المستشرق الفرنسى شارل بيلا: تحليل وتقويم
إبراهيم عوض

شارل بيلا (Charles Pellat) مستشرق فرنسى ولد سنة 1914م فى الجزائر، وعاش بين الجزائر والمغرب الأقصى، الذى درس فيه ردحا من الزمن ثم فرنسا حيث حصل على الأجريجاسيون فى اللغة العربية، ثم على دكتوراه الدولة فى الآداب من جامعة باريس. وصار مدرسا فى مراكش، وبعدها عاد إلى باريس حيث صار، بعد تقلب فى عدة وظائف تعليمية، أستاذا فى معهد الدراسات الإسلامية، ثم أصبح مديرا لهذا المعهد. كما انتخب عضوا فى أكاديمية النقوش والآداب الجميلة.
وتدور معظم أعمال بيلا حول الجاحظ، ومنها "الوسط العلمى فى البصرة وتنشئة الجاحظ، والإمامة فى مذهب الجاحظ، والجاحظ ومذهب الخوارج، والجاحظ والهند، والنصرانية فى نظر الجاحظ"، إلى جانب مجموعة من الرسائل التى نشرها للجاحظ، سواء بالعربية كرسالة "التربيع والتدوير" و"رسالة فى نفى التشبيه" أو مترجمة إلى الفرنسية مثل "كتاب البخلاء". ومن كتبه الأخرى التى لا تتعلق بالجاحظ "اللغة والأدب العربيان" و"اللغة العربية الحية" و"مدخل إلى اللغة العربية الحديثة" و"الموسوعات فى العالم العربى" و"ديوان ابن سهل الأندلسى" (بالعربية)، و"نصوص عربية"، وهو كتاب يحتوى على مجموعة من النصوص اليونانية واللاتينية والفارسية المتعلقة بالعد بالأصابع إلى جانب النصوص العربية. كذلك اهتم بيلا باللغة البربرية وكتب أبحاثا حولها. وبطبيعة الحال قد أشرف على عدد كبير من الرسائل الجامعية للطلاب العرب والمسلمين والأوربيين كما يفعل الأساتذة الجامعيون فى كل مكان.
ويقول بيلا فى كُتَيِّبه: "أصالة الجاحظ"، الذى ترجمه إلى العربية محمد عزيز الحبابى، إن الدهر قد أكل على كتب الجاحظ وشرب ولم يعد أحد يهتم بها، وإن مخطوطات كتبه قليلة مما يدل على أن الاهتمام به بين العرب فى القرون الوسطى كان ضئيلا. ولا أدرى من أين له بهذا الحكم، والجاحظ طوال القرون المتتالية وفى كل أنحاء العالم الإسلامى كان ولا يزال يشغل العلماء والكتاب على اختلاف ألوان كتاباتهم وتوجهاتهم فى الاعتقاد والرأى والأدب، فيتحدثون عنه وعن كتبه مادحين معجبين، ويستشهدون بكلامه فى كتبهم ورسائلهم مهما كان موضوعها، ويحللون فكره وأسلوبه تحليلا.
وفى الجزء الثانى من كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" لمحمد دياب، وهو مطبوع عام 1900م، ترجمة للجاحظ فى صفحة كاملة من كتاب غير طويل إذ لا يبلغ 250 صفحة أتى فيها بأهم ما ينبغى معرفته عن ذلك الأديب العظيم ذاكرا بعض مؤلفاته، وموردا فى خلال ذلك كلام ابن العميد فى أن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا والأدب ثانيا. وفى الجزء الثانى من "تاريخ آداب اللغة العربية" أيضا لجرجى زيدان حديث مفصل عنه فى موضعين: الأول ترجم فيه للجاحظ وألم بالخطوط العريضة من حياته وشخصيته وآرائه وأفكاره وذكر أشهر كتبه، والثانى حلل فيه أسلوبه تحليلا جيدا مفيدا. وفى عام 1931م صدر كتاب "أدب الجاحظ" للسندوبى، وهو بحث تحليلى فى حياة الرجل وسيرته وأدبه وعلمه وفلسفته وبيان خصائصه ومميزاته ووصف لمصنفاته وعرض لنوادره وفكاهاته. وقد سبق السندوبى شارل بيلا وغيرَه إلى كثير مما ذكروه عن الجاحظ وشخصيته وأدبه وعقله وفكره وأسلوبه فى صفحات تتلو صفحات إلى جانب كثير مما لم يتطرقوا إليه. وفى عام 1937م نشر محمد كرد على كتابا كبيرا بعنوان "أمراء البيان" كسر فيه قسما كبيرا منه على الجاحظ وكتبه وأدبه وفكره وحلل شخصيته وأسلوبه. وناهيك بمحمد كرد على اهتماما بمن يكتب عنه.
والعجيب أن شارل بيلا قد رجع عن هذا الحكم بعد قليل فى الكتيب الذى معنا الآن فقال إن أهل الحكم فى عصره رأوا نثره أشد وقعا من الشعر، كما أن النقاد لم يبخسوه حقه بل ضربوا به المثل فى إتقان اللفظ وإجادة المعنى. وزاد فقال إن أسلوبه نسيج وحده، وإن القدماء أعجبوا به غاية الإعجاب، وبخاصة أنه كان قريبا من الشعر. ثم عاد بيلا كرة أخرى فى آخر كتيبه فقال إن الجاحظ لم يحظ بالاهتمام فضلا عن الإعجاب بين العرب، إذ لا كرامة لنبى فى وطنه. وهو ما يعنى أن الجاحظ لم يكن أحد يبالى به، وقد ذهبت جهوده أدراج الرياح ولم يكن له تلاميذ، وذلك على نقيض ما نعرفه ورأيناه على مدى تاريخنا الأدبى الطويل. وهكذا يتناقض بيلا مع نفسه على هذا النحو الغريب!
ومما قاله شارل بيلا فى "أصالة الجاحظ" أن أحدا لم يكن يعرف شيئا عن "رسالة التربيع والتدوير" بله أن يهتم بها قبل أن ينشرها فان فلوتن المستشرق الهولندى فى أول القرن العشرين. قال بيلا هذا رغم أن القدماء تحدثوا عن هذا الكتاب حديث الإعجاب والتقدير العالى كما فى "مثالب الوزيرين" للتوحيدى، و"معجم الأدباء" لياقوت الحموى، و"نشوار المحاضرة" للقاضى التنوخى مثلا. ثم لم يكتف بيلا بدعواه تلك بل أردفها بدعوى ثقيلة أخرى هى أن هذه الرسالة ظلت لغزا من الألغاز إلى أن بلغ مراده منها بعد جهد طويل وكد لا يتوهمه القارئ، مع أن الساسى قد طبعها فى أوائل القرن العشرين بعد سنتين أو ثلاث من طبعة فلوتن، التى لا أظنها كانت معروفة فضلا عن أن تكون منتشرة فى البلاد العربية. كذلك وصف السندوبى تلك الرسالة وصف العارف بكل شىء فيها، وخصص لها نبذة فى كتابه عن أدب الجاحظ جال خلالها جولة أعطتنا موضوعها وزبدة ما فيها وحكم عليها حكم من قرأها جيدا ورازها كما ينبغى وعَلِمَ قيمتها وأهميتها. كل ذلك قبل أن يكتب بيلا شيئا عن الجاحظ بنحو خمس وعشرين سنة حين نشرها فى دمشق سنة 1955م.
وفى كتاب محمد كرد على: "أمراء البيان"، الذى صدر سنة 1937م، فصل كامل عن الجاحظ يضم صفحات طويلة للفكاهة والمزاح والهزل لدى كاتبنا الكبير اهتم فيها برسالة "التربيع والتدوير" اهتماما شديدا وفصل القول فيها تفصيلا. فكيف يجرؤ شارل بيلا على إنكار كل تلك الحقائق الساطعة فيزعم أن أحدا لم يكن يعلم عن تلك الرسالة شيئا إلى أن أرسلته العناية الإلهية فأخرجها من الركن الذى كانت مطمورة فيه تحت طبقات الأتربة والقمامة؟ بل بأى وجه تشجع وادعى أن الجاحظ نفسه لم يكن يشغل أى حيز من اهتمامات العلماء والكتاب والأدباء والنقاد طوال قرون إلى أن أتى هو وأعاد إليه قدره واعتباره؟ كذلك كتب الدكتور شوقى ضيف عن الجاحظ فى كتابه: "الفن ومذاهبه فى النثر العربى" فضلا ضافيا طويلا تناول فيه حياته وحلل فيه شخصيته واستخلص سمات أسلوبه وفنه وعالج الكلام عن مؤلفاته، ثم وقف وقفة مطولة إزاء "رسالة التربيع والتدوير". وهذا كله يكذب مزاعم بيلا تكذيبا. وبالمثل فإن شفيق جبرى قد سبق بيلا إلى الحديث عن "رسالة التربيع والتدوير" فى الفصل الخاص بتهكم الجاحظ من كتابه: "الجاحظ معلم العقل والقلب" الصادر عام 1948م، فوقف بوجه خاص لدن هذه الرسالة فعرضها وفَلَّاها وحللها وأورد منها استشهادات غير قليلة.
كذلك يقول بيلا فى كتيبه المذكور إن الكتاب يصفون الجاحظ بأنه "معلم العقل والأدب" دون أن يحققوا معنى تلك العبارة. والواقع أن هذه الكلمة هى لابن العميد الوزير الأديب الخطير، وقد تناقلتها كتب الأدب عبر العصور مقرين بصدقها ودقة انطباقها على الرجل إلى أن وصلنا فى العصر الحديث إلى تحقيق حسن السندوبى لكتاب "البيان والتبيين"، الذى حمل إلى جانب عنوانه تلك العبارة ممهورة باسم صاحبها، والذى افتتحه السندوبى بمقدمة لا أروع ولا أبدع فى تحليل عقل الرجل وعلمه وفنه الأدبى، وكان ذلك قبل صدور كتابه: "أدب الجاحظ" بأعوام. ومثله فى ذلك كتاب شفيق جبرى: "الجاحظ معلم العقل والقلب"، الذى حلل فيه عقل الجاحظ وتجاربه العلمية وأدبه البديع وفلسفته العميقة ونقده الذكى الواعى ولغته المتميزة وأسلوبه الذى هو نسيج وحده فى التحليل والتعليل والتصوير والجدال... إلى آخر ما ألفه كتاب العرب فى عصرنا حول هذا الرجل العجيب وفنه وفكره الأعجب، وهو كثير ومتنوع. وإذا نظرنا فى كتابى السندوبى وشفيق جبرى مثلا فسنرى كيف توهج قلم كل منهما فى درس الجاحظ والكتابة عنه وتجلية مناحى شخصيته والجولان فى أعماق عبقريته وسنلمس كم كان شارل بيلا سخيفا حين ظن أن علماء العرب وفلاسفتهم وأدباءهم وشعراءهم ومفكريهم وكتابهم ودارسيهم فى تلك البضعة عشر قرنا كانوا يجهلون معنى أن كتب الجاحظ تعلم العقل أولا، والأدب ثانيا، إلى أن جاء هو الأعجمى فعَرَّفَنا نحن العرب كيف تُعَلِّم كتب الجاحظ العلم والأدب!
والغريب أن شارل بيلا يدعو من يقرأون كلامه هذا ألا يظنوا به قلة التواضع. طبعا، فكلامه هذا يدل على تواضع لم نسمع به فى الأولين ولا فى الآخرين. وبالمناسبة فإن الإنسان ليخرج من المادة التى خصصها لبيلا د. عبد الرحمن بدوى فى "موسوعة المستشرقين" بأنه من الناحية العلمية وسط: مفيد، وعنده استقصاء، لكنه فى عمومه غير عميق فيما يتناول من موضوعات. وحكم د. بدوى عليه يخلو من الغبن والإجحاف، فهو فعلا فيما كتبه عن الجاحظ متوسط القامة والقيمة رغم تصايحاته عن إنجازاته الجاحظية التى يريد إيهامنا بأنها ليس لها ضريب. ومما هول به المهولون أيضا فى أمره تلقيبه بـ"صانع الدكاترة" كما جاء فى الصفحات الأولى من كتيب محمد الجويلى: "شارل بيلا". وهو لقب مضحك، إذ ما من أستاذ جامعى إلا ويخرج من تحت يده عشرات الحاصلين على الدكتوراه. فهذا مما هو معلوم من الأستذة الجامعية بالضرورة، لكن ذوى الغرض يريدون إيهام القراء بأن شارل بيلا هو وحده الذى فعل هذا أو هو وحده الذى يستحق أن نسميه بهذا. أيصحّ أن نقول عن إنسان بعينه دون العالمين إنه "شخص يأكل ويشرب"؟ فهذا مثل هذا.
ومما كتبه المجدولى فى كتيبه هذا أن بيلا قد حرر الدراسات العربية من المركزية الأوربية، فصار أولاد العرب يشاركون فى دراستها هم أيضا. وهو زعم سخيف ويبعث على القهقهة، إذ معناه أن أولاد العرب لم يكونوا يدرسون حضارة أمتهم وثقافتها وآدابها وتاريخها ورجالها قبل أن يهل على الكون شارل بيلا ويشرف على المبعوثين العرب إلى فرنسا. إن بيلا ليس سوى واحد فقط من المستشرقين الفرنسيين وغير الفرنسيين الذين كانوا وما زالوا يشرفون على المبعوثين العرب والمسلمين إلى الجامعات الأوربية. وقبل هذه الجامعات الأوربية هناك الجامعات العربية والإسلامية، وفيها يدرس الطلاب العرب والمسلمون. والعبد لله قد خرج من تحت يديه عشرات الدكاترة، وما أنا إلا واحد من مئات، إن لم يكن من آلاف، الأساتذة العرب والمسلمين الذين يشرفون حاليا على دارسى الدكتوراه من أبناء العرب والمسلمين. فلا داعى بل لا معنى إذن لهذه التشنجات اللامنطقية فى التحمس لشخص من الأشخاص، وبخاصة أن الأساتذة الغربيين يعملون على نحو أو على آخر على صبغ عقول ونفوس المبتعثين إلى جامعات بلادهم بصبغة التبعية للفكر الغربى وسلخهم عن ثقافتهم القومية والإسلامية.
وقد قال المجدولى ذلك دفاعا عن بيلا، الذى أخذ عليه الآخذون أنه لم يفكر يوما فى إدانة الاستعمار الفرنسى لبلاد المغرب العربى وجرائمه الوحشية هناك. أرأيتم دفاعا أسخف وأتفه من هذا الدفاع؟ إن بيلا بالعكس من ذلك كان يساعد فرنسا على سحق العرب والمسلمين، وكان يشتغل فى مخابراتها. كما اشتغل بالدعاية لفرنسا بين العرب فى الشمال الأفريقى لكى يقف العرب المسلمون هناك مع الاستعمار الفرنسى لبلادهم ضد ألمانيا، وقبل ذلك اشتغل ضابطا فى الجزائر، ولا أظن ذلك الضابط كان يربت على أكتاف الجزائريين الذين كانت بلاده تحتل بلادهم وتنزل بهم صنوف الويل والثبور وتغتصب ثرواتهم وتقتل منهم الآلاف المؤلفة حتى صارت الجزائر تسمى: بلد المليون شهيد. والبركة فى الضباط والجنود الفرنسيين الذين اعتمدت عليهم بلادهم فى إخضاع الجزائر والتنكيل بالجزائريين والذين كان بيلا واحدا منهم.
ومما أقف إزاءه مما يتعلق ببيلا أيضا قوله فى الكتاب الذى بين أيدينا ما يفهم منه أن الفرس كلهم كانوا بعد الإسلام يدينون بديانتهم القديمة سرا وأنهم كانوا طابورا خامسا ضد أمة المسلمين. وهذا كلام غريب غير مقبول. نعم لقد كان هناك شعوبيون، لكن الشعوبية لم تكن تغطى الفرس جميعا ولا كان الشعوبيون فرسا فقط بل كان هناك شعوبيون آخرون من الأمم المختلفة. لقد كان الفرس بعامة أمة مسلمة، بل هم حتى الآن أمة مسلمة تتمسك بدين الله رغم اختلافهم فى اتجاه تدينهم عن أهل السنة. كما أن الشعوبية لم تكن كلها لونا واحدا، ولم تكن كلها زندقة بل كان هناك من يشعر فقط بالغبن لأنه كالعرب سواء بسواء فى انتمائه للإسلام، فكان يتوقع أن يعامَل كالعربى على قدم المساواة، لكن الواقع لم يكن كذلك دائما، فآلمه ذلك وأطلق لسانه بالغضب، لكنه ظل مسلما متمسكا بدينه. وعندنا أيضا حالة بشار، الذى قيل عنه إنه شعوبى يحمل على العرب ويتنقص منهم فى حين أنه ما كان ليمسهم بكلمة سوء لو لم يعتد عليه ويحقر من شأنه أحد الأعراب فى مجلس أحد العرب، إذ أبدى نحوه عنجهية مقيتة ونفى أن يكون العجم قادرين على نظم الشعر كالعرب، مما كان من نتيجته أن استأذن الشاعرُ الفارسىُّ صاحبَ الدار العربى التى أهين فيها ليرد على هذا التحقير، فأذن له. فلو كان بشار يكره العرب ويؤمن بديانته الثنوية الوثنية ما سكت رب البيت على ما قال. ولقد كان هجوم بشار على الأعراب لا العرب. ومعروف أن القرآن قد أصلى الأعراب نار تعنيفه، لكنه لم يمس العرب بسوء.
وبالمثل زعم بيلا أن الهزل بصفة عامة كان مكروها عند العرب لعدم ملاءمته الحلم والوقار، وأن الجاحظ لم يقنع كل المسلمين بأن الهزل فى موضعه محمود مثلما أن الجد فى غير موضعه مذموم. لقد فات شارل بيلا أن كثيرا من الشعر العربى منذ القديم هو شعر هجائى، وأن الشعر الهجائى فى جانب غير قليل منه هو تصوير هزلى للخصم يراد من ورائه إضحاك السامعين من المهجو. وعندنا شاعر مخضرم عاش بين الجاهلية والإسلام هو الحطيئة كان يمسخ بهجائه الهازل من لا يعطونه ما يريد. وعندنا شعراء المربد فى العصر الأموى، وكان كل منهم يجعل من خصمه ومن قوم خصمه مهزلة بشرية. وعندنا بشار، وعندنا أبو الشمقمق، وعندنا أبو دلامة، وعندنا مطيع بن إياس، وعندنا أبو الرقعمق، وعندنا ابن الرومى، وعندنا المتنبى، وعندنا ابن سكرة، وعندنا ابن حجاج، وعندنا ابن سودون، وعندنا ابن حرب... وهلم جرا. وفى إبداعات النثر لدينا "أخبار أبى نواس" لأبى هفان مثلا، و"الأغانى" لأبى الفرج الأصفهانى، و"أخبار الحمقى والمغفلين" لابن الجوزى، و"الرسالة الهزلية" لابن زيدون، و"التطفيل وحكايات الطفيليين وأخبارهم ونوادر كلامهم وأشعارهم" للخطيب البغدادى، و"جمع الجواهر فى الملح والنوادر" للحصرى...
وكان من بين صحابة رسول الله من يهزلون فيضحك النبى من ألاعيبهم. فمثلا "خرج أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ قبل وفاةِ رسولِ اللهِ ﷺ بعامٍ فى تجارةٍ إلى بُصْرَى ومعه نُعَيمانُ بنُ عمرٍو الأنصارى وسُلَيْطُ بنُ حرملةَ، وهما ممَّن شهِدا بدرًا مع رسولِ اللهِ ﷺ، وكان سُلَيْطُ بنُ حرملةَ على الزّادِ، وكان نُعَيمانُ بنُ عمرٍو مَزّاحًا فقال لسُلَيطٍ: أطعِمْنى. قال: لا أُطعِمُك حتّى يأتى أبو بكرٍ. فقال نُعَيمانُ لسُلَيطٍ: لأغيظنَّك. فمرُّوا بقومٍ، فقال نُعَيمانُ لهم: تشترون منِّى عبدًا لى؟ قالوا: نعم. قال: إنَّه عبدٌ له كلامٌ. وهو قائلٌ لكم: لستُ بعبدٍ. أنا ابنُ عمِّه. فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تُفسدوا على عبدى. قالوا: لا بل نشتريه ولا ننظُرْ فى قولِه. فاشترَوْه منه بعشرِ قلائصَ، ثمَّ جاؤوه ليأخذوه، فامتنع منهم، فوضعوا فى عُنقِه عِمامةً، فقال لهم: إنَّه يتهزَّأُ، ولستُ بعبدِه. فقالوا: قد أخبرنا خبَرَك. ولم يسمعوا كلامَه. فجاء أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ، فأخبروه خبرَه، فاتَّبعَ القومَ فأخبرهم أنَّه يمزَحُ، وردَّ عليهم القلائصَ وأخذ سُلَيْطًا منهم. فلمّا قدِموا على النَّبى ﷺ أخبروه الخبرَ، فضحِك من ذلك رسولُ اللهِ ﷺ وأصحابُه عليهم السَّلامُ حولًا أو أكثرَ". كذلك فالحديث التالى يدل على عدم تحريج الإسلام للضحك: "كان رجُلٌ من الصَّحابةِ ضحّاكًا، فذُكِرَ ذلكَ لرسولِ اللَّهِ ﷺ، فقال: ما يَعْجَبون؟ إنَّهُ ليدخُلُ الجنَّةَ وهو يضحَكُ". وفى الحديث: "كان أصحابُ النبى ﷺ يتبادَحون (أى يتقاذفون لعبا وضحكا) بالبِطِّيخِ، فإذا كانت الحقائقُ كانوا هم الرجالَ". وكان هو عليه السلام يمازح أصحابه: ففى الحديث أنَّ "رَجُلًا أتى النَّبى ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ، احْمِلْنى. فقال النَّبى ﷺ: إنّا حامِلوك على وَلَدِ ناقةٍ. قال: وما أصنَعُ بوَلَدِ النّاقةِ؟ فقال النَّبى ﷺ: وهل تَلِدُ الإبِلَ إلّا النُّوقُ؟". وفيه أيضا أنَّ "امرأةً عجوزًا جاءتْهُ تقولُ لَهُ: يا رسولَ اللهِ، ادع اللهَ لى أنْ يُدْخِلَنى الجنة.َ فقال لَها: يا أمَّ فلانٍ، إِنَّ الجنَّةَ لا يدخلُها عجوزٌ. وانزعجَتِ المرأةُ وبكَتْ ظنًّا منها أنها لن تدخلَ الجنةَ. فلما رأى ذلِكَ منها بيَّنَ لها غرضَهُ أنَّ العجوزَ لَنْ تدخُلَ الجنَّةَ عجوزًا بل يُنشِئُها اللهُ خلقًا آخرَ، فتدخلُها شابَّةً بكرًا. وتَلا عليها قولَ اللهِ تعالى: إِنّا أَنشَأْناهُنَّ إِنشاءً * فَجَعَلْناهُنَّ أبْكًارًا* عُرُبًا أَتْرابًا".
ومن أقواله عليه السلام يحث أصحابه ألا يُفْرِطوا فيجعلوا حياتهم كلها جِدًّا فى جِدٍّ قوله: "ساعة وساعة". وفى حديثِ آخرِ أهلِ النار خروجا من النار عجبٌ من العجب يتمثل فى الحوار الذى يدور بين الله وبين ذلك الرجل: "إذا فرَغَ اللهُ من القضاءِ بين العبادِ وأرادَ أنْ يُخرِجَ برحمتِه مَنْ أرادَ من أهلِ النّار، أمَرَ الملائكةَ أنْ يُخرِجُوا من النارِ مَنْ كان لا يُشركُ باللهِ شيئًا مِمَّنْ يقولُ لا إلهَ إلَّا اللهُ، فيُخرِجُونهمْ ويعرِفُونهمْ بآثارِ السجودِ، وحرَّمَ اللهُ على النارِ أنْ تأكلَ آثارَ السجودِ، فيَخرجُونَ من النارِ وقدِ امْتُحِشُوا، فيُصَبُّ عليهم ماءُ الحياةِ، فيَنبُتونَ كمَا تنبُتُ الحبَّةُ فى حمِيلِ السَّيْلِ، ثُمَّ يَفرُغُ اللهُ من القضاءِ بين العباد، ويبْقَى رجلٌ بين الجنةِ والنارِ، وهوَ آخِرُ أهلِ النارِ دُخولًا الجنةَ، مُقبِلًا بوجهِهِ قِبَلَ النار، فيقولُ: يا ربِّ، اصرِفْ وجهِى عنِ النارِ، فقدْ قشبَنِى رِيحُها، وأحرَقَنِى ذَكاؤُها. فيقولُ: هل عَسَيْتَ إنْ فُعِلَ ذلكَ بِكَ أنْ تسألَ غيرَ ذلكَ؟ فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ. فيُعطِى اللهَ ما يشاءُ من عهدٍ وميثاقٍ، فيَصرِفُ اللهُ وجهَهُ عنِ النارِ. فإذا أُقبِلَ بهِ على الجنةِ، ورأَى بَهْجتَها سكَتَ ما شاءَ اللهُ أنْ يسكُتَ، ثُمَّ قال: يا ربِّ! قدِّمْنى عندَ بابِ الجنةِ. فيقولُ اللهُ: أليسَ قدْ أعطيْتَ العهدَ والمِيثاقَ ألا تسألَ غيرَ الّذى كنتَ سألْتَ؟ فيقولُ: يا ربِّ، لا أكونُ أشْقَى خلْقِكَ. فيقولُ: فما عَسَيْتَ إنْ أعطيتُكَ ذلكَ ألا تسألَ غيرَهُ؟ فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ، لا أسألُكَ غيرَ ذلكَ. فيُعطِى ربَّهُ ما شاءَ من عهدٍ ومِيثاقٍ، فيقدِّمُهُ إلى بابِ الجنةِ، فإذا بلَغَ بابَها فرأَى زهرَتْها وما فيها من النَّضْرَةِ والسُّرورِ، فيَسكُتُ ما شاءَ اللهُ أنْ يَسكُتَ، فيقولُ: يا ربِّ، أدخلْنِى الجنةَ. فيقولُ اللهُ: ويْحَكَ يا ابنَ آدَمَ! ما أغْدَرَكَ! أليسَ قدْ أعطيْتَ العهدَ والمِيثاقَ ألا تسألَ غيرَ الّذى أُعطِيتَ؟ فيقولُ: يا ربِّ لا تجعلْنِى أشْقَى خلْقِكَ. فيَضحَكُ اللهُ مِنْهُ، ثُمَّ يأذَنُ لهُ فى دُخولِ الجنةِ، فيقولُ: تَمَنَّ. فيتَمنَّى حتى إذا انقطعَتْ أمنِيَّتُهُ قال اللهُ تعالى: زِدْ من كَذا وكَذا. أقبَلَ يُذَكِّرُهُ ربُّهُ، حتى إذا انتهَتْ بهِ الأمانِى قال اللهُ عزَّ وجلَّ: لكَ ذلكَ، ومِثلُهُ معَهُ".
أما الآيات التى استشهد بها شارل بيلا فى مادة "الجد والهزل" بـ"دائرة المعارف الإسلامية" على كراهة الإسلام للضحك اعتمادا على مثل قوله تعالى: "فلْيضحكوا قليلا ولْيبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون" فقد أخطأ عامدا (أو جاهلا؟ لا أظن) فى فهمها، إذ المقصود هو ضحك المنافقين استهزاء بالإسلام ورسوله وكتابه الكريم، وليس الضحك بإطلاق. أى أنهم إذا كانوا يضحكون الآن استهزاء ونفاقا فهو ضحك قليل لأن الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة تعد فى الواقع لاشىء، ولسوف يعقبه فى الحياة الآخرة بكاء طويل وعويل متصل حين يعذبون فى نار الجحيم. والسياق هو سياق الحديث عن المنافقين وضحكهم استهزاء بالوحى وبالرسول وبتعاليم الإسلام. وهذا هو النص كاملا: "فرح المخلَّفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله، وقالوا: لا تنفروا فى الحر. قل: نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا بما كانوا يكسبون". وعبارة "بما كانوا يكسبون" التى اختتمت بها الآية الأخيرة تدل على أن الجزاء المذكور هو بسبب ما كسبوه من نفاق وكفر وتخلف عن الجهاد وعن الدفاع عن الدين لا بسبب الضحك.
وقد كان الرسول عليه السلام يمزح مع أصدقائه ويضحك كما فى حديث عباس بن مرداس السلمى "أنَّ بعضَ الصحابةِ رأى النَّبى ﷺ يضحك، فقال: أضحكَ اللهُ سِنَّك"، وعن عائشة: "إنْ كان رسولُ اللهِ ﷺ لَيُقبِّلُ بعضَ نسائِه وهو صائمٌ ثم يضحَكُ"، وعن بريدة بن الحصيب الأسلمى: "كان النبى ﷺ أكثرَ ما يضحكُ إلا حتى تُرَى أو تبدوَ رُباعِيَتُه". وفى الحديث أيضا "أنَّ النبى ﷺ خرجَ ذاتَ يومٍ وهو يضحكُ وهوَ يقولُ: لنْ يغلبَ عُسرٌ يُسرينِ. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا". وعن أم حرام: "أتانا رسولُ اللهِ ﷺ فقال عندَنا فاستيقَظ وهو يضحَكُ. قالت: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، بأبى أنتَ وأمِّى ما أضحَككَ؟ قال: رأَيْتُ قومًا مِن أمَّتى يركَبونَ هذا البحرَ كالملوكِ على الأَسرَّةِ. ثمَّ نام فاستيقَظ وهو يضحَكُ. قالت: فسأَلْتُه، فقال لى مِثْلَ ذلك. قُلْتُ: ادْعُ اللهَ أنْ يجعَلَنى منهم. قال: أنتِ مِن الأوَّلينَ". و"كان رجلٌ يُسمّى: عبدُ اللهِ ويلقبُ: حمارًا، وكان يُضْحِكُ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ". "بيْنَما المُسْلِمُونَ فى صَلاةِ الفَجْرِ لَمْ يَفْجَأْهُمْ إلّا رَسولُ اللَّهِ ﷺ كَشَفَ سِتْرَ حُجْرَةِ عائِشَةَ، فَنَظَرَ إليهِم وهُمْ صُفُوفٌ، فَتَبَسَّمَ يَضْحَكُ، ونَكَصَ أَبُو بَكْرٍ رَضِى اللَّهُ عنْه على عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ له الصَّفَّ، فَظَنَّ أنَّهُ يُرِيدُ الخُرُوجَ، وهَمَّ المُسْلِمُونَ أَنْ يَفْتَتِنُوا فى صَلاتِهِمْ، فأشارَ إليهِم: أَتِمُّوا صَلاتَكُمْ، فأرْخى السِّتْرَ وتُوُفِّى مِن آخِرِ ذلكَ اليَومِ". وعن أنس بن مالك: "كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ مِن أَحْسَنِ النّاسِ خُلُقًا، فأرْسَلَنِى يَوْمًا لِحاجَةٍ، فَقُلتُ: "واللَّهِ لا أَذْهَبُ"، وفى نَفْسِى أَنْ أَذْهَبَ لِما أَمَرَنِى به نَبِى اللهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ حتّى أَمُرَّ على صِبْيانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فى السُّوقِ، فَإِذا رَسولُ اللهِ ﷺ قدْ قَبَضَ بقَفاى مِن وَرائِى، قالَ: فَنَظَرْتُ إلَيْهِ وَهو يَضْحَكُ، فَقالَ: يا أُنَيْسُ، أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟ قالَ: قُلتُ: نَعَمْ، أَنا أَذْهَبُ يا رَسولَ اللَّهِ". وعن عائشة أم المؤمنين أنها "كانت مع رسولِ اللهِ ﷺ فى سَفَرٍ، وهى جاريةٌ [قالت: لم أَحْمِلِ اللَّحمَ، ولم أَبْدُنْ]، فقال لأصحابِه: تَقَدَّموا، [فتَقَدَّموا]، ثم قال: تَعالَى أُسابِقْكِ، فسابقتُه، فسَبَقْتُه على رِجْلَىّ، فلما كان بعدُ، خرجتُ معه فى سفرٍ، فقال لأصحابِه: تَقَدَّموا، ثم قال: تَعالَى أُسابِقْكِ، ونَسِيتُ الذى كان، وقد حَمَلْتُ اللَّحمَ، [وبَدُنْتُ]، فقلتُ: كيف أَسابِقُكَ يا رسولَ اللهِ وأنا على هذه الحالِ؟ فقال: لَتَفْعَلِنَّ. فسابقتُه، فسبقنى، فـ(جعل يضحكُ، و) قال: هذه بتِلْكِ السَّبْقةِ". وعن أنس بن مالك أنَّ" أُمَّ سُلَيْمٍ اتَّخَذَتْ يَومَ حُنَيْنٍ خِنْجَرًا، فَكانَ معها، فَرَآها أَبُو طَلْحَةَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، هذِه أُمُّ سُلَيْمٍ معها خِنْجَر. فَقالَ لَها رَسولُ اللهِ ﷺ: ما هذا الخِنْجَرُ؟ قالَتْ: اتَّخَذْتُه. إنْ دَنا مِنِّى أَحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ بَقَرْتُ به بَطْنَهُ. فَجَعَلَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَضْحَكُ". وعن أم سلمة أم المؤمنين أنَّ "توبةَ أبى لُبابةَ نزلت فى بيتى، فسمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يضحكُ فى السَّحَر، فقلتُ: ما يُضحكُك يا رسولَ اللهِ؟ قال: تِيب على أبى لُبابةَ". وعن سعد بن أبى وقاص: "استأذنَ عمرُ رضى اللَّهُ عنهُ على النَّبى ﷺ، وعندَهُ جَوارٍ قد علَتْ أصواتُهُنَّ على صَوْتِهِ، فأذِنَ لَهُ، فبادرْنَ فذَهَبْنَ، فدخلَ عمرُ ورسولُ اللَّهِ ﷺ يضحَكُ، فقالَ عمرُ رضى اللَّهُ عنهُ: أضحَكَ اللَّهُ سنَّكَ يا رسولَ اللَّهِ، بأبى أنتَ وأمِّى. قالَ: قد عَجِبْتُ لجَوارٍ كنَّ عندى، فلمّا سمِعنَ حِسَّكَ بادرنَ فذَهَبْنَ". "قالَت عائشةُ: "صَنعتُ حريرةً، وعِندى سودَةُ بنتُ زَمعةَ جالِسةٌ، فقُلتُ لَها: كُلى. فقالت: لا أشتَهى ولا آكلُ. فقلتُ: لتأكُلِنَّ أو لَأُلطِّخنَّ وجهَكِ. فلطَّختُ وجهَها، فضحِكَ رسولُ اللَّهِ صلّى اللَّه عليهِ وعَلى آلِهِ وسلَّمَ وَهوَ بينى وبينَها، فأخذَتْ منها فلطَّخَت وجهى، ورسولُ اللَّهِ صلّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ يضحَكُ". "يخرجون من النارِ رجلًا فيقولُ له (ربه): هل عملتَ خيرًا قطُّ؟ فيقولُ: لا غيرَ أنِّى أمرتُ ولدِى: إذا أنا مِتُّ فأحرِقونى بالنارِ ثم اطحنونى حتى إذا كنتُ مثلَ الكحلِ فاذهبوا بى فى البحرِ فاذرُونى فى الريحِ. فواللهِ لا يقدرُ علَى ربُّ العالمين أبدًا. فقال اللهُ عزَّ وجلَّ له: لِمَ فعلتَ ذلك؟ قال مِن مخافتِك. قال: فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: انظرْ إلى مُلْكِ أعظمِ ملِكٍ فإن لك مثلَه وعشرةَ أمثالِه. قال: فيقولُ: لِمَ تسخرُ بى، وأنت الملِكُ؟ قال (صلى الله عليه وسلم): وذاك الذى ضحكتُ منه من الضُّحَى"...
فكيف يزعم هذا المستشرق أن الإسلام دين بكاء لا ضحك، وأن من يضحك فله عقاب أليم طويل؟ الحق أن دعوى بيلا بأن الإسلام دين حزن ودموع هى دعوى منكرة. وأرجح بل قد أؤكد أنه كان يعرف هذا الذى أقول، لكنه يريد تصدير صورة قاتمة عن الإسلام عامدا متعمدا لتنفير الناس منه مسلمين وغير مسلمين. بل لقد أسند الرسول عليه السلام إلى الله "الضحك" فى أكثر من حديث: "ضَحِكَ رَبُّنا عزَّ وجلَّ من قُنُوطِ عبادِهِ، وقُرْبِ غِيَرِهِ، فقال أبو رزينٍ: أَوَيَضْحَكُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ؟ قال: نَعَمْ. فقال: لَنْ نَعْدَمَ من رَبٍّ يَضْحَكُ خيرًا"، "يضحكُ اللَّهُ إلى رَجُلَيْنِ يقتُلُ أحدُهما الآخَرُ كلاهما يدخلُ الجنَّةَ"، "ثلاثةٌ يضحكُ اللَّهُ إليهمْ: الرَّجلُ إذا قام باللَّيلِ يصلِّى، والقومُ إذا صَفُّوا فى الصلاةِ، والقومُ إذا صَفُّوا فى قتالِ العدوِّ"، "أفضلُ الجهادِ عند اللهِ يومَ القيامةِ الَّذين يلتقون فى الصَّفِّ الأوَّلِ فلا يلفتون وجوهَهم حتّى يُقْتَلوا. أولئك يتلبَّطون فى الغرفِ من الجنَّةِ يضحكُ إليهم ربُّك. وإذا ضحِك إلى قومٍ فلا حسابَ عليهم"، "ألا إنَّ اللَّهَ يضحَكُ إلى رجلينِ: رجلٌ قامَ فى ليلةٍ باردةٍ من فراشِه ولحافِه ودثارِه فتوضَّأَ ثمَّ قامَ إلى الصَّلاةِ، فيقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ لملائِكتِهِ: ما حملَ عبدى هذا على ما صنعَ؟ فيقولونَ: ربَّنا رجاءَ ما عندَك، وشفقةً ممّا عندَك. فيقولُ: فإنِّى قد أعطيتُه ما رجا، وأمَّنتُه ممّا يخافُ". وفى المرحلة النهائية من قصة آخر أهل النار خروجا منها يقول الله تعالى له: "أوَليسَ قدْ زَعَمْتَ ألا تَسْأَلَنِى غَيْرَهُ؟ ويْلَكَ يا ابْنَ آدَمَ! ما أغْدَرَكَ! فيَقولُ: يا رَبِّ، لا تَجْعَلْنِى أشْقَى خَلْقِكَ. فلا يَزَالُ يَدْعُو حتَّى يَضْحَكَ، فَإِذَا ضَحِكَ منه أذِنَ له بالدُّخُولِ فِيهَا (أى فى الجنة)، فَإِذَا دَخَلَ فِيهَا قيلَ له: تَمَنَّ مِن كَذَا. فَيَتَمَنَّى، ثُمَّ يُقَالُ له: تَمَنَّ مِن كَذَا. فَيَتَمَنَّى حتَّى تَنْقَطِعَ به الأمَانِى، فيَقولُ له: هذا لكَ ومِثْلُهُ معهُ". بل إن القرآن لينسب السَّخَر والاستهزاء إلى الله سبحانه وتعالى من المنافقين. وبطبيعة الحال فإن إسناد الضحك والسَّخَر والاستهزاء إلى الله هو إسناد مجازى، لكن مغزى الإسناد واضح فيما نحن بسبيل الحديث فيه.
وثم قضيةٌ جِدُّ مهمةٍ أثارها جليل العطية فى صحيفة (الشرق الأوسط/ الأربعـاء 3 جمـادى الأولـى 1422هـ- 25 يوليو 2001م)، ألا وهى: هل كان بيلا مخبرا أم هل كان مستشرقا وعاشقا للشعر العربى القديم؟ فهو، كما قال، قد خدم المخابرات الفرنسية عدة سنوات ثم كرس حياته للجاحظ. ثم أوجز مسيرة حياته إلى أن تقاعد سنة 1978م، وإن كان قد ظل يواصل النشاط العلمى والإشراف على الرسائل العلمية وإلقاء المحاضرات هنا وهناك حتى داهمه المرض وافترسه سرطان الرئة سنة 1992م، وعنده تسعة وسبعون عاما. ثم أفاض العطية فى التغنى بمواهب بيلا العلمية، وهى مواهب متوسطة فى رأيى. وأزيد القارئ من الشعر بيتا فأشير إلى دراسته: "النثر العربى ببغداد"، التى أعدّها بمناسبة الذكرى الألفية لتأسيس بغداد (1962م) وقال فيها: "إننا نستطيع ان نعتبر أن النثر الأدبى قد استكمل عند وفاة الجاحظ جميع مقوماته وبلغ درجة يندر على كتاب القرون الموالية إدراكها، إذ إن فن الجاحظ لا يخضع لأية مقارنة. وقد اهتدى النقاد المحليون إلى تلك الحقيقة فاتخذوا لقبه شعارا للعبقرية الأدبية دون أن يبينوا لنا ما يعجبهم فى كتابته. ولو أردنا أن نحدد بإيجاز خصائص أسلوب الجاحظ لقلنا إنه يمتاز بطول الجملة المركبة وجزالتها. ومما لا ريب فيه أن الجاحظ ليس بالكاتب السهل وأن معانيه التى قد تتوارد بطريقة عشوائية ليست دوما واضحة التسلسل، ومن ثمة ندرك أن نسق الجملة المركبة بوصلها وفعلها يعزب فهمه عمن لا خبرة له بنحو الجمل".
فهذا ما قاله بيلا فى ذلك الموضوع، وهو كلام عادى بل أقل من العادى ولا يكاد يقول شيئا، بل لا يصح أن يكون هو كل بضاعته فى مؤتمر عالمى. وقد رأينا فى الصفحات الفائتة كيف حلل النقاد المحليون، كما يسمى مستشرقنا الفرنسى النقادَ العرب، أسلوب الجاحظ وفكره على نحو لا يستطيعه هو ولا مائة مثله. ونعجب أشد العجب لكون هذا هو كل ما لدى المستشرق الفرنسى رغم "صلته الوثيقة بأبى عثمان الجاحظ، الذى قضى معظم حياته، وعلى مدى ستة عقود من نشاطه العلمى، باحثًا فى مؤلّفاته وآثاره يلازمه فى حلّه وترحاله من مراكش إلى باريس مرورا بدمشق، يكتب ويحاضر حول مؤلّفاته فى الرباط وتونس وعمان، وصولًا إلى جدة والرياض، وفى السند والهند وما وراء البحار فى الجامعات الأمريكية حتى صار أنيسه وقريبه و"صديقه" كما ورد على لسانه أكثر من مرة" حسبما كتب محمد الجويلى فى مقدمة كتابه: "شارل بيلا".
صحيح أن الرجل قد حقق عددا من الكتب والدواوين، لكن لا بد أن نعلم أنه هو وأمثاله لا يدينوننا بشىء، بل كل الناس فى كل مكان فى العالم تدرس كل شىء. وأولادنا وزملاؤنا يدرسون ليل نهار الآداب الغربية ولا نمن على الغربيين بأية منة رغم أن العرب والمسلمين حين يدرسون آداب الغرب لا يتخابثون ولا يحاولون التحقير من شأنها أو فرد عضلاتهم بل يؤدون عملهم فى هدوء، وفى الغالب يبرزون الإيجابيات ويمرون على السلبيات مرور الكرام. فنرجو الكف عن التغنى بعشق المستشرقين لأدبنا وترتيل المدائح فيما يكتبون أو يحققون. إنهم، فى كل ما يصنعون، إنما يخدمون بلادهم على نحو أو على آخر، وعند الجد يخدمونها بطريق مؤذٍ لنا.
ومما قاله بيلا أيضا عن الجاحظ، نقلا عن العطية، أن أبا عثمان "ألَّف كتبًا لم تلبث، لمعالجتها أحيانًا مواضيع غير عادية، أن أصبحت غير مفهومة، وقد أصابها التشويه غير المقصود، وزادتها خطورةً تشويهاتٌ متعمدة. ونحن اليوم إزاء مقاطع عديدة مغلقة بسدّ محكم". ولا أدرى هل هذا الرجل يتحدث بعقله أم بشىء آخر. كنت أرجو أن يورد لنا شيئا من هذه المقاطع المغلقة بسد محكم حتى ندرك أين هذا الغموض وما سببه. لكنه قد ألقى حكمه ومضى خفيف الضمير لا يبالى بشىء.
ومما قاله أيضا ونقله عنه جليل العطية أن "الجاحظ لم ينج من العيوب التى امتاز بها الكتّاب العرب الآخرون، وقد استطاع مع ذلك فى كثير من مؤلفاته أن يحتفظ باهتمام القارئ إلى حدّ يجعل جميع آثاره تقرأ بلذة على الرغم من التكرار، الذى حاول تجنبه، وعلى الرغم من فقدان النهج المنطقى وتسلسل الأفكار، والاستطرادات التى لا تحصى والتى تعطى أسلوبه طابعه وطعمه الخاص". وهذا حكم تعميمى يطبعه السخف بطابعه، فإن الجاحظ فى استطراداته، وهى غير طويلة بالمناسبة ولا تتسبب لأمثالنا فى أى تشويش أو ضيق، يخالف الكتاب العرب على عكس ما يزعم بيلا. وهذا مثال آخر على أنه لا يُحْكِم كلامه ولا أحكامه التى يطلقها إطلاقا بخفة واستهتار. ثم إن الجاحظ، برغم كل ما ذكره بيلا سواء كان صحيحا أو لا، مفهوم ومعجِب وممتع ومثير للفكر والمشاعر. وبيلا ذاته قد أبدى إعجابه به مرات، لكنه ينقلب هنا على نفسه ويعيب ما كان قد أثنى عليه من قبل ثناء شديدا. فمن الواضح أن ذهنه ليس متسقا، وأحكامه غير راسخة.
وفى الناحية اللغوية، وهى الناحية التى يمدح محمد الجويلى مستشرقنا الفرنسى فيها مديحا شديدا، نحب أن نقف أمام ما قاله من أن بيلا لم يجد فى مادة "ح ك ى" فى "لسان العرب" لابن منظور أنها تعنى "روى". ولكن بالرجوع إلى المادة المذكورة من المعجم المذكور يتضح لنا أن ابن منظور يقول ضمن ما قاله خلال استعراضه معانيها: "وحكيتُ عنه الحديث حكاية. ابن سيده: وحَكَوْت عنه حديثًا فى معنى "حَكَيْتُه"... وحَكَيْتُ عنه الكلام حِكاية، وحَكَوْتُ لغة". وإذن فقد ذكر ابن منظور من معانى "حكى": "روى وقص"، وإذن فقد أخطأ شارل بيلا فى قوله ما قال عن ابن منظور. ومما أحب أن أقف لدنه أيضا من كلامه فى المضمار اللغوى قول الجويلى فى كتابه عنه: "يذهب بيلّا بعيدا فى مقارباته اللغوية والدلالية للألفاظ العربية كما يتضح ذلك مثلًا من خلال مقالاته التى خصصها لأغراض الشعر العربى، مثل" حماسة" أو" هجاء"، ويعتقد أنه بالعودة إلى المعنى الاصطلاحى لجذر "هـ ج و" يتبين أنه ثمّة احتمالا أنّ العربية قد استعارته من العِبْرِيّة مورِدا الجذر العبرى بحروفه الأصلية الذى يدل فى معناه الأساسى على الهمس، كما يدلّ فى اللّغة السريانية على معنى" التأم"، وكذلك معنى التلفظ بتعويذات فى صوت خافت". وهو ما يرينا أن بيلا يجرى على نفس خطا المستشرقين السخفاء فى المكايدة للغة العربية ورد كل شىء مشترك فى الجذر اللفظى بينها وبين أية لغة سامية إلى تلك اللغة مع أن العربية أقدم اللغات السامية جميعا، بل إن من الباحثين من يرى أنه من الممكن أن تكون هى اللغة السامية الأم. وعلى أية حال فكلام بيلا لا يمكن أن يدل على أنه يحب العربية أو أهلها عكس كل ما يقال عن هذا الحب.
واتصالا بهذه النقطة يقول شارل بيلا إنه ساعد بكتابه: "اللغة العربية الحية" على تعريب عدد لا بأس به من الأفارقة مثلما ساعد بلاشير بترجمته للقرآن إلى الفرنسية على اعتناق الكثير من سكان أفريقيا السوداء للإسلام. ويجد القارئ نص هذا الكلام فى أواخر كتاب محمد الجويلى: "شارل بيلا". وأول كل شىء أن هذه مجرد ادعاءات. والتمدح بالإنجازات باب لا يمكن سده. وثانيا لم يا ترى كان التأثير هنا وهناك فى أفريقيا السوداء؟ وهل يعقل أن يجد فرنسى متعصب مفخرا فى أن يؤمن الناس بدين محمد أو يقبلوا على تعلم لغة القرآن بناء على ما كتب أو ترجم؟ الواقع أنى لا أفهم وجه مدح بيلا لبلاشير بدخول الأفارقة الإسلام بسبب ترجمته للقرآن، اللهم إلا إذا كان يشير إلى أن الإسلام دين الأفارقة المتخلفين الذى يصلح لهم ولا يصلح للمتحضرين الأوربيين. ثم إن لى دراسة عن ترجمة بلاشير للقرآن إلى الفرنسية تفضح كراهية هذا المستشرق لكتاب الله ورغبته فى التنفير منه وتشويهه والكذب عليه: فمثلا أقدم بلاشير على شىء لم يصنعه غيره فى ترجمته القرآن، وهو إضافة الجملتين الغرانيقيتين إلى سورة "النجم" رغم أنهما ليستا من الوحى، رغبة منه فى التشكيك فى القرآن ومصدره. كما تعددت مزاعم بلاشير بأن هذه الآية أو تلك تعرضت لتغييرات بَعْدِيّة أو لم تكن موجودة أولا ثم أضيفت إلى القرآن بعد موت النبى عليه السلام. وبالمثل تلاعب هذا المستشرق بمواضع بعض الآيات فقدمها أو أخرها عن مكانها الحقيقى فى المصحف. وهذه جرأة إجرامية على القرآن الكريم يراد من ورائها تجرىء الناس عليه وإذابة تقديسه من النفوس. وفى بعض المواضع الأخرى نراه يزيد عبارة تقلب المعنى رأسا على عقب كما وقع فى ترجمته لقوله تعالى من سورة آل عمران": "وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمِنوا بالذى أُنْزِل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون" إذ كتب الجملة الأخيرة هكذا: "لعلهم يرجعون عن ضلالهم"، وهو ما يعنى أن اليهود كانوا حريصين على هداية المسلمين وإبعادهم عن مهاوى الضلال، بينما كان مقصد اليهود من قولهم لما قالوه هو إرجاع المسلمين عن الإيمان بمحمد وبالقرآن الذى نزل عليه، حسدا منهم لهم لا حرصا على التنبيه إلى ضلالهم، أستغفر الله رب العالمين. ترى هل يمكن أن تكون هذه الإساءات مما يمكن أن يوصف بأنها سبب فى إسلام غير المسلمين؟ بل هل يمكن أن يكون مقصد صاحبها هو هداية غير المسلمين إلى الإسلام؟ إن شارل بيلا يكذب بكل تأكيد. وإن دخول الأفارقة غير المسلمين فى الإسلام إنما وقع رغم أنف بلاشير ورغم أنف ترجمته الخبيثة. ويجد القارئ الكريم هذه الدراسة فى الفصل الرابع من الباب الأول من كتابى: "المستشرقون والقرآن".
كذلك فلشارل بيلا كتيب عن "تاريخ اللغة والآداب العربية"، وهو عمل موجز ولا يعطى قارئه صورة واضحة ولا حتى واحدا على مائة منها لتاريخ أدبنا الشاسع، وقد صدر بالفرنسية سنة 1952م، وترجم ثم نشر ببيروت سنة 1997م. ومن بين ما جاء به من آراء قوله فى الفصل الخاص بالنقد الأدبى: "إن العرب، وهم يجهلون الآداب الأجنبية، لم يتمكنوا من تأسيس نقد مقارن، وقد نشأت أحكام عن مجرد ارتسامية وقامت على الإحساس الفنى الذى يحدثه هذا البيت أو ذاك يؤخذ على حدة حتى أن جميع الشعراء تقريبا اعتُبِروا أشهر الشعراء على أن يحترموا طبعا القاعدة، أى الشعر الجاهلى. والنقد، وهو شكلى، سيدرس شكل المعلقات. وهو، دون أن يعتبر تطور العادات، سيقترح تقليد القصائد القديمة تقليدًا أعمى، والمحاولات المفردة للتخلص من ذلك ستلقى معارضة المنظرين ولن يساعدها البتة نقد مناسب. والشعراء أنفسهم هم الذين سيكون عليهم تبرير مبادرتهم". وهذا، والحق يقال، كلام فارغ وجاهل ومتكبر وقائم على غير أساس، فالرجل يلغى التطورات الهائلة التى مر بها الشعر العربى، ويتجاهل التراث العظيم الذى خَلَّفه لنا النقاد العرب وتناولوا فيه شخصية المبدع ولغته وأسلوبه وأفكاره وعواطفه وبنية قصيدته ووازنوا بينه وبين أمثاله من شعراء العروبة، بل وقارنوا أحيانا بين أدبنا وبعض الآداب الأخرى كما بينت فى كتابى: "فى الأدب المقارن- مباحث واجتهادات". بل إنه هو نفسه، حسبما ذكر محمد الجويلى فى كتابه عنه، قد أعلن أن الجاحظ هو رائد الأدب المقارن فى تاريخ الأدب العربى. وهو بهذا يكذّب نفسه بنفسه. إن هذه الأحكام الفطيرة لبيلا تعكس عنجهية غربية جاهلة وفارغة. ومن هنا لست أفهم ما يقوله جليل العطية من أن بيلا "كان عاشقًا للشعر العربى القديم يتحدى شعراء العالم على اختلاف جنسياتهم إيراد ما يشبه شعر دعبل بن على الخزاعي» (148- 246هـ) السائرة:
أين الشباب؟ وأَيَّةً سلكا؟

لا. أين يُطْلَب؟ ضَلَّ بل هَلَكا

لا تعجبى يا سَلْمُ من رجلٍ

ضحك المشيبُ برأسه فبَكَى


... إلى آخر القصيدة. ويرى بأن الخزاعى بلغ الغاية فى قوله:
ما أكثر الناس! لا بل ما أقلَّهمو!

الله يعلم أنى لم أقل فَنَدا

إنى لأفتح عينى حين أفتحها

على كثير، ولكن لا أرى أحدا!"


ذلك أنه قبل قليل قد نقل لنا رأى بيلا السيئ فى الشعر العربى وأنه شعر تقاليدى لا يستطيع كسر قيوده الفولاذية ولا يقدم جديدا. وهو الرأى الذى سبق فى كتابى هذا أن هزأتُ به وبصاحبه أيما هزء. ونعود إلى السؤال السابق: هل كان بيلا مخبرا أم هل كان مستشرقا وعاشقا للشعر العربى؟ ونقول فى الجواب: إن وضع السؤال على هذا النحو يوحى أنه لا يمكن الجمع بين الأمرين مع أن المستشرق فى كثير من الأحيان مخبر وجاسوس ومخرب وداهية خبيث، وليس هناك أى تعارض بين الأمرين. فعلى سبيل التمثيل نبدأ بما قاله رفاعة الطهطاوى فى "تخليص الإبريز" عن الخداع الذى مارسه المستشرق الفرنسى دى ساسى على السيدة الرشيدية زوجة عبد الله مينو آخر قائد للحملة الفرنسية على مصر. قال الطهطاوى: "ومثله ما حكاه لى بعضهم أن سر عسكر المسمى: الجنرال"مينو" بفتح الكاف، وكسر اللام وكسر الباء كان أسلم فى مصر نفاقًا، كما هو الظاهر، وتسمى: "عبد الله" وتزوج ببنت شريف من أشراف رشيد، فلما خرج الفرنسيس من مصر وأراد الرجوع أخذها معه، فلما وصل رجع إلى النصرانية، وأبدل العمامة البرنيطة ومكث مع زوجته، وهى على دينها، مدة أيام، فلما ولدت، وأراد زوجها أن يُعَمِّد ولده على عادة النصارى لينصِّره أبت الزوجة ذلك وقالت: لا أنصِّر ولدى أصلاً، ولا أُعَرِّضه للدين الباطل! فقال لها الزوج: إن كل الأديان حق، وإن مآلها واحد، وهو عملُ الطيِّب. فلم ترض بذلك أبدًا، فقال لها: إن القرآن ناطق بذلك، وأنتِ مسلمة، فعليك أن تصدقى بكتاب نبيل. ثم أرسل بإحضار أعلم الإفرنج باللغة العربية، فإنه هو الذى يعرف يقرأ القرآن، وقال لها: سليه عن ذلك. فسألته، فأجابها بقوله: إنه يوجد فى القرآن قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخَرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ". فحَجَّها بذلك، فأذنت بمعمودية ولدها، ثم بعد ذلك انتهى الأمر، على ما قيل، أنها تنصرت، وماتت كافرة".
وهذا الثعلبان الخبيث انتهز فرصة جهل الست الرشيدية وغربتها فى فرنسا وخدعها بكل انحطاط وحقارة، وإلا فإذا كانت النصرانية والإسلام شيئا واحدا بدون أى فرق فلماذا ادعى الفرنسيون الأوباش للمصريين بأنهم ضد النصرانية وأتوا لنصرة الإسلام؟ ولماذا أعلن نابليون اعتناق الإسلام، وأعلنه أيضا مينو؟ بل لماذا كان لا بد من تعميد الطفل ولم يُبْقِه أبوه على إسلامه إذا كان لا يوجد أدنى فرق بين الدينين؟ ثم هل الإسلام والنصرانية متماثلان حقا، والمعروف أن النصارى يعبدون المسيح بينما المسلمون يؤمنون به عبدا لله ورسولا من عنده، فضلا عن أن النصارى لا يؤمنون بنبوة محمد بل ينعتونه بالكذب والتقول على الله بغير حق فى حين يؤمن المسلمون بنبوة عيسى؟ ثم إن مستشرقنا الفرنسى يعلم أن تفسير الآية على النحو الذى فسرها به تفسير كاذب، وإلا فلم دعا محمد النصارى واليهود وأصحاب الديانات الأخرى إلى الإيمان به؟ أم تراه جاء بالإسلام تضييعا لوقته ووقت الناس؟ وأخيرا وليس آخرا ماذا نصنع بقوله تعالى: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون: نؤمن ببعض، ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا. وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا"؟ كذلك كان دى ساسى هو مترجم بيانات الحملة الفرنسية بمصر، وبيانات الاستعمار الفرنسى للجزائر، وهى البيانات التى يحبِّرها الاستعمار لخداع الشعوب المبتلاة به حتى تعمى عن حقيقته وتتقبل استعماره لبلادها وتخضع له وتنحنى له كى يركبها ويذلها ويصادر خيراتها له وينكل بأحرارها ويعتدى على أعراض حرائره.
وثم شخص آخر من هذه النوعية القذرة، وهو ضابط فرنسى اسمه ليون روش تظاهر بالإسلام أيام نضال الأمير عبد القادر الجزائرى ضد الاستعمار الفرنسى، وعاش مع الأمير النبيل سنوات يتظاهر بخدمته، وهو فى الحقيقة إنما يتجسس عليه وينقل أخباره وأسراره الحربية إلى سلطات الاحتلال. وكان كل همه أن يحصل على توصية يتقرب بها إلى المسلمين فى الشرق الأوسط ليحصل على فتوى تقنعهم بحِلِّيَّة عيشهم فى ظل الاحتلال الفرنسى بالجزائر. وكتب ذلك الأفاق اللعين كتابا يحكى فيه هذه القصة بعنوان "Dix ans à travers l’Islam 1834- 1844"، أى "عشر سنوات فى بلاد المسلمين". وقد قرأت الكتاب فى أكسفورد فى أواخر سبعينات القرن الماضى خلال دراستى بتلك الجامعة للحصول على درجة الدكتورية.
ولدينا فى كتاب الخونة المجرمين الذين كانوا يعادوننا ويكرهوننا ويعملون على تمهيد الاحتلال البريطانى لمصر المستشرق الجاسوس الخبيث بالمر مترجم القرآن الكريم إلى الإنجليزية. وهذه قصته كما رواها د. عبد الرحمن بدوى فى كتابه: "موسوعة المستشرقين" ملخصا فيها الدور القذر الذى قام به ولقى بسببه الجزاء المستحق لأمثاله. لقد كانت بريطانيا تدبر لاحتلال مصر فى أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر، وكان المطلوب الاستفادة من خبرته بسيناء لكى يتصل ببدوها ويؤلبهم ضد بلادهم، ويستخدمهم لتأمين الجانب الشرقى من قناة السويس لصالح بريطانيا. وكانت مهمته أن يتنقل بين قبائل بدو سيناء من أجل أن يعرف مدى الثورة بين الناس، وإلى أى مدى كانوا يميلون للانضمام إلى حركة عُرابى، وأن يعرف الشروط التى يلتزمون بها السكون بل وينضمون عند الضرورة إلى القوات البريطانية ضد الجيش المصرى. وقد استطاع التوصل إلى عدد من المشائخ القبليين الخونة الذين كانوا على استعداد للقيام بهذه المهمة لقاء المال. لكن بعض البدو قد نصبوا كمينا له ولأولئك الخونة، واقتادوهم إلى وادى سدْر فى الجنوب الغربى من سيناء حيث قتلوهم وألقَوْا بهم فى وادٍ سحيقٍ. وما كان لبالمر وأمثاله، كما يقول د. بدوى، أن يستحق نهاية غير هذه بل وأبشع من هذه.
ولدن احتلال إيطاليا لليبيا وضع كارلو نالينو علمه الاستشراقى فى خدمة بلاده بغية إخضاع ليبيا والليبيين لنِير الاستعباد الإيطالى. بل لقد ضن على الطلبة المصريين الذين كانوا يستمعون إلى محاضراته بالجامعة المصرية الوليدة أوائل العقد الثانى من القرن الماضى بكلمة مجاملة حين أضربوا عن حضور دروسه بل قال لهم شامتا ناكيا: أنتم تذكروننى برجل أراد معاقبة زوجته فأخصى نفسه. ثم جاء طه حسين بعدها بنحو أربعين عاما فبدلا من أن يخطِّئ هذا الوغد قال إن الطلبة قد تعلموا الدرس فلم يعودوا لمثلها بعد ذلك قط. وهذا الكلام قد أورده د. طه حسين فى "الأيام" وفى مقدمته لكتاب نالينو عن "تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بنى أمية".
وهناك لوارنس العرب الشاذ الذى ضحك على الأغبياء والخونة منا فجندهم لمحاربة الدولة العثمانية على وعد بأن يقيم لهم بدل الإمبراطورية العثمانية دولة عربية هاشمية، وانتهى الأمر بما نراه اليوم، فلم يحكم الهاشميون، الذى منَّاهم هذا الشاذ الأمانى، إلا شرقى الأردن، وهى دويلة تعيش على المعونات ولا قيمة لها فى عالم السياسة ولا فى عالم الاقتصاد ولا فى عالم أى شىء. ولورانس العرب هذا الشاذ هو صاحب كتاب "The Seven Pillars of Wisdome: أعمدة الحكمة السبعة"، وهى مفارقة عجيبة: أن يكون الشاذ حكيما. وقد بانت لعيوننا كلنا ثمرة تلك الحكمة: خرابا للأوطان، وتقسيما للبلاد، وعمالة كثير من حكوماتنا للغرب، وائتمارا بكل ما يأمرنا به سادتنا الغربيون، وانتهاء عما ينهانا عنه أولئك السادة، وتعاديا فيما بيننا، وعملا لكل ما من شأنه إفساد أمور حياتنا كى يرضى عنا سادتنا. وأَمْر لورنس العرب ووساخاته السياسية والخلقية أشهر من الشمس.
وثم مستشرق آخر يهودى الأصل ومن أبناء القرن العشرين ومن وسط أوربا اسمه محمد أسد بك (وهو غير محمد أسد المعروف صاحب "الطريق إلى مكة" ومترجم القرآن وطائفة من أحاديث البخارى إلى الإنجليزية مع التعليق والشرح)، وقد أعلن إسلامه نفاقا، وألف فى ظل دينه الجديد الذى تظاهر باعتناقه كتابا فى السيرة النبوية قرأتُه مترجما إلى الفرنسية منذ واحد وعشرين عاما وكتبت عنه دراسة فى نحو خمسين صفحة فضحت فيها نفاقه وكشفت بغضه السام للنبى محمد، الذى افترى عليه وعلى زوجته خديجة الأكاذيب، وصوَّر الإسلام فى صورة شديدة المقت. ومن هذا النوع من المستشرقين أيضا سانت جون فيلبى، الذى أعلن إسلامه وتسمى باسم "الحاج عبد الله فيلبى" وعاش شطرا من حياته فى السعودية عينا على الأحوال هناك وعمالةً لشركات النفط، ولم يكن يطمئن إليه المتعمقون فى الأمور. وترجم له وكتب عنه عدد من المؤلفين.
وعندنا المستشرق الفرنسى لويس ماسنيون، وكان ضابطا فى مخابرات الفرنسيس، ويقوم بتجنيد عملاءَ عربٍ لفرنسا يعملون ضد بلادهم وإخوانهم فى الوطن والعروبة. وقد تكلم عن تلك النقطة الكاتب اللبنانى إسكندر الرياشى فى كتابه: "رؤساء لبنان كما عرفتهم". واشتغل آربرى المستشرق البريطانى فى وزارة الإعلام أثناء الحرب العالمية الثانية حيث أصدر منشورات دعائية بالعربية والفارسية لتضليل العرب والمسلمين وإقناعهم بالباطل والزور بالوقوف مع بريطانيا، أى بمعاونة إبليس والبقاء فى أشراك الاحتلال والاستعمار. ويجد القارئ خبر ذلك فى ترجمته بـ"موسوعة المستشرقين" للدكتور عبد الرحمن بدوى... والأمثلة كثيرة، ولكن يكفى هذا كلون من التوضيح والتنبيه، وإن كنت أشك أعظم الشك فى أن يكون لذلك التوضيح والتنبيه أية ثمرة.
وقد تولى شارل بيلا بدءا من سنة 1956م الإشراف على "دائرة المعارف الإسلامية" التى يصدرها المستشرقون، ولَقَّبَه المتحمسون له من أبناء العرب الذين كانوا يدرسون على يديه: "العمود الفقرى لدائرة المعارف الإسلامية" وأثْنَوْا عليه، وأَعْلَوْا من شأن هذه الموسوعة ثناء عظيما بوصفها خدمة رائعة للثقافة العربية والإسلامية حسبما ذكر محمد الجويلى فى كتابه عنه، والجويلى أحد أولئك الحواريين المتحمسين له والمدافعين عن المستشرقين جميعا. ولكنْ كُتِب لصاحب هذه السطور أن يقرأ قراءة مدققة المجلد الذى جُمِعَتْ فيه المواد الخاصة بالإسلام وصدر فى ستينات القرن الماضى، فهالنى ما يسوده من انحراف عن المنهج العلمى وعداوة بارزة للإسلام ورسوله وكتابه وعقائده وشرائعه، ورغبة حارقة فى تلطيخ كل شىء فيه، ولم أجد مرة أحدا من كتاب الموسوعة قد تحدث عن ديننا ورسولنا وقرآننا بشىء من رحابة الصدر وسعة الأفق، بل دائما ما تُقَدَّم أسوأ التفسيرات، وتُعْزَى الأعمال العظيمة إلى أحط البواعث، وتُنْثَر بذور التشكيك فى مصادر التاريخ الإسلامى إلا إذا كان فيها ما يمكن أن يُوَظَّف للإساءة إلى الإسلام وتاريخه وأعلامه. وهو أمر بالغ الغرابة. وقد قمت فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية الاستشراقية- أضاليل وأباطيل" بتوضيح ما فى الموسوعة المذكورة من تجاهل منهج البحث العلمى، وكذلك إظهار الأخطاء الرهيبة والتناقضات الخطيرة التى تطفح بها، وتنبيه القارئ إلى النيات البشعة التى تكمن خلف ذلك.
ومما يحتاج إلى تصحيح من آراء شارل بيلا زعمه فى كتابه: "تاريخ اللغة والآداب العربية"، أن اللغة العربية التى جمعها أصحاب المعاجم هى لغة غنية بالألفاظ الخاصة بحياة البدو، لكنها فقيرة فيما يخص ألفاظ الحضارة. وهذه شِنْشِنَةٌ استشراقيةٌ كاذبة خاطئة يتواطأون على ترديدها فى كتاباتهم وهم يعلمون علم اليقين أنهم كاذبون بالثلث. ذلك أن الشعر الجاهلى نفسه مفعم بأعداد هائلة من ألفاظ الوجدان والفكر والعقائد، إذ البدو بشر من البشر يشتهون ويحبون ويتعصبون وينقمون ويسخطون ويحقدون ويفاخرون ويهجون ويسخرون ويأملون ويرجون وييأسون ويحسون بمعانى الشجاعة والجبن والكرم والبخل والغيرة على العرض ويفكرون ويتأملون ويترددون، ولهم آراؤهم وعقائدهم ومواقفهم... إلخ. أم تراهم كانوا خالين من الأفكار والمشاعر والعواطف؟ إن الحيوانات نفسها لا يمكن أن يقال إنها لا تشتهى ولا تحب ولا تنقم ولا تحن ولا تعطف. فكيف يقال ذلك عن البشر؟ ثم كيف استجابت العربية للتعبير بكل سهولة وسلاسة عن الإيمان والكفر والنفاق والمذاهب والعقائد، ومشاعر الخوف والقلق واليأس واليقين والشجاعة والسعادة والرضا والسخط... الموجودة فى القرآن والحديث؟ ترى أَنَّى لامرئ القيس وزهير وعنترة وطرفة والأعشى والنابغة وعمرو بن كلثوم ومئات الشعراء فى الجاهلية قبل أن يحتك العرب بالأقوام الآخرين وتحتك لغتهم بلغاتهم، من أين لهم بالألفاظ والتعابير والتراكيب التى تعبر عن أفكارهم وآرائهم وعقائدهم وعواطفهم ومشاعرهم وانفعالاتهم؟
وهنا نرى بيلا يقول إن ألفاظ المعانى فى العربية أصلها مادى. يريد طبعا إظهار الاحتقار للعربية. وهو كاذب فى هذا أو جاهل، فهذا الذى قاله يقال عن كل اللغات وليس عن لغة الضاد وحدها، إذ تفسَّر نشأة اللغات بأنها بدأت مادية ثم تطورت فعرفت المعانى والمجردات. كما يردد بيلا كلام رصفائه من المستشرقين بأن ألفاظ الدين قد أخذتها العربية عن بعض اللغات السامية الأخرى مثل الآرامية والعبرية. والسؤال هو: كيف تم ذلك؟ ومتى؟ وأين؟ وما الدليل عليه؟ إن معظم المستشرقين إنما يقولون بهذا التفسير نكاية فى الإسلام. ولو لم تكن العربية هى لغة الدين الجديد الذى يكرهونه ويعملون على الإساءة إليه بكل وسيلة ما رددوا هذه الدعوى المنكرة. فالعربية أعرق من أخواتها الساميات أو على الأقل: هى مثلها فى العراقة، وهم يعرفون هذا جيدا، لكنها النكاية والمكايدة. والعجيب أن حواريى بيلا من العرب والمسلمين يستميتون فى تمجيده وتسليط الأنوار الساطعة عليه وإيهامنا بأنه يحب العرب والإسلام. ألا إن ذلك لشاذ غريب. وإذا رجع القارئ مثلا إلى كتاب "المخصص" لابن سيده وجد ثروة هائلة عظيمة من المجموعات اللفظية الدالة على الأفكار والمشاعر، أى المعانى المجردة. ولو رجع القارئ إلى أية قصيدة جاهلية لألفى كلمات المعانى والمجردات فيها أكثر من الهم على القلب. وهل يستطيع الإنسان، مهما كانت درجة تخلفه، أن يعيش ويتفاعل مع من حوله دون أن يعبر عن أفكاره ومشاعره؟ وفى النهاية هذا هو أحد الساسة العراقيين فى أواسط القرن الماضى يصف لغة الإنجليز بأنها "لغة وجدت لتكون لغة عمل لا لغة خيال، فهى فقيرة جدا بالمفردات التى تخص النظريات والأمور الخارجة عن نطاق الواقع" (أمين المميز/ الإنجليز كما عرفتهم/ مطبعة السكك الحديدية/ بغداد/ 1/ 16). فهل هذا الكلام صحيح؟ لا أظن أبدا، فنحن أعقل وأحكم وأكثر استقامة ضمير من أن نقبل هذا الكلام رغم أنه قد يدغدغ مشاعرنا. والغريب أن هذا الذى يصف لغة جونبول بأنها فقيرة فى الخيال يرفع فى الصفحة التالية مباشرةً الشعر الإنجليزى مكانًا عَلِيًّا ويرى أن الشعب الإنجليزى يتذوق الشعر أيما تذوق! وقد يكون لكلامه معنى إذا فهمنا أنه يقصد طريقة الإنجليز فى التعامل لا فى الأدب والشعر وما إلى ذلك، فهم عمليون لا ينساقون مع لغة العواطف والخيالات بل يهتمون بالواقع والإنجازات على الأرض لا بالهيام فى أودية الخيال.
وعند حديثه عن الشعر الجاهلى يصف شارل بيلا ذلك الشعر بأنه شعر واقعى، أى يصور الحياة الخارجية، إلا أنه ضعيف من حيث المشاعر الخيالية والصور الموحية والأفكار، ولا يهز الشعور. وهذا حكم أقل ما يقال فيه إنه تافه ومتهافت. وواضح أن هذا رجل مجرد من الذوق الأدبى. ولسوف أكتفى فى الرد على هذا الكلام الهزؤ بإيراد الأبيات التالية من معلقة عنترة:

يا دارَ عَبلَةَ بِالجواءِ تَكَلَّمى

وَعِمِى صَباحًا دارَ عبلةَ وَاسْلَمى

فَوَقَفتُ فيها ناقَتى، وَكَأَنَّها

فَدَنٌ لِأَقْضِى حاجَةَ المُتَلَوِّمِ

وَتَحُلُّ عَبْلَةُ بِالجواءِ، وَأَهلُنا

بِالحَزْنِ فَالصَمّانِ فَالمُتَثَلَّمِ

وَلَقَد نَزَلتِ، فَلا تَظُنّى غَيرَهُ،

مِنّى بِمَنزِلَةِ المُحَبِّ المُكرَمِ

إِذ تَسْتَبيكَ بِذى غُروبٍ واضِحٍ

عَذبٍ مُقَبَّلُهُ لَذيذِ المَطعَمِ

وَكَأَنَّ فارَةَ تاجِرٍ بِقَسيمَةٍ

سَبَقَت عَوارِضَها إِلَيكَ مِنَ الفَمِ

أَو رَوضَةً أُنُفًا تَضَمَّنَ نَبْتَها

غَيثٌ قَليلُ الدِّمْنِ لَيسَ بِمَعْلَمِ

جادَت عَليهِ كُلُّ بِكْرٍ حُرَّةٍ

فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كَالدِّرهَمِ

سَحًّا وَتَسْكاباً، فَكُلَّ عَشِيَّةٍ

يَجرى عَلَيْها الماءُ لَم يَتَصَرَّمِ

وَخَلا الذُّبابُ بِها فَلَيسَ بِبارِحٍ

غَرِدًا كَفِعْلِ الشارِبِ المُتَرَنِّمِ

هَزِجًا يَحُكُّ ذِراعَهُ بِذِراعِهِ

قَدْحَ المُكِبِّ عَلى الزِّنادِ الأَجذَمِ

لَمّا رَأَيتُ القَومَ أَقبَلَ جَمْعُهُم

يَتَذامَرونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مُذَمَّمِ

يَدْعونَ عَنْتَرَ، وَالرِّماحُ كَأَنَّها

أَشطانُ بِئرٍ فى لَبانِ الأَدهَمِ

ما زِلتُ أَرْميهِم بِثُغْرَةِ نَحرِهِ

وَلَبانِهِ حَتّى تَسَربَلَ بِالدَّمِ

فَازوَرَّ مِن وَقعِ القَنا بِلَبانِهِ

وَشَكا إِلَى بِعَبْرَةٍ وَتَحَمْحُمِ

لَو كانَ يَدرى ما المُحاوَرَةُ اشتَكى

وَلَكانَ، لَو عَلِمَ الكَلامَ، مُكَلِّمى


وفى موضع آخر من كتابه الحالى يؤكد أن نصوص الخطب التى وصلت إلينا عن الجاهلية إما مزيفة وإما اعتراها تغيير شديد. ولكن كيف؟ هذا ما لا يقوله بل يلقى حكمه ويمضى. كذلك يقول إن العرب لم يخطئوا حين عدوا النبى كاهنا. أيريد أن يقول إنه كان فعلا كاهنا؟ وهل كان الكهان يدعون الناس إلى الإيمان بالله الواحد الأحد وبالأنبياء والملائكة والكتب السماوية واليوم الآخر والحساب والجنة والنار؟ هل كان الكهان يدعون إلى إطعام الفقير والمسكين والرحمة باليتيم؟ هل حرم كاهن على قومه الخمر والكذب والكبر والظلم والغيبة والنميمة وأكل الميتة ولحم الخنزير؟ هل دعا كاهنٌ أتباعَه إلى طلب العلم والبعد تماما عن الخرافات؟ هل أوجب كاهن على أحدٍ الطهارة والنظافة والوضوء والاغتسال والصلاة؟ هل قال أى كاهن إن كهانته عالمية للناس جميعا؟ هل كان الكهان يشرّعون لأقوامهم؟ ولقد كان الكهان يزعمون اطلاعهم على الغيب فى حين كان النبى ينفى عن نفسه هذا تماما ويقول إن الغيب هو لله وحده. كذلك كان العرب يقصدون كهانهم ليكشفوا لهم عمن سرق مالهم أو يعرفوا منهم هل فلانة زانية أو لا وما إلى ذلك بسبيل، وهو ما لم يفعله النبى قط ولا ادعاه. ثم هل سمع أحد أن العرب آذَوْا كاهنا من كهانهم كما صنعوا مع النبى عليه السلام؟ ولقد اتهم العرب النبى، إلى جانب الكهانة، بأنه شاعر وبأنه كاذب، فهل صدقوا فى هاتين التهمتين أيضا؟ إن هذا التردد بين تلك الاتهامات لهو دليل على تخبطهم وكذبهم وليس على صدقهم كما يقول بيلا.
وقد قال بيلا أيضا إن محمدا قد وصف نفسه مرة على الأقل بأنه خطيب، ولكن دون أن يورد لنا بيلا النص الذى يقول فيه النبى ذلك. أما مترجمو الكتاب فقد أوردوا الحديث التالى على أنه قد يكون هو المراد بكلام بيلا: "إذا كان يومُ القِيامةِ كُنْتُ إمامَ النبيِّينَ وخَطيبَهم وصاحبَ شَفاعتِهم، ولا فَخْرَ". لكن هذا إنما يكون يوم القيامة كما يقول الحديث. وهى غير خطابة الدنيا. كما أنها ليست وظيفة أو مهنة أو أداة لدعوة الناس إلى اعتناق عقيدة أو فكرة أو رأى مثلا، بل هى تكرمة له صلى الله عليه وسلم بين زملائه النبيين والمرسلين. ثم إنه عليه السلام قد نص فى الحديث على أنه سوف يكون أيضا إمام النبيين وصاحب شفاعتهم. وهذا كله غير ما يقصده بيلا المداور.
وهناك ما قاله بيلا عن القرآن من أنه طبع بطابعه اتجاه الأدب العربى، وهو حكم غير دقيق، فبكل يقين لا يمكن القول بأن شعر الغلمان أو شعر الخمر أو الشعر الجنسى العارى أو شعر الإقذاع مثلا هو شعر مطبوع بطابع القرآن. كما أن قوله إن بعض معاصرى محمد وبعض الأعلام فيما بعد قد أعلنوا مفتخرين أنهم قادرون على تجاوزه هو قول كاذب، إذ لم يحدث أن أعلن أحد من مشركى العرب أو أعلام الأدب العربى فيما بعد قدرتهم على تجاوز أسلوب القرآن، وإلا فليذكر لنا اسما من هؤلاء. إن كل ما قاله المشركون فى عصره عليه السلام: "لو نشاء لقلنا مثل هذا"، ولم يقولوا: "لو نشاء لقلنا أحسن من هذا"، ومع ذلك لم يشاؤوا، فضلا عن أن يقولوا، وأما أعلام الأدب فلم يخلف لنا أحد منهم شيئا يدعى أنه يماثل، فضلا عن أن يتجاوز أسلوب القرآن روعة وجمالا وجلالا. ولو كان هناك من قال هذا لبادر بيلا المداور بذكر اسمه. لقد اتُّهِم ابن المقفع والمعرىّ بتلك التهمة، بيد أن ذلك اتهام زائف، إذ لم يحدث أن فكر أحد منهما فى إتيان ذلك العمل السخيف. وفى كتابى: "تاريخ الأدب العربى- العصر العباسى" مناقشة مفصلة لهذه التهمة وتفنيد لها من كل الوجوه.
ثم يمضى هذا المستشرق فيقول إن محمدا قد "غَفَلَ" عن مراجعة القرآن مراجعة عامة اطمئنانا إلى قوة ذاكرة قومه ولأنه لم يكن يتصور قط الإشعاع الذى سيحظى به الدين الذى دعا إليه. ويظهر إفكه حين نتذكر آيات مثل قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (أى ليس للعرب وحدهم)، "هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله" الذى تكرر ثلاث مرات فى سُوَر "التوبة" و"الفتح" و"الصف" بنفس الألفاظ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه وذلًّا يذلُّ اللهُ به الكفرَ. وكان تميمٌ الدارى يقول: عرفت ذلك فى أهلِ بيتِى. لقد أصاب مَنْ أسلمَ منهم الخيرَ والشرفَ والعزَّ، ولقد أصاب مَنْ كان منهم كافرًا الذلَّ والصغارَ والجزيةَ"،"إنَّ اللهَ زوى لى الأرضَ مشارقِها ومغاربِها، وسيبلغُ مُلكُ أمَّتى ما زوى لى منها"، "لو تعلَمون ما ذُخِر لكم ما حزِنتم على ما زُوِى عنكم، وليُفتَحنَّ لكم فارسُ والرُّومُ".
واستمرارا فى دعاواه المتهافتة يقول بيلا إن القرآن يخاطب الأذن والقلب ولا يهز الفكر إلا قليلا. وأساس اتهامى له بالادعاء المتهافت هو أن القرآن يخاطب العقل بالدرجة الأولى وليس مثل بعض الأديان التى تطالب الناس بالإيمان دون تفكير أو تشغيل عقل. والتفكير فريضة إسلامية كما قال العقاد بحق وصدق. والعلماء فى الإسلام هم ورثة الأنبياء. وكلما طالب القرآن البشر بالإيمان ساق الدليل العقلى والحجة المنطقية، ودائما ما يقول: "لعلكم تتفكرون"، "لعلكم تعقلون". وهو يعلى من شأن العلماء: "هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟"، "إنما يتذكر أولو الألباب"، "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ"، "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات". فهل يعقل أن كتابا كهذا يمكن أن يكتفى بهز الآذان وإثارة القلوب ليس إلا؟ كما أن آياته قد سبقت كثيرا من حكمة العلماء والفلاسفة فى العصر الحديث. ثم إن كثيرا من آيات القرآن تشريعات، والتشريعات إنما تخاطب العقل لا المشاعر. وبالمثل فإن الآيات التى تتحدث عن الأقوام السابقين تتوجه إلى العقل لأن التاريخ أحداث ووقائع وأخبار، وليس مصمصات شفاه ونهنهات أفواه وصيحات إعجاب. وهو نفسه ما نقوله عن الآيات التى تدعو إلى الإيمان بالله ووحدانيته وقدرته وسيطرته على الكون ومشيئته الشاملة، ونقوله أيضا عن النصوص الكريمة التى تتكلم عن اليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب، وكذلك النصوص التى تحض على الحلم والتصرف بحكمة واقتفاء العدل وحب السلم والصفح والعفاف وتنفِّر من الانفعالات الغشوم والحمق والكبر والغطرسة والأنانية. فكيف بالله عليك لا يهز القرآن الفكر إلا قليلا؟ خيبك الله يا شارل بيلا!
وهو أيضا يحاول إثارة الشك فى الشعر الجاهلى باستدعاء كتاب طه حسين الذى أنكر فيه صحة معظم هذا الشعر إن لم يكن كله، وانتهى بيلا بإظهار تواضع كاذب حين عبر عن موافقته على أن قسما من هذا الشعر صحيح. بارك الله فيه وفى تنازله وتسامحه! وهو لم يحاول أن يورد ولو حجة واحدة تستند إليها دعواه السخيفة هذه، إذ الحق هو أن الشعر الجاهلى صحيح إلا إذا قامت دلائل على عكس ذلك فى هذه القصيدة أو تلك المقطوعة. وكذلك لم يشر إلى أن طه حسين قد سرق أفكار مرجليوث فى هذا الصدد. ويكفى أن نقول إن طه حسين، قبل أن ينشر مرجليوث مقاله عن هذا الموضوع، لم يحدث قط أن شك فى الشعر الجاهلى. بل لقد كتب قبل ظهور مقال مرجليوث بأسابيع فصلا عن هوميروس يجده القارئ فى كتابه: "قادة الفكر" يجعل فيه الشعر الجاهلى وشعراءه أساس الحضارة الإسلامية، لكنه غيَّر اتجاهه بغتة بعد نشر مرجليوث مقاله الآنف الذكر بعشرة أشهر. كما أنه فى إنكاره جل الشعر الجاهلى إن لم يكن كله كان يتابع خطا مرجليوث. وعلى نفس الشاكلة فإن العوامل الأساسية التى اعتمد عليها د. طه فى نفى ذلك الشعر هى نفسها العوامل التى استند إليها مرجليوث. كذلك فإنه قبل إصداره كتابه عن هذا الشعر بقليل قد نزل ضيفا على مرجليوث فى بيته فى بريطانيا هو وأسرته. ويلفت النظر أن بيلا قد ضرب صفحا عن ذكر ردود العلماء المصريين الأثبات على كتاب طه حسين: "فى الشعر الجاهلى"، تلك الردود التى سحقت أفكاره النيئة وحطمت غروره وأظهرت سطحية آرائه وقلة علمه فى ذلك الوقت، فلم يستطع أن يجيب عن أى نقد وجه إليه. وهذا كله له معناه ومغزاه.