رواية "الأستاذ" لوداد معروف
نقد وتحليل
(دار البشير للثقافة والعلوم 1443هـ- 2022م)
إبراهيم عوض

هذه الرواية بقلم السيدة وداد معروف, وهى عضو باتحاد كتاب مصر, وتدرس للحصول على درجة الدكتورية فى مجال الإعلام، ولها ست مجموعات قصصية، وقصتان للأطفال. وتقع أحداث "الأستاذ" فى قرية مصرية تقع فى شمال البلاد اسمها الشهاوية تشكل شبه جزيرة، إذ يلتف النيل حولها من ثلاث جهات. والشخصية الرئيسية فيها هى الأستاذ عبد الحميد ياسين, ذلك المُعَلِّم الذى دخل المدرسة وهو فى سن كبيرة نسبيا, فقد قضى 12 عاما من عمره فى زراعة الأرض مع والده. وقد رصدت الكاتبة رحلة هذا المعلم العصامى التى بدأها فى خمسينات القرن الماضى ودوره الإيجابى فى قريته, وعمله فى الارتقاء بها عن طريق العمل التطوعى, وتعرضه للكيد والحقد من على عباس ابن خالته روحية ومعه بعض المعارف الذين يدرون فى فلكه، فكان يهاجمه على ملإ من الناس عند جمعه تبرعات الناس لبناء المسجد الكبير بالقرية مشككا فى ذمته المالية, ويترصَّد له محاولا إحباط كل مشروع يقوم به للنهوض بالشهاوية, وظل يتآمر وينافق من بيدهم الأمر فى تلك المسائل حتى فاز دونه برئاسة المجلس المحلى بينما هو مجرد عضو فيه.
وكان لعبد الحميد ياسين دوره التعليمى والتربوى فى حياة تلامذته, واتخذت الكاتبة من القرية ومن شخصية المعلم عبد الحميد نموذجا للحياة الاجتماعية فى الريف المصرى, ودعمت ذلك بتفاصيل عن الحياة فى القرية وعاداتها وتقاليدها فى المناسبات الاجتماعية والدينية المختلفة ومناقشة قضايا المرأة والكيفية التى تتم بها الخِطْبة والزواج. كما ناقشت الرواية تعاطى المخدرات وأثره على الأسرة, وعالجت أيضا الجانب التعليمى للشباب وانتقالهم لتلقى العلم فى العاصمة. كذلك تعرضت لحرب رمضان المجيد التى انتصر فيها الجيش المصرى على الصهاينة, والدور البطولى لأحد شخوص الرواية على جبهة القتال حتى نال الشهادة, وهو أحمد عزام شقيق ورد عزام (الراوية), وأسرتهما جارة لأسرة الأستاذ عبد الحميد ياسين. وبالمثل برزت فى الرواية متانة علاقة الأبناء بالآباء متمثلة فى علاقة عبد الحميد بأمه, وأبناء محمود عزام بأمهم.
وفى الرواية عدد غير قليل من الشخصيات الرئيسية والثانوية جعلها محتشدة بالأحداث. كما أن امتداد الزمن فيها أضاف إليها حيوية وصراعا يثيران الشغف. وساردة الرواية هى الشابة ورد عزام تلميذة الأستاذ عبد الحميد، التى حملت وصيته فى عقلها وقلبها ووفت له، فكانت الرواية التى فى أيدينا الآن.
وتثير هذه الرواية أكثر من قضية. ولنبدأ بقضية اللغة، ويمكن تناولها من عدة جوانب. وبوجه عام تفضل روايتنا من هذه الناحية روايات أخرى غير قليلة لكتاب المرحلة الحالية فى مصر رغم أن أخطاءها اللغوية غير قليلة بدورها، إذ الملاحظ أن كثيرا جدا من الأدباء فى العقود الأخيرة لم يعودوا يهتمون بصحة لغتهم ولا حتى بتنقية كتاباتهم من الأخطاء اللغوية عن طريق ما يسمى هذه الأيام بـ"التدقيق اللغوى". وقد رصدتُ فى الرواية عددا كبيرا من النصوص التى تسير مستقيمة وسليمة ثم بغتة يفاجئنا خطأ نستغرب أن تقع فيه المؤلفة التى تستطيع أن تكتب بهذه الاستقامة والسلامة، فكنت أضحك قائلا فى نفسى: هل تستكثر المؤلفة على نفسها خلو روايتها من الأخطاء فتترك القلم يخرج عن القضبان يسقط على جنبه كقطاراتنا بأُخَرَة؟ أم هل تخشى الحسد فترتكب أخطاءها عامدة متعمدة مع سبق الإصرار والترصد حتى لا تثير عقارب الحقد فى قلوب العذال فيسددوا إلى روايتها نظرة تحرقها مثلا أو تفتتها وتجعلها أباديد. ونحن المصريين فى الإيمان بتأثير العين المؤذى حاجة باسم الله ما شاء الله، وكأن العين هى القاسم المشترك الأعظم فى بلايا الدنيا: فالولد إذا سقط مريضا فقد أصابته عين، والبنت إذا رسبت فقد أصابتها عين، والسيارة إذا اصطدمت بجدار وتحطمت ومات قائدها فقد أصابتها وأصابته عين، والفستان الجديد إذا تعلق بمسمار مزقه فقد أصابته عين، والبيت إذا انهار فجأة فليس الذنب ذنب البناء العشوائى المخالف للمواصفات البنائية الآمنة بل أصابته عين.
وقبل الإشارة إلى الأخطاء أحب أن ألفت النظر إلى أن المؤلفة ضبطت كلمة "جعْل" (بمعنى "الأجرة") بفتح الجيم: "جَعْل"، وفتح الجيم صحيح، وإن كان المشهور هو ضمها فيقال: "جُعْل". وقد نصصتُ على ذلك مخافة أن يظن القارئ أن فتح الجيم هو الضبط الصائب، وأن الضم خطأ، فاهتبلتُ الفرصة لنعرف معا أنها تأتى بالفتح والضم جميعا، إذ لم أكن قبلا أحسب أنها تأتى بفتح الجيم أيضا. ولكن من ناحية الاتساق بين الشخصية وبين أفكارها ولغتها نقول إن من الصعب جدا على فتاة صغيرة فى السن لا تزال فى المرحلة الابتدائية أن تعرف معنى هذه الكلمة فضلا عن استخدامها. وهذا عيب فنى، إذ إن الكاتبة قد أنطقت الطفلة الصغيرة بلغتها هى ولم تتركها تستخدم لغتها الخاصة بها والتى لا بد أن تكون فقيرة معجميا. ولدينا أيضا تشكيل الكاتبة لكلمة "حصرم" بضم الحاء والراء وتسكين الصاد: حُصْرُم" (ص207). والمعروف أنها "حِصْرِم" بالكسر لا بالضم رغم أننا نضمها فى العامية، وهو ما يصدق أيضا على "النِّقْرِس"، إذ تنطقه العامة بالضم: "نُقْرُس" مع تحويل القاف همزة كما هو معروف. وكانت حماتى تقول: "نُقْرُز" بالزاى لا بالسين مع قلب القاف همزة بطبيعة الحال.
وفى النص التالى نقرأ كلام ساردة الرواية عن استعدادات شم النسيم والخروج يومها إلى الخضرة والخلاء: "كان الأستاذ يجعل لنا يوم عيد الربيع ترفيها ممزوجا ببعض المعلومات عن تاريخ الجزيرة وطبيعتها الساحرة, يوصينا فى اليوم الذى قبلها أن نستيقظ فى السادسة, نجهز البيض الملون وننظف الفسيخ أو الرنجة كلُّ حسب ما يفضل منهما، ودائما كنت أفضل الرنجة، فأستيقظ وأظل بجانب أمى وهى تعد لى البيض والخس والخبز الطرى الذى خبزته طازجا الليلة التى تسبق عيد الربيع، وعيدان البصل الأخضر، فهو مع الرنجة متلازمة لا تنفصل. تتحفنى أمى ببعض الحلوى التى تتقنها: مكرونة باللبن أو كنافة، وربما بعض الفاكهة. أحمل كل هذا فى حقيبة وأذهب إلى البحر قبالة مقهى "هوا بحرى" أنتظر السيارة التى استأجرها الأستاذ لتحملنا جميعا إلى الجزيرة. لم يكن هذا البحر بحرا مالحا كما يوحى اسمه، لكنه النيل. لا أعرف لِمَ أطلق عليه أهل بلدى: البحر؟" (ص10).
والواقع أننا نسمى النهر فى قريتنا أيضا مهما كان صغيرا: "بحرا". ولا أظننى سمعت أحدا عندنا أو فى أية قرية زرتها يسميه: "نهرا". وفى القرآن تقابلنا كلمة "البحران" بمعنى البحر الملح والنهر العذب على سبيل التغليب، ومع هذا يستخدم القرآن كلمة "النهر" أيضا مفردة ومجموعة. وفى الجنة لا نسمع بوجود بحار بل أنهار.
وفى أسلوب الكاتبة لمحات قرآنية، وإن لم تكن كثيرة، منها "لنَسْتَبِق الصعود إليها" (ص11)، وهى صدى لقوله تعالى عن يوسف وامرأة العزيز التى كانت تراوده عن نفسه: "واسْتَبَقا الباب")، وواضح أن السياقين مختلفان تماما. وهو ما يلاحظ أيضا على قول الكاتبة على لسان الحديقة التى يخرج إليها التلاميذ فى شم النسيم ويأكلون من موزها الناضج الشهى: "أشجار الموز تقف راسخة على أرضها تعلن: أنى هنا أنتظركم يا أولاد منذ العام الفائت. ها هو طلحى المنضود أثقل علّى. هيا اقتربوا واطْعَمُوا منى ما شئتم" (ص11). والعبارة تذكرنا على الفور بالنعم التى يسبغها سبحانه وتعالى فى الجنة على أصحاب اليمين، ومنها الطلح المنضود، حسبما جاء فى سورة "الواقعة". ومرة أخرى هل ساردة الرواية، وهى فتاة صغيرة، تستطيع استدعاء هذه الآية فى هذا السياق بهذه البساطة؟ مجرد سؤال. ولكن الرواية رغم ذلك ورغم غير ذلك رواية أكثر من جيدة كما سبق القول. ومن هذا أيضا عبارة "(يا حسنية، المضمار واسع)، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون" (ص114)، التى قيلت لامرأة فقيرة من القرية كانت تشترك فى حمل الطوب أثناء بناء المسجد الكبير بالقرية. والعبارة موجودة بنصها فى سورة "المطفِّفون". وعلى نفس الشاكلة قول ا لساردة عن أمها وما كان يمتلئ به قلبها من الحزن الممض على أخيها الشهيد فى حرب رمضان المجيد: "دخل رمضان بيتنا, لكن قلب أمى كان فارغا, لأول مرة كما قالت لأبى وهى تضع طعام الإفطار على الطبلية أمامنا" (ص147). ويرى القراء كيف لم تأخذ الكاتبةُ العبارةَ القرآنيةَ كما هى بل حورت فيها بعض التحوير، وهو مما يحسب للكاتبة (أو للساردة: أيتهما شئت). ففى سورة "القصص": "وأصبح فؤاد أم موسى فارغا" فى حين تحول الفعل: "أصبح" إلى "كان" فى عبارة الرواية، و"الفؤاد" صار "قلبا"، فضلا عن وجود "لكن" الاستدراكية التى لا وجود لها فى الآية الكريمة. ومنها كذلك "لا تثريب عليك" (207)، وهى صدى لقوله جل جلاله على لسان يوسف لإخوته الذين طالما حقدوا عليه وأساؤوا أبشع الإساءة إليه: "لا تثريبَ عليكم اليوم. يغفر الله لكم. وهو أرحم الراحمين".
ومعنى هذا أن العبارات القرآنية صارت تجرى فى دمائها وتنبجس على لسان قلمها أو بالحرى: على لوحة مفاتيحها دون تفكير أو تعمد، وكأنها تتنفسها تنفسا. وهذا لون من ألوان التناص، وهو ما يمتزج فى عقل الكاتب من قراءاته المختلفة سواء كان فكرة أو معنى أو تركيبا أو لفظا أو صيغة أو عبارة كاملة أو روحا عاما، وإن لم يمنع هذا من أن يتنبه الكاتب بين الحين والحين إلى مصدر الفكرة أو المعنى أو التركيب أو اللفظ أو الصيغة أو العبارة. وحتى الذين لا يحفظون القرآن نراهم يتأثرون به فى أساليبهم، فكثير منا تعلق بأذهانهم كثير من عباراته من مجرد الاستماع إليه فى المذياع أو فى المآتم أو فى الصلاة الجهرية من الإمام أو من تلاوته فى المصحف...
وفى القرآن نجد موسى يقول لحميه فى أرض مدين عندما أعطاه ابنته زوجة: "ستجدنى إن شاء الله من الصابرين"، لتصير فى الرواية على لسان أم الشهيد أحمد والساردة: "سأجتهد فى أن تجدنى إن شاء الله من الصابرين" (ص158). وقد عللت الساردة ذلك من أمها بأنها دائمة الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم، وهو ما ألمحت إليه قبل قليل.
وفى الرواية تركيب لا يرحب به النحويون، وهو عطف اسم ظاهر على ضمير متصل، وها هو ذا: "هكذا يا ورد تُفضِّلين الرحلة علينا وجلوسِك معنا!" (ص11)، فقد عطفتْ "جلوسك" على الضمير: "نا"، والأفضل فى رأيهم أن يقال: "تفضلين الرحلة علينا وعلى جلوسك معنا" مع أن القرآن يحتوى على مثل هذا التركيب، كقوله تعالى: "جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم"، "هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين"، "وجعلنا لكم فيها معايشَ ومَنْ لستم له برازقين"، "واتقوا الله الذى تَسَاءَلون به والأرحامِ" (فى إحدى القراءات).
وثم تركيب آخر لا أذكر أنى قرأته فى كتب التراث، وهو "وما إن حدث هذا إلا وحدث ذاك". تقول الساردة (أو الكاتبة، وكلتاهما شىء واحد): ما إن وضعتها فى فمى إلا وجاء أبى" (ص59)، "ما إن وصلتْ إلى (اسْمَىْ) "مناجل وشرشرة" إلا ضحكتْ أسماء على تلك الكلمات" (ص76). والتركيب المعروف هو "ما إن... حتى...". وأذكر أنى قابلت هذا التركيب فى السنوات الأخيرة فى كتابات بعض الباحثين الشبان. وهناك تركيب قريب من هذا هو "أعرف أنه مجرد أن خرجت قدمى من البيت إلا وانفتحت مآقيهما" (ص125)، وهو تركيب لا أستطيع توجيهه ولا الدفاع عنه.
وهناك سمة أخرى فى أسلوب الكاتبة هى تحويل العبارات العامية، وبخاصة فى الحوارات، إلى عبارات فصحوية بلمسة سريعة من بنانها كما فى المثال التالى، وفيه عدة عبارات من هذا النوع لا أظن القارئ محتاجا إلى أن أنص عليها: "ضحك وقال: الطبع يغلب يا خالتى. ألقى الآن شباكه على جارة لهم مطلَّقة, وبشرى على نار منهما.
- لها ألف حق, ألم تحاول التدخل وتقول له كلمتين ترد (تردان) إليه عقله؟
- قلت كثيرا. لكن هذا النوع لن يردعه إلا أن يقع وقعة لا أحد يسمى عليه ساعتها" (ص73).
ومنها "هكذا كنتِ مع الغالية رحمها الله. يدك بيدها فى كل المناسبات" (ص78)، و"سنتك خضراء" (ص169)، "ليتهم يريحونا (يريحوننا) من وجوههم" (173)، "تأكل ما تحب ولو كان فيه هلاكها" (203)، "لكل وقت آذان" (ص204، وإن كتبت "الأذان" بالمد لا بالهمزة العادية، وهو ما يقلب مدلول الكلمة من النداء للصلاة إلى جمع "الأذن": الحاسة التى نسمع بها. وهذا الخطأ كنا نراه على شاشة المرناء حين يرفع الأذان إلى الصلاة.
وإلى جانب اللغة الفصحى التى تستلهم التعبيرات القرآنية وتستخدم كلمات مثل "التزمه" بمعنى احتضنه وأمسك به، و"جُعْل" استعملت الكاتبة مفردات وعبارات عامية كما هى دون أن تلمسها اللمسة التى تصيرها فصيحة، مثل "اسأل خالتى أم عبده عنى بتقول فى طبيخى شعر" (ص19)، "ضربك؟ الأستاذ يضربك! لِمَ؟ أحنُّ منه ما فى أحد"، "تعالَى فى حضنى هتشوفى ما أفعله، وأمامك" (ص21)، و"الشَّكْمة" (ص24)، وهى كما فهمت من كلام المؤلفة الساتر الخشبى الذى يجلس أهل البيت خلفه كيلا يراهم الآخرون. وقد كنت قبل ذلك أسمع حورية حسن تغنى أغنية "راصَّة القلل"، التى كتبها عبدالفتاح مصطفى ولحنها عبدالعظيم عبدالحق، وتقول فيها:
راصَّة القلل على شَكْمِتِى البحرية= لَاعْبِتْ ضفايرى نسمة العصرية
ولا أحقق فيها معنى "الشكمة". وها هى ذى مؤلفتنا مشكورة تلقى بعض الضوء على معناها. فلها منا التحية. بل لقد عنونتْ فصلا من فصول الرواية باسم "شكمة الأسرار" (ص23 فصاعدا)، وفسرت "الشكمة" فى الهامش بأنها "ساتر من الخشب صُنِع بطريقة اسمها "بُغْدَادْلِى" على شكل مربعات صغيرة مخروطية يشبه المشربية يوضع على مدخل البيت الواسع الذى يجلس فيه أهل البيت، فيرون من ثقوبه من هم فى الشارع خارج البيت ولا يراهم من هم بالخارج" (ص24). ولعل الأغنية تقصد سور الشرفة المصمَّم على شكلٍ مقاربٍ لهذا لأن القلل لا يمكن أن توضع على الشكمة حسب تعريف المؤلفة لها، ولكن يمكن وضعها على سور الشرفة الذى بهذا الشكل. ومن هذه المفردات كلمة "اللِّوَان"، التى كتبتها المؤلفة بدون ياء، ووجدت شرحها فى المعاجم بأنها "المكان المتسع من البيت تحيط به ثلاثة جدران وسقف محمول على أعمدة مزينة برسوم وتُفْتَح الجهة الرابعة على الخارج. كلمة معرَّبة". أما "ويكبيديا" فى نسختها الإنجليزية فعرفتها بأنها:
"Liwan (Arabic: ليوان, from Persian eyvān) is a word used since ancient times into the present to refer to a long narrow-fronted hall or vaulted portal found in Levantine homes that is often open to the outside. An Arabic loanword to English, it is ultimately derived from the Persian eyvān, which preceded by the article al ("the"), came to be said as Liwan in Arabic and later, English."
ومن هذا نرى أنها انتقلت من الفارسية للعربية لتعود فتنتقل بدورها من العربية إلى الإنجليزية. وأما الكاتبة فعرفتها بالهامش كعادتها على النحو التالى: "غرفة صغيرة على سطح المنزل توضع بها أغراض المنزل". ويبدو أن معناها يختلف من منطقة إلى أخرى. وبالمناسبة كان لى صديق فى فترة الشباب يطلق على أية شجرة: "نخلة". ومن تلك المفردات أيضا "الشمورت"، التى أقسم بالله وتالله ووالله أنى قبل أن أقرأ تعريف الكاتبة لها ما كنت أعرف معناها رغم أنى كنت أسمع أهل بيتى والناس من حولى فى القرية يرددون هذه الكلمة فيقولون مثلا: "ديك شمورت"، ولا يخطر لى أن أسأل عن معناها ولا عن معنى كلمة "بِرْبِرَة"، التى يوصف بها الدجاج أيضا، بل كان همى كله هو أكل الديك الشمورت والفرخة البربرة فحسب، والباقى يهون! ومن الواضح أنى كنت قليل الذكاء والنباهة. وقد تبرعت الكاتبة مشكورة بتعريف "الشمورت" فى الهامش كعادتها، وهو أمر قلما نجده فى الأعمال القصصية، فقالت: "الدجاج البلدى صغير السن" (ص46). ومن ذلك كذلك "القاهرة نوَّرت بكم يا غاليين" (ص61). ومنه كلمة "المؤدة"، التى قالت إنها "موقد يصنع من الأحجار والطين يطهى عليه الطعام بوقود من الحطب وما شابهه" (ص75). وهذا الكلام ينطبق على ما نسميه فى قريتنا بـ"الكانون". وقد وردت هذه الكلمة فى شعر للحُطَيْئَة يهجو بها أمه العجوز:
جَزاكِ اللهُ شَرًّا مِن عجوزٍ

وَلَقّاكِ العُقُوقَ مِنَ البَنِينا

تَنَحَّىْ فَاجْلِسِى مِنّا بعيدًا

أَراحَ اللهُ منكِ العالَمينا

أَغِرْبالًا إِذا اسْتُودِعْتِ سِرًّا

وكانونًا على المُتَحَدِّثينا؟

أَلَمْ أُوضِحْ لَكِ البَغْضاءَ مِنّي؟

وَلَكِنْ لا إِخالُكِ تَعْقِلينا

حَياتُكِ، ما عَلِمتُ، حَياةُ سوءٍ

وَمَوْتُكِ قد يَسُرُّ الصالِحينا


ومن المعانى التى أوردها "لسان العرب" لهذه الكلمة، وهو المعنى الذى يهمنا هنا "الكانونُ والكانونةُ: المَوْقِدُ. والكانونُ: المُصْطَلَى"، وإن كان بيت الحطيئة يقبل هذا المعنى وكذلك معنى "الثقيل من الناس، والشخص الذى يتنصت إلى الأخبار ليذيعها هنا وهناك".
ومن الكلمات العامية كلمة "المُرْتَة"، وقد شرحتها الكاتبة فى سياق حديث الساردة عن بطة محشوة بـ"المرتة" فقالت إنها "خليط من البصل والكبدة المقطعة والفلفل الأسود والأرز والزبيب" (ص89)، فشعرت بأن شرايينى قد انسدت بفعل الكولسترول من مجرد ذكر هذا الشرح. وهذا المعنى يختلف تماما عن "المرتة" كما نعرفها فى قريتنا وفى القاهرة مثلا. فالمرتة، حسبما نعرفها منذ طفولتنا، هى ثُفْل الزبد الذى يتبقى فى قعر الحلة بعد تسييحه، وطعمه مالح ويشبه إلى حد ما طعم الجبن القديم الجاف. ومن الواضح أن معنى اللفظ يختلف من بيئة إلى بيئة.
ومما ينتشر فى الرواية من الألفاظ والعبارات العامية: "ربنا ما يحرمكم من بعضكم" (ص90)، و"خاطرك علينا غالى" (ص91)، و"على العموم يُشْكَرُوا" (ص108)، و"جوابى": جمع "جُوبْيا"، وهى أداة على هيئة صندوق شبكى مستطيل لصيد السمك (ص129)، و"السُّكَّر الأقماع" (ص136)، وهو قوالب كبيرة من السكر الصلب على شكل مخروط ملفوف بورق ثخين، وكان يكسر بالشاكوش وما أشبه، و"العريس" و"العروسة"، وقد تكررتا، و"يا قلب خالتك" (ص153): تعبيرا عن التعاطف مع ابن أخت المتحدثة والحزن من أجله، و"ليتهم يريحونا من وجوههم" (ص173)، و"تعرفيهم أكيد يا منال" (ص185)، و"عريس الغفلة" (ص190)، وكنت أحسبه هو الشخص المغفل الذى يقع فى زوجة سيئة دون أن يسأل عنها أو يتأنى فى إجراءات الخطبة والزواج، لكن الكاتبة شرحته كالآتى: "مصطلح يطلق على العريس يأتى فجأة"، وقد أكون أنا المخطئ، والمهم أن هذا معنى يغاير المعنى الذى كنت أعرفه، و"هِلْف" (ص213)، وحسب ما هو منطبع فى ذهنى هو الرجل الطويل التافه العديم الشخصية والقيمة، و"بارفان" (ص114)، أى العطر بالفرنسية، وهذا مفهوم، لكن ما يشد الانتباه أن الكاتبة منعت هذه الكلمة من الصرف: "أكمل لبسه ورَشَّ بارفانَ على يديه وملابسه"، فوضعت فتحة واحدة على آخرها ظنا منها أنها ما دامت كلمة أجنبية فلا تنوَّن، ناسية أن كون الكلمة أعجمية لا يكفى فى حد ذاته بل لا بد أيضا أن تكون علما فى حين أن "بارفان" اسم جنس لا علم، فيُصْرَف، وأفضل من ذلك كله أن نقول: "ورَشَّ عطرًا على يديه وملابسه".
وبالمناسبة فهذا الذى نقول عنه: "عامية مصرية" يزعم بعض الشياطين أنه "اللغة المصرية". فهل ثم لغة مصرية (لغة لا لهجة)؟ أجل هل هناك لغة مصرية كما يقول البعض فى الآونة الأخيرة وكما تقول "الويكيبيديا" إذ تضع بين نسخها نسخة مكتوبة بلهجة عامية مصرية مصطنعة اصطناعا وسخيفة غاية السخف ولا يستعملها أحد وتسميها كذبا وزورا: اللغة المصرية؟
لقد قرأت على المشباك ذات مرة حوارا صحفيا مع أحد أصحاب الصفحات اللغوية، فوجدت المحاور يقول لصاحب الصفحة ما معناه: أليس من التناقض أنك تعلم الناس فى صفحتك اللغة العربية الفصحى، ومع هذا تتحدث معى الآن بالعامية؟ فكان الجواب أنه مصرى أولا قبل أن يكون عربيا، وأنه إنما يتحدث باللغة المصرية، وأن اللغة المصرية كانت موجودة قبل دخول العرب مصر، وهى اللغة القبطية، وأنها تمتاز بخلوها من الذال والثاء والظاء مثلا،ولها قواعد مختلفة عن قواعد الفصحى.
هذا ما قاله، وهو كلام خاطئ تماما، إذ اللهجة العامية المصرية هى فرع من اللغة العربية مثلها مثل اللهجة السودانية واللهجة العراقية واللهجة اليمنية واللهجة الليبية، وكل ألفاظها تقريبا ألفاظ عربية، مع اختلاف نطقها أحيانا عن أصلها الفصيح، وهذا يحدث فى كل لهجات اللغات البشرية، وهو طبيعى تماما حتى إن اللهجات السعودية ذاتها تختلف عن الفصحى كما تختلف لهجاتنا المصرية عنها. أما القواعد فمختلفة فعلا بعض الشىء، ومع هذا فمن الممكن أن تردها بشىء قليل من التعديل إلى القواعد الفصحوية ما عدا الإعراب، وإن كان هذا الفارق يتقلص كثيرا فى لغة الحديث التى أتكلمها أنا وأمثالى من الذين تلقوا تعليما عاليا. ومرة أخرى فهذا الاختلاف بين الفصحى ولهجاتها موجود فى كل لغات العالم كما قلت آنفا.
ومن المضحك القول بأن اللهجات العامية التى نتحدث بها فى مصر هى اللغة القبطية القديمة. هذا جهل أو تجاهل للحقيقة. ولنأخذ الجملة الأخيرة مثالا، فهى فى العامية كالآتى: "دا جهل أو تجاهلْ للحئيأه أو الحجيجه". فأما "دا" فهى "ذا" الفصيحة بعد تحول الذال دالا، وأما "جهل" فهى هى مع عدم تعطيشها فى بعض اللهجات العامية، وتعطيشها فى بعضها الآخر، وبالمثل "الحئيئه أو الحجيجه" (بدون تعطيش الجيم)، إذ تحولت التاء المربوطة هاء كما نفعل فى الفصحى عند الوقف، وتحولت القاف إلى همزة فى بعض اللهجات، وإلى جيم جافة فى بعض اللهجات الأخرى. وهذا موجود عند العرب الأصلاء. ومن هنا يمكن أى عربى يأتى لأول مرة إلى مصر أن يفهم عاميتنا. ومن السهل على العربى بعد إقامته فى أى بلد عربى آخر أن يفهم لهجتها بالاستعانة ذهنيا باللغة الفصحى التى يعرفها ولو معرفة سماع.
ونعود كرة أخرى لنتساءل: لم يا ترى كانت اللغة العربية هى اللغة الوحيدة التى تعتمد "الويكيبيديا" لهجة من لهجاتها هى اللهجة المصرية كلغة مستقلة تسميها: اللغة المصرية؟ هناك لهجات متعددة للغة الإنجليزية واللغة الفرنسية واللغة الألمانية وغيرها من لغات العالم، فلماذا لا نرى فى موقع "الويكبيديا" نسخا من تلك الموسوعة مكتوبة بلهجات تلك اللغات بوصفها لغات مستقلة؟ هل هذا الأمر تم عفوا؟ والغريب المريب أنك تقرأ مقالات تلك الموسوعة فتجد أنها لغة بزرميط، فلا هى لهجة عامية من تلك اللهجات التى نتكلمها فى مصر ولا هى لغة فصحى. ويا ترى هل سنرى اهتماما من القراء بمخاطبة "الويكيبيديا" بهذا الشأن؟ وتعاونوا على البر والتقوى. إننى بين الحين والآخر أثير تلك النقطة، ولا أجد من يلتقط الخيط منى ويكمل. ولعل إثارتى هذه القضية المريبة هو سر حذف "ويكيبيديا" ترجمتى منها ومنع إدخالها من جديد فيها من قِبَل أى شخص يريد ذلك.
وقد لاحظت أن الكاتبة فى بعض الأحيان تنسى أن تتم الجملة بل تتركها معلقة فى الفضاء كقولها: "أستاذنا عبد الحميد دوره فى حياتنا وحياة أهل قريتنا تجاوز دورَ المعلم بكثير. هو عمدتُها غيرُ المختار، كل إنجاز نافع تحقق فى قريتنا كان خلفه الأستاذ. ولأنه عمل قبل دخوله المدرسة فى غيط والده حتى تأخر فى دخوله لها لسن اثنى عشر عاما، فهو بكر والده, ولذا اعتمد عليه فى فلاحة أرضه. كان ساعدَه الأيمنَ وعكازَه. دخلت عليه أمه ذات ليلة فوجدته فى فراشه يبكى. ساورها القلق: ابنها وتعرفه، لا تسقط دموعه بسهولة، رجل من صغره. لذا كان وقعُ دموعِه عليها كماء النار أحرقت قلبها" (ص7-8)، فنحن حين نقرأ قولها: "ولأنه عمل قبل دخوله المدرسة فى غيط والده حتى تأخر فى دخوله لها لسن اثنى عشر عاما" نتساءل على ا لفور: حدث ماذا؟ لكنها للأسف نسيت فى غمرة انهماكها فى الكتابة والمراجعة إتمام الجملة، وبخاصة أنها قد طالت منها وتشعبت. ومن ذلك أيضا قولها: "وحكى عن سمير شطا بائع الحشيش فى القرية وأنه اتخذ من عشته على النيل، التى يأوى إليها السهارَى حتى الفجر يتجمع فيها كل مدمنى الحشيش فى القرية، منهم حامد ابن عمك لطفى ياسين يا أستاذ عبده" (ص52)، إذ السؤال هو: "اتخذ من عشته ماذا؟".
ونأتى إلى الملاحظات الصرفية والنحوية والمعجمية، وأنا أستغرب وجودها عند الكاتبة، التى تمتلك أسلوبا سلسا ومنسابا ومحكما فلا نحس فيه بقلق ولا بتفكك، وكنت أتوقع أن تكون صَرَّافة ونَحَّاءة وعلى علم بالمعجم العربى أفضل من ذلك. وسوف أكتفى بإيراد الغلط ووضع التصويب عقبه مباشرة بين قوسين دون شرح: "عُرِفْتُ بأن لى ذاكرةً حافظة, وأن الذى أراه لا أنساه. وأنَّ ما سأحكيه لكم هنا هو ضجة الطفولة وحكاية كنت فى قلبها" (ص7. والصواب "وإنَّ ما سأحكيه..."). "والفتة التى تَذوُّقُ ملعقة واحدة منها كافية لتجعلك تجهز على الطبق كله" (ص13. والصواب "الفتة التى تذوُّق ملعقة منها كافٍ ليجعلك تجهز على..."). "يطالع الأختين وهما متلاصقتين فى الشرفة"، "تسيل قطراته على وجهه, وأنا جالسةً أمام أمى تمشط لى شعرى" (ص14، 162. والصواب على التوالى "وهما متلاصقتان" و"وأنا جالسةٌ"). "على محدودية راتب الأستاذ وقلة حيازته من الأرض إلا أن الخير لا ينقطع من بيته أبدا" (ص13. على محدودية راتب الأستاذ... فإن الخير لم ينقطع/ لم ينقطع الخير...". "كلما جلست أمى مع أبله أسماء... تحدثوا فى حكايات كثيرة" (ص14. والصواب "... تحدثتا فى موضوعات كثيرة"). "- ألم تقدمى له سوى الشاى؟ قالت: نعم" (ص19. والصواب "قالت: بلى"). "أضحِكونا معكما" (ص24. والخطاب لامرأتين. وصواب العبارة "أضحكانا معكما"). "ظلوا يتحدثون... ويؤجلون" (ص26. والصواب "ظَلِلْن يتحدَّثْن ويؤجِّلْن"). "همسوا لبعضهم... تهامسوا مع بعضهم" (ص31. والصواب "همس بعضهم لبعض... تهامس بعضهم مع بعض"). "رائحتك الذكية" (ص31. والصواب "رائحتك الزَّكِيَّة" بالزاى لا بالذال). "مع كون أسماء لم تعايش الأم رهيفة سوى عامٍ ينقص شهرا إلا أن المدة القليلة تركت بصمتها على حكايات أسماء عنها بعد ذلك" (ص34. والصواب "ومع أن/ ومع كون أسماء لم تعايش الأم رهيفة... فإن المدة القليلة تركت/ فقد تركت المدة القليلة بصمتها..."). "تَسَعُنا أنا وأبيه" (ص40. والصواب "تسعنا أنا وأباه"). "تكفينى أشياءً كثيرة" (ص41. والصواب "أشياءَ" بفتحة واحدة على الهمزة الأخيرة). "وسعاد تختر" (ص56. والصواب "تَخْطُر"). "عمك عباس ومحمد ابنى سيحضرون" (ص76. والصواب "عمك عباس ومحمد ابنى سيحضران"). "أنتن حلوات. الجمال يحن للجمال, فتحنّون لبعضكن، ونضيع نحن بينكن" (ص80. والخطاب لفتاة ومدرستها. والصواب "أنتما حلوتان... فتحنّ كلتاكما للأخرى، ونضيع نحن بينكما"). "لم يَتَزَيَّى" (ص89. والصواب "لم يَتَزَىَّ"). "نادِى على الأستاذ أولا" (ص95. والخطاب لرجل. والصواب "نادِ الأستاذ". وقد تكرر استعمال "على" مع الفعل: "ينادى" ص103، واستعمال "اللام" مع نفس الفعل: "ناديت لماجد" ص162). "كانت هذه هى دائرة تأييد على عباس، والتى شجعته على التغول أكثر فى عناده وركوب رأسه" (ص105. والصواب "كانت هذه هى دائرة على عباس، التى شجعته...". وأنا أسمى هذه الواو التى تفصل بين النعت ومنعوته: "الواو اللعينة"). "اُسْكُنْ هنا وارتاحْ" (ص106. والصواب "وارتَحْ"). "لم يرسلوا إليه إلا أنت؟" (ص108. والصواب "لم يرسلوا إليه إلا إياك؟"). "يكون كلامه نوع من..." (ص121. والصواب "يكون كلامه نوعا من..."). "رغم كونه... إلا أنه..." (ص132. والصواب "رغم كونه... فإنه..."). "ونَتْرُكُّما" (ص141. والصواب "ونَتْرُكُكُما"). "ودخل أخواها سامح ويسرى بصوانى مثلها للرجال" (ص150. والصواب "بصوانٍ"). "اِبْقِ هنا بجوارى" (والخطاب لأنثى. ص149. والصواب "اِبْقَىْ"). "حَمَلَ كلًّا منهما حقيبة" (ص164. والصواب "حمل كلٌّ منهما حقيبة"). "ورحاب ورُسُل صديقتاى يدخلن ويخرجن" (ص169. والصواب "تدخلان وتخرجان"). "لو علم به أبى وأمى لأتوا من فورهم" (ص180. والصواب "لأتيا من فورهما"). "يستأمرها عن أى خدمة..." (ص186. والصواب "يستفسر منهما عن أية خدمة..."). "وما رأى خالتك؟ هل عرفتُه؟" (ص209. والصواب بفتح التاء لأنها للمخاطب لا للمتكلم). "لم يتقدم أحدًا غيرهما" (ص232. والصواب ضم دال "أحد" لأنها فاعل). "وكأن فى الأمر شىء" (نفس الصفحة. والصواب "شيئا" لأنه اسم "إنَّ"، وإن تأخر). "أمام عيناه" (ص238. والصواب "أمام عينيه"). "لا تنسَى أن..." (والخطاب لمذكر. والصواب "لا تنسَ أن"). "اصحى يا أبا الغالى" (ص246. والصواب "اُصْحُ..."). "وَضَعْتُ فنجانا القهوة على المنضدة" (247. والصواب "فنجانَىِ القهوة")... إلخ.
هذا عن اللغة، أما بالنسبة لموضوع الرواية فتدور على أكثر من محور: فمحور يختص بالأستاذ بطل الرواية ومعلم الأجيال فى مدرسة القرية المجتهد فى ترقية القرية وخدمتها بالمشروعات العامة، ومنها بناء المسجد الكبير بالقرية وإنشاء لجنة لجمع المال من رجال القرية ومن مشاهيرها الذين اتخذوا من القاهرة مقرا لهم يعملون ويعيشون بها ما بين طبيب ورجل أعمال وتاجر والبدء فى بناء الجامع والمضى فيه حتى تركيب الهلال فوق قمة المئذنة بعد أن زفوه كأنه عروس فطافوا به فى البلدة وأدخلوا البهجة على قلوب أهلها. ومحور يختص بالصراع بين الأستاذ وابن خالته الوقح الوصولى الذى يكرهه كثير من أهل القرية ولا يحبه ويتعاون معه سوى أشباهه من الأشرار الذين لا يؤمنون بشىء كريم ولا يحسنون سوى الجرى وراء مصالحهم وشهواتهم ورغبتهم فى ربط مصائرهم بالكبار ممن لا يفكرون فى مصلحة الوطن والمواطنين بل فى حيازة المناصب والأموال وتوجيه كل فرصة نحو إنجاز منافعهم الشخصية.
وقد بدا الأمر وكأن الأستاذ هو من سيظفر بالنصر فى النهاية على ابن خالته الوصولى، إلا أن الرواية كان لها رأى مختلف، فسرعان ما تحول الموقف لصالح ابن الخالة الشرير، ليفوز فى الختام برئاسة مجلس القرية وينجح فى إحباط كل جهد يبذله الأستاذ فى سبيل مصلحة أهلها، ويمرض الأستاذ ويعجز عن تنفيذ أى شىء مما كان يتغيا صنعه من أجل بلدته. وهى نهاية متشائمة، لكنها نهاية طبيعية، فالوضع المعتاد فى بلاد كبلادنا هو فوز الفاسدين المفسدين على الصالحين المصلحين لارتباطهم بالرؤوس الكبيرة وتملقهم والخضوع لهم والتحرك فى ظلهم والاستعانة بهم لضرب الطيبين.
وتذكرنى هذه النهاية على نحو ما بما كان يكتبه نقاد روايات نجيب محفوظ الأوائل عن آلامهم وأحزانهم الباهظة جراء النهايات التعيسة البائسة لتلك الروايات، وإن لم تصل الكاتبة بروايتها التى بين أيدينا إلى النهايات المأساوية العنيفة التى تتميز بها روايات محفوظ فى تلك الفترة كـ"القاهرة الجديدة" و"خان الخليلى" و"زقاق المدق" و"بداية ونهاية" و"الثلاثية"...
وهناك محور آخر يختص بالحب الذى كان بين أحمد عزام أخى ساردة أحداث الرواية ومنال بنت الجيران تكلل بالخطبة، التى كادت تنتهى بالزواج لولا استشهاد أحمد فى حرب رمضان المجيد، ذلك الاستشهاد الذى برعت فى الحديث عنه الكاتبة أيما براعة وأجاشت دمعى لولا أن تمالكت أعصابى وتماسكت رغم الشجن العنيف الذى كاد يغلبنى على نفسى. لقد نجحت الكاتبة نجاحا باهرا فى تصوير آلام أم الشهيد كما فى النص التالى، والكلام فى بدايته عن حرب رمضان. والساردة هى، كما قلنا، ورد أخت الشهيد:
"مر عشرون يوما من رمضان فى بيتنا ما بين فرح ممزوج بالقلق. يبحث أبى عن أى خبر يطمئنه ويطمئن أمى على أحمد, فقد أُوقِفَت الإجازات للمجنَّدين طِيلةَ الحرب, فلا يعود أحد من أولاد الشهاوية المجندين ليتقصَّى أبى أخباره. كثيرا ما كنت أرى أمى وهى تبكي, تتوارى من أبى فى حجرتها وتبكي, حتى كان يومٌ قامت فيه من نومها قبيل السحور تنتحب. كنت أنام فى غرفة أخرى، وأخى عماد فى غرفة. صحونا على صوت أبى وهو يهدئ من روعها، ويطلب منها أن تخفض صوت نحيبها, فلا تستجيب له. بكاؤها كان متواصلا. صعدتُ فوق الفراش وجلستُ بجوارها. أخذتنى فى حضنها لما رأت وجهى مصفرا من الخوف عليها. ناولها عماد أخى كوبَ ماء, شَرِبَتْ منه رشفة واحدة وقالت لنا: رأيت كابوسا مرعبا, رأيت أحمد. وهنا أقسم عليها أبى ألا تكمل.
قالت له وهى تضع يدها على قلبها: ليس الكابوس فقط يا محمود, لكن قلبى الليلة كأنه وقع من صدري, خفق خفقة لم تحدث لى أبدا من قبل.
قال أبى: فأل الله ولا فألك. ماذا تريدين أن تفعلى بى؟ استعيذى بالله وادعى لأحمد يعود لنا سالما.
قمت أقبلها وأقول لها: لا تبكى يا أمى. أخاف عندما تبكين, أخاف أن لا يعود أحمد أخى.
انفعل على عماد أخى وقال: "اخرسى يا ورد! إياك أن تقولى هذه الكلمة مرة أخرى", وانفتح فى موجة بكاء. لم يفلح أبى فى إسكاته, فتركنا ونزل للمحل, فتحاملت أمى على نفسها وقامت لإعداد السَّحُور. تسحرنا وأُذِّن للفجر. صلَّتْ وهى جالسة على سجادتها, ثم نامت. قامت لتطعم الطيور وظلت فوق سطح بيتنا حتى أُذِّن للظهر. نزلت وهى على السلم. وجدت أبى يصعد السلم مستندا على الأستاذ عبد الحميد وعمى حسين, نظرتْ له أمى مُروَّعة من منظره، وعلى لسانها هذا السؤال: اُسْتُشْهِد أحمد عزام؟
رد عليها الأستاذ قائلا ودموعه تجرى على خديه بلا توقف: ابنك بطل يا أم أحمد.
حين سمعتها أمى وقعت على الأرض لا تعى شيئا. رش أخى عماد الماء على وجهها فلم تستجب. تمدد أبى على فراشه بمساعدة رفيقيه. لا أعرف كيف امتلأ بيتنا بهؤلاء الناس فى ثوانٍ. استدعَوْا لأمى طبيب الوحدة الصحية, أعطاها حقنة كرومين تنشط القلب. أفاقت لكنها لم تتوقف عن مناداته: أحمد، تعالَ لأمك! وحشتنى يا قطعة من قلبى! كيف اسْتُشْهِدْتَ يا ابن قلبى؟ ماذا قلتَ ساعتها يا عمرى؟ بسرعة هكذا يا بطل مضيت! ياه! يا طول الليالى فى غيابك يا قلب أمك!
رأيت صبر أبى الجميل, رأيته صامتا لكن دموعه تجرى. يؤذَّن للظهر، يقوم للصلاة ثم يعود للفراش ممددا. يؤذَّن للعصر، يقوم لصلاته ويعود لفراشه صامتا باكيا. عرفتُ أن منال أيضا سقطت مغشيا عليها, وانتقل إليها الطبيب بعد أن خرج من عندنا.
لم تترك أبله أسماء أمى، أرسلت ابنها مازن لأمها كى تتفرغ لمشاركة أمى حزنها. أرسل الأستاذ تليغرافا لأختى ليلى لتأتى إلينا. لم يخبرها باستشهاد أحمد. قال لها: أبوك مريض، ويسأل عنك.
فى الصباح دخلت علينا وزوجها وولداها عبد الرحمن وأحمد وأختهما سمية, لم تصدق ليلى ما رأت, قالت: "أبى مات؟" وصرخت. تسمرت عيناها على أبى الممدد على السرير, قالت: من؟
احتضنها خالى جاد وهمس لها: أحمد اسْتُشْهِد يا ليلى.
كان الخبر مزلزلا لها فانهارت, أبعدوا أبناءها عنها، أخذتهم أزهار زوجة عمى لطفى ياسين مع أحفادها. لم تكن أيام العزاء تمر, كانت ثقيلة قاتمة. بيتنا يمتلئ ويفرغ من أناس نعرف بعضهم ولا نعرف معظمهم.
فى اليوم السابع من خبر استشهاد "الغالى أحمد"، كما استعذبتْ أمى مناداته, دق جرس البيت, ذهب عماد ليفتح، وجد الأستاذ ومعه ضابط, استغرب عماد من مجيئه. قبل أن يدخل طلب الأستاذ أن يخبر عماد أبى أن الضابط جمال الدين حلمى يستأذن للزيارة: أخبرْ أبويك يا عماد.
رحب عماد وقال: تفضل يا حضرة الضابط.
سبق عماد إلى حجرة أبى وأخبره أن "هناك على الباب ضابط يريد مقابلتك", ثم عاد للباب ليدخلهما إلى أبي, ثم دخل لأمى ليأتى بها، فهو يريد مقابلتها أيضا. وضعت أمى طرحتها البيضاء على رأسها, فقد رفضت أمى أن تلبس الأسود على الشهيد. قالت: العريس لا يلبس فى زفافه إلا الأبيض, وقد زُفَّ أحمد للحور العين.
دخلت أمى متثاقلة، فقد أضافت الأيام السبعة لعمر أمى سبع سنوات, وجَدَتْ أبى جالسا معهم فى الصالون. أول مرة يغادر حجرته منذ خبر استشهاد أخى. وقف الضابط جمال الدين لأمى ليسلم عليها. مازلت أذكر ملامحه إلى الآن: قمحى اللون بعيون سوداء لامعة, له أنف مستقيم حاد, حاجبان شديدا الكثافة والسواد, فمه واسع, عليه مهابة تعم المكان الذى يتواجد فيه.
قال أبى له: رمضان كريم يا سعادة الضابط جمال. وددنا لو كنا فى أيام الفطر لأكرمنا قدومك الغالى إلينا.
- كلكم ذوق وكرم يا عم محمود. جئت إليكم لأعزيكم فى البطل أحمد عزام0
اندفعت أمى تسأله: كل ما أتمناه أن أعرف كيف اسْتُشْهِد ابنى!
- سأخبرك يا أمي, لكن قبل أن أتكلم عِدِينى ألا أرى جزعا منك. البكاء رحمة، لكن لا تجزعى.
قالت أمى: "غصب عنى يا حضرة الضابط. سأجتهد أن تجدنى إن شاء الله من الصابرين" متأولة قول سيدنا موسى للخضر عليه السلام. كانت أمى لا تمل سماع إذاعة القرآن الكريم, فحفظت كثيرا من الآيات والأحاديث.
- فتح الله عليك يا أمى!
- نظر إلى أبى وقال: يا عمى محمود، ابنك بطل. شهدت رمال سيناء لشجاعته وبسالته وصموده. عشت يا عمى، وحيا الله تربيتك الغالية.
قال الأستاذ مفاخرا بأحمد: كان أحمد ذراع والده الأيمن, رجلا من صغره. كان أبوه يوكل إليه المهام الثقال، فيقوم بها خير قيام.
- كان الشهيد أحمد واحدا من تسعة أفراد صعدوا إلى جبل الجلالة فى منطقة رأس ملعب. صدرت لهم الأوامر من قائدهم بالاختفاء خلف إحدى التباب باعتبارها تصلح لصد أى هجوم يتعرضون له, فانتظموا حولها فى دفاع دائرى.
كانت أمى وأبى وكل من فى الحجرة كأن على رءوسهم الطير وهم يستمعون إلى الضابط جمال الدين, وهو يحكى عن يوم استشهاد أخى أحمد.
قال: جاءهم بَدْويَّان يحذرانهم من وجود نقطة شرطة إسرائيلية فى اتجاه معين, وبعد ان انصرف البدويان زمجرت خمسون دبابة معادية تحميهم طائرتان. حبست المجموعة أنفاسها حتى تعبر هذه القوة المنطقة، ثم تكمل هذه المجموعة بقية العملية التى أسندت إليها. وعندما حل الظلام عاد البدويان، أخبرا النقيب قائد المجموعة أن الإسرائيليين أغلقوا كل الطرق. ومع هذا تسللت المجموعة فى جنح الظلام وتوغلوا بأرض الملعب.
- هل هذا اسمها يا حضرة الضابط؟
- نعم يا أمى هكذا اسمها. وفى الطريق وجدوا الماء قد نَفِدَ منهم, فذهب ثلاثة من الجنود كان أحمد واحدا منهم لإحضار مياه من البئر فوجدوا سبع دبابات للعدو فعادوا لقائدهم ليعد خطة للهجوم عليها قبل طلوع الفجر. وحين عادوا لها ليهجموا عليها وجدوها قد غادرت بعد أن ردمت البئر.
تأثر أبى ووجدتُ ذلك فى عينيه اللتين أرخى جفنهما عليهما طويلا. بكت أمى وقالت للضابط جمال: مات ابنى عطشانا يا حضرة الضابط؟
قال الضابط لها بأسى: لو أن كلامى سيزيد من أحزانك يا أمى أتوقف ولا أكمل.
قال الأستاذ: ألم نقل يا أم أحمد إنك قدمت بطلا تفاخر به الشهاوية كلها, بل مصر بأكملها؟
- اعذروا قلب الأم. أتألم، لكنى أشتاق أن أعرف كيف قدم ابنى روحه شهيدا, كيف سالت دماؤه الطاهرة على أرض وطنه.
- فى طريق عودتهم لاحظوا ثلاث دبابات للعدو اشتبك معها أحمد بالسلاح الأبيض، وهاجم بقيةُ زملائه الخمسةَ الفارين منها بالأسلحة الرشاشة0 سقط فى هذه العملية على أيديهم من جنود العدو ثلاثة وعشرون قتيلا. فزعت قيادتهم، فأرسلت تعزيزات قوامها مائة من الجنود، وأرسلت فوقهم طائرات لتحميهم. طالب قائد الطيران من قائد الموقع الاستسلام، فرفضوا جميعا الاستسلام مع كون المعركة غير متكافئة. أصابت البطل أحمد رصاصة فى فكه.
صرخت أمى وقالت: ابنى! ابنى!
- ابنك بطل يا أمى، لم تثنه الرصاصة فى فكه عن إكمال مهاجمته، والدفاع عن موقعه, أمسك فكه وظل يقاتل حتى تسلل جندى اسرائيلى خلفه فأطلق عليه رصاصة من الخلف فسقط شهيدا, وسقطت المجموعة واحدا تلو الآخر, أما قائدها فتسلل جندى إسرائيلى خلفه وأفرغ فيه خزانة كاملة من الرصاصات فاسْتُشْهِد على الفور, حتى انْتَهَوْا جميعا.
أخرج الضابط متعلقات أخى من حقيبة كانت معه: خاتم خطوبته الفضى وقد حفر عليه اسم خطيبته منال, ومصحفه الذى ناولته إياه أمى عند خروجه لآخر مرة من البيت. قال لها الضابط: كان المصحف فى جيبه عند استشهاده وعليه دماؤه الطاهرة. كانت أمى تقبل المصحف وتشم رائحة دم أخى الزكية, وتبكى. تناوله أبى ففعل مثلها. كلنا قَبّلنا المصحف وشممناه. ظل هذا المصحف فوق وسادة أمى لا تغير موضعه أبدا" (ص155- 160).
يا لبراعة الكاتبة فى وصف الجو والتغلغل إلى أطواء نفوس الحاضرين: الأم والأب والأستاذ والضابط! يا لمهارتها المبدعة فى نقل الحوار الذى دار بينهم، والانفعالات التى كانت تصاحب كلام كل منهم، والآهات وانكسار القلوب جراء موت أحمد، ومحاولة استمساك الأم والأب. لقد أدت الكاتبة كل هذا على نحو رائع كدت بسببه مرة أخرى أن يغلبنى دمعى وأنا أنقل الفقرات الماضية، ثم كدت مرة ثالثة أن يغلبنى دمعى وأنا أعلق على تلك الفقرات. لقد ذكرتْنى بوصف نجيب محفوظ لموت فهمى فى إحدى المظاهرات ضد الإنجليز أثناء ثورة 1919م فى روايته: "بين القصرين". الواقع أن الكاتبة قد بلغت فى هذا الفصل مرتقى صعبا لم أكن أتوقعه وأنا أفتح الرواية لأعرف ماذا كتبت مؤلفتها فيها وإلى أى حد بلغت قدرتها على كتابة الروايات. صحيح أنها قد برعت فى الرواية كلها، لكن هذا المشهد قد ارتفع فوق كل الفصول الأخرى بنجاحه فوق العادى فى التصوير والتسجيل والتعبير رغم انضباط أسلوب الكاتبة فلا صراخ ولا ولولة ولا لطم ولا شق هدوم ولا غلو فى التعبير عن الحزن الممض بل كل ما قالته الأم إنها ارتدت الملابس البيضاء لأن ابنها الشهيد كان خاطبا ومقبلا على البناء بعروسه فى أول فرصة، وكانت تصلى وتحاول التماسك، بيد أن كلمة "يا قلب أمك"، التى عقبت بها على كلام الضابط عن ابنها كان لها وقع الزلزال على نفسى.
ولقد تذكرت أيضا وأنا أقرأ ما قالته ساردة الرواية عن لقاء الضابط بأهل الشهيد، مقال المازنى عن ابنته الصغيرة التى ماتت فى عمر الورد إبان تفتحه على الغصن الندى فى بكرة الصباح، فلم يصنع كاتبنا الكبير شيئا سوى تسجيل بعض ذكرياتها معه، ثم لَطْمَته لنا وهو يشير فجأة إلى أنها قد فارقت عالمنا ثم لا شىء آخر، ومع هذا فما من مرة قرأت هذا المقال إلا بكيت.
لكنى مع ذلك أستغرب كيف أدت الساردة عملها فى رواية الأحداث وتسجيل الكلام دون أن تصدر عنها آهة أو تمر بها ولو غمامة ألم. ذلك أن الشهيد هو أخوها، وإذا كان واحد مثلى قد أوشكت دموعه أن تغلبه، وهو يقرأ ما حدث بعد وقوعه بعقود طوال، فكيف، وهى أخت الشهيد، وفى قلب الحدث بسخونته بل بناره وشواظها العنيف، قد سجلت ووصفت وصورت كل شىء بحيادية وهدوء وكأننا فى تجربة علمية باردة نجريها فى المعمل؟ كذلك آخذ على الكاتبة وصفها للاشتباك الذى وقع بين أحمد ورفاقه من جهة وبين الجنود الصهاينة من جهة أخرى دون أن يكون هناك من رأى أو سمع، إذ إن مجموعة الجنود المصريين قد ماتت كلها عن آخرها، فمن روى إذن للقيادة العامة ما وقع لهم مع العدو والطريقة التى مات بها كل منهم؟ إن ورد عزام ليست راوية عليمة، ومن ثم كان عليها أن تحكى ما وقع من أحداث ودار من حوار فى غير حضورها من خلال من كان حاضرا من أشخاص الرواية لِمَا وقع. قد يقال إنها اعتمدتْ هنا على ما قاله الضابط عن استشهاد أخيها ورفاقه،. بيد أن الضابط لم يكن هو أيضا حاضرا وقتَ استُشْهِدوا، وعلى هذا فقد اعتمدت ورد، التى لاتعرف عن ذلك الاستشهاد شيئا، على شخص لا يعرف بدوره عن ذلك الاستشهاد أى شىء. بل إن القيادة العليا نفسها ليس لديها أية معرفة بالطريقة التى استشهد بها كل واحد من أفراد فرقة الجنود المصريين ولا ما أنزلوه بالعدو من إصابات قاتلة. وقد أخذت مثل هذا العيب على محمد كمال محمد فى مقال منشور بصحيفة "الوفد" عن روايته: "الحب فى أرض ا لشوك"، إذ أسند الكاتب مهمة السرد إلى بطل الرواية، التى انتهت بمقتله، فكيف وصلنا نحن القراء هذا السرد، وهو لم يتركه مكتوبا بحيث يمكن القول بأنهم ينقلون هذا السرد المكتوب، وبالذات ما فعله وقاله فيما بينه وبين نفسه قبيل مقتله مباشرة؟ بل لقد أخذت فى المقال المذكور مثل هذا العيب على الأديب الفرنسى جورج دوهاميل، إن لم تلعب بى الذاكرة الخئون، فى إحدى رواياته، ولعلها "اعترافات منتصف الليل".
فهذا مأخذ فنى واضح، وإن كانت روعة وصف الكاتبة للقاء الضابط بأسرة أحمد وما دار بينه وبينهم من حوار قد خففت من هذا العيب كثيرا. لقد أدت الكاتبة هذا الوصف بيدٍ صَنَاعٍ تعمل حسابا لكل كلمة وكل همسة وكل خلجة وكل حركة. وقد تقمصتْ تقمصا عجيبا شخصية كل واحد من الحاضرين: الضابط والأم والأب والأستاذ، فكانت تضع على لسان كل منهم الكلام الذى لا يمكن ان يصدر عنه سواه فى ذلك الموقف، وتجعل كلا منهم يسلك السلوك الذى لا يمكن تخيل وقوع سواه منه فى تلك الظروف. إنها طباخة روائية رائعة، وقد نجحت نجاحا كبيرا رغم العيوب اللغوية والفنية الخاصة بزوايا رؤية الساردة.
لقد أسندت الكاتبة سرد أحداث القصة ووصف الأماكن والبيئة عموما ورسم الشخصيات وإدارة الحوار بين تلك الشخصيات إلى ورد عزام، التى يحس القارئ أن المؤلفة تحتفى بها احتفاء خاصا وتقدمها لنا من خلال كلام ورد ذاتها فى صورة جميلة ليس فيها أى شىء يمكن أن تعاب به. وقد سألتُ السيدةَ صاحبةَ العمل: هل ورد تمثلها فى الرواية، فكان ردها بالإيجاب. وهو ما توقعتُه بل وضعت السؤال وضعا من أجل أن أسمع هذا الرد.
ورغم أن الساردة قد نجحت نجاحا كبيرا فى تغطية وقائع الرواية ونقل الحوارات ووصف الأشياء والأشخاص والأماكن والتدسس خلال النفوس، وهو ما يحسب بطبيعة الحال للمؤلفة المبدعة، فالملاحظ أن ورد ظلت تسرد كل شىء وكأنها كانت حاضرة دوما فى كل مكان ومصاحبة للجماعات والأفراد فى كل مكان يكونون فيه أو يسافرون إليه وملمة بكل كلمة تقال أو خاطر يمر بالضمير أو نبأة تنبت فى الصدر مع أن الإنسان منا لا يمكن أن يعرف كل ما يحدث حوله أو يقال معرفة مباشرة. ومن ثم يلجا كثير من القصاصين إلى الراوى العليم بكل شىء، وهو بطبيعة الحال راو مفترض وليس له وجود فى عالم الواقع، إذ الله سبحانه هو وحده العليم المحيط العلم إحاطة مطلقة فيرى كل شىء ويسمع كل شىء ويتم تسجيل كل شىء نصنعه أو نتلفظ به فى كتاب عنده جل جلاله.
وعلى هذا فلست أفهم كيف أمكن ورد عزام، وبخاصة فى مرحلة الطفولة، أن تنقل لنا ما جرى مثلا بين لجنة جمع التبرعات الخاصة ببناء المسجد الكبير فى القرية وبين كبار رجال القرية الذين هاجروا منها إلى العيش فى القاهرة حيث يشتغلون هناك أطباء وتجارا ورجال أعمال ما دامت لم تصاحب تلك اللجنة. بل لقد نقلت لنا ثرثرات السائق أمين، الذى كان ينقل أفرادها بسيارته إلى العاصمة ويعيدهم منها آخر النهار، وهى لم تكن معهم، ومن ثم لم تر شيئا من ذلك أو تسمع ما قيل. لقد كان باستطاعتها فى مثل تلك الحال أن تعزو معرفتها بما حدث بعيدا عنها إلى أن الأستاذ مثلا قد حكى لها ذلك. لكنها لم تفعل، وظلت تسرد الأحداث وتسجل الحوارات وتصف الأشياء والأماكن على نحو مباشر شأن من كان موجودا فى كل مكان ويسمع ويرى كل شىء بتفصيلاته ودقائقه.
بل لقد كانت، بالإضافة إلى هذا، تستعمل ألفاظا لا يمكن مَنْ كان فى عمرها وظروفها أن تعرفها ككلمة "الجُعْل"، التى وقفتُ عندها قبلا، فهى كلمة لا يعرف معناها إلا من قرأوا كتب الفقه حيث يخصص الفقهاء قسما للحديث عن "الجعَالة"، أما من كان فى مثل ظروفها ووضعها فليس يعرف إلا كلمة "الأجرة" أو ما شابه. أقول هذا لتمرسى بتلك الموضوعات إذ انتقلت من الكتاب إلى المعهد الدينى الأزهرى فى طنطا، أو إن أردنا الدقة: انتقلت من الدار للنار خبط لزق، ودرسنا الفقه الإسلامى طوال المرحلة الإعدادية، ومنه باب "المعاملات"، التى ينتمى إليها مصطلحات "الجعل" و"الجعالة". ولولا ذلك ما عرفت معنى الكلمتين ولا استعرضت هنا معرفتى بهما كمُحْدَث النعمة.
وهذا ما كتبه مثلا السيد سابق فى كتابه الشهير: "فقه السنة" حتى يفهم القارئ العلة فى إنكارى على ورد، رغم استظرافى لها وإعجابى بذكائها وخفة ظلها وحب الناس لها، معرفتها لمثل تلك الموضوعات ومصطلحاتها الفقهية. قال الشيخ السيد سابق تحت عنوان "الجعالة": "الجعالة عقد على منفعة يُظَنّ حصولها كمن يلتزم بجُعْلٍ معين لمن يردّ عليه متاعه الضائع أو دابته الشاردة أو يبنى له هذا الحائط أو يحفر له هذه البئر حتى يصل إلى الماء أو يحفّظ ابنه القرآن أو يعالج المريض حتى يبرأ أو يفوز فى مسابقة كذا... إلخ. والأصل فى مشروعيتها قول الله سبحانه: "ولِمَنْ جاء به حِمْلُ بعير، وأنا به زعيم"، ولان الرسول، صلى الله عليه وسلم، أجاز أخذ الجعل على الرُّقْيَة بأم القرآن كما تقدم فى باب "الإجارة". وقد أجيزت للضرورة، ولهذا جاز فيها من الجهالة ما لم يَجُزْ فى غيرها، فإنه يجوز أن يكون العمل مجهولا. ولا يشترط فى عقد الجعالة حضور المتعاقدين كغيره من العقود لقول الله تعالى: "ولمن جاء به حمل بعير".
والجعالة عقد من العقود الجائزة التى يجوز لاحد المتعاقدين فسخه. ومن حق المجعول له أن يفسخه قبل الشروع فى العمل. كما أن له أن يفسخه بعد الشروع إذا رضى بإسقاط حقه. أما الجاعل فليس له أن يفسخه إذا شرع المجعول له فى العمل. وقد منعها بعض الفقهاء، منهم ابن حزم. قال فى "المُحَلَّى": "لا يجوز الحكم بالجعْل على أحد. فمن قال لآخر: إن جئتَنى بعبدى الآبق فلك على دينار، أو قال: إن فعلتَ كذا وكذا فلك درهم، أو ما أشبه ذلك، فجاءه بذلك، أو هتف وأشهد على نفسه: من جاءنى بكذا فله كذا، فجاءه به، لم يُقْضَ عليه بشىء، ويُسْتَحَبّ لو وفى بوعده. وكذلك من جاء بآبق فلا يُقْضَى له بشئ، سواء عُرِف بالمجىء بالأُبَّاق أو لم يُعْرَف بذلك، إلا أن يستأجره على طلبه مدة معروفة أو ليأتيه به من مكان معروف، فيجب له ما استأجره به. وأوجب قومٌ الجعْل وألزموه الجاعلَ، واحتجوا بقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا، أَوْفُوا بالعقود"، وبقول يوسف عليه السلام: "قالوا: نفقد صُوَاع المَلِكِ. ولمن جاء به حِمْلُ بعيرٍ، وأنا به زعيم"، وبحديث الذى رَقَى على قطيع من الغنم. انتهى".
والرواية مليئة بالشخصيات من كل صنف ولون، وبالوقائع من كل جنس وشكل، سواء كان استذكارا أو انتقالا من مرحلة تعليمية إلى أخرى أو خِطْبة أو زواجا أو زيارة أو إعداد طعام أو عتابا بين زوجين أو عداوة بين قريبين أو جمع مال من أجل بناء الجامع الكبير بالقرية أو زفة تقام ابتهاجا بوضع الهلال على قمة مئذنة هذا الجامع أو رحلة مدرسية أو أو أو، والمؤلفة فى كل ذلك تقبض على خيوط الأحداث وتصوير الشخصيات وإجراء الحوارات بينها على نحو قوى وفى واقعية مقنعة ليس فيها ما ينفّر أو يبعث على ا لغثيان، إذ لم تلجأ إلى ما يلجأ إليها كثيرات من أمثالها من افتعال الكلام فى الجنس والشذوذ الجنسى واتهام الإسلام والمسلمين بالإرهاب وغير ذلك من القضايا التى يغرم الغرب بقراءتها فى رواياتنا ويشجع الكاتبين والكاتبات المنتمين إلى الإسلام على إثارتها فى قصصهم كهضم حقوق المرأة وما يسمى بـ"الإرهاب الإسلامى" والاعتداء على الأقليات رغم أن الأقليات فى بلادنا يعيشون حياتهم بالطول والعرض وفى أمان تام، بل يشعر المسلمون أنهم لا يتمتعون بنصف ما تتمتع به تلك الأقليات.
ولكى يدرك القارئ أبعاد ما تقوله الفقرة السابقة أذكر له أن روائيا مصريا معروفا سجل فى رواية مشهورة له ممارسة للجنس بين امرأة قرّادة والقرد الذى تسرح به وتأكل من ورائه عيشا، وأن إحدى الكاتبات المصريات وصفت فى رواية لها عملية جنسية بين امراة مصرية وحمار كانت قد هيجته وأثارت شهوته، وأن كاتبا مصريا، فى رواية له تجرى وقائعها فى أمريكا، وبطلتها فتاة مصرية منتقبة ومن أسرة محافظة، لكنه جعلها تزلّ وتمارس الزنا، قد خصص صفحات طوالا لاستعمال إحدى آلات الجنس وكيف تعمل عملها من إثارة الشهوة العارمة حتى الإفراز وما يترتب على ذلك من آثار جانبية كالتبول، وأن كاتبة سورية تعيش فى أوربا تناولت بالتفصيل وبالألفاظ العارية ما يفعله عشيقها الفيلسوف معها كلما أتى من الخارج مشتاقا وكيف يكون أول ما يصنع هو أن يمد يده إلى عضوها ويبل إصبعه من إفرازه ويضحكان وغير ذلك من هذه التصرفات، وأن فتاة عربية تصف ما يفعله معها زوجها مصورة ذلك بأنه انتهاك لها ولحساسيتها مع أن زوجها لم يأت أمرا إدا بل تعامل معها بما يتعامل به أى زوج مع زوجته وعلى نحو جد طبيعى، وإلا فلم كان الزواج أصلا، وأن كاتبة عراقية تتناول فى رواية لها مشاهدة بطلتها المسلمة لأمها البريطانية وهى تخون أباها العراقى مع عشيق شاب من نفس بلدها، ثم تزيد على ذلك فتصف اقترافها للزنا مع شاب من غير دينها دون أن تشعر بشىء من تأنيب الضمير البتة ورغم أن الشاب لم يكن وفيا لها ولم يكن هناك ما يدعوها بقوة إلى ذلك الزنا، وأن مؤلفة لبنانية خصصت رواية كاملة للدعوة إلى السحاق رغم أن بطلتها السحاقية التى تتغزل فى روعة السحاق وجماله متزوجة، ومع هذا كانت تدعو صديقتها لممارسة السحاق معها فى بيتها. ورأينا القصاص السورى الشيوعى حيدر حيدر يضع نصب عينيه فى روايته: "وليمة لأعشاب البحر" تأليب الفتاة العربية المسلمة على الدين والأخلاق الكريمة بخداع أهلها والبقاء بالبيت حين يذهبون لزيارة بعض أقاربهم ودعوة عشيقها الماركسى إلى منزلهم وقضاء الليل فى أحضانه يمارسان الخنا بلا أى شعور بالعار أو الخجل أو الخوف مما يمكن أن يترتب على ذلك من حمل وفضائح تعمد الكاتب الملحد تجاهل الكلام عنه وهَوَّل بالمقابل فى وصف عظمة التحرر الذى تأتيه الفتاة المنحرفة وريادتها لمثيلاتها من الفتيات العربيات المسلمات فى ذلك التحرر العظيم.
ورأينا كاتبا أزهرى الأصل ينشىء رواية تدور على شاب متعلم ريفى ذهب إلى فرنسا وتزوج من فرنسية بيضاء رقيقة وراقية، ثم جاء إلى مصر، فكانت الكارثة، إذ صممت أمه وخططت لختان العروس بالقوة والغدر واستخدمت فى ذلك هى ومن رافأها على خطتها من العجائز أمثالها مُوسَى صدئةً ملوثةً، ولأن الأم ومن عاونَّها فى هذا الجهاد الربانى جاهلات حاقدات فقد أصيبت الفرنسية البيضاء الملائكية على يد السعالى القبيحات المسلمات بنزيف وتلوث أدى إلى موتها شهيدة التخلف والجهل. وتجاهل هذا الكذاب المدلس أن هذا لا يحدث ولا يمكن أن يحدث، وأن الناس فى بلادنا، وبخاصة النساء، ينظرون إلى الأوربيات على أنهن من عالم آخر ومن أفق سامق راق لا يصح أن يرفعوا وجوههم نحوه إلا بكل رهبة وإحلال.
وهناك كاتبة وطبيبة بانجلاديشية أصدرت قبل عدة عقود رواية اسمها "العار" تتهم فيها البنجلاديشيين المسلمين بأنهم يعتدون على المعابد الهندوسية فى بلادهم ويغتصبون الهندوسيات المسكينات اللاتى لا حول لهن ولا طول ويعشن هن وأسرهن عيشة كلها وداعة واستقامة، ويحيلون حياتهن إلى جحيم ويتسببون فى سقوط آباء الهندوسيات المعتدى عليهن بسكتة دماغية جراء الحزن والشعور بالهوان والعجز والقهر. وتجاهلت هذه المفترية اعتداءات الهندوس فى الهند وجامو وكشمير الممنهجة على المسلمين والمسلمات تحت سمع وبصر الحكومات الهندية وبعلم العالم كله، فضلا عن أننا لم نسمع بأن المسلمين فى بنجلاديش أو غيرها يغتصبون نساء الأديان الأخرى. بل إن ذلك العمل لم نسمع به فى تاريخ الإسلام. وكانت مكافاة الغرب لتلك الكيذبانة الملتاثة هى استقبالها فى بلاده استقبال العباقرة الفاتحين. لقد شوهت المسلمين ودينهم، وهذا يكفى.
وكثير من هؤلاء الكتاب ينحون هذا المنحى فى قصصهم كى يلفتوا إليهم نظر الأوربيين والأمريكان فيشيدوا بهم ويعطوهم الجوائز ويضفوا عليهم الألقاب ويُلَمِّعوهم ويدعوهم إلى ما يعقدون من ندوات ضد الإسلام والأخلاق النظيفة فيسافروا إلى هناك ويقيموا بالفندق مجانا، ولا مانع من بعض المال لزوم الشبرقة والصرمحة فى أوربا، والدفاع عنهم إذا ما مسهم ماسٌّ فى بلادهم حتى لو كان المساس لجرم ارتكبوه، إذ يصدر الأمر فى الحال فتتصايح الجامعات والمؤسسات السياسية والثقافية والأذرع الإعلامية فى الغرب منادية بعدم المساس بننوس عين أمه الرءوم: أوربا. وهؤلاء الكتاب المنتمون إلينا لا يهمهم دين ولا طهارة ولا نبل ولا استقامة بل كل همهم هو أن يأكلوا ويشربوا ويلبسوا ويسكنوا على نحو أفضل مما كانوا يأكلون ويشربون ويلبسون ويسكنون، وأن يتوفر المال فى أيديهم، وهو ما يتكفل الغرب به.
وفلسفة الغرب فى ذلك كله هو أنه لا إله، وما دام لا يوجد إله فكل شىء مباح، وجسد كل إنسان هو ملك خاص به يحل له أن يصنع به وفيه ما يشاء. وثم عرب ومسلمون غير قليلين يلحدون على إلحاد الغربيين، ويلوطون وتُسَاحِق نساؤهم على لواطة الغربيين ومساحقة المساحقات منهم، ولا مانع عندهم من مضاجعة الحيوانات ما دام الغربيون يضاجعونها، بل هم على استعداد لمواقعة محارمهم ما دام هذا يعجب الغربيين.
ذلك أنهم يعتقدون أن الغرب ما دام أقوى منا وأسبق فى ميادين العلم والصناعة والنظام ومستوى المعيشة فكل ما ينتهجه من أساليب العيش والمعايير الخلقية هو الصواب، ويجب على الضعفاء المتخلفين من أمثالنا أن يخرّوا على ذلك عميا وصما وبكما ولا يفتحوا فاهم بنأمة اعتراض مع أنه لا صلة بين الأمرين. ونحن لا نشاح فى تقدم الغربيين علينا وتفوقهم فى ميدان العمل والإنتاج والإتقان والحرية السياسية والإبداع والابتكار، لكننا لا نسلم بأن كل ما يعتقدون فيه أو ينتهجونه من أخلاق، وبخاصة فى ميدان الجنس، هو بالضرورة المعتقد المستقيم والمنهج السليم. نعم هم فى الغالب عند كلمتهم، وهم يحبون النظافة والنظام، وينتحون التعاون، لكن كل ذلك لا يتخطى حدود دولهم وغير قابل للتصدير، كما أن تفلُّتهم وشذوذهم الجنسى مرفوض عندنا، فنحن نؤمن بالله ولا نكفر به ونعمل على التمسك بما خطه لنا الإسلام من قيم ومبادئ، وإن كنا بوجه عام فى المرحلة الأخيرة من تاريخنا نهتم بالشكليات والهامشيات ظنا منا أن هذا هو الدين وأننا بذلك نطيع ربنا ونفوز برضوانه والأجر الذى ادخره سبحانه للمؤمنين الذين يعملون الصالحات. ونحن نؤمن أن الغرب، بانتهاجه سبيل الإلحاد والانفلات الجنسى والتعصب المهووس للون الأبيض وسرقة الشعوب بكل سبيل وانحيازه لحكام دول العالم الثالث المستبدين الطغاة ووقوفه معهم لتثبيت عروشهم لقاء عملهم على إبقاء شعوبهم مخدرين متبلدين لا يعرفون من الدين سوى قشوره كيلا يستيقظوا من رقدة العدم التى هم فيها فيناطحوا الغرب ويوقفوه عند حده بل وقد يعيدون فتح بلاده كرة أخرى، إنما يحفر قبره بيديه، وإن كان هذا يستغرق وقتا، علاوة على أننا ينبغى أن نكون مستعدين لتسلُّم راية التحضر والرقى والقوة بعد تفككه وانهياره، وهو ما لم تظهر بشائره حتى الآن للأسف. فنحن، بوضعنا الحالى، نشبه أن نكون خارج التاريخ والصلاحية الحضارية.
وفى هذا السياق نحب أن نذكر للمؤلفة أنها لم تَنْسَقْ وراء الاتجاه المنحرف الذى تتغيا فيه القصاصات ذوات الخلفية المسلمة على نحوٍ فِجٍّ الهجوم على جنس الرجال فتفتعل المشاكل بين الزوج والزوجة وتصور الرجل شيطانا مريدا يقهر المرأة ويظلمها وينزل بها المصائب تلو المصائب. وهى لُوثَةٌ أصابت طائفة من الكاتبات العربيات المسلمات فى العقود الأخيرة، فهن يعرفن أن هذا يعجب الغربيين وعليهن المضى فيه إن أردن لكتاباتهن أن تجد سوقا رائجة وترحيبا واسعا وإشادة كبيرة وأن تفوز بالجوائز وتترجم إلى اللغات الأوربية وأن يقال عن الواحدة منهن إنها كاتبة عالمية. بل إن بين المتأثرات بهذا الاتجاه النسوى من تدعو أن يُسْتَخْدَم لله سبحانه ضمير المؤنث لا المذكر، ومن تتطلع إلى أن يكون لها، كما للرجال، عضو ذكورة. وهو خبل فى العقل والنفس والضمير، فهذا أمر شاءه الله ولا راد لمشيئته، أو إن سايرنا هؤلاء المخاليل: هذا أمر فرضته الطبيعة، وكما نعرف فالطبيعة عمياء بكماء صماء، ولن تسمع مما يقول أولئك المعوجات شيئا ولن تستجيب لهن بشىء.
والواقع أن هذا الكلام من قِبَل بعض هؤلاء النسوة المصابات بآفة فى العقل والنفس والضمير ليدل على شعور عنيف بالنقص، إذ الذكورة والأنوثة قَدَرٌ لا فَكَاك منه، ولكل من الجنسين سماته التى يتميز بها عن الجنس الآخر ويتكامل معه بها: فالرجل قوى خشن يتحمل المتاعب العنيفة، ويخوض المعارك ويَقْتُل ويُقْتَل وينهض بأعباء قيادة الأسرة، ويتفوق على المرأة فى كثير من ميادين العلم، ويقود الدول. صحيح أن هناك قائدات سياسيات من النساء، لكنه شذوذ القاعدة، علاوة على أن المرأة لا تستطيع أن تنهض بأعباء الحكم بمعونة النساء وحدهن بل بمعونة الرجال على العكس من القادة الرجال، حيث يكون كل الوزراء من الرجال، وقلما تكون المرأة فى حكوماتهم وزيرة، وهو أمر طارئ فى العقود الأخيرة. والمرأة تحمل وتلد، والعاطفة لديها أوضح وأسرع استثارة، ولديها مخزون من الصبر عجيب على تربية الأبناء. وهذا ما يقول به التاريخ كله كما نعرف التاريخ.
وفى الرواية نجد العلاقات بين الزوجين قائمة على التفاهم والشورى والمودة والتعاون، فحين يكون هناك مشروع خِطْبَة لإحدى الفتيات نُلْفِى الأم تُنْبِئ الأب بالموضوع، ويتشاوران حتى ينتهى الأمر إلى ما فيه الخير. ولم نقابل فى الرواية تحقيرا بأى حال من الرجال للنساء. حتى حادثة صفع الأستاذ لزوجته فى أول الزواج سرعان ما عولجت وتم الاعتذار وشَرَح الأستاذ السبب الذى دفعه إلى هذا إذ رأى أن تَرْكَ زوجته لزائر من أقاربه الكبار ينصرف دون أن تستبقيه للطعام حتى يعود هو من الخارج، وتكتفى بتقديم الشاى له، تقصيرا غير مفهوم وإساءة له شخصيا وخروجا على تقاليد الأسرة. ولم تترك الزوجة بيتها أو تهدد زوجها بالويل والثبور وعظائم الأمور أو تفكر فى هدم الأسرة كما تريد العقارب الفاشلات فى زواجهن تنفيسا عما يشعرن به من مرارة عن فشلهن بتحويل زواج الأخريات الناجح نارا لا ينطفئ لها أوار. وحين اعتذر لها الأستاذ وأفهمها أبعاد ما صنعت قدَّرتْ وفهمت ووعدت ألا تقع فى هذه الغلطة بعد ذلك أبدا.
وأنا لست مع الزوج فى صفع زوجته لهذا السبب، إذ هى قد قدمت للضيف ما ظنت معه أنها قد قامت من خلاله بالواجب تجاهه، وكان ينبغى أن يتفهم الزوج ذلك، لكنه لم يتمالك نفسه وأتى ما أتى، ثم سرعان ما تنبه لخطئه واعتذر عنه أشد اعتذار ووقفت أمه مع الزوجة ضده، ولم يصدر عنه بعد ذلك قط شىء من هذا. ليس ذلك فقط بل لم نلحظ ولو على سبيل الوهم أن الأُسَر المختلفة فى الرواية تفرق فى المعاملة بين الولد والبنت بل الكل مرحب به ومعدود نعمة من الله. وليس هناك تمييز ولا حتى فى التعليم، فالبنات يدخلن المدرسة والجامعة كما يفعل الأولاد بلا أية تفرقة تحت أى ظرف. ولم نر بنتا تتمرد على أنها أنثى ولا ولدا يحاول التقليل من شأن أية بنت. والفتيات لا يتزوجن كرها من أحد لا يردنه بل يؤخَذ رأيهن على نحو إنسانى جميل يُرَاعَى فيه حياؤهن ورقة مشاعرهن.
كذلك لا ينبغى نسيان اختيار المؤلفة لواحدة من الجنس اللطيف للقيام بمهمة سرد الرواية، علاوة على أنها قد جعلت الجميع يحبون ورد عزام ساردة الأحداث ويدللونها ويمتدحونها ويعملون كل ما من شأنه إدخال السرور والبهجة على قلبها. ومن ناحيتها كانت ورد عند حسن الظن بها، فكانت طيبة السلوك تحب الجميع وتقدرهم، وتعطى كل ذى حق حقه من الاهتمام والاحترام مما زادها غلاوة على غلاوة وحبب فيها أبطال الرواية أكثر وأكثر.
صحيح أن هناك من يمكن أن يقول: وماذا فى ضرب الزوجة من عيب حتى تعلن يا عم إبراهيم أنك ضد ما صنع الأستاذ؟ ألم يقل القرآن فى سورة "النساء": "واضربوهن"؟ لكن فات هؤلاء المعترضين أن القرآن لم يوجب الضرب ولا يمكن أن يوجبه، وإلا لما شدد الرسول فى النهى عن ضرب الزوجة وتقريع من يمد يده على امرأته دون وازع من عشرة وإنسانية ودون ضرورة ملزمة، بل الذى قاله القرآن هو أن الضرب آخر وسيلة لإصلاح المرأة النكدة التى تتمرد دائما على زوجها وتسىء إلى أهله فى الوقت الذى يقوم هو فيه بواجبه تماما تجاهها، أى بعد استنفاد الوعظ والهجر فى المضجع، وقبل أن يحال الأمر إلى اثنين من طرفيهما للتباحث فى القضية. وللرجل ألا يستعمل حقه فى تأديب زوجته المتمردة المغرمة بالتنكيد على عشيرها إذا أمكنه تحمل حماقتها وقلة مراعاتها لواجباتها الزوجية، وللزوجة الحق فى أن تخلعه رفضا لهذا اللون من التأديب.
وأخيرا وليس آخرا فإن نسوياتنا اللاتى لا يتكلمن ولا يكتبن من عقولهن، وإنما تبعا لما يمليه الغرب علينا، يتجاهلن أن كثيرا من الرجال الغربيين يضربون زوجاتهن، ويضربونهن ضربا مبرحا. وقد فرغت لِتَوِّى قبيل كتابة هذه الفقرة من قراءة خبر خلاف بين ممثلين غربيين مشهورين زوجين تقول الزوجة فيه إن زوجها صفعها وركلها وأهانها إهانات شديدة واتهمها فى عرضها أمام الآخرين. لكن المشكلة تكمن فى أننا لا نقف عند هذا الجانب من حياة الغربيين وكأنهم من عالم آخر لا يخضع لقوانين عالمنا وأوضاعه، ولا نفكر من ثم فى انتقادهم على ذلك. إنه موقف المغلوب الخائف الضعيف من الغالب القوى الشرس!
والسرد فى الرواية بسيط ومباشر فهو يبتدئ من أقدم واقعة ويظل يتقدم إلى الأمام دون تقدم أو تأخر أو قطع وانتقال إلى مكان آخر وشخصيات ووقائع أخرى وإدخال هذا فى ذاك، وذاك فى هذا دون سبب فنى مقنع، ولا تعقيد فيه ولا غموض كما صار بعض كتاب الرواية فى العقود الأخيرة يصنعون، إذ يتعمدون تحيير القارئ وتحدى عقله ببدء أعمالهم فى عَتَمَة بل فى ظلام دامس، فيذكرون الحوادث ومرتكبيها دون تعيين لشخص أو تحديد لمكان، ويظلون يكتبون على هذا النحو المحير قصدا وعمدا، وكأن القارئ عدو للكاتب، فهو يعمل على إزعاجه وإرهاق ذهنه، وهو ما لا يعرفه كتاب القصة الكبار كمحمد حسين هيكل والمازنى وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحار وعلى أحمد باكثير... إلخ. وكم من مرة أقبلت على رواية من هذا النوع لهذا الكاتب الشاب أو ذاك آملا أن أجد الفن والمتعة، فألفيتها تبدأ وكأننا فى قبو تحت الأرض تلفه أطباق الظلام ويستحيل فيه الكلام هينمة خفية لا نفهم منها شيئا، ونظل هكذا نعصر أمخاخنا إلى أن نقطع من الرواية فصلا أو فصلين، فعندئذ تشرع الظلمات المتكاثفة تنقشع قليلا قليلا ونبدأ نبصر طريقنا بعد عذاب.
ولا أستطيع أن أنسى ما قاسيته من تعب شديد الإرهاق وأنا أطالع، فور صدورها ووصول نسخة منها لى من لندن عن طريق أحد الأصدقاء، رواية "آيات شيطانية" للهندى المنتمى إلى الإسلام والمتمرد مع هذا عليه تمردا وقحا، إذ كان ظلام الغموض والتعمية المقصودة يلف كل شىء، ولم أستطع أن أعرف رأسى من رجلى إلا بعد أن قطعت شوطا غير صغير منها وبالاستعانة بتلخيص كل ما كنت أقرؤه، ولولا ذلك ما استطعت أن أكتب كتابى عنها بما أثرته فيه من قضايا فى اللغة والبنية القصصية والحوادث والشخصيات والحوارات والسرد وما إلى هذا.
كذلك لا يحس القارئ أبدا أن كاتبتنا قد افتعلت شيئا من الوقائع والحوارات ورسم الشخصيات أو اجتلبته اجتلابا أو كانت تتحين الفرصة لأخذ القارئ ناحية هذا الموضوع أو ذلك بل نشعر أن كل شىء فى الرواية ينبجس تلقائيا من نفسه، وفى الوقت المناسب والمكان المناسب. وهى تخالف فى ذلك مثلا رواية "سلمى الأسوانية" لعبد الوهاب الأسوانى، التى قرأتها فى أوائل سبعينات القرن المنصرم، فقد شعرت شعورا قويا أن الأسوانى قد كتب روايته وفى ذهنه أولا وأخيرا أن يصور العادات والتقاليد السائدة فى بيئته الصعيدية فى مسائل الخِطْبة والزواج ومراسمهما، فكان يوجه الأحداث والشخصيات عمدا إلى هذه الناحية. وأذكر أنى رغم سرورى بالرواية من حيث موضوعها، الذى كان جديدا علىَّ، لم أقتنع بالطريقة التى أورد المؤلف بها الحوادث وصوَّر الشخصيات وأدار بها الحوار، إذ بدت لى بقوة ساطعة أنها مصنوعة صنعا وليست طبيعية تلقائية.
لقد كانت كاتبتنا، حسبما استشففتُ من التلخيص الذى طلبتُ منها تزويدى به لروايتها، واعية بما صنعته فيها بما جعلها مرآة تعكس بنجاح كبير ما يقع فى بلدتها الشهاوية من حوادث وما يتمسك به الناس هناك من عادات وتقاليد، وبخاصة فى الخطبة والزواج والزيارات والوفاة، لكننا مع ذلك لا نشعر أن الرواية قد كتبت لهذه الغاية بل نشعر أنها قطعة من الحياة الطبيعية وأنها قد كتبت نفسها بنفسها، وما الكاتبة سوى وسيط كوسيط تحضير الروح الذى يجد نفسه مسوقا، كما يزعم المدلسون الكذابون أنصار تحضير الأرواح، إلى الكلام والكتابة دون إرادة منه.
وتظهر الواقعية المقنعة فى الرواية من أولها لآخرها، فالتصرفات التى يتصرفها شخوصها هى التصرفات التى يتصرفها أمثالهم فى حياتنا، وهو ما ينطبق على الكلام الذى يتبادلونه فيما بينهم. فها هو ذا الأستاذ العاقل المتزن المحب لزوجته والمحترم لأهلها ينسى هذا كله حين رأى أن زوجته لم تكرم كبير العائلة ولم تقدم له سوى الشاى ولم تلح عليه أن يبقى حتى يعود زوجها من الخارج ويتغدى معه، وصفعها. كما أنه، رغم حب الناس فى قريته والقرى التابعة لها، ووقوف أقاربه ومعارفه معه ضد ابن خالته، قد أحرز فى انتخابات المجلس المحلى أصواتا أقل مما أحرزه غريمه، وانتهى به الأمر إلى شعوره الحاد بالغضاضة والألم وإصابته بالأمراض دفعة واحدة بعد حياة كانت حتى ذلك الوقت خالية منها. وحين زارته فى بيته إحدى خالاته، وكانت تفضله على ابن خالته الوقح المشاكس المزعج وتقف معه وتعلن أخذها جانبه، نجدها تستأذنه هو ووالدته لزيارة أختها الأخرى أم المشاكس مراعاة لمشاعرها لأنها أم رغم معرفتها بحماقة ابنها وعدوانيته تجاه الاستاذ دون سبب مفهوم سوى الغيرة والحقد. وهذا تصرف من الخالة الزائرة واقعى تماما. وعندما ذهبت لجنة جمع التبرعات لبناء المسجد الكبير بالقرية إلى القاهرة لجمع المال اللازم من كبار رجال القرية الذين يعيشون بالقاهرة لم تقل الرواية إن جميع من قصدتهم اللجنة دفعوا ما طلب منهم من تبرعات بل قالت إن بعضهم استجاب، وفى نفس الوقت لم يدفع أحدهم رغم ثرائه واعتذر فى تنطع وكذب بما يعتذر به أمثاله بأن أشغاله صارت تخسر فى الفترة الأخيرة. وحين يخطب أحمد منال ابنة جيرانهم، التى كان يحبها وتحبه حبا شديدا، وتوقعنا وتمنينا لهما الزواج فى أقرب فرصة ليسعدا ونسعد معهما فإن الجيش يستدعيه لقضاء فترة التجنيد، ويموت فى الحرب شهيدا. وكان باستطاعة المؤلفة أن تنهى هذه الخطبة بزواج الحبيبين والعيش فى تبات ونبات وإنجابهما البنين والبنات. ولكن من الطبيعى فى معمعان الحروب أن يُسْتَشْهَد كثير من الجنود المشاركين فيها، فكان استشهاد أحمد المؤلم المبكى.
ولدينا كذلك زفة الهلال. فالمفترض أن يقتصر الكلام فى الرواية على الفرح الشامل الذى عم القرية أوانذاك، لكن الرواية تتوقف قليلا عند الشبان الذين كانوا يحملونه فى الزفة لأن وزنه كان ثقيلا عليهم وكان هذا باديا فى حركتهم وملامحهم. ذلك أنه سبق أن قرأنا فى الرواية، إبان اتفاق اللجنة الخاصة بجمع التبرعات مع أحد المسابك على صنع الهلال، أنها قد اشترطت على المسبك المذكور أن يكون الهلال مصبوبا صبا من النحاس الخالص، فجاءت الإشارة أثناء وصف الزفة إلى معاناة الشبان فى حَمْلِه متناغمةً مع ما سبق قوله عن صنعه من النحاس النقى.
ولعل الفصل الذى عنونته الكاتبة بـ"صانع الفرح" يعطى الذين لم يقرأوا الرواية فكرة عن تلك الموضوعات الجانبية التى نسجت منها المؤلفة جزءا كبيرا من قماشة روايتها، ويعرفنا مدى براعتها فى ا لسرد والوصف ورسم الشخصيات وإدارة الحوار، كل ذلك فى لغة متدفقة سلسة كالنهر الذى لا يعوق ماءه وتدفقه عائق من صخور أو سدود رغم أخطاء النحو والصرف التى عرضتُ لعدد غير قليل منها. وفى الفصل المذكور تتناول المؤلفة أكثر من موضوع وقضية وتأتى على ذكر عدد غير صغير من الأشخاص: الأستاذ والفقيه والمهندس والطالب والمدرسات والعمدة وشيخ البلد وربات البيوت وسقاطة المجتمع كرتيبة الهبلة وقدرية البطحجية وسعيدة بائعة الخضار وعايدة أم غريب التى تساعد فى طهى الأكل فى المناسبات الاجتماعية التى من هذا النوع مقابل أجر وطعام. والحق إنى لمستغرب أشد الاستغراب أن تعرف المؤلفة هذا الضرب الأخير من الشخصيات العجيبة وتصورها بهذه البراعة وتضع على ألسنتها ما يليق بها من لغة. وأنا أحمد الله وأشكره على أنها لم تَعْرِفْنى قبل كتابتها لتلك القصة، وإلا لجعلتنى شخصية من شخصياتها وصورتنى صورة تفضحنى وتلحق بى المعرة بين العرب أبد الدهر، كل هذا حتى ترعبنا فلا نفكر بوصفنا نقادا فى تخطئتها فى شىء ونُصَيِّر نقدنا كله مدحا وثناء وتهليلا. فاللهم حمدا وشكرا.
قالت: "بعد عام ونصف من وضع أول حجر فى بناء المسجد اليوم يُزَفُّ الهلال فى الشهاوية كلها, وكعادة الأستاذ فى تلك المناسبات القومية التى تمثل الشهاوية أن يقيم مائدة كبيرة يدعو إليها من وقفوا معه على إقامة المسجد, لجنة التبرعات المكونة من المحامى ضياء سعيد والمهندس شهاب حسين وشيخ البلد رمضان الحديدى والد أسماء زوج الأستاذ, فهو ليس ضيفا بالمعنى المعروف، ولكنه صاحب بيت. أيضا دعا حسن المنشاوى وابن أخيه سامح المنشاوي, فقد كانت وقفتهما فى كل مراحل بناء المسجد بارزة, وبالطبع سيحضر مقرئى القرآن: "الفُقَهَا". ولم ينس الأستاذ أن يدعو المعلمات المغتربات: سعاد وهدى وأحلام, وقد قَدِموا مبكرا لشغفهم بحضور هذا اليوم من أوله لرؤية الهلال وهو يُزَفّ.
لا تكون الوليمة قاصرة على من تتم دعوتهم، وإنما ينضم إليها كثيرون ممن لم يُدْعَوْا: رتيبة الهبلة، وقدرية البطحجية، والشيخ عادل، وسعيدة بائعة الخضار. أما عايدة أم غريب فهى واحدة ممن يأتون فى مثل هذه الولائم للمساعدة فى الطهي, وفى آخر اليوم تأخذ أجرها وأيضا طعام أولادها. لذا يكثر الطعام ليكفى ويزيد عن كل هؤلاء الحضور.
لم تشارك أمى فى الإعداد للوليمة مع أبلة أسماء هذه المرة بعدما كسرها استشهاد أخى أحمد, لكنها أرسلتنى لبيت الأستاذ حتى أكون تحت طلب أبلة أسماء فى أى شيء تحتاجه منى. كانت مهمتى هذه المرة أن أحمل مولودتها الجديدة إيمان لتتفرغ للطبخ وإعداد المائدة مع أزهار زوجة لطفى ياسين عم الأستاذ, وزوجة ابنها هدى. المعلمات الثلاث: سعاد وهدى وأحلام، فى صباح يوم الجمعة، كنَّ على الباب يَدْقُقْنَ الجرس, استقبلتهم أسماء بالترحاب, وكأنهن يعرفن المكان من زمن. دخلن غرفة عابد وماجد، التى خلت بعد سفرهما للدراسة فى الجامعة. بدلن ملابسهن, وخرجن للمطبخ يقفن أمام "مديرة الوليمة"، كما يسميها الأستاذ، أزهار زوجة عمِّه لطفى ياسين.
سألتها سعاد: يا خالتى أزهار، قَسِّمى المتبقى من الأعمال بيننا أنا وهدى وأحلام.
ضحكت وقالت: أنتن ضيفات عندنا. تجلسن معززات مكرمات ويأتيكن الطعام حتى مجلسكن.
أسماء وهى تحمل طبق مليئا بالبطاطس تقول: لا يا مراة عمى. هن أصحاب بيت، ولسن ضيفات.
وتوجهت إليهن بما فى يدها وقالت: هذا نصيبك يا سعاد، قَشِّرِى هذا. وأنتِ يا أحلام نصيبك طبق الثوم هذا.
ضحكت أحلام وقالت: كله إلا الثوم. اختارى لى عملا آخر. سيجعل رائحة يدى فظيعة لا أتحملها.
حملت أسماء أكثر من ثلاثة كيلو من الطماطم وقالت: هذا نصيبك. اعصرى هذه الطماطم فى تلك المصفاة يا سعاد. وتوجهت بعدهما لهدى بثلاث حزم من الملوخية الخضراء وقالت: قطفى هذه الأوراق لتكون سنتك خضراء يا ست هدى.
جَلَسْتُ بجوارهن أحمل إيمان الرضيعة, أهدهدها كلما بكت كيلا تشغل أمها عن متابعة كل ما يدور فى المنزل, وحولنا مازن يلعب بدراجته الصغيرة, ورحاب ورُسُل صديقتاى يدخلن ويخرجن فى شراء طلبات لزوم المطبخ. سمعت حوار المدرسات وهن يضحكن على حضرة الناظر عوض صيام, الذى رتب مع أخيه زيارة مفاجئة لمشاهدتهن ليختار منهن عروسا له.
قالت سعاد: عندما دخل مع أخيه الفصل، وكنت أشرح ساعتها فى قاعدة "كان وأخواتها", قال لى: أهلا بالأستاذة سعاد وأخواتها. ونظر إلى أخيه فتحي, وظل يدور ويلف فى الحوارات حتى يلفت انتباهى له, لكنى لم أُعِرْ فتحى هذا أى اهتمام.
قالت هدى: نعم, ودخل به الفصل عندى أيضا. عرفت أنه أخوه. لهما نفس الأنف المفرطح, وذات العينين الضيقتين, أخبرنى أنه يعمل نجارا فى مصنع الخشب المضغوط باللوزية. شعرت فورا أنه عريس منتظر.
قالت سعاد ساخرة: كيف عرفتِ أنه عريس يا قُطّة؟! لصق على جبهته ملصقا كتب عليه "أنا العريس"؟ وضحكتْ, فتبسمتُ أنا وواريتُ وجهى عنهن.
قالت هدى: من نظراته الطويلة إليَّ, ومن تلميحات حضرة الناظر وهو يقول لى: فتحى أخى يود زيارة المنصورة قريبا. فقال هو بسماجة غريبة: المنصورة الله على جمالها وجمال بناتها. صحيح يا أستاذة، كما يقولون، أحلى بنات بنات المنصورة!
قلت له: يشرّف. ثم شعرت أنه قد يفهم من ردى أنى مرحبة فقلت له: بلدى الحبيبة جعل الله حظى ونصيبى فيها.
كنت أحب أن أستمع إلى أبله هدى وهى تتكلم، فقد كانت قادرة على خلق الطرفة فى الحال. تقولها دون أن تضحك. حكت عما حدث معها حين دخل عليها الفصل، ولم يُعَرِّفْه لها حضرة الناظر بأنه أخوه.
قالت: أشار إلى لأقف فى ركن من الفصل حتى يكلمنى، ثم همس لى الأستاذ عوض وقال: معك المعلم فتحى نجار لا مثيل له. يده تُلَفُّ فى الحرير. فضحكتُ جدا, فدُهش الرجلان من ضحكي, وعبسا فى وجهى وقال لى حضرة الناظر: ما هذا يا أبلة هدى؟ هل قلتُ ما يضحك؟
- أبدا يا حضرة الناظر, لكنى عندما وجدته يدخل الفصل مع حضرتك حسبته الموجِّه. ثم وجهتُ كلامى لفتحى وسألته: يريد خطيبى أن يختار حجرة نوم جيدة. الحمد لله! ضمنت الآن أن يصنعها لنا نجار ممتاز.
نظر فتحى لأخيه نظرة فهمتها أنا. التفت إلى حضرة الناظر قائلا: لكنكِ لا تلبسين خاتم الخطوبة. ظننتك غير مخطوبة.
- نَسِيتُه فى بيتنا فى المنصورة.
قالت سعاد وهى تضحك: طيب جدا حضرة الناظر عوض. يظن أننا سنقبل عريسا جاءت به الخاطبة. مازال يعيش فى الخمسينيات. نحن الآن فى منتصف السبعينيات. لن تتزوج فتاة متعلمة بتلك الطريقة المتخلفة.
ضحكت أبله هدى وقالت لى: يا ورد، اصبرى. فقط أُنْهِى تقطيف أوراق الملوخية وأنزل على خدودك الحمراء هذه بالتقبيل حتى أهلكك تقبيلا. صدق من أسماك: ورد. تُذكِّريننى بأختى الصغيرة زيزي, تشبهينها كثيرا.
ضحكتُ لها واستحييت أن أرد, ثم فجأة سمعنا جلبة هائلة تأتى من الشارع. خرجت أبلة أسماء من المطبخ مهرولة، وحملت مِنِّى ابنتها إيمان وقالت: قومى يا ورد لتشهدى زفة الهلال. هيا جميعا نقف خلف الشكمة نتفرج. وقفت المعلمات وخالتى أزهار وهدى زوجة ابنها حامد, وتركت عايدة أم غريب غسيل الأواني, وهرولن جميعا إلى الشكمة. وقفن خلف فتحاتها، ليشهدن كل رجال الشهاوية وشبابها وهم يزفون الهلال، وينشدون الأهازيج والتواشيح, يتقدمهم الأستاذ، ومعه لجنة جمع التبرعات، والمهتمين بالعمل فى المسجد، من بذلوا من وقتهم وجهدهم حتى انتهى العمل فيه. خرجت أنا للشارع, فلم تقنعنى الشكمة لمشاهدة تلك الزفة الجميلة. كان الشارع ممتلئا بالناس. رأيت فيه "الفقها" ينشدون تواشيحَ كنت أسمعها فى إذاعة القرآن الكريم, وأطفال البلد يجرون خلفهم ويضحكون ويتقافزون. رحاب ورُسُل وقفتا إلى جواري, ظلتا تقفزان وتشيران إلى الهلال، وتصرخان وتناديان على أبيهما فى الزفة، فقد لمحتاه, لكنه لم يسمعهما. رآنى أبى، وكان يقف فى محله يشاهد الزفة، فنادى على، فأسرعتُ إليه. رفعنى فوق المنضدة التى يقص عليها القماش للزبائن, ووقف خلفى يشاهد بعدما وقفت الزفة أمام بيت الأستاذ الملاصق لنا, وظللت واقفة حتى شبعنا من المشاهدة, ثم مر الهلال من أمامى: نحاس أصفر كالذهب. صمم الأستاذ أن يكون كله من النحاس الأصفر ويكون الهلال مصبوبا. اتفقت لجنة التبرعات مع ورشة فى المنصورة لصناعة الأهلة, وقال المهندس شهاب لصاحب الورشة بحزم: لو لم يكن مصبوبا لا يلزمنا. بلدنا لا تقتنع إلا بالصناعة الجيدة. الشهاوية بلد لا يعجبها العجب.
قال الأستاذ وهو يمسك بهلالٍ عَرَضه صاحبُ الورشة لمن يريد أن يتعرف على جودة الصناعة فيها: يا شهاب، أنا قلت له قبلك لو لم يكن مثل هذا لا يلزمنا.
حُمِل الهلال بواسطة أربعة شباب عمالقة. رأيتهم يتململون تحته. كان طويلا جدا, وكانت قمرته مخروطة كهلال السماء، لكنه يختلف عنه، فهو فضى بينما قمرة هلالنا ذهبية. وقفت نساء شارعنا يشرن إلى الهلال بأيديهن ويضحكن. حتى أمى رأيتها خلف شيش النافذة تتابع الزفة. سمعت الزغاريد تأتى من خلف الشكمة.
كان الأستاذ صانعا للفرحة كعادته. فى هذا اليوم أدخل السعادة إلى قلوب أهل الشهاوية. كعادته فى جعل المناسبات العامة مشهدا للفرح, فكان من الممكن أن يقام الهلال فوق المئذنة دون ضجيج, ولا يشعر بالأمر إلا من شارك فى إقامته وبعض من يهتمون بالعمل فى إنشاء المسجد, لكنه بحبه وبروحه التى تشع تفاؤلا آثر أن يُدخل البهجة إلى نفوس أهل بلده. أشار على أصدقائه والمهتمين بالمسجد, أن يكون يوما يحيا دائما فى ذاكرة الشهاوية.
لا أدرى كيف شق على عباس الصفوف، وتبعه أبو المعاطى رزق موظف بالجمعية بقامته الطويلة, وفرج أبو السعود السباك وصديق مقرب من على عباس. وقف على عباس وأخذ الميكرفون من سيارة إذاعة الحفل, وحوله صديقاه ينظرون إلى الحضور بزهو الفاتحين. بدأ على الحديث قائلا:
- السلام عليكم أهالى الشهاوية الكرام. ألف مبارك لكم هذا اليوم السعيد.
همهم شهاب وضياء للأستاذ بكلمات. لاحظت إشارة الأستاذ لهما كأنه يقول لهما: دَعُوه.
أكمل على عباس كلمته وقال: الفضل كل الفضل لمن تبرع وأنفق من ماله, رجال الشهاوية الذين ساهموا فى بناء المسجد بأموالهم, أما أدعياء البطولة والتضحية فكلها دعوات جوفاء لا تنطلى علينا. ليتهم يريحونا من وجوههم.
وهنا انتزع شهاب حسين الميكرفون من على عباس وقال بغضب: تفضل يا أستاذ عبد الحميد. قل كلمة لأهل بلدك، الذين يعرفون قدرك, وليخسأ سراق الفرح, أصحاب الحناجر الزاعقة.
أمسك ضياء وحسين المنشاوى بيد الأستاذ, وقرباه من سيارة الإذاعة, وناوله شهاب الميكرفون، فبدأ بالحمد والشكر لله، الذى أتم للشهاوية هذا العمل العظيم باكتمال بناء المسجد والاحتفال بتتويج هذا الجهد بزف الهلال لوضعه أعلى مئذنة المسجد الكبير. كلكم يا أهل الشهاوية أبطال هذا البناء العظيم من أصغر طفل حتى أكبر رجل. ما نحن إلا خدام لكم، ولا فضل لنا على أحد.
وهنا ضج الشارع بالتصفيق والهتاف أن "يحيا رجال الشهاوية العظام. الشهاوية بلد الرجال".
قال أبى: لعل الله قد أخزاك يا على أنت وأصحابك. لا تظهر فى أى مناسبة إلا لتفسدها.
دخل المسجد كثير من الحاضرين, صلى المدعوون الظهر, وظلوا بعدها ساعة داخله يهنئون ويباركون لبعضهم إنجازه, ثم بدأوا يتوافدون على بيت الأستاذ, ووضعت مائدة بعد مائدة, كانت النساء تعملن كأنهن خلية نحل ما بين غرف الطعام وتقديم الأطباق, ثم رفعها وغسلها. وغسلت أم غريب أكواما من الأوانى يومها. وكلما أقيمت مائدة ورفعت أعيدت الكرة مرة أخرى. بعدها قُدِّمت أطباق الفاكهة والحَلْوَيَات التى صنعنها فى المنزل هنا, ثم الشاى مع أصوات "الفقها" بالذكر والإنشاد.
كوصايا الأستاذ لأبله أسماء مع كل وليمة أن تغرف ما تبقى من طعام فى أطباق, وترسلنى به إلى فقراء وفقيرات شارعنا. كم كانت فرحتهم وأنا أدق بابهم، وأقدم لهم الأطباق وهم يسألوننى: "من أين؟" وهم يعلمون, لكنها عادة اللسان.
هناك خلف بيت الأستاذ كانت الخالة حورية أما لثلاثة أيتام, أمامها مباشرة كانت نينة لطيفة المرأة العجوز الضامرة, التى تسكن بيتا صغيرا جدا كجسدها الضئيل, دائما كنت أتعجب لسروالها ذى "الكورنيش"! الوحيدة فى الشهاوية التى تلبس مثل هذا السروال أسفل جلبابها, كانت تجلس دائما على درجة سلم بيتها الوحيدة, وكأنها تجلس فى الشارع، فلا سور له ولا حاجز. أذهب إليها بالطبق, تفرح وتأخذه منى وتضعه بجوارها ثم تدخل دقائق للغَدَاء، ثم تخرج لتجلس ثانية على درجة سلمها اليتيمة. بعدها أذهب لنينة صالحة ماشطة الشهاوية، التى كبر سنها ولم يعد أحدٌ يطلبها فى الأفراح لتزيين العرائس, ثم أنعطف قليلا إلى زقاق ضيق فيه ثلاثة بيوت كلها أطوف عليها بالأطباق: بيت عم عبده الشبراوى عامل ورشة الطوب, أناول الطبق لزوجه أو ابنته هناء, ثم بيت عم صابر ريحان, مريض الكبد الذى أقعده المرض عن خروجه إلى السوق لبيع الخضراوات, ثم بيت عائلة الولى، بيت ملآن بالعيال, يقابلوننى على السلم، فأخاف أن أتعثر فى أحدهم, أناول الطبق لأمهم الخالة حبيبة وأهرول قفزا على السلم لأعود من هذا الزحام. كل هؤلاء عرفتهم وعرفونى. حين أدق بابهم ينظرون إلى يدى فيبتسمون لهذا الطبق الذى أمسكه بحرص شديد.
كانوا جميعا يلهجون بالدعاء له. لم تكن تبيت أوانى الولائم إلا مغسولة نظيفة بعد أن وزع ما تبقى، وهو كثير، على جيرانه. أعود من طرقى على الأبواب لتوزيع "أطباق البر" كما كان يطلق عليها الأستاذ, فتقابلنى أبلة أسماء مبتسمة وتقول لى: الملائكة زفتك اليوم يا ورد. ثم قالت لى: اذهبى للأستاذ فى الصالون. لقد سأل عنك. ذهبت إليه ووقفت على باب حجرة الصالون، لمحت على وجهه سعادة لم أرها عليه من قبل. شعرت أنه كالعائد من سفر طويل مجهد شاق, وقد وصل لبيته أخيرا, وسكن لهدوئه وألقى بكل أحماله على عتبته ليستروح نسمات هواء لطيفة. جلس وسط صاحبيه: ضياء وشهاب, وهما يداعبان "الفقها" بكلمات من المأثور الشعبى عن حب "الفقها" للفتة, وغرقهم فى صحونها, وهو ينهرهما بلطف عن هذه المداعبات, بينما "الفقها" يضحكون وهم يواصلون الأكل. أشار إلى وأجلسنى بجواره، ثم قبل رأسى وقال لى: أتعرفين لِمَ أقبل رأسك يا ورد؟
هززت رأسى نافية معرفتى السبب. قال لى وهو يقبض على يدى بحنو: لأنك ابنتى كإيمان تماما, هادئة مطيعة صبورة.
قلت له: أنا أيضا أحبك يا أستاذ, وأحطته بذراعى.
أشارت إلى رُسُل تريد منى أن أتبعها فى أمر ما. فلما هممت بالقيام قال لى: انتظرى. اجلسى شاهدى التواشيح والذكر بعد أن ينتهى "الفقها" من تناول طعامهم. جلست وتابعت بهدوئى المعتاد كل ما أراه.
جاء ذكر على عباس حينما وجه المهندس شهاب للأستاذ ولضياء الكلام فقال: صاحبكما كعادته يظهر فى اللحظة الأخيرة ليُذْكَرَ فَيُشْكَر دون عمل أو جهد.
قال الأستاذ: صرت أتحسس قلبى كلما رأيته, لتوقعى كلماته المسمومة.
قال حسين المنشاوى: أتيت بك لتتكلم حتى نلقمه حجرا، فيمضى مخذولا.
ضحك ضياء وقال: صدقنى يا شهاب. هذا الصنف لا يشعر. عنده قدرة عجيبة على أن يتقدم الزفة، ويخطب فى الناس ويعدد لهم الإنجازات التى قام بها, وكم بذل من مجهود وهو ينشئ هذا المسجد وحده.
قال الأستاذ بأَسًى: والله ما وددت أن يأخذ منى هذا الموقف, وكم حاولت أن أتقرب إليه وأصله بنية صادقة، فهو ابن خالتى ومن دمي, وكانت آخر محاولاتى يوم وفاة والده الشيخ عباس. سلمت عليه ووقفت معه فى المستشفى وفى العزاء, لكنه أدار إلى ظهره بعدها, وزادت عداوته لى بعد أن تسببتَ أنت يا شهاب فى نقله إلى شرمساح. تركك واستسهل أن يضع الذنب على.
وهنا قال شهاب بحدة: أَنَسِيتَ فعلته أمام الناس فى المسجد واتهاماته الظالمة وهو يتهمنا بالتلاعب فى أموال التبرعات؟
قال الأستاذ: وهذا ما قلته لخالتى بعدما نقل لها كلاما أغضبها منى. قلت لها: والله ما لى دخل فى نقله ولم أكن لأفعلها عمرى. ثم وجه حديثه إليهما: أرجوكما أغلقا هذا الأمر، فهو مُقْبِضٌ لى.
هزا رأسيهما وقالا: أمرك يا كبيرنا.
كانت هناك فرحة جديدة تتخفى فى ثنايا هذا اليوم المُسْعِد, عندما همستْ أسماء لسعاد وهما فى الشكمة أثناء توقف زفة الهلال فى شارعنا, وأشارت إلى شاب وسيم بجوار الأستاذ وقالت لها: هذا أخى خيرت. لم يتزوج. وهو خريج كلية الزراعة، ويعمل فى اللوزية فى الإدارة الزراعية. رآكِ أكثرَ من مرة وأنتِ ذاهبة إلىٰ المدرسة, فكلمنى أن أفاتحك فى الأمر.
احمرت وجنتاها وقالت لها: لكن يجب أن أجلس معه أولا فى حضوركما أنت والأستاذ.
ابتسمت أسماء وقالت لها: حقك يا سعاد. نرتب موعدا مناسبا وتلتقيان هنا عندنا. ثم إن أخى خيرت جذاب جدا. لن تخرجوا من هذه المقابلة إلا بتحديد موعد الخطوبة!".
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد أذكر بمناسبة احتفاء الكاتبة بإعادة بناء المسجد وتصويرها للفرحة العارمة التى أبداها أهل القرية بتركيب الهلال الضخم على قمة المئذنة لدن الانتهاء من البناء أنى قرأت فى سبعينات القرن الماضى ما كتبه أحدهم، ولعله علاء الدين وحيد، من أن القصاصين الذين يصلون فى مصر فى تلك الفترة يتجنبون فيما يبدعون من أعمال قصصية إظهار عواطفهم الدينية خشية اتهامهم بالرجعية. وها هى ذى الكاتبة تبدع فى الحديث عن المسجد وبنائه وتزيينه بالهلال الجميل ولا تبالى. و قد أخبرتنى أن أحد الحمقى المغفلين قد انتقدها لاستخدامها لفظة قرآنية منتقدا إياها لأنها تستخدم لغة صحراوية، غير واع لحماقته وجهله وحقده على الإسلام أن كل كلامه وكتاباته هى باللغة العربية الآتية من بلاد العرب، تلك التى يسميها هذا الأحمق الجهول بـ"الصحراء". جاءتها خيبة تلك التى تفكر أن تحمل بمثله!
وقد تذكرت فجأة حين توغلت قليلا فى الرواية ما كنت قرأته فى شبابى للكاتبة البريطانية بنت القرنين الثامن عشر والتاسع عشر جين أوستن من قصص تدور حول ذات الموضوعات الاجتماعية أو قريبا منها وفى البيئة الريفية أيضا، وإن كانت قصص أوستن أهدأ من قصة كاتبتنا فيما يخيل لى الآن، فقد بعد العهد منى بقصص جين أوستن. وأذكر أيضا أننى رغم ميل الشباب إلى القصص الحريفة كنت أتم قراءة الروايات الأوستنية وأصبر على خلوها من الألوان الحادة والعنيفة، وكنت أستمتع بها.
وفى النص السابق نرى المؤلفة تتريث كثيرا إزاء إعداد الأطعمة المختلفة والمراحل التى يمر بها إلى أن ينضج الأكل ويقدم للجائعين. كما تهتم بأمر الخطبة والزواج ومراسمهما والعلاقات بين الزوج والزوجة وبين الحماة وزوجة ابنها. وبالمثل تهتم بالملابس وتقليعاتها. ويشعر القارئ، حتى لو لم يعرف مسبقا أن المؤلفة سيدة لا رجل، أنه يقرأ لامرأة. وقد سمعت مرارا من يقول من النقاد والأدباء إنه لا فرق بين أدب رجالى وأدب نسائى بل لا يهم أن نعرف الفرق بينهما، إذ كل ما ينبغى التركيز عليه هو ما إذا كان الإبداع الأدبى جيدا أو لا. وهذا كلام نختلف معه فى جانب منه. فالفروق الفردية والنوعية والوطنية والدينية فى الأدب فى غاية الأهمية، وإلا صار الأدب هردميسة يا أم عيسى، وصار كل شىء كأى شىء آخر. ومع هذا فإنى أهتبل هذه السانحة وأشيد بالكاتبة لاتساع مجالها الإبداعى، فهى تتحدث عن أمور فى عالم الرجال لا تعرفها المرأة فى بلادنا إلا فى النادر كالصراع بين الأستاذ وابن خالته فى انتخابات المجلس المحلى بالقرية وكثير من تفاصيل العملية الانتخابية، واشتباكات الجنود المصريين مع نظرائهم الصهاينة ودقائق تلك الاشتباكات، ومرور لجنة بناء المسجد الكبير بأبناء القرية المشهورين فى القاهرة من أطباء ومقاولين وتجار ورجال أعمال لجمع التبراعات اللازمة... إلخ. وبالنسبة لى فإن نكهة شخصيات رتيبة الهبلة وقدرية البطحجية وعزيزة الطباخة تذكرنا ببعض شخصيات "زقاق المدق" على نحو ما.
لكن يلاحظ أن الرواية التى بين أيدينا خالية من وصف الطبيعة رغم ان القرية شبه جزيرة إذ يحيط بها الماء من ثلاثة جوانب وتحط عندها الطيور المهاجرة كما ذكرت الكاتبة فى بدايتها. لكنها للأسف لم تتعرض بعد ذلك لوصف الطبيعة بحال مع أن الطبيعة تظهر على أشدها فى الريف والحقول المحيطة بالقرى. لقد حصرت الكاتبة اهتمامها بالبيوت والشوارع وما يدور فيها. وأيا ما يكن الأمر لقد كان نجيب محفوظ، وكل رواياته تقريبا تدور فى المدن، حريصا على المناوبة بين وصف مشاعر أبطاله وبين رسم اللوحات الطبيعية من سحاب وغيم ومطر وما إلى ذلك. وأرى أن لو كانت الكاتبة أولت هذا الجانب شيئا من اهتمامها لزادت قيمة روايتها فوق قيمتها.
وهذا كل ما قالته الرواية فى هذا الجانب فى أول صفحة من صفحاتها: "للشهاوية بلدى موقع متميز: فمدخلها يقع على الطريق السريع. يحتويها النيل فى حضنه من جهاتها الثلاث الأخرى. جنوبها جزيرة ساحرة يشقها النيل لتصير جزيرتين: جزيرة كبرى تزيد عن المائة والخمسين فدانا، والثانية بضعة أفدنة. الجزيرة خضراء دائما (هكذا يسميها أهل بلدنا: "الجزيرة" فلا يقولون: جزيرتان) تحتل أشجار الموز معظمَ مساحتها، ولذا فقد سُمِّيت فى الخرائط بـ"جزيرة الموز". فى سمائها الطيور المهاجرة المتنوعة، تحط على الزراعات وتتثنى بدلال. مزارنا السنوى حينما يحل الربيع, فهى مكاننا المفضل لشم النسيم".
إن كل ما قالته عن الطيور المهاجرة التى تمر بها هى أنها كانت تحط على الزراعات وتتثنى بدلال. لكنى لست أفهم كيف تتثنى الطيور بدلال أو بغير دلال. إن أبا قردان مثلا حين يمشى يحرك رأسه الظريف أماما وخلفا، وهذا كل ما هنالك، لكن هل يسمى هذا: تثنيا كما نعرف التثنى عند بعض النساء؟ لا أظن. وأنا رغم أن أهلى تجار وليس لنا أرض تزرع فإنى أحب الحقول والترع والسواقى والمقابر والأشجار والحدائق حبا صوفيا وأهيم بها وبالجَوْس خلالها فى أوقات اليوم المختلفة حسب طبيعة الفصل، وتجتاحنى آنئذ نشوة عظيمة وأقف بين الحين والحين وأنظر حولى فى جميع الجهات متذكرا فى ذلك السكون الشامل ما كنت أفعله فى طفولتى وصباى وشبابى فى هذا المكان أو ذاك حين كنت أذهب إلى الحقول مع جيراننا من أبناء الفلاحين. ومن حبى للطبيعة الريفية كتبت فى سيرتى الذاتية أنى أتخيل روحى بعد موتى وهى تهيم فى الفضاء فوق الحقول والأنهار والأشجار مع الفراشات والطيور الجميلة لا تشبع ولا ترتوى ولا تريد أن تزايل المكان. من هنا استغربت إهمال الكاتبة لهذا الجانب. وهل فى ريفنا شىء ممتع إلا الحقول والأنهار؟ إن بيوتنا القروية قبيحة لا تسر عينا ولا تبهج قلبا، والجمال كله والنضارة كلها والنشوة كلها مقصورة على الغيطان.
ومن حبى لوصف الطبيعة كتبت عن رواية "الحب فى أرض الشوك" لمحمد كمال محمد فى صحيفة "الوفد" أواسط ثمانينات القرن الفائت أن مؤلفها ينغمس فى السرد والوصف الاستطرادى فيبدع ويأتى بالعجب، وينسى ساعتها أنه يكتب قصة، ويروح فى نشوة ووجد فكأنه صوفى يتطوح وليس فى لسانه إلا اسم الحبيبة. إن الكاتب يحب دمياط وما حولها، وبخاصة الريف، حبا شديدا، حبا خالط منه العظام والأعصاب، فنضح من مَسَامّه حبات من العرق المتألق بألوان الطيف التى تخطف الأبصار. إنه لم يكد يفلت نباتا أو ثمرة أو فاكهة أو طيرا بل وقف أمامه فى وجد ووله، ووصفه وحدد لونه ونوعه. لقد وصف نبات الفدين وهو يغطى الترعة الضحلة كفراش أخضر، ووصف هبوب الريح وهى تحمل نثار الحصى والزؤان من غربال فى يد أحدهم على جانب الجسر الضيق، ووصف الأطفال وهم يطاردون بنبالهم العصافير المذعورة وسط شجيرات البرنوف على حواف القنوات، ووصف عودة بطل القصة وحده ماشيا على شريط ضيق من نبات الحندقوق محاذيا للترعة الممتلئة. كما وصف القرع والفول والتمر حنة والنخيل والطيور (كالشرشير والبلبول والحمراوى والزرقاوى والحمام المستكاوى) والجوافة والموز والموالح...