوجَّه له من أسئلة دون أن يزعم أنه مُغَنٍّ لا معلم كما فعل منذ قليل. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل سوف نراه بعد صفحات يصرخ باحثا عمن يأتى ويقطف من روحه ما تحمل من ثمرات ناضجة حتى يريحه من ثقل ما ينوء به من خيرات، ويروى غلته مما تفيض به نفسه من خمر العصور على حد تعبيره[30].
ويظهر تأثير الأناجيل فى الكتاب إذ يلقب المصطفى بـ"المعلم" طوال الوقت، وهو اللقب الذى كان حواريو المسيح ينادونه به حسب روايات كُتّاب الأناجيل. وبالمثل يظهر تأثير العهد القديم والقرآن[31] فى تحديد مدة انعزال المصطفى عن قومه فى حديقة بيت أسرته أربعين يوما وأربعين ليلة. ذلك أن هذه هى نفسها المدة التى قضاها موسى عليه السلام فوق الجبل حين واعده الله هناك. كذلك قد يكون عدد تسعة الأشخاص الذين اختارهم من قومه ليكونوا مريديه متأثرا كذلك بعدد الرهط التسعة الذين كانوا فى مدينة صالح حسبما تقص علينا الآيات 45- 53 من سورة "النمل"، والذين تقاسموا ليَُبَيِّتُنَّه هو وأهله ثم ليقولُنَّ إنهم ما شهدوا مهلك أهله، وإن كانت طبيعة هؤلاء غير أولئك كما هو واضح، وإلا فمن الصعب علىَّ أن أفسر الكمة فى تحديد عدد هؤلاء المريدين بتسعة[32].
المهم أنه ذات صباح جلس مريدو المصطفى حوله وقد شعت عيناه بالذكريات، فالتمسوا منه أن يحدثهم عن مدينة أورفاليس، التى عاش فيها اثنى عشر عاما، فما كان منه إلا أن انطلق فطلب منهم أن يرثوا لأمة تزخر نفوسها بالمعتقدات، لكنها خاوية من الإيمان، أمة ترتدى ملابس لم تنسجها، وتأكل خبزا لم تحصد قمحه، وتشرب ما لم تعصره بيديها، أمة تهتف للباغى هتافها للبطل، ويبهرها فتحسبه جوادا كريما، أمة تعيش يومها مستسلمة لأحلام اليقظة، لكنها تستنكفها فى المنام، أمة لا ترفع صوتها إلا حين تشيع موتاها، ولا تتفاخر إلا بخرائبها، ولا تثور إلا حين ترى السيف يوشك أن يهى على رقبتها ليحتزّها، أمة يتولى أمرها ثعلب ماكر، ويقوم بإرشادها فيلسوف مشعوذ، وتقيم فنها على الترقيع والتقليد، أمة تستقبل كل حاكم جديد بالطبل والزمر، وتشيعه بالنكير والصفير، أمة خَرِس حكماؤها فلم ينطقوا بكلمة حق تضع الأمور فى نصابها، واستسلم ذوو بأسها إلى النوم فلم يحاولوا أن يصنعوا شيئا يخرجها مما هى فيه من تخلف مُزْرٍ، أمة قد تفرقت أحزابا، وحَسِبَ كل حزب أنه أمة وحده[33].
وهذا فى الواقع كان، ولا يزال إلى مدى بعيد، حال الأمة العربية. ونحن لا يسعنا إلا أن نبصم بالعشرة على ما يقوله المصطفى هنا[34]، آملين أن يكون حال أمتنا غدا بعد الثورات الأخيرة أفضل منه اليوم وأحسن مما كانه بالأمس، مع معرفتنا أن الطريق إلى ذلك طويل ومفعم بالعوائق الكثيرة النابعة من عيوب الأمة ذاتها التى رافقتها على مدى القرون، ومن طبيعة الحياة بوجه عام، ومن الأعداء الداخليين والخارجيين على السواء، وهو ما شرعت "تباشيره" تظهر للعيان من أول لحظة. وبالمناسبة فقول جبران على لسان المصطفى إن الأمة قد تفرقت أحزابا، وحَسِبَ كل حزب أنه أمة وحده، يستدعى إلى الذاكرة على الفور ما جاء فى الآيتين 52- 53 من سورة "المؤمنون": "وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"، والآيات 30- 32 من سورة "الروم" من قوله جل شأنه يخاطب رسوله محمدا عليه السلام: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ". كما أن فى حديثه عن الكأس التى قال لأحد حوارييه إنه ينبغى أن يشربها وحده إشارة إلى الكاس التى يقول كتاب الأناجيل إن السيد المسيح قد دعا الله سبحانه وتعالى، وهو على الصليب حسب زعمهم، أن يجيزها عنه ويعفيه من تجرعها.
كذلك فإن عبارة "ويلٌ لـ..." هى من العبارات التى تتكرر فى الأناجيل وفى القرآن الكريم جميعا، وتتتابع على هذا النحو المتلاحق فى بعض المواضع منهما. جاء فى الإصحاح الرابع والعشرين من الإنجيل المنسوب إلى مَتَّى على لسان المسيح عليه السلام: "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ، فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ. 14وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. 15وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَطُوفُونَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ لِتَكْسَبُوا دَخِيلاً وَاحِدًا، وَمَتَى حَصَلَ تَصْنَعُونَهُ ابْنًا لِجَهَنَّمَ أَكْثَرَ مِنْكُمْ مُضَاعَفًا. 16وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَب الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ...23وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ. 24أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ. 25وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِل مَمْلُوآنِ اخْتِطَافًا وَدَعَارَةً... 27وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً. تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ... 29وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَتُزَيِّنُونَ مَدَافِنَ الصِّدِّيقِينَ، 30وَتَقُولُونَ: لَوْ كُنَّا فِي أَيَّامِ آبَائِنَا لَمَا شَارَكْنَاهُمْ فِي دَمِ الأَنْبِيَاءِ. 31فَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ قَتَلَةِ الأَنْبِيَاءِ".
وعلى نفس الشاكلة تتردد فى سورة "المرسلات" تلك العبارة عشر مرات متلاحقة. يقول سبحانه وتعالى: "وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)".
ثم يمضى الكتاب على النحو الذى رأيناه فى كتاب "النبى": يسأل المصطفى واحدٌ من المريدين سؤالا من هنا، وآخر سؤالا من هناك، دون أن يكون بين الأسئلة وشيجة تربط السؤال السابق باللاحق عادة، فينطلق فى الجواب على صاحب السؤال مخالفا له فى الغالب، بل مُسَفِّها فى بعض الأحيان... وهكذا إلى النهاية. وأحيانا ما ينطلق المصطفى فى الكلام معلقا على شىء حوله دون أن يكون هناك سؤال موجه إليه كما هوالأمر حين كان المصطفى ومريدوه سائرين فى الحديقة وقد لفهم السكون وهم ينظرون جهة المشرق، وقد بزغت الشمس فوقهم، إذ أشار المصطفى بيده قائلا إن صورة شمس الصباح المنعكسة على قطرة الندى ليست أقل شأنا من الشمس، وكذلك صورة الحياة المنعكسة على صفحة نفوسهم ليست اقل شأنا من الحياة ذاتها... إلخ[35]. إلا أن فى "حديقة النبى" بعض التلوينات السردية والوصفية التى تخفف بعض الملل والتى لم نلحظها فى "النبى"، لكنها بوجه عام قليلة وسريعة رغم ذلك.
ويكثر فى الكتاب أيضا ذلك النوع من الإجابات المهومة التى لا تشفى غليلا مثلما رأينا فى الكتاب السابق. ولنأخذ على سبيل المثال السؤال التالى وجوابه: "وفى اليوم الأول من الأسبوع، حين طرقت رناتُ أجراس المعبد آذانهم، تكلم واحد منهم فقال: إنا لنسمع هنا كلاما كثيرا عن الله أيها السيد،فما قولك فيه؟ ومن هو فى كنه الحقيقية؟ ووقف المصطفى كشجرة فتية لاتهاب ريحا ولا عاصفة، وأجاب قائلا: تخيلوا الآن أيها الصحاب والأحباب قلبا يسع قلوبكم جميعا، وحبا يشمل حبكم جميعا، وروحا تحيط بأرواحكم جميعا، وصوتا يضم أصواتكم جميعا، وسكينة أعمق من سكينتكم جميعا، سكينة أزلية أبدية لا يحدها زمان. ارجعوا إلى أنفسكم باحثين عن جمال تفوق روعته كل جمال، وعن أغنية أبعد صيتا من أغانى البحر والغاب، وعن جلال يستوى على عَرْشٍ عرشُ الجوزاء بالقياس إليه مقعد ضئيل، ويمسك بصولجانٍ الثريا بالقياس إليه ومضة منومضات قطر الندى. ولئن كنتم تَسْعَوْن دائما إلى الرزق والمأوى، وتلتمسون الكساء وعكازا تعتمدون عليه فلْتَسْعَوْا الآن إلى الواحد الأحد، الذى لا هو بهدف تصيبه سهامكم ولا هوبكهف صخرى يقيكم أذى الطبيعة. فإن وقعت كلماتى عليكم وقع الصخور فى ثقلها والألغاز فى خفائها فجِدّوا فى البحث إلى أن تنشقّ قلوبكموتهديكم من حيرتكم إلى حب العلى المتعال وحكمته، ذلك الذى يسميه الناس: الله"[36].
ولقد كفانا المصطفى ذاته، بحمد الله، مؤونة التعقيب على كلامه فى محاولة تعريف "الله"، إذ ألمح إلى أن فى كلامه خفاء وصعوبة، وأن المطلوب بدلا من ذلك هو محاولة حب الله. أى أن كل ما قاله لا يؤدى إلى شىء شاف. فلم إذن كان السؤال وجوابه؟ وفيم كل هذه التهويمات الشاعرية؟ وإن بقية كلام جبران فى هذا الموضوع لتؤكد ما نقول: "وسكتوا جميعا، وحارت قلوبهم، واهتزت نفس المصطفى رحمة بهم، وتطلع إليهم فى حنان وقال: فلنكفّ الآن عن الحديث عن الله المهيمن، ولنتحدث عن الأرباب من جيرانكم وإخوتكم، تلك الأرواح التى تطوف ببيوتكم وحقولكم". ثم ينتقل الموضوع كالعادة إلى شىء آخر لا صلة بينه وبين الذى كنا فيه. وبعد قليل سوف يعود المصطفى مرة أخرى إلى ذات الموضوع قائلا: "أيها الملاحون والأصدقاء، لقد كان أحجى بنا أن نقتصد فى الحديث عن الله، الذى يعز علينا أن نفهمه، وأن يكثر حديث بعضنا عن بعض، فذلك أقرب إلى الأفهام. على أننى وددت لو تدركون أننا أنفاس الله وشذاه، وأننا الله ماثلا فى ورقة الشجر وفى الزهرة بل وفى الثمرة أكثر الأحيان"[37]. وهو كلام يزيد الأمر تهويما فوق تهويم ولا يبلغ بنا شيئا يريح الذهن.
وبسبب هذه التهويمات التى لا يخرج الإنسان منها فى كثير من الأحيان بطائل، أو يخرج منها، إن خرج، بشىء يأباه المنطق وطبيعة الحياة، نجد جبران يقول عقب إحدى المواعظ المهوّمة: "ثم أمسك المصطفى عن الكلام، وخيم على مريديه التسعة وجوم شديد، وتحولت قلوبهم عنه، فقد عجزوا عن فهم كلماته. وفجأة هَفَتْ نفوس الملاحين الثلاثة إلى البحر، وأولئك الذين قاموا على خدمة المعبد عاودهم الحنين إلى التماس السكينة فى المحراب، أما الذين شهدوا ملاعب صباه فقد تطلعوا إلى السوق. وصَدُّوا جميعا عن كلماته، فارتدَّت إليه ملتمسةً المأوى التماسَ أسراب الطيور الشريدة. وسار المصطفى بعيدا عنهم فى الحديقة لا يَفُوه بكلمة، ولا يلقى عليهم نظرة. وبدأوا يتدبرون الأسباب فيما بينهم، ويلتمسون المعاذير لشوقهم إلى الرحيل. وسرعان ما أداروا وجوههم، ومضى كل منهم إلى قصده... وهكذا بقى المصطفى المختار الحبيب وحده"[38]. وهى نتيجة طبيعية لمواعظ نَبِىٍّ على شاكلة جبران كل همه تصيُّد العبارات المجنحة المهومة التى لا يستطيع الناس فى غالب الأحيان فهمها، وإن فهموها كانت كلاما غير قابل للتنفيذ لمدابرته منطق العقل وطبيعة الحياة. ولهذا كان جبران فى تصرفاته ومواقفه أول من يضرب بها عُرْض الجدار، وحق له ذلك. لقد أرضى بها حاجة فى نفسه فهوَّم وحلَّق فى دنيا الخيال ما شاء له التحليق والتهويم، أما التطبيق فـ"يفتح الله". وإن جبران لمن الذكاء وفهم الحياة بحيث كان أول المدركين إلى أن ما يقوله هو مجرد كلام لا يصلح لشىء فى الواقع العملى خارج نطاق الكتب وخيالات الشعراء.
لكن الكتاب يحتوى على بعض اللآلئ المتناثرة. من ذلك ما قاله المصطفى عن ابنة الملك محاولا أن يشرح حاله حين كان مترعا بالثمار الناضحة التى تثقل روحه ويريد أن يأتى إليه الناس فيقطفوها ويقتاتوا ويشبعوا، إذ قال: "انظروا: تلك ابنة الملك العظيم نهضتْ من نومها، ودلفتْ فى ثوب من حرير، وازَّيًنَتْ باللآلئ والياقوت، ونضحت شعرها بالمسك، وغمست أصابعها فى العنبر، ثم هبطت من برجها إلى الحديقة، ولامس نعلها الذهبى ندى الليل. وفى سكون الليل نشدت ابنة الملك العظيم الحب فى الحديقة، غير أنها لم تجد فى ملك أبيها الواسع جميعا من خفق قلبه بحبها. ألا ليتها كانت ابنة فلاح ترعى غنم أبيها فى الحقل وتؤوب إلى داره مع المساء، وقد عَلِقَ ترابُ الدروب بقدميها، وعبقت طيات ثوبها بعبير الكروم. فإذا حل المساء ورفرف ملاك الليل على العالم استرقت الخطا صوب الوادى حيث الحبيب فى انتظارها"[39]. الله! هذه لوحة فاتنة، وكنا نود لو اشتمل منها الكتاب على الكثير. لكن للأسف ما كل ما يتمنى المرء يدركه! صحيح أن تلك اللوحة الفاتنة تعبر من طرف خفى عن غرور المصطفى إذ يرى أن أحدا لا يرقى إلى مستوى ما لديه من أطايب الثمار، ومن ثم لم يتقدم أحد ليقطفها مثلما لم تجد ابنة الملك من يمكن أن يخطر له أنه أهل للفوز بقلبها فيتقدم لطلب يدها، لكن هذه نقرة أخرى.





وفى "عيسى ابن الإنسان" يحكى جبران الأحداث ويصور الأشخاص على نحو يختلف قليلا أو كثيرا عما نجد فى الأناجيل. فمثلا فى الرواية الثانية من روايات الكتاب الخاصة بعيسى عليه السلام، وهى رواية حنة أم مريم عليها السلام، نجد أن الرجال الذى أَتَوْا من المشرق وتَمَلَّوْا بمشاهدة طلعة المسيح الرضيع فى المذود لم يكونوا رهبانا من المجوس كما تقول بعض الأناجيل، بل مجرد ناس كانوا فى طريقهم مع القافلة إلى مصر، ومروا بمدينة الناصرة فأرادوا المبيت فى الفندق فلم يجدوا موضعا، فاضطروا إلى التعريج على بيت حنة أم مريم ليقضوا ليلتهم فيه، فشاهدوا الطفل فى مسكن جدته بناء على ما أخبرتهم به جدته، التى اتخذت من ولادة حفيدها فى تلك الليلة عذرا لعدم قيامها بواجبات الضيافة نحوهم كما ينبغى أن تكون، ولولا أن الجدة أنبأتهم بذلك ما عرفوا أن هناك طفلا جديدا أتى إلى الدنيا. وهذا كل ما هنالك، وليس ما قاله بعض الأناجيل من أن الرهبان المجوس قد شاهدوا فى سماء تلك الليلة نجما خاصا فهموا أنه لا يظهر إلا لأمر جلل، فتبعوه حتى بلغوا الموضع الذى ولد فيه المسيح فى بيت لحم لا فى الناصرة ورأوه يتوقف فوق البيت الذى كان يرقد فيه الطفل الوليد، فدخلوا وتهنأوا برؤيته وقدموا له الذهب واللبان والمر. وهو ما تنكره العقول، إذ النجوم فى جريها لا تبطئ من حركتها بحيث تساير أناسا يمشون على أقدامهم حتى يصلوا إلى المكان المراد. كذلك من المستحيل أن يتعرف السائر فى الأرض على بيت من بيوت أية مدينة من توقف نجم فى السماء، وهذا إن أمكن أصلا أن تتوقف النجوم فى السماء. فجبران هنا قد حسن إحدى روايات الأناجيل وأعادها إلى نطاق المعقولية.
أما فى رواية فيلمون الصيدلانى الإغريقى فيبدو عيسى طبيبا لا نببا، طبيبا يروون عنه أنه زار الهند وبلاد الرافدين وتعلم على أيدى الكهان أسرار الطب هناك. وهذا كلام جديد، إذ لم نسمع من قبل أنه عليه السلام قد زار الهند أو ذهب إلى بلاد الرافدين، اللهم إلا ما يزعمه القاديانيون من أنه، بعدما أُنْزِل من فوق الصليب لم يكن قد مات، فترك حينئذ، لا قبل ذلك، فلسطين هو وأمه ووليا وجهيهما نحو بلاد الهند حيث عاش بقية عمره ومات ودُفِن فى قبر هناك يطلق عليه: قبر صاحب. ثم يضيف ذلك الصيدلانى أن عيسى، رغم هذا، لم يكن يهتم بالطب بتاتا، بل جعل كل همه الدين والسياسة، وهو ما يعلن أنه لا يوافقه عليه، إذ المهم عنده أولا وقبل كل شىء بالنسبة للبشر هو صحة الأجساد. ولا نحب أن نخالفه فيما يرى من أهمية هذا الأمر من أمور الحياة أو ذاك، مثلما لا نستطيع مخالفته فى قوله إن المسيح كان يهتم بأمور الدين. لكن قوله عنه صلى الله عليه وسلم إنه كان يهتم بأمور السياسة هو زعم غير صحيح تاريخيا، إذ أراد اليهود ذات مرة أن يوقعوه عليه السلام فى مصادمة مع الدولة الرومانية فكان رده على ألاعيبهم هو الدعوة إلى ترك ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، بما يدل على أنه لا يريد الاشتغال بالسياسة، ويتجنب الوقوع فى أحابيلها بكل سبيلٍ.
أما قيافا الكاهن الأكبر فيصور المسيح، فى روايته للأحداث، متمردا على التوراة وشريعتها يريد بها سوءا وشرا، ومناوئا لروما، التى كانت تقوم على مملكة داود. ويقول إنه كان لا بد من الوقوف فى وجه عيسى المتمرد المناوئ، وإنه سعيد بأنهم استطاعوا القضاء عليه ورد كيده إلى نحره... وهكذا. وهنا أحب أن أشير إلى ما يقول عكاشة من أن رأى محبى المسيح فيه ورأى مبغضيه قد التقيا كلاهما على حبه عليه السلام والرثاء لخصومه[40]. وهذا غير صحيح، فها هو ذا الكتاب بين أيدينا، وليس فيه أن مبغضيه قد التقوا مع محبيه على حبه والرثاء لخصومه، أى الرثاء لأنفسهم. ترى كيف يكون ذلك؟ نعم كيف يكون الحب فى ذات الوقت بغضا؟ هذا ما لا يمكننى أن أفهمه أو أقتنع به. لو أن عكاشة قال إن بعض من بدأوا مبغضين له قد انقلبوا وآمنوا به فأحبوه ولم يعودوا يبغضونه لوافقناه. أما أن يقع فى ذلك التناقض الساطع فهذا ما لا يمكن أن يكون عقلا، فضلا عن أن جبران لم يورد فى قصته ما يقنعنا به.
بل إن جبران ليخلط فى بعض الأحيان الأمور خلطا، فإذا بالحوارى الذى يتهمه المسيح عليه السلام بأنه شيطان ليس هو بطرس كما جاء فى الأناجيل بل يهوذا الأسخريوطى، الذى لم يوجه المسيح له فى الأناجيل أى كلام قارص البتة. كما أن المجرب الذى تتحدث عنه الأناجيل وعرض على المسيح أن يكون ملكا على العالم مقابل سجوده له فرفض ليس هو الشيطان بل يهوذا أيضا، ولكن دون أن يطلب من المسيح السجود له ولا لغيره، إذ نرى يهوذا فى رواية يعقوب بن زبدى، وهى الرواية الأولى من الروايات التى تتكون من مجموعها قصة "عيسى ابن الإنسان"، يقترح عليه أن يعمل على استعادة مملكة يهوذا ويتولى أعباء حكمها، فما كان من المسيح إلا أن رفض هذا المقترح أيضا موبخا يهوذا عليه توبيخا عنيفا. وهو ما لا أفهم بواعثه، إذ لم يعرض يهوذا ما يدينه أو يسىء للسيد المسيح بحال. وكل ما كان يمكن أن يقال له ردا على ذلك الاقتراح حتى لو كان يبغى من ورائه شرا هو أن المسيح لم يُبْعَث من أجل إقامة مملكة، بل من أجل تصحيح العقائد والأخلاق وتخفيف التشريعات الشديدة عن البشر. وفى هذه الرواية يتضح غدر يهوذا لبقية الحواريين مبكرا قبل أن يأتى بجنود الرومان ليقبضوا على السيد المسيح طبقا لما تقوله الأناجيل.
ولنأخذ مثالا آخر: ففى رواية مريم المجدلية نعرف منها أنها كانت تحترف الدعارة، ونسمعها تتحدث عن بيت فخم لها وخدم يقومون بحاجاتها، وعن وقوعها من فورها فى عشق المسيح حين رأته يمر قريبا منها ذات مرة، ثم حين رأته مرة ثانية جالسا فى ظل شجرة من أشجار حديقتها بجوار بيتها، وحاولت أن تدعوه إلى الداخل كى يشرب الخمر ويتناول الطعام معها وتغسل له قدميه فى طست من ذهب وتعطره بالبَخُور، إلا أنه رفض قائلا لها إنه إذا كان كل الرجال يحبون فيها جمالها الذى سوف يذوِى يوما ما فإنه هو يحبها لذاتها. ثم نهض وانصرف لتوه. ومن ساعتئذ تحولت مريم وصارت امرأة غير التى كانتها من قبل، وتركت الدعارة. وبالمقارنة مع ما ذكره الإنجيل المنسوب إلى يوحنا فى الإصحاح الثانى عشر يتبين لنا أن رواية المجدلية فى قصة جبران تختلف عما يقوله كاتب ذلك الإنجيل، إذ ليس فيه شىء عن احترافها الدعارة أو امتلاكها بيتا فخما يمتلئ بالخدم. أما مريم التى طيبت رأس المسيح ومسحت قدميه بشعرها، ولم تكتف بأن تعرض عليه ذلك فيرفضه كما جاء فى قصة جبران، فهى مريم التى من بيت عانيا والتى دافع عليه السلام عنها ضد من انتقدوها على إراقة ذلك العطر الغالى بهذه الطريقة بدلا من بيعه وتوزيع ثمنه على الفقراء. وتبقى مريم المجدلية، وهذا ما تقوله "دائرة المعارف الكتابية" عنها فى مادة "مريم": "مريم المجدلية، وسميت بالمجدلية نسبة إلى موطنها الأصلي في المجدل على الساحل الغربي لبحر الجليل على بعد ثلاثة أميال إلى الشمال من طبرية... وقد أخرج الرب[41] من مريم المجدلية سبعة شياطين (مرقس16: 9، لو8: 2). وهذا معناه أنها كانت مريضة، والرب قد شفاها، ولكنها لم تكن إحدى الغانيات المنبوذات اجتماعيا، وبالأحرى لم تكن عاهرة... وليس ما يدعو للخلط بينها وبين المرأة الخاطئة المذكورة في إنجيل لوقا (7: 37)".
ومما يبدو لى مأخذا فى قصة جبران أيضا ما قاله فى حديثه عن المسيح عليه السلام ذلك الفيلسوف الفارسى الذى كان يعيش فى دمشق، إذ قارن بين إله العهد القديم المتباعد المتعالى القاسى المتشدد الذى لا يتورع عن حسد مخلوقاته والذى يؤاخذهم على كل هفوة دون أية رحمة وبين الإله الذى بشر به المسيح، ذلك الإله الرحيم اللطيف المتسامح المحب لمخلوقاته القريب منهم، وتنبأ بأن الإله الجديد الذى جاء به المسيح سوف ينتصر وينتشر الإيمان به فى أرجاء العالم. إلا أننا، بعد هذا كله، نباغَت بأن ذلك الفيلسوف يعلن أنه على دين زرادشت، دين النار والنور، وأنه راض تماما بما لديه ولا يفكر أبدا فى تغييره. إذن ففيم كان كل ذلك التفلسف، والتأريخ للديانات والمقارنة بينها، والإطراء للدين الجديد، وتوقع انتصاره الكاسح؟ بل لماذا جعله جبران فيلسوفا من الأصل وصوره متبحرا فى الدراسات والمقارنات الدينية؟ وإذا كانت صورة الإله فى النصرانية، كما يقول جبران على لسان ذلك الفيلسوف، انعكاسا لما فى نفوس السوريين من حنين إلى أن يكون إلههم على صورتهم ومثالهم ومحققا لتطلعاتهم، وإذا كان السوريون لا يختلفون عن إخوانهم البشر فى أى مكان، فكيف جاءت صورة إله العهد القديم بهذه القسوة التى يتحدث عنها جبران متخذا ذلك الفيلسوف دريئة يقف خلفها؟ ومن ذلك أيضا التناقض الحاد بين ما قاله لوقا فى بداية روايته وما قاله فى نهايتها: فى البداية أكد أن المسيح لم يمكن المرائين الذين كان يكرههم من الإيقاع به وقتله رغم حرصهم على ذلك، لنفاجأ فى نهاية الرواية بلوقا نفسه يقول إنهم قد استطاعوا أخيرا قتله. فكيف نوفق بين هذا وذاك؟ واضح أن الأمر عند جبران، كما أقول دائما، ليس أمر منطق وتفكير عقلى، بل أمر تهويمات وشعريات قد تفتن بما فيها من ألفاظ جميلة، لكنها لا تثبت على التمحيص عادة.
وحين نصل إلى رواية يوحنا بن زبدى نتوسم فى البداية أنه سوف يكون عند كلمته التى وعدنا أن يوضح بها حقيقة المسيح، لكننا سرعان ما نكتشف أنه قد زاد الطين بلة، إذ ما إن يقول كلمة تركز على بشريته حتى يعقبها بأخرى تعيدنا إلى نقطة الصفر ويتركنا فى عماية من الأمر لا ندرى أهو بشر فى رأيه أم إله. ثم يزيد فيقول إن المسيح فى الحقيقة ليس مسيحا واحدا بل مسحاء كثيرين أَتَوْا إلى العالم فى أزمان مختلفة لتأدية ذات المهمة، فظهر فى الهند قديما، وظهر فى فارس، وظهر فى مصر، وظهر فى اليونان[42]. وبالنسبة إلى المسيح الذى هو عيسى هناك فى الواقع مسيحان: المسيح البشرى، وهو مثلنا ولد من أبوين، والمسيح الكلمة التى أتت من السماء ونزلت ضيفة على المسيح الإنسان وسكنت جسده. أما لقب "ابن الإنسان" فيقول إنه هو اللقب الذى اختاره السيد المسيح لنفسه كى يكون قريبا من البشر، الذين اقترب من حاجاتهم الجسدية والروحية وشعر بها. وهناك رواية أخرى لكاهن شاب فى كفر ناحوم يزعم فيها أن المسيح لم يكن سوى ساحر مشعبد وعراف خبيث ضحك على النساء والعوام الجهلة المكدودين المرضى وأوهمهم بغير حقيقته، وأنه لولا هاتان الجماعتان الساذجتان المغفلتان من البشر ما بقى اسمه يوما واحدا بعد موته.
وهناك أيضا لاوِىٌّ غنى من مكان قريب من الناصرة يتحدث عن عيسى قائلا إنه كان نجارا بارعا يصنع الأبواب والشبابيك والمحاريث والخوازيق (أم السفافيد كما فى الأرشميندريت؟ ص232) ومقارئ التوراة كأحسن ما يصنع النجارون تلك الأشياء، ثم لا يتقاضى رغم ذلك على عمله الذى يعز نظيره سوى أجرٍ زهيد. وغريب أن يعقب فى النهاية بأنه لو كان يعلم، أيام كان عيسى الشاب يشتغل عنده نجارا يركب له الأبواب والشبابيك، أنه نبى لكان طلب إليه أن يتكلم بدلا من العمل بيده ولكان قد ضاعف له الأجر. والسؤال هو: والآن، وقد عرف أنه نبى، فماذا يا ترى قد صنع؟ لقد سكتت الرواية فلم تتطرق إلى هذه القضية رغم أهميتها. فلم إذن قد فتح اللاوىُّ ذلك الموضوع أصلا؟ وعندنا كذلك نثنائيل، الذى أكد فى روايته أن يسوع لم يكن ضعيفا أووديعا بحال من الأحوال.ألم يهجم بسوطه على الصيارفة الكهنة فى الهيكل ففروا من أمامه؟ ألم يتنبأ بأن كلماته سوف تبقى فلا تزول بعدما تكون كل الأشياء الأخرى قد زالت؟ فهل هناك ضعيف يثق بانتصار كلماته كل تلك الثقة؟ ثم إنه ينكر اتخاذ الضعفاء الكسالى الخانعين منه مثالا للضعف والوداعة يحتذونه مسوغين بذلك لأنفسهم البقاء على ما هم فيه دون القيام بأية محاولة لتغييره.
ولدينا رواية أخرى لسابا الأنطاكى، الذى رأى المسيح وتعرف إلى طريقته، يحمل فيها على بولس مؤكدا أن النصرانية التى يدعو إليها تختلف اختلافا حادا وبينا عما أتى به المسيح. إنه يبدو رجلا متوحشا يفتقر إلى الإحساس بالحرية، ونفسه مفعمة بالنقمة والرغبة فى التسلط والإزعاج ونسج القيود المعنتة على عكس السيد المسيح، الذى كان لطيفا عطوفا رحيما، فضلا عن أنه كثيرا ما يقول أشياء هو لا يثق بها أصلا، ويتحدث باسم المسيح رغم أنه لم يكن يعرف المسيح. وهى مفارقة غريبة. حتى سالومى روت قصته، فذكرت لنا أنها وقعت فى غرامه، على حين كانت أمها تكرهه كراهية مقيتة، وأنها متيقنة أنها لو ذهبت إليه تائبة لغفر لها ما اقترفته من جريمة شنيعة بتحريضها على ذبح يوحنا المعمدان، إذ تعرف كم كان رحيما كريما يعرف الضعف البشرى ويحنو عليه ويصفح عنه. والآن يحق لنا أن نتساءل: ما الذى منعها من الذهاب إليه والتطهر على يديه؟
وهكذا تتعدد الروايات وتختلف حسب الزاوية التى ينظر الراوى إلى المسيح منها أو الجانب الذى يهتم به من شخصيته، وحسب اختلاف الراوى نفسه ما بين حوارى وكاهن إسرائيلى وجندى رومانى وفيلسوف فارسى وشاعر إغريقى وإسكاف، وما بين امرأة ورجل وشيخ، وما بين إنسان قريب منه وآخر لا تربطه به صلة قرابة، وما بين شخص معاصر له وآخر جاء بعد مفارقته العالم بوقت طويل أو قصير، وما بين محب له يقدره ويراه إنسانا لا نظير له وكاره مبغض يحقد عليه ولا يطيق سماع اسمه ويتهمه بكل صفة مقيتة... إلخ، إلى أن نصل إلى رواية الرجل اللبنانى الذى يعيش فى القرن العشرين. وأغلب الظن أن ذلك الراوى هو جبران نفسه وأن الولادات السبع التى وُلِدَها والميتات السبع التى ماتها حسب كلامه هى إشارة إلى ما كان جبران يعتقده من تناسخ. وهو يرى أن كل شىء باق على ما هو عليه: فالناس منقسمون بشأن المسيح بين مباركين له ولا عنين إياه، ولا يزال بطرس ومتى ويهوذا وقيافا وسالومى وغيرهم يعيشون بين الناس الآن ويمارسون ما كانوا يمارسونه من قبل. يقصد أن البشر هم البشر، وأنه ما زال فيهم المؤمن والكافر والمنافق والخائن والمحب والحقود والحريص على المثل العليا واللامبالى الذى يريد اغتنام الحياة كما تسنح دون أن يعنى نفسه بالمتاعب والجهاد والتضحيات،لكنه ساق الكلام مساقا مجازيا.
ولقد كنت أتمنى من جبران أن يكشف لنا السر وراء اختياره لتسمية عيسى عليه السلام بـ"ابن الإنسان"، وكنت أتوقع أن يقول إن السبب فى ذلك هو إيمانه بأن المسيح لم يكن إلا بشرا كسائر البشر. لكن جبران للأسف لم يفعل. ويقول ثروت عكاشة إن ذلك اللقب دليل واضح على ما اتجه إليه جبران من رأى فى السيد المسيح. يريد أن يقول إن جبران كان يؤمن بأن المسيح ليس إلا بشرا من البشر. والواقع أن هذا ممكن، وقد دار بذهنى قبل قراءة الكتاب، لكننى بعد أن انتهيت منه لا أرى أن جبران قد قال فى هذه المسألة شيئا يحسم الأمر ويضع حدا للتخمين. ثم يسارع د. ثروت فيعقب على كلامه هذا بأن له فى رأى جبران موقفا مغايرا[43]. لكنه لم ألحظ أنه أعلن ذلك الموقف، ولا أعرف السبب. ثم ما الذى يمكن أن يختلف فيه مع جبران إن صح تفسيرى لكلامه؟ ومما قاله عكاشة أيضا فى الكتاب أنه يتمتع بوحدة عقلية وعاطفية: فأما الوحدة العقلية فالمقصود بها فى رأى كاتبنا أن عكاشة أراد أن يقول رأيا فى المسيح غير الذى يقوله المؤرخون، وأما الوحدة العاطفية فهى ما يزخر به الكتاب من عاطفة رقيقة تغلف مثل هذا الأثر الأدبى المفعم بالحياة. والواقع أن جبران قد أراد أن يبين لنا أن شخصية كشخصية المسيح هى من الغنى والعمق بحيث لا يمكن أن يجمع الناس على رأى واحد فيها ولا أن ينظروا إليها من نفس الزاوية ولا أن تنحصر رؤيتهم لها فى جانب واحد من جوانبها ليس إلا. والوقع أيضا أنه ما من شخصية بشرية إلا وينقسم الناس بشأنها بالغة ما بلغت تفاهتها وسطحيتها.
ثم إن الكتاب قد كُتِب كما كتبت جميع مؤلفات جبران بذلك الأسلوب المجنح المهوم المملوء بالصور والمجازات، وهو الأسلوب الذى لاحظت أن جبران لا يعرف بغيره. وهنا يؤكد ثروت عكاشة أن جبران فى هذا الكتاب، مثله مثل أى كتاب آخر من كتبه، كان يتصارع مع الألفاظ التى يستخدمها، إذ كان يعمل على التخلص من سيطرة الأساليب والألفاظ عليه من خلال تطويع اللفظ للمعنى لا العكس[44]. والحق أن جبران كان يؤثر التهويم والتجنيح على الدقة فى الوصف والسرد والحوار، مما من شأنه أن يموّع النفس من كثرة ما فى أسلوبه وعباراته من تهويم وشغف بالصور الغريبة المدهشة مهما يكن المعنى المراد التعبير عنه بسيطا قريبا إلى متناول الذهن. وهو نفسه قد رمى كثيرا مما كتب بالسخف والتفاهة والثرثرة، وأقر بأنه بدد طاقته فى هذه السخافات والتفاهات والثرثرات. وهو لم يقل هذا فى مقال أو فى كتاب، بل قاله لأخلص أصدقائه فى رسائل خاصة لا يطلع عليها أحد من القراء[45]. أى أنه، حين كتب هذا، لم يكن يقصد التظاهر بالتواضع أو لفت الأنظار. ثم أى صراع من أجل نصرة المعنى على اللفظ لا العكس كان يمارسه جبران مع اللغة حسبما كتب د. ثروت عكاشة، وكان عندنا الطهطاوى وأحمد فارس الشدياق ومحمد عبده وعلى مبارك وقاسم أمين وفتحى زغلول ومحمد لطفى جمعة وإبراهيم رمزى وجرجى زيدان وإبراهيم اليازجى وأحمد شوقى ويعقوب صروف وولى الدين يكن والمويلحى وإسماعيل مظهر ومصطفى صادق الرافعى وملك حفنى ناصف ومحمد حسين هيكل ومى زيادة والزيات وأحمد أمين وطه حسين والمازنى والعقاد وشكرى... إلخ، وهؤلاء من مصر وحدها، وقد كانوا يكتبون بأسلوب مباشر ليس فيه تزاويق ولا بديعيات ولا تقديس للفظ على حساب المعنى حسبما يقول د. ثروت عكاشة؟
كذلك ذكر عكاشة أن كتاب إميل لودفيج: "ابن الإنسان"، الذى عالج فيه سيرة السيد المسيح وشخصيته، قد صدر عام 1927م قبل ظهور "عيسى ابن الإنسان" لجبران بعام[46]. لكنى وجدت فى ترجمة لودفيج فى كل من "الموسوعة البريطانية" والنسخة الفرنسية من موسوعة "الويكيبيديا" أن كتاب لودفيج إنما ظهر عام 1928م. كذلك ذُكِر فى صفحة العنوان الداخلى لترجمة الكتاب الإنجليزية التى قام بها Eden and Cedar Paul والتى ظهرت عام 1928م عن دار نشر جاردن سيتى بنيويورك أن الأصل الألمانى صدر فى نفس ذلك العام. وهذه هى العبارة: "The German original of this work,published by Ernst Bowohlt Verlag, Berlin, 1928, is entitled: Der Menscheusohn, Geschiehte eines Propheten"، وهو العام ذاته الذى صدر فيه كتاب "عيسى ابن الإنسان" لجبران طبقا لما ذكره د. عكاشة نفسه، وكذلك يوحنا الفاخورى فى كتابه: "الجامع فى تاريخ الأدب العربى- الأدب الحديث"[47]، وكماورد فى المادة المخصصة له فى كل من النسختين الإنجليزية والفرنسية من موسوعة "الويكيبيديا".


ويتضمن الكتاب الذى تمت ترجمته على يد عكاشة بعد الكتاب السابق، وهو كتاب "رمل وزبد"، أقوالا قصيرة وعارضة لجبران كان ينطق بها عفو اللحظة، غير متصور أن من الممكن تسجيلها ونشرها بحال. إلا أن صديقته بربارة يونج دأبت على تسجيل تلك الكلمات على قصاصات من الورق، ثم أضافت إليها بعد هذا كلماته التى كانت تصدر عنه فى مرسمه، ونشرت ذلك كله فى مجلد واحد أطلق عليه جبران اسم "رمل وزبد" تعبيرا عن نظرته إلى الكتاب وما يحويه، إذ كان يرى أن تلك الأقوال شىء لا قيمة له، فهى ليست أكثر من رمل وزبد. وهل لحفنة من الرمل وقبضة من الزبد أية قيمة؟ ويقول د. عكاشة إن فى كثير من فقرات الكتاب أصداء مما كان ينطق به المصطفى فى كتاب "النبى". ثم راح عكاشة يورد أمثلة تبرهن على هذا الذى يقول، مضيفا أن "ما جاء فى كتاب "رمل وزبد" (حسبما توضح تلك الأمثلة) هو ترداد لما جاء فى كتاب "النبى" مع شىء من الإضافة والتلوين فى الأسلوب والجنوح إلى الرمز"[48]. كما وصف الكتاب بأنه أقوال متناثرة لا رابط بينها، وأنها تعج بالمتناقضات. ورغم ذلك كله نراه يثنى على جبران ونفوذ بصيرة جبران والشغف الذى يتمتع به جبران بفهم أغوار الوجود، وتطواف جبران حداثق الفلسفة والتيارات الفكرية كلها وتوقف جبران عندها جميعا واستخلاص فلسفته الخاصة منها فى آخر المطاف[49]. على أن هناك شيئا لا أفهمه فى مقدمة عكاشة، ألا وهو قوله إن جبران كان يدعو إلى التوحيد فى الحب. أى حب؟ وكيف يا ترى يكون ذلك التوحيد الذى يدعو إليه جبران؟[50] هذا ما لم يجد د. عكاشة داعيا إلى التلبث عنده أو توضيحه.
وها هى ذى بعض الشواهد من الكتاب المذكور: "اللؤلؤة هيكل شاده الألم حول حبة من رمل. ترى أى شوق شاد أبداننا؟ وحول أية حبات؟"، "كان لى مولد ثان حين انعقد الحب بين روحى وجسدى فتزاوجا"، "ما أطول ما رقدتُ فى ثرى مصر صامتا فى غفلة عن الفصول! ثم منحتنى الشمس الحياة، فنهضت أمشى على ضفاف النيل منشدا مع الأيام، حالما مع الليالى. والآن تطؤنى الشمس بألف قدم عساى أن أرقد ثانية فى ثَرَى مصر. ولكن هناك الأعجوبة المبهرة والأُحْجِيّة المحيِّرة: إن الشمس نفسها التى جمعت شتاتى تعجز عن أن تنثرنى بَدَدًا. ولا أزال ناهضا على ضفتى النيل أمشى مطمئن الخطى"، "نحن نقيس الزمن بحركة شموس لا تحصى، وهم يقيسون الزمن بآلات فى جيوبهم. والآن أنى لنا أن نلتقى فى المكان والزمان اللذين نحددهما؟"، "الإنسانية نهر من نور يجرى من الأزل إلى الأبد"، "الجنة وراء ذلك الباب فى الغرفة المجاورة، غير أن المفتاح ضاع منى، ولعلى أُنْسِيتُ موضوعه فحسب"، "أنت تشرب الخمر لعلك تسكر، وأنا أشربها لعلى أصحو بها من نشوة تلك الراح الأخرى"، "كل ما هو مفطور فينا صامت، أما الـمُكْتَسَب فثرثار"، "عندما تتحدث امرأتان لا تقولان شيئا، فإذا تحدثت واحدة كشفت عن الدنيا كلها"...




والآن إلى كتاب "أرباب الأرض"، وقد ظهر لأول مرة فى 1931م، ويقوم على حوار بين آلهة ثلاثة تهتم بمصير ألوهيتها ومصير الإنسان. وكما يقول أنطوان القوال: إنهم "ليسوا فى الحقيقة سوى الإنسان الخارج عن نطاق نفسه إلى حالة من الألوهة بنزعات إنسانية ثلاث: فالإله الأول متبرم بتكرار الحياة الرتيب، فيرغب فى الانمحاق. ويستمتع الإله الثانى بقدرته على الإنسان واللعب بمصيره. لكنه قبل نهاية الحوار يتخلى عن القوة ليؤمن بالمحبة. وأما الإله الثالث فيعتقد أن المحبة هى الحقيقة الأساسية فى الحياة. وهكذا يدور الكتاب حول المحبة، ولكن بأسلوب تسوده الكآبة والتفكير بالموت باعتباره الحقيقة الوحيدة الخالدة"[51]. والحب الذى يرى جبران أنه هو الحقيقة الجوهرية فى الحياة هوحب الرجل للمرأة حسبما يؤكد د. ثروت عكاشة. ولقد سبق أن رأينا جبران يريد أن يأخذ الحب دون أن يدفع لقاءه شيئا مع أن الحياة تقوم على التعادل، أى العطاء لقاء الأخذ، فألفيناه يمارس الزنا، لكنه يكره أن يتزوج حتى ليقرح على حبيبته الفرنسية ميشيلين أن تتخلص من الجنين الذى حملت به منه على أن يعقد عليها كما كانت ترغب منه. لقد كان يغبط النبات لأنه لا يعرف الزواج، لكن من ناحية إشباع الشهوة كان يمارسها كما تفعل الحيوانات.
المهم أن د. عكاشة يؤكد فى موضع من مقدمة ترجمته لهذا العمل أن جبران لم يضف جديدا إلى ما سبقه إليه من تقدموه فى الكتابة فى ذلك الموضوع، وأن الإنسان الذى تخيله جبران على هذا المستوى الكونى يدين لقصائد وليم بليك التربوية والرمزية حيث تمثل القوى الكونية والآلهة عناصر النفس البشرية، وإن جاء عمله دون عمل بليك لأن العنصر التاريخى الواضح فى قصائد الشاعر البريطانى يكاد يكون مفقودا لدى جبران[52]. هذا ما كتبه عكاشة عن الكتاب وجهد صاحبه فيه، وهو كلام لا يرى فيما صنعه جبران شيئا ذا قيمة. إلا أننا بعد صفحتين اثنتين تقريبا نفاجأ بالدكتور عكاشة يقول إن جبران فى ذلك الكتاب "قد امتُحِن بألوان من الصراع الخفى الذى يدور فى نفس الإنسان، وأجرى بين هذه الألوان نوعا من الجدل يتبادله الأرباب فى لون من ألوان القصيد يمكن أن يكون ملحمة شعرية فيها حياة وفيها صراع، وفيها إلى كل هذا متعة. فهو يعرض رأيه فى الإنسان عندما تتقاسمه هذه النوازع، ويخر صريعا لصراع الأرباب فى أعماق نفسه. ولا شك أنها محاولة جريئة من جبران أن يبلغ الأعماق من نفسه البشرية. وهو لم يبلغ هذا إلا بعد أن انتهى إلى حال من الشفافية مكنته من أن يدرك مداخل هذا الصراع فى نفسه"[53].
ولكن هل يستلزم الأمر أن يكون الإنسان فى حالة شفافية حتى يستطيع أن يرصد نوازع نفسه؟ إن نوازع أنفسنا لا تستلزم أن نرحل إلى الفضاء الخارجى كى نعرفها ونَخْبُرها، بل هى تسكن نفوسنا التى بين جنبينا. ثم أين الجرأة فى أن ينتصر جبران للحب، وقدعرفنا معنى الحب عنده وأبعاده؟ وكيف يستحق الكتاب كل هذا التمجيد، ونحن نرى الممجِّد نفسه يؤكد أنْ ليس فى الكتاب من جديد، وأنه مدين لكتابات وليم بليك مع التقصير عنها فى ذات الوقت؟ كذلك فإنى لا أستسيغ حكاية الأرباب والآلهة هذه واتخاذها رموزا لنوازع النفس وشهواتها مما يعيدنا كرة أخرى إلى عصور الأمم البدائية الوثنية المتخلفة. ترى كيف يصح تصوير الإله فى صورةِ نازعةٍ من نوازع النفس أو عاطفة من عواطفها؟ ودعنا من أن هناك آلهة ثلاثة لا إلها واحدا، وهو ما يزيد الطين بِلَّة. لقد أعادنا جبران إلى وثنية القدماء، الذين كانوا يتصورون آلهتهم تصورا بشريا، فهم يأكلون ويشربون ويغضبون ويحقدون ويتدللون ويتململون ويكتئبون ويتصارعون ويتوارَوْن فى ظل العدم كما هو الحال بالنسبة لآلهة جبران الثلاثة... لهذه الأسباب كلها أرانى لا أشارك ثروت عكاشة تحمسه المفرط لذلك العمل.
والآن هذا مقطع من مقاطع الكتاب أسوقه إلى القارئ، وهو من كلام الرب الثانى:
"أقتلع الإنسان من الظلمة الخفية،
ومع ذلك أترك جذوره عالقة في الأرض.
أمنحه الظمأ إلى الحياة وأجعل الموت حامل كأسه،
وأهبه الحب الذي ينتعش بالألم، ويعظم بالشوق،
وينمو بالحنين، ويخبو بالعناق الأول
.....
هكذا نسوس الإنسان إلى نهاية الزمن
متسلطين على النَّفَس الذي بدأ بصرخة أمه
وانتهى بالنواح الذي يندبه به أبناؤه.
......
إلى أن زففنا البحر إلى الشمس حين بلغ الدهر السابع رائعة ظهيرته.
ومن مخدع العرس، ومن ثمرة تلك النشوة، خلقنا الإنسان...".

[1]انظر د. أنطون غطاس كرم/ محاضرات فى جبران خليل جبران: سيرته وتكوينه الثقافى- مؤلفاته العربية/ معهد الدراسات العربية العالية/ 1964م/ 11- 12. وانظر ميخائيل نعيمة/ نابغة لبنان جبران خليل جبران- قصة حياته وماساة وته/ سلسلة "كتاب الهلال"/ العدد 90/سبتممبر 1958م/ 145- 146 حيث يخبرنا نعيمة ببعض الوقائع التى تنم عن غرام جبران بالتظاهر والتفاخر بما ليس فيه، سواء كان مسقط رأسه أو الشهادات التى حصلها، وليس له منها شىء. كما تعرض يوسف الحويّك إلى هذه المسألة قائلا إن أى كلام عن تلمذة جبران لرودان المثّال الفرنسى أو أية شهادات فنية من فرنسا وما شابه "ليس إلا ضربا من الأباطيل"" على حد تعبيره (يوسف الحويك/ ذكرياتى مع جبران: باريس 1909- 1910/ ط2/ مؤسسة نوفل/ بيروت/ 1979م/ 209- 210). وقد عرض د.ثروت عكاشة لهذا الجانب من نفسية جبران فى مقدمة ترجمته لكتابه: "النبى"/ ط9/ 2000م/ دار الشروق/ 30- 33.

[2]انظر ميخائيل نعيمة/ نابغة لبنان جبران خليل جبران- قصة حياته ومأساة موته/ 112- 113.

[3]انظر د. أنطون غطاس كرم/ محاضرات فى جبران خليل جبران: سيرته وتكوينه الثقافى- مؤلفاته العربية/ 35- 38. ويجدالقارئ تفصيلا لذلك فى كتاب نعيمة عن جبران/ 70 وما بعدها لصفحات طويلة، 122- 123. وأشار إلى ذلك أيضا د. ثروت عكاشة (فى مقدمة ترجمته لكتاب "النبى"/ 27)، ذاكرا توسلاته إليها كى تتخلص من الجنين حتى لا تعلم مارى هاسكل بما بينهما فتقطع عنه المعونة، وهو ما استجابت له الفتاة حين رأت منه إصرارا على عدم الاعتراف أمام الناس بما فى بطنها أو التزوج بها، وغادرته عائدة إلى أمريكا حيث تزوجت. والعجيب أن جبران كان يهاجم بضراوة مواضعات الناس الاجتماعية متهما إياهم بالنفاق والضعة والخبث والكذب (انظر مثلا يوسف الحويّك/ ذكرياتى مع جبران- باريس 1909- 1910/ 20- 21).

[4] حين طرق الحب قلبى لأول مرة كنت صبيا ريفيا غير مصقول، إذ كنت فى بداية تفتحى الثقافى والولوج إلى عالم الكتب والقراءة وكبار المؤلفين، ومع هذا كنت أشعر بنشوة علوية لم أخبرها فى حياتى إلا فى تلك الأيام العجيبة المباركة. وكنت أشعر بتلك النشوة سكرا مركزا فى حلقى يحز فيه ويكاد يجرحه، وتحليقا فى أعالى السماء بعيدا عن دنيا البشر. وكان حبا رفيفا عفيفا راقيا غاية الرقى والسمو. ولقد ذهب هذا كله، إلا أن الأغانى التى كنت أمسعها أوانذاك قادرة على استعادة ذلك الجو مرة أخرى، فأضيع مع الصوت والأنغام ولا أعود أبصر أو أسمع ما يدور حولى، وأرتد بكل كيانى إلى الماضى البعيد الذى ولى ولن يعود أبدا.

[5] ص38- 39. والمرأة التى يدور حولها الحديث هنا هى سلمى كرامة بطلة قصته: "الأجنحة المتكسرة".

[6] انتقد د. ثروت عكاشة الموسيقى الألمانى ريتشارد فاجنر لانصرافه عن زوجته وانشغاله بعشيقته ماتيلده ماير دون أن يفكر على الأقل بطلاق الزوجة، التى أهملها إهمالا يكاد يكون تاما لمصلحة الحب الجديد (انظر كتابه: "مولع حذر بفاجنر- دراسة نقدية"/ الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1983م/ 36).

[7] هذا النقد نشره المنفلوطى فى مقال له بعنوان "الحب والزواج" يجده القارئ فى الجزء الأول من كتابه: "النظرات". وكنت قد أخطأت فى كتابى: "نقد القصة فى مصر: 1888- 1980م" (دار النهضة العربية/ 36- 37) فقلت إنه موجود فى "العبرات" وإننى لا أستبعد أن تكون قصة جبران إحدى قصص مجموعة "الأجنحة المتكسرة". والصواب أنها موجودة فى "الأرواح المتمردة"، وأن "الأجنحة المتكسرة" ليست مجموعة قصصية بل قصة واحدة. وسبب هذا الخلط هو اعتمادى على ذاكرتى، وكنت قرأت الكتابين منذ وقت طويل، وظننت أننى ما زلت أتذكر تفاصيلهما، فكان هذا الخطأ الذى أبرا منه هنا وأقر بأن الاعتماد على الذاكرة كثيرا ما يوقع فى المهالك. أما تحديدى كتاب المنفلوطى بأنه "العبرات" فهو مجرد سهو، والصواب أنه "النظرات" كما جاء فى أول هذا الهامش.

[8] انظر ما كتبه د. ثروت عكاشة فى مقدمة ترجمته لكتاب "النبى" لجبران/ 95- 97، 102.

[9] اقرأ عند نعيمة مثلا فصل "فى الكهوف المظلمة" بدءا من ص154.

[10]انظر د. أنطون غطاس كرم/ محاضرات فى جبران خليل جبران: سيرته وتكوينه الثقافى- مؤلفاته العربية/6. وقد أطلق ثروت عكاشة فى مقدمة ترجمته لكتاب جبران: "النبى" عليه هو أيضا لقب "النبى" كقوله (ص83) مثلا: "كان جبران نبيا ظهر فى غير عصره وفى غير وطنه..." .

[11]انظر ميخائيل نعيمة/ نابغة لبنان جبران خليل جبران- قصة حياته وماساة وته/ 18.

[12] انظر 1/ 227- 229.

[13]استقيت هذه المعلومات من الثبت الخاص بأعمال د. ثروت عكاشة الموجود فى نهاية الجزء الثالث من كتابه: "مذكراتى فى السياسة والثقافة"/ 1082- 1083.

[14]انظر مقدمة عكاشة لترجمة كتاب "النبى"/ 40.

[15]ص33.

[16] وهذا هو نجيب محفوظ يقول نفس الشىء، إذ أورد بعض ذكريات طفولته قائلا: "وقد استفدت من أمى حنانا ما زلت أذكره وأشعر بدفئه، وقد تخطيت الثمانين. كانت سيدة بيت، ولم تكن موظفة، وكان الزوج يعمل خارج البيت. لذلك كانت صلة الأم بالأبناء قوية جدا، والأب عادة كان على الهامش، خاصة فى السنوات الأولى، ولا يظهر إلا وقت الأزمات، أما الأم فهى كل شىء" (إبراهيم عبد العزيز/ أنا نجيب محفوظ- سيرة حياة كاملة/ سلسلة "مكتبة الأسرة"/ 2012م/ 59).

[17] وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد ورد فى مقال بجريدة "الشرق الأوسط" (الأحـد 4 رمضـان 1425هـ- 17 اكتوبر 2004م) عنوانه "جبران خليل جبران وماري هاسكل: حكاية وصللم تكتمل" أن من بين من أحبهن جبران قد أحب نساء يكبرنه فى العمر كثيرا أو قليلا.

[18] فى كل من مادة "Oedipus complex" بالنسخة الإنجليزية ومادة "Complexe d'Œdipe" بالنسخة الفرنسية من "الويكيبيديا" أن فرويد كان يرى فى تلك العقدة ظاهرة ملازمة للطبيعة البشرية، وهو ما ينكره علماء نفس آخرون:
"As a psychiatrist, Sigmund Freud (1856–1939) proposed that the Oedipus complex is a universal, psychological phenomenon innate (phylogenetic) to human beings, and the cause of much unconscious guilt"- "L'universalité de ce complexe, par-delà les différences culturelles, a fait très tôt l'objet de critiques d'ethnologues".


[19]EdwardWestermarck, The History of Human Marriage, Macmillan & Co., London & New York, P. 290 sqq.
وتجد ذلك، بالعربية، فى إدوار ويسترمارك/ موسوعة تاريخ الزواج- دراسة أنثروبولوجية/ ترجمة د. مصباح الصمد ود. صلاح صالح وهدى رطل/ المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع/ بيروت/ 1421هـ- 2001م/550- 563.

[20] انظر فى ذلك ما جاء فى كل من مادة "Oedipus complex" بالنسخة الإنجليزية من "الويكيبيديا" ومادة "Complexe d'Œdipe" بالنسخة الفرنسية منها.

[21] انظر مقدمة كل من كتاب "النبى"/ 48، وحديقة النبى/ ط9/ دار الشروق/ 2000م/ 5.

[22]ص95- 96.

[23]ص84- 85.

[24]ص89.

[25]رأى جبران، وهو يتنزه بباريس مع صديقه يوسف الحويِّك ذات ليلة باردة فى شتاء 1909- 1910م أمام كاتدرائية نوتردام، فتى وفتاة متماسكين يدا بيد، وهما يتكلمان همسا ويضحكان فى سعادة ونشوة، فقال للحويّك: "ما عساهما يخبران؟ أشياء تافهة ولا شك، مقطعا من نشيد الحب الأزلى، مقدمة لسكرات الحب. وعندما تبرد العاطفة بعد تلك النار المتأججة يبدأ الخصام ويتبعه الفراق. وربما كان حاصل هذا الحب طفلا جديدا يغتذى وينمو ليكبر ويعيد تمثيل المسرحية الأزلية، موجة صغيرة على سطح أوقيانوس الوجود" (يوسف الحويّك/ ذكرياتى مع جبران: باريس 1909- 1910/ 71).

[26]وهذا ما يقوله جبران أيضا بعيدا عن شطحاته وتهويماته التى لا صلة بينها وبين الواقع، فهو يؤكد أن الحب أنواع متعددة لا تحصى حتى ليوشك أن يكون لك إنسان نوع خاص به تعينه المصادة والحظ وطول القامة ولون العينين... (انظر كتاب يوسف الحويّك: "ذكرياتى مع جبران"/ 134).

[27]حنا الفاخورى/ الجامع فى تاريخ الأدب العربى- الأدب الحديث/ دار الجيل/ بيروت/ 1986م/ 226.

[28]ص1 من الترجمة.

[29] ص4 من الترجمة.

[30] ص53 من الترجمة.

[31]كان جبران على معرفة جيدة بالقرآن الكريم إلى جانب الكتاب المقدس. بل لقد كانت صديقته وراعيته مارى هاسكل هى أيضا تهتم بالقرآن حتى إنها، في دروسها الأدبية المسماة: "نَفْس العالم"، التي كانت ترتكز على مقتطفات من كتاب الموتى المصري وسفر أيوب وإسخيلوس وسوفوكليس وإفريبيذِس والقرآن ودانتي وشكسبير وفاوست وبلزاك ونيتشه وإبسِن وويتمَن، كانت تتبادل هى وجبران الأفكار والكتّاب الأثيرين لديهما مع طالباتها (انظر مقال تانيا سامُّونز: "حياة جبران خليل جبران وماري هاسكل: رباط لا يفنى" المنشور بموقع "إيلاف" فى الأول من إبريل 2010م- ترجمة أكرم أنطاكى).

[32]ص12 من الترجمة.

[33]ص13- 14. ولجبران مقال بالغ العنف يحمل عنوان "يا بنى أمى" يحمل فيه على أمته حملة ضارية لكسلها وانعدام همتها وتفاهة طموحها وتبلدها، ومن ثم نجده يتبرأ من أمته تبرؤا تاما، مبديا كراهيته واحتقاره وعداءه لها (جبران خليل جبران/ العواصف/ دار العرب/ القاهرة/ 37 وما بعدها).

[34]لكن جبران يخيب ظننا فى موضع آخر من كتاباته، إذ له مقال بعنوان "حفار القبور والأحياء" يدعو فيه على لسان عبيد، فى حواره مع زيد، إلى وجوب انضواء سوريا تحت الاحتلال البريطانى حتى تتعلم أصول الحضارة وتتقدم وتخصل على حريتها واستقلالها، وكأن بريطانيا إذا تمكنت من احتلال سوريا سوف تتركها متى ما ارتقت، إن قدر لها أصلا أن ترتقى فى ظل الاحتلال. وفى هذا المقال أيضا يؤكد جبران أن مصر تعيش تحت الاحتلال البريطانى فى نعمة دونها كل نعمة. فيا للعجب من هذه الشطحات الجبرانية السخيفة! وكان ذلك فى عام 1916م، أى قبل تقسيم العالم العربى فى اتفاقية سايكس بيكو. وبذلك يكون جبران قد سبق الهنا بسنة. وهى سخافة أخرى من سخافات جبران، التى لا يريد البعض أن يلقوا الضوء عليها مصورين الرجل وكأنه نبى من الأنبياء. فيا لتعاسة مفهوم النبوة إذا كانت على هذا النحو الجبرانى العجيب (انظر المقال كاملا فى "المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران- نصوص خارج المجموعة"/ جمع وتقديم أنطوان القوال/ دار الجيل/ 1414هـ- 1994م/ 60- 65). ومع هذا ففى رده استفتاء أجرته مجلة "الهلال" عام 1923م مع بعض الأدباء العرب، ومنهم جبران، نجده يحذرنا من الاستعمار الغربى، مؤكدا أنه لا يريد بنا أى خير، وأ،نه لن يقبل أن نتحد أو نتقدم، وأنه سوف يستخدم كل أنواع القوة الباطشة فى منعنا من ذلك. وهو يشدد على وجوب اكتشاف كنوزنا المطمورة والعمل على الانتفاع بها بدلا من تقمم المدنية الغربية، ويدعو بقوة إلى أن تكون ثقافتنا فى المدارس وخارج المدارس ثقافة عربية أصيلة بدلا من التقليد القرودى للغربيين. بل إنه ليحمل فى هذا السياق على اليابان، التى يرى أنها قد فقدت شخصيتها خلال مسيرتها نحو اكتساب أسباب الحضارة الحديثة (انظر جوابه على أسئلة الاستفتاء المذكور فى "المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران- نصوص خارج المجموعة"/ جمع وتقديم أنطوان القوال/ 235- 244). لكن السؤال هو: ما جدوى هذا الكلام الآن بعد أن وقع بلاد الشام التى كانت مستقلة حتى ذلك الحين تحت الانتداب البريطانى والفرنسى؟ أم هو مجرد كلام فى الوقت الضائع لا يكلف صاحبَه شيئا؟ وفى مقال آخر نسمع جبران يؤكد أنه يحب الإسلام ويريد له عودة مجده وعظمته، وأنه يفاخر بمحمد ويسكنه فى شطر من حشاشة قلبه مثلما يضع عيسى فى الشطر الآخر، وأنه يكره الدولة العثمانية، ولكن حبا فى الإسلام، داعيا المسلمين إلى الثورة عليها والتخلص منها، وإلا استعمرهم الغرب (انظر "إلى المسلمين من شاعر مسيحى"/ 8- 10 من "المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران- نصوص خارج المجموعة"/ جمع وتقديم أنطوان القوال). ولقد ثار العرب على الدولة العثمانية كما أرد جبران وغير جبران، وكانت هذه الثورة هى المقدمة إلى وقوع ما كان باقيا من بلادهم مستقلا فى براثن الاستعمار الغربى، فما رأى جبران فى ذلك؟ ثم كيف يعود مجد الإسلام يا ترى من خلال التمزق الذى يدعو إليه جبران؟ الحق أن التمرد على الإسلام عند النصارى العرب قد اتخذ فى البداية صورة الثورة على العثمانيين الانتصار للقومية العريية على النزعة التركية، ولكن حين انتهى أمر العثمانيين بزوال الإمبراطورية العثمانية رأينا نصارى العرب يحملون على القومية العربية ذاتها تلك التى كانوا يرفعون رايتها نكاية فى الدولة العثمانية ليس إلا وخطوة مرحلية تتلوها خطوة أخرى ظهرت مؤخرا فى بعض البلاد إذ شرعوا يزعمون أنهم أصحاب البلد وحدهم، أما المسلمون الذين يشكلون الأغلبية الساحقة الماحقة فضيوف ينبغى أن يعودوا إلى بلادهم: جزيرة المعيز. بهذا أتصور أنه يمكن فهم كلام جبران فى هذا الصدد. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

[35] ص33 من الترجمة.

[36] ص37- 38 من الترجمة.

[37] ص40 من الترجمة.

[38] ص51- 52 من الترجمة.

[39]ص55- 56 من الترجمة. والجزء الأخير من الصورة يذكِّّر بقصيدة "سكن الليل" لجبران، التى تغنيها كل من نازك وفيروز، مع بعض الاختلافات اللفظية بين الأداءين، والاختلاف الكلى بين اللحنين، إذ تغنى كل منها القصيدة بطريقتها الرائعة الساحرة وصوتها المهيجبرانب الذى يوحى بجلال الليل وما ينتشر فيه من ضباب يسربل الحقول والبساتين، وما يسطع فيه من عبير الريحان، وما يجوس فى أرجائه من جن وحُور، مع رهبة فى صوت نازك ولحنها، وفرحة منتشية فى نظيريهما لدى فيروز:
سَكنَ اللَّيل، وَفي ثَوب السُّكونْ تَختَبي الأَحلامْ
وَسَعى البَدرُ، وَلِِلْبَدْرِ عُيُونْ تَرصُدُ الأَيّامْ
فَتَعالي، يا اِبنَة الحَقل، نَزُورْ كرمة العُشّاقْ
عَلَّّنا نُطْفِي بِذيّاك العَصِيرْ حرقَةَ الأَشواقْ
اِسمَعي البُلبُل ما بَينَ الحُقُولْْ يَسْكُُبُ الأَلحانْ
في فَضاءٍ نَفَخَت فيهِ التّلولْ نَسْمَة الرّيحانْ
لا تَخافي يا فَتاتي، فَالنُّجومْ تَكتُمُ الأَخبارْ
وَضَبابُ اللَّيل في تِلكَ الكُرُومْ يَحجُبُ الأَسرارْ
لا تَخافي، فَعَروسُ الجنّ في كَهفِها المَسحورْ
هَجَعَتْ سَكْرَى، وَكادَت تَختَفي عن عُيُون الـحُورْ
وَمَلِيكُ الجنِّ إِن مَرَّ يَرُوح وَالهَوى يَثْنِيهْ
فََهْوَ مِثْلي عاشِقٌ. كَيفَ يَبُوحْ بِالَّذي يُضْنِيهْ؟

[40] انظر ثروت عكاشة/ عيسى ابن الإنسان/ ط6/ دار الشروق/ 1999م/ 5.

[41]يقصدون السيد المسيح عليه السلام حسب عقيدة التثليث، أستغفر الله.

[42] وفى نفس الاتجاه يقول جبران من مقال له بعنوان: "لكم فكرتكم، ولى فكرتى": "تقول فكرتكم: الموسوية، البرهمية، البوذية، المسيحية، الإسلام، أما فكرتي فتقول: ليس هناك سوى دين واحد مجرّد مطلق تعدّدت مظاهره، وظل مجرّداً، وتشعَّبت سبله، ولكن مثلما تتفرّع الأصابع من الكف الواحدة. وتقول فكرتكم: الكافر، المشرك، الدهري، الخارجي، الزنديق، أما فكرتي فتقول: الحائر، التائه، الضعيف، الضرير، اليتيم بعقله وروحه" (المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران- نصوص خارج المجموعة/ جمع وتقديم أنطواان القوال/ 90).

[43]انظر ص5.

[44]انظر ص7.

[45]انظر ص8-10.

[46]ص20.

[47]ص229.

[48] جبران خليل جبران/ رمل وزبد/ ترجمة د. ثروت عكاشة/ ط6/ دار الشروق/ 1999م/ ص7- 8.

[49] ص9.

[50] ص8.

[51]المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران- نصوص خارج المجموعة/ جمع وتقديم أنطوان القوال/ 253.

[52] جبران خليل جبران/ أرباب الأرض/ ترجمة ثروت عكاشة/ ط4/ دار الشروق/ 1999م/ ص8.

[53]ص11.