نداء المجهول
طبعة. مكتبة الآداب
د. إبراهيم عوض
قرأت هذه القصة مرة أو مرتين من قبل، وبرغم هذا فما زالت تحتفظ بقدر كبير من جاذبيتها الأولى. وأظن هـذا مقياسا معقولا لجودة عمل أدبى ما، فإن من الصعب على قصة رديئة أو حتى متوسطة الجودة أن تحتفظ بقدرتها على تحريك الفكر والخيال والعواطف بهذا الشكل كل هذه المدة (إذ إنى قرأتها أول مرة وأنا تلميذ فى المرحلة الإعدادية). ورأيى أن نداء المجهول، هى و "سلوى فى مهب الريح" هما أفضل ما سطرته يراعة المرحوم تيمور، وأظن أنه إذا بقى على الزمن عملان فقط من أعماله القصصية فسيكونان هاتين القصتين.
أول مناحى الإتقان فى هذه القصة هو الأسلوب الذى يخلو خلواً يكاد يكون تامـا مما يلاحظ على أسلوب تيمور فى كثير من قصصه الأخرى من تعمل وحذلقة وإيثار للغريب من اللفظ ولغير الشائع من التراكيب. إن من المعروف أن تيمورا كان يكتب حوار قصصه الأولى باللهجة العامية، ثم أعاد صياغتها، كما هو الحال فى "أبو على الفنان"، التى كان يشى عنوانها القديم "أبو على عامل أرتيست" بنوع الحوار الذى كانت تتفاهم به شخصياتها، ثم انتهى تيمور إلى أسلوبه المعروف بخصائصه التى أشرت إليها آنفا. أما فى هذه القصة فإن أسلوبه يبلغ حدا بعيدا من الاعتدال والطبيعية والحيوية والمقدرة على الإيحاء وخلق الجو النفسى المطلوب. ولولا هـذه الكلمات: "الأزاهر" (بدلا من "الزهور"، ودعك من اعتراض من يزعمون أن هذه الصيغة الجمعية خطأ لعدم ورودها فى المعجم، فإن المعاجم القديمة لا تصلح دائما أن تكون معيارا للغتنا الحالية) (ص / ۹)، و "أميالك" (بدل "ميولك") ص/ ٢٣ (وكذلك ص/ ٥٥) و "حديث لا منتهى له" (عوضا عن "لا نهاية له". وبالمناسبة فالمرحوم تيمور كان مغرما باستعمال المصدر الميمى) ص/ ۳۸، وكذلك ص/ ١١٠) . و "اللبوس الرياضى" بدل "الملابس الرياضية" ص 57، و "مغتمض العينين" (بدلا من (مغمض العينين) ص/ ۷۱، و "معاطف الحـديقة" (بدل "منعطفات الحديقة") ص/ 45 (كذلك ص/ ١٦٢) و "يتوضح فيهـا الملل" (عوضا عن "يتضح فيها...") بنفس الصفحة، أقول: لولا هذه الكلمات، وهى كما ترى قليلة بالنسبة إلى قصة تقع فى نحو مائة وخمسين صفحة، لقلت إن "نداء المجهول" خالية تماما من كل أثر للإغراب اللغوى أو الأسلوبى. ولكى يدرك القارىء أبعاد هذا الحكم أذكره بأن تیمورا رحمه الله كان مغرما بعبارة "جيئة وذهوبا"، أما هنا ففى المرة الوحيدة التى احتاج إلى أن يعبر فيها عن هـذا المعنى تراه قـد استخـدم كلمة "ذهاب" الشائعة بدل "ذهوب"، التى قلما يستعملها كاتب غيره (انظر ص/ 143).
ومع ذلك فهناك ملاحظة هامة خاصة بضبط الكلمات، فالمفهوم أن يقتصر الضبط على الكلمات التى يصعب على القارىء أن ينطقها نطقا سليما، أما ضبط الكلمات السهلة ضبطا يخالف النطق الشائع فلا أدرى ما الذى دفع الأستاذ تيمورا إليه، فمن ذلك "فَوّهة" (لا "فُوّهة"، كما هو الشائع) ص ۸۷، ۸۸، ۸۹، ۱۳۱، 135، 137، وكذلك "الثُّغرة" (بدل "الثَّغرة") ص ۱۱۰، ۱۱۱، 158، و "مِسْمع" (بدلا من "مسمع" بفتح الميم الأولى) ص/ 148، و "خِطَّيبة" (بالذمة، أهذا كلام؟) (بدل الصيغة التى يعرفها الناس بل الجن والسماوات والأرض ومن فيهن، وهى "خطيبة") ص/ 150. وهناك أيضا كلمة "روع" وقد ضبطها فى الجملة الآتية: "فهدأت من روعه" (ومعناها: "طيب خاطره") ص/ ۱۲۰: بفتح الراء، والصواب، كما أفهم، هو ضمها، أما بالفتح فمعناها "الفزع" وليس هو المقصود هنا، فإن المخاطب لم يكن فزعا بل كان منفعلا انفعال الغضب. (قارن ذلك بقول الشيخ عاد لراوى القصة محاولا إدخال الطمانينة على نفسه الفزعة: "هدىء من روعك" ص/ ۱۲۹، فضبط الراء بالفتح هنا هو الصواب). ومثل ذلك ضبطه "خطة" فى العبارة التاليه: "أرسم خطة السير" ص/ 36 بكسر الخاء، والصواب ضمها، وكذلك "ممتقعة الوجه" بكسر القاف ص/ 110 والصواب فتحها.
إن الذى جعلنى أقف عند ضبط هذه الكلمات هو أنها، على النحو الذى وردت به فى الكتاب، تتعارض مع الجو الطبيعى الذى استطاع تيمور أن يخلقه من خلال اللغة كما سلف القول، هذا الجو الذى أغراه باستخدام بعض الألفاظ والتعبيرات العامية، وهو ما يلفت انتباه من تمرسوا بأسلوب تيمور بعد تحوله عن كتابة الحوار بالعامية، مثل: "الله يخرب القصر، ويحرق اللى بناه" ص/ 76. والطريف أنه وضع كلمة "المدعوق" فى الجملة الآتية: "أين (المدعوق) القصر؟" ص/ ۷۸، بين قوسين، مع أن الكلمة، برغم دورانهـا على ألسن العامة، هى كلمة فصيحة، ولم يفعل ذلك مع الصيغة العامية لاسم الموصول: "اللى" فى العبارة السابقة. إن مثل هذا الحرص على إثبات الصيغ المجهولة لتلك الكلمات كان يكون مفهوما لو أن العمل الأدبى الذى وردت فيه هذه الكلمات مقامة لا قصة، فقد كان من بين أهداف كتاب المقامات الرئيسية الحفاظ على اللغة، ومن هنا كثر فيها استخدام الغريب والتلاعب بالألفاظ وما أشبه، أما القصة فإنها وإن كانت صحة اللغة والتفنن فى استخدامها على الوجه الذى يحقق الصبغة الواقعية شرطا فيها، لا تضع نصب عينيها ذلك الغرض. ولا يحسبن أحد أننى استضئل فن المقامة، فهو على العكس جنس أدبى يحق للأدب العربى أن يفتخر به، إذ إن العرب هم مخترعوه، ومنه انتقل إلى بعض الآداب الأخرى. وقد أكد زكى مبارك، رحمـه الله، نقضا لمزاعم من قالوا إن المقامة إذا ترجمت فقدت قيمتها لأنه ليس فيها إلا التـلاعب اللفظى والزينة البديعية، أنه ترجم بعض المقامات إلى الفرنسية، فنالت إعجاب من قرأها من الفرنسيين. ويستطيـع من يشاء أن يرجع إلى مقامات الهمـذانى والحريرى، وسيلمس بنفسه مدى صحة ذلك.
وبرغم كل هذا، فقد اضطرب القلم فى يد تيمور، عليه رحمـة الله، بهذه التعبيرات: "وأخذنا نأكل فى شهية نادرة" ص/ ٦٢، بدل "بشهية نادرة" و "... أملس، ينزلق عليه الحذاء انزلاقه على رغوات الصابون" ص/ ۸۷ (بجمع "رغوة" جمعا سالما، وهو غير مستساغ، وكان أفضل لو استخدم "رغاوى" بفتح الواو (جمع رغاوة)، فهو جد قريب إلى الجمع العامى للكلمة)، و "قطعت لیلی مسترسلا فى نوم شديد، ص/ 106 (إذ لا يقال للنائم إنه "قطع ليله"، لأن قطع الوقت عمل إيجابى، والنائم لا يعمل شيئا. وفضلا عن ذلك فإن وصف النوم بالشدة يبدو قلقا فى الأذن).
إن هذا الأسلوب بما فيه (برغم المآخذ التى سقتها آنفا) من حيوية وطبيعية ومقدرة على الإيحاء هو أحد العناصر التى نجح تيمور عن طريقهـا فى خلق الجـو الواقعى الذى يسود القصـة أحداثا وشخصيات وحوارا.
ولأبدأ بالحوار، وحسبى أن أشير إلى أنه فى هذه القصة يخلو من عيوب الحوار فى "دعاء الكروان" من طول وارتفاع عن مسـتـوى الشخصية الفكرى والوجدانى. إن من الممكن تشبيهه فى هذه القصة بكرة الطاولة، لا تستقر عند أحد اللاعبين إلا ريثما يضربها، أو تسقط من فوق الطاولة إلى الأرض، مما يضفى عليه رشاقة وحيوية. أضف إلى ذلك نجاح تيمور فى توبلته بالنكهة العامية بين الحين والحين، مثل الحوار التالى بين راوى القصة وخادم الفندق:
"فقلت وأنا أداعب سبحتى وابتسـم:
ـــــ ما رأيك فى صاحبتك الإنجليزية؟
فحدق فى لحظة، ثم اندفع يقهقه. وأخيرا قال لى: "مالك ومالهـا؟ اتركها وشأنهـا، وإلا فالعاقبة وخيمـة" ص/ ١٢. ومثل قول "مجاعص" الدليل، يفتخر بمعرفة المنطقة التى سيقودهم فيها:
"وقال بصوت خشن، وهو يفتل شاربه، أو بالأحرى يداعبه مزهوا:
- محسوبك مجاعص. ابن الجبل... أعرف هذه الجهة ومخابئها وطرقاتها كما أعرف أصابع يدى" ص/ 25.
كذلك فإن الحـوار فى أماكن كثيرة يعكس ببراعة حالة المتكلم النفسية، فمثلا عندما كانت مس (إيفانس) تناقش راوى القصة فى معنی السعادة قاطعته قائلة:
" لقد كنت مثلكم، أسعى للاستمتاع بتلك الزخارف البراقة، حتى تكشف لى المجتمع عن حقيقته، وبان لى زيفة وبهتانه. لقد وثقت بدنياكم هذه، فأودعتها أعز ما أملك، أودعتها قلبى، ولكنهـا ردت إلىّ هذا القلب مطعونا... إنى أكره دنياكم... أكرهها!" ص/ 19.
إن القارىء لا يخطىء ما فى كلام السائحة من إلحاح على أن الدنيا قد خدعتها، ومن تكرير ألفاظ بعينها، ومن نسبة "الدنيا" إلى محدثها وأمثاله: "دنياكم". حدث ذلك مرتين. ولا أظنه سيفوته قصر جملها فى نهاية الدفقة الانفعالية، وتكريرها كلمة "أكرهها". إننى أتخيلها الآن بوضوح تام وهى تضغط على مخارج حروف هـذه الكلمة، وقد تجمعت سحب انفعالها إلى أن غلبها البكاء. إن البكاء هنا بعد هذا الكلام هو الأمر الذى لا يمكن أن يحدث غيره. إن كلامها منذ البداية متجه إليه فى خط مستقيم، ولذلك فمن الطبيعى تماما أن نقرأ قول الراوى تعقيبا على ذلك: "وأخفت رأسها بين يديها، ثم إذا هى تبكى. فوقفت أمامها حائرا جزعا، وقد توزعنى الألم". وكذلك من الطبيعى جدا أن تراها "سرعان ما أخذت تهـدىء من روعها، فكفكفت عبرتها وهى تقول:
- إنى آسفة.. آسفة جدا على ما بدر منى!... إلخ".
أما الشخصيات فقد انتقاها المؤلف باقتدار، فليست هناك شخصية لا تحتاجها القصة حتى شخصية "حبيب" الخادم قـد أدت دورها المطلوب، ثم اختفت اختفاء طبيعيا، لسبب بسيط هو أن المجموعة تركت الفندق وخلفت "حبيباً" فيـه. أما الأستاذ "كنعان" فهو يمثل الأدعياء ذوى المزاعم العريضة التى لا تثبت على محك التجربة، وسرعان ما ينكشف زيفها وخواؤها. لقد وعد المجموعة أنه سيكون رفيقا لهم فى هذه الرحلة، ولكنه، عندما جاءوه ليصطحبوه معهم، تظاهر بأنه قد راح فى سبات عميق، ولم يفتح الباب، وهو بهذا يشبه فردا فى قافلة عليها أن تواصل السير، ولا تستطيع التلبث بحال، أما هو فإن المرض والإعيـاء يداهمانه، فيسقط على حافة الطريق، فيدعه رفاقه وراءهم ويمضون.
هذه واحدة، والثانية هى أن كلا من هذه الشخصيات (ولا أدرى أقد قصد المؤلف ذلك أم لا) يمكن أن تكون رمزا على جانب معين من جوانب النفس البشرية. وأود أن أسارع هنا إلى التأكيد بأنى حذر فى مسألة تحميل العمل الأدبى أى معنى رمزى، ولكن إذا استقام له التفسير الرمزى من غير اعتساف فإنى لا أرفضه ما دام يهبه بعدا آخر أعمق.
لقد سبق القول بأن الأستاذ كنعان رمز على الغرور الأجوف، الذى لا يصمد للتجربة. إن أمام هذه المجموعة هدفا عليها أن تبلغه، وهو قمة الجبل، وقد قابلتها فى الطريق إليه عقبات كئود. أفلا يمكن أن يكون الجبل والقصر والعزلة التى تلفه والعقبات الكأداء التى تقوم من دونه رمزا على الغايات الروحية العليا؟ إن الرقى وصعوبة الوصول والعزلة تجمع بين الرمز والمرموز إليه. ثم ألا يمكن أيضا أن يكون "الشيخ عاد" رمزا على العقل والحكمة؟ إنه هو أكبر المجموعة سنا، وهو قائدهم، وإليه المرجع عند أى استفسار، وكلامه هو الكـلام الفصل فى كل مشكلة، وهو كذلك هادىء قلما تخرجه الأحداث، مهما يبلغ من تعقدها أو صعوبتها، عن طوره. أما "مس إيفانس" فهى، على هذا التفسير، ترمز إلى الأشواق الروحية، التى تتطلع دائما إلى الأعلى. إنها هى صاحبة الرحلة، هى التى ما إن سمعت بقصة القصر الغامضة حتى أخذت تبحث عن حقيقة الأمر، وهى التى استقدمت الذين كانوا قد صعدوا إلى الجبل، واستفسرت منهم عما رأوا، وهى التى أعدت كل شىء، أما الآخرون فهم رفقاؤها فى تلك الرحلة، لكنى كنت أفضل لو أن التى ترمز إلى هذه الأشواق الروحية كانت امرأة مسلمة، لكن من أين لنـا بتلك السيدة المسلمة التى تقبل على مثل هذه المخاطرة؟ فلتكن "مس إيفانس" إذن هى ذلك الرمز، لقد خلع عليها الراوى كل ما هو جميل ورقيق ونبيل، فليكن. ويبقى بعد ذلك "مجاعص" وراوى القصة، فأما الأول فهو، إن صح هذا التفسير الجديد للقصة (وهو تفسير لا أتحرج، برغم أنى صاحبه، من القول بأنه، على أسوأ الأحوال، لا يخلو من وجاهة)، لا يمكن أن يرمز إلا إلى الجانب الجسدانى من الإنسان، فهو الوحيد غير المتعلم بين أفراد المجموعة، والراوى حين يصفه يركز دائما على قوة جسده وشواربه المفتولة وما إلى ذلك، وهى كلها سمات جسدية بحتة. وعلاوة على ذلك فإن دوره كان محصورا فى خدمة المجموعة والقيام بالأعمال اليدوية. وهو فوق ذلك يفتقر إلى الشجاعة والصبر على المكاره (انظر وصف الراوى لشخصية مجاعص الخـارجية والداخلية ص ٢٥، ۲۷، 58، 63، 17، 74، 76، ۸۳، ۹۱، 106، ۱۱۲). والفقرة التالية (ص ۱۱۳) ذات مغزى، فى هذا الصدد، عميـق:
"وانطلقت أتطلع من النافذة، فإذا حديقة القصر مبسوطة تحت أعيننا، على مرتفع شاهق. وعلى الرغم من ذلك استطعنا أن نلمح شيئا يتدحرج فى ساحة الحديقة أمام الأشجار. وظللت أدقق النظر فتبينت شخص "مجاعص" فى هذا الشىء يتمرغ على الأرض، كما تتمرغ الدابة الطروب. فقلت:
ـــــــ إنى أمنح نصف عمرى، إن كان لى عمر يستحق الذكر، لمن ينيلنى سعادة هذا الرجل". كذلك فإن نهاية "مجاعص" تتلاءم، إلى مدى بعيد، مع ما يرمز إليه. إنه الوحيد الذى لقى حتفه فى هذه الرحلة. وكيف؟ بالسقوط فى بئر. أفلا يمكن أن يكـون ذلك إشارة إلى أن الجـسد لا يمكنه أن يصمد طويلا على قمة هذا المرتقى الروحى الشاهق؟
ولا يشذ عن هـذا التفسير الرمزى إلا الراوى. ولست أرى بأسا فى ذلك، إذ لا بد من إنسان خارج عن نطاق الرمز ليحكى لنـا ما يراه، ويصف لنا رفقاء تلك الرحلة، التى يمكن النظر إليهـا من زاويتين فى آن: من زاوية رمزية، وهذه قد فرغنا منها، ولعل القارىء يقتنع بما سقته من تحليل وتفسير، ومن زاوية واقعية، وهى ما أحب أن أتناوله الآن.
إن كل شخصيات القصة واقعية، لا يشذ عن ذلك ولا "مس إيفانس" نفسهـا، ففى ذلك الوقت عرفت بلاد الشرق الأوسط وصـحـاراه أشـباها لمس إيفانس كجـرترود بل صـاحبه "The Desert and the Sown"، وهو الكتاب الذى وصفت فيه رحلاتها الجريئة الغربية والغامضة فى صحارى الشام وفلسطين وقراه، كل ذلـك بأسلوب أدبى شائق يشـد القـاری شـدا، و "Persian Pictures" الذى ألفته عن رحلاتها فى انحاء إيران، والذى كتبت مقـدمته زميلة لهـا فى الترحال والجرأة هى ف باكفيل وست، مؤلفة: "Passenger to Teheran"، وكذلك روزیتا غوريس صاحبة كتاب: ""The secret of the Sahara: Kufara الذى أهدته إلى أحمد حسين باشا (الرحالة المصرى ورجل القصر المشهور، الذى كانت له مع هذه المرأة، فى صحراء مصر الغربية، وقائع كتب عنها المعنيون بهذا الجانب من تاريخ الشرق الأوسط) وغيره من الكتب عن المنطقة التى نعيش فيها. "مس إيفانس" إذن هى شخصية واقعية وإن بدت غربية بالنسبة لمن نراهن حولنا من نساء، فإنها تنتمى إلى حضارة ومجتمع يختلفان إلى حد بعيد عن مجتمعنا وحضارتنا.
أما وصف المؤلف (أو الراوى، سيان) لهذه الشخصيات فقد نثره ببراعة فى مواضع من الكتاب متفرقة حسبما تطلب هذا الموقف أو ذاك. وهو فى وصفه لشخصياته لا يثقل ذهن القارىء بكثير من التفصيلات التى تأتى فى الغالب بنتيجة عكسية، إذ بدلا من تجلية صورة الشخصية نراها تشوش ذاكرة القارىء ولا تدع له فرصة لتخيل ملامحها. ثم إن المؤلف ينوع الطريقة التى يقدم بها الشخصيات فى كل مرة، ويضفى عليهـا قدرا كبيرا من الحيوية أو الفكاهة أو التشويق أو التعاطف حسبما يقتضى الموقف. ولنأخذ مثلين على ذلك، هما شخصية "مس إيفانس" وشخصية "مجاعص".
فأما بالنسبة لــــ "مس إيفانس" فهذه هى المرات التى ورد ذكرها فيها:
۱ – "وكنا فى ذلك الوقت ستة أشخاص غير "الشيخ عاد" وخدم الفندق. ومن الطريف أن تضم أسرتنا هذه سيدة إنجليزية، قيل إنها مستشرقة، وقيل إنها متخصصة فى العلوم الطبيعة، جاءت لبنان تدرس طبيعة أرضه ونباته وحيوانه. هى فى نحـو الخامسة والثلاثين من عمرها، هادئة القسمات، ما تزال نضرة الشباب تتخايل على وجهها الجميل" ص/ ۱۲.
انظر كيف يحيطها فى أول مرة يقدمها لنا فيها بالغموض، فهو لا يدرى ماذا تفعل بالضبط فى لبنان. وهو لا يكتفى بذلك لتشويقنا، بل يمضى قائلا:
"وألقيت مرة، فى الحديقة، "حبيب" الخادم طروبا فى وفقته، يرش الزرع ويغنى، فقلت له وأنا أداعب سبحتى وأبتسم:
- ما رأيك فى صاحبتك الإنجليزية؟
فحدق فى لحظة، ثم انفدع يقهقه. وأخيرا قال لى:
- مالك ومالها؟ اتركها وشأنها، وإلا فالعاقبة وخيمة. ثم التفت حوله فى حذر، ودنا منى وهمس فى أذنى:
- ألست ترهب الجواسيس؟
فدهشت وتركت حبيبا وقـد اشـتد اهتمامى بهـذه السيدة، واهتمامنا نحن أيضا وبخاصة أنه يقول عنها بعد ذلـك إنها "قليلة الكلام، محبة للعزلة، لا تبادلنا فى فترة الأكل إلا بضع كلمات بلغة بين الفصحى والعامية، تنطقها فى شىء من الصعوبة، ولكنها تنصت لحديثنا أى إنصات، ولا سيما إذا تحدث "الشيخ عاد"، فأيقنت أنها تفهم العربية جيـدا، بيد أنها لا تحسن التلفظ بها فى يسر" ص/ ۱۳. ويضيف قائلا:
"ولاحظت أنها تخرج من الفندق كثيرا، وتتغيب طويلا، وربما قضت النهار كله فى الخارج، لا تعود إلا بعد مغرب الشمس".
ومن المؤكد أن القارىء قد لاحظ أن شخصيتها تتفتح تدريجيا، مرة من خلال المسرد، ومرة من خلال كلام الآخرين عنها، مما يضفى على طريقة رسم هذه الشخصية تنوعا وحيوية. كذلك فإن المؤلف فى أحيان أخرى يجعلها هى تصف نفسها، فها هو الراوى يسألها:
"- والفندق، أتجدين فيـه راحتـك؟"
فترد عليـه بقولهـا:
"- كل ما هو فطرى ساذج أجد فيـه راحتى المنشـودة" ص/ 15. وعندما يسألها عن المدة التى تنوى أن تمكثها تجيبه :
"- قد أمكث حتى يغلق الفنـدق أبوابه، إن لى مهمة أريد قضاءها، ولا أدرى كم تتطلب من الوقت" (ص/ 16).
وعندما يحاصرها بالأسئلة عن سر حبها العزلة، التى يراها هو تبتلا لا يطاق، ترد وقد حدقت فى السماء بعينيها الصافيتى الزرقة، اللتين تكشفان عن عراقة منبت وسلامة قلب:
"- إن التبتل يروض نفوسنا، فتنقشع عنها غشاوتها، ومن ثم نستطيع أن نرى الوجود على حقيقته" ص/ ١٨. ثم عندما يعترض على هذه الطريقة فى البحث عن السعادة تقاطعه قائلة: "- لقد كنت مثلكـم أسعى للاستمتاع بتلك الزخارف البراقة، حتى تكشف لى المجتمع عن حقيقته، وبان لى زيفه وبهتانه. لقد وثقت بدنياكم هذه، فأودعتها أعز ما أملك، أودعتها قلبى، ولكنها ردت إلى هـذا القلب طعونا... إنى أكره دنياكم... أكرهها! وأخفت رأسها بين يديها، ثم إذا هى تبكى" ص/ 19 فينفتح لنا باب من الأبواب المغلقة نطلع منه على سر من أسرارها: إنه الحب وغدر الحبيب إذن. ولعل هذا يلقى ضوءا على غرامها فى نهاية الأمر بيوسف الصافى، الذى ظل وفيا لحبيبته خمسـة وعشرين عاما، يعيش فى شعاف الجبال على ذكراها، واجدا فى هذه الذكرى كل ما يملأ عليه حياته. لقد كنا نتوقع أن يجذبهـا إلى الراوى ما يبديه نحوها من اهتمام ورعاية، ولكننا نفاجأ بها وقد تركت زميليها فى طريق العودة، ورجعت إلى يوسف الصافى، بعـد أن قالت إنها لا تطيق المكث هنـاك أكثر من هـذا (ص/155) . نفاجأ بذلك، ولكن بعد قليل من التفكير نجده هو المنطقى. ألم تصرح بأنها تكره دنيانا... تكرهها؟ ألم يظن يوسف الصافى فى البداية أنها هى صفاء، وظل على ذلك طوال فترة إصابته؟ ( انظر ص 31، 54، 56، 60، 104، 122، 137، 154، حيث يدفع الراوي فى كل موضع من هذه المواضع بتفصيلة تكشف جانباً جديدا من شخصيتها أو تؤكد ما سبق أن ذكره عنها أو تزيده إيضاحا).
أما مجاعص (واسمه، والحمد لله، يغنى عن وصفه) فيمكن أن يجمع القارىء، ملامح شخصيته من الصفحات الآتية: ٢٦، ٥٨، 63، 67، 76، 91... إلخ. وهذه بعض أمثلة منها:
"كان ينتظرنا عند مدخل الفندق "مجاعص" بالبغلتين. وقد لاحظت أنه اعتنى بفتل شاربه، وإكساب وجهه مظاهر العظمة الكاذبة" ص/ ٥٨.
وهذا "المجاعص" (على حد تعبير "مس إيفانس")، الذى لا يمل من الافتخار بأنه يعرف الجبل حجرا حجرا ونبعا نبعا نراه عندما يجد الجد يقترح على رفاق الرحلة أن يتركوا البغلتين فى عهدته، ويستمروا فى التصعيد إلى قمـة الجبـل حيث القصر المنشود، فنظر الراوى إلى "الشيخ عاد" و "مس إيفانس" ونظرا إليه، وابتسم "الشيخ عاد" لــ "مجاعص" وهو يقول:
"- كلا. لا نحب أن نموت وحدنا. تشجع، وتعال معنا. فاهتز شارب "مجاعص" وتغضن وجهه، وقال:
- ماذا؟ أيخطر ببالكم أننى أتردد.. لولا أنى مشفــق عـلى هاتين البغلتين..؟ فقال "الشيخ عاد":
- اترك البغلتين وشأنهما، إنهما لا تعدمان مرعى، وهما فى غير حاجة إلى دليل!
فقال "مجاعص" وهو يزفر:
- هذا ما أقوله وأكرره، ولكننى ظننتكم على رأى غير رأيى" ص/ 74-75.
والغريب أن هذا الخواف هو وحده الذى شج رأسه، وهو وحده الذى يموت، وكانت ميتة مأساوية آلمتنا إيلاما شديدا، برغم أننـا سبق أن استهزأنا به وسخرنا مع الراوى من انتفاشته والضجة التى يحدثها فى الإعلان عن خبرته وشجاعته. إنه العطف على الضعف البشرى. كذلك فإنه لم يكن شريرا، ولم يضر أحدا، وكانت صحبته لطيفة. ثم كما يقول الرسول: أليست نفسا؟
كذلك فإن تصرفات الأشخاص وردود أفعالهم هى التصرفات الطبيعية فى ظل الظروف التى وقعت فيها. خذ مثلا ما فعله الراوى حين فوجىء ببكاء "مس إيفانس" عندما نكأ جراح قلبها من غير قصد:
"... ثم إذا هى تبكى. فوقفت أمامها حائرا جزعا، وقد توزعنى الألم. وسرعان ما أخذت تهدىء من روعها، فكفكفت عبرتها وهى تقـول:
- إنى آسفة... آسفة جدا على ما بدر منی!
فقلت متلعثما:
- لا موجب للأسف مطلقا. إنما... أ أكون قد أسأت إليك على غير قصد؟".
إن معرفته بها لما تكن توطدت، ثم إنه، وإن بدا من كلامها وتهدج صوتها (فإنى أتخيلها، حين بلغت هذا الحد، قد تهـدج صوتها) أن البكاء آت فى الطريق، قد فوجىء بالأمر كله، إذ كانت مناقشته معها تدور حول السعادة والعزلة وما إلى ذلك، مما لا علاقة له مطلقا بالبكاء والانفعالات الزائدة. ومن ثمة فقد كان طبيعيا جـدا أن يقف حائرا جزعا لا يستطيع أن يفعل أى شىء، وحينما تكسر هى جمود الموقف، وتعتذر عما بدر منها فإن أول ما يخطر على باله هو خوفه من أن يكون قد أساء إليها عن غير قصد.
أو خذ مثلا ما قالته وفعلته "مس إيفانس" عندما وصلتها رساله فيها نبأ وصول الأعراب، إذ "أخذت تتلوها، ووجدت وجهها قـد أشرق، وعينيها تلمعان. وما إن أتمت قراءتها حتى قالت:
- إنهم حاضرون. هذا بديع!
ونظرت إلى، وقالت:
- المعذرة إذ أتركك الآن... إلى اللقاء!
- إلى اللقاء يا سيدتى.
والتفت نحو "حبیب"، وقلت:
- من هم الذين سيحضرون ؟
فمط الرجل شفتيه وقال:
- علمی علمك يا سيدى!" ص/ ٢٩. إن ما فى الرسالة لم يكن يهم أحدا غير "مس إيفانس"، التى كانت تنتظر هذا الخطاب بفارغ الصبر، ومن هنا كانت فرحتها من الشدة بحيث إنها لم تستطـع مغالبتها، فرأيناها تخاطب نفسها قائلة: "إنهم حاضرون. هـذا بديع!"، ثم تتبع ذلك بالنهوض والاستئذان. أما الراوى فإن فضوله يهيج، فیسأل خادم الفندق، الذى لم يكن أعلم منه بالأمر.
إن شخصيات القصة تتصرف على النحو المتوقع منها، فهـذا "مجاعص" برغم أن الشيخ قد أخبر المجموعة فوق الجبل بأن المئونه لا تكفى إلا عشرة أيام. يتساءل "وهو يحاول إخضاع لقمة كبيرة حشا بها فمه:
- وإذا لم نعثر على القصر فى مدى عشر أيام؟".
إن كل ما يهمه هو ملء بطنه، ولذلك فهو قلق خشية أن تنصرم الأيام العشرة وينفذ معها الزاد، ولا يجد ما يملا به هذه البطن. والراوى لا يفوته أن يصور لنا طريقة أكله، "وهو يحاول إخضاع لقمة كبيرة حشا بها فمـه"، غير مبال بتحذيرات "الشيخ عاد" بخصوص قلة الزاد.
أو انظر مثلا كيف تصرف كل منهم بعد أن سقط "مجاعص" فى بئر داخل إحدى المغارات الجبلية. فأولاً، هم لم يتركوه فى قاع البئر. "فأخرجنا جثه مجاعص". وثانيا، "قمت أنا والشيخ عاد بغسلها وتكفينها على حسب الشريعة، ثم صلينـا عليهـا، وبعدئذ دفناها".
أما "مس إيفانس" فإن موقفها هو موقف امرأة أوربية تماما: فقد لزمت حجرتها، حتى انتهينا من عملنا، فجاءت إلى قبره، ونثرت عليه طاقة من الزهر" ص/ ۱۳۸.
وكيف ننسى أن المؤلف، وهذا منطقى وواقعى، قد جعل "يوسف الصافى"، بعد أن قتل حبيبته، طبقا لمـا اتفق معها عليه، لا تطاوعه يده فى إطلاق النار على نفسه، كما تقتضى بقيـة الاتفاق (ص/ 14)؟ إن حب الحياة أقوى من أى اتفاق، وذلـك برغم تعلقه الشديد بحبيبته إلى الحد الذى دفعه إلى اعتزال الناس والمكث فوق الجبل سنوات بعد سنوات.
ليس هذا وحسب، بل إن المؤلف (أو الراوى ــــ سيان) لا تفوته التفصيلات الواقعية التى تضفى حياة على الموقف. إنه يصف كيف ساد الصمت الحجرة التى كانت المجموعة تجلس فيها فى الفندق، فلا يكتفى بالقول: "ولفنا جميعا صمت مدید"، بل أضاف: "فليس من صوت فى الحجرة سوى قرقرة الماء فى جوف النراجيل، وزفير أنفاسها نرسلها من أفواهنا ممزوجة بالدخان المعطر الشذى" ص/ 53. إن هذه الإضافة قد قصدت قصدا لإبراز الصمت المديد، فإن الضد يبرزه الضـد، والصمت لا تبرزه إلا خلفية من قرقرة النراجيل وزفير أنفاس المدخنين، وذلك فضلا عن أن هـذا هو الطبيعى والمعقول، فما داموا كانوا يدخنون النراجيل فلا يمكن أن يكون صمت فقط.
غير أنه مع ذلك يبقى فى النفس شىء من قدرة كل أفراد المجموعة (حتى الراوى، وهو مصرى، ومصر لا تعرف رياضة تسلق الجبال) على تسلق الجبل واستعمال الإزميل والحبل وما إلى ذلك مما تستلزمه هذه الرياضة الخطرة، ولكنه يحتاج إلى مران طويل، فكيف تيسر لهم ذلك.
كذلك فإن رد "الشيخ عاد" على الراوى، حين أخبره أن الحبل الذى يسأل عنه لاستخدامه فى إخراج "مجاعص" من البئر الذى وقع فيه قد فقـد، ينقصه فيما يبدو كلمة كان ينبغى أن تكون أول ما يصدر عنه، ثم يتبعها بعد ذلك ما قاله. وحتى يتضح ما أقول أسوق ما ورد فى القصة فى هذا الموقف.
"ثم التفت إلىَّ، وقال:
- على بالحبـل.
- الحبـل؟
- لأتدلى به إلى حيث هـوى".
(أظن أنه كان ينبغى أن يكون الرد هو: "نعم الحبل. لأتدلى به إلى حيث هـوى").
"- لا أذكر أين وضعنـاه.
- ولا أنا أيضا. قد نكون نسيناه فى خارج القصر... إلخ" ص/ 132.
كذلك هنا، يبدو لى أنه كان ينبغى أن يقون قبل "ولا أنا أيضا" كلمة أو عبارة تدل على الحيرة والضيق فهذا هو رد الفعل الطبيعى فى هذا الموقف.
هذا وقد استطاع المؤلف، أن يسيطر على القارى، منذ أول القصة إلى نهايتها بما بث فيها من وسائل التشويق الطبيعية. وقد أشرنا قبلا إلى أن شخصية "مس إيفانس" قد أثارت فضول الراوى وخادم الفندق، كما أشرنا إلى الرسالة الغامضة التى وصلتها، وكان كل ما علقت به عليها بعد الفراغ من قراءتها: "إنهم حاضرون. هـذا بديع"، ثم استأذنت وانصرفت وعليها سيماء الفرح، مما زاد فضول الراوى والخادم (انظر محاولة الراوى التوصل إلى معرفة هـذه المرأة وما الذى تنوى أن تفعله) ص/ 31. ولا ينكشف هـذا السر إلا فى ص/ 36، أما لغز الرسالة فإنه ينجلى فى ص/ 41، حين يصل الأعراب الذين يحدثونها عن القصر وما شاهدوه هنـاك عندما أرادوا أن يصلوا إليه فلم يفلحوا، ليسلمنا ذلك إلى لغز آخر هو لغز الأشباح التى يؤكدون أنهم رأوها، وقد اندلع من عيـونها اللهب، تتضاحك فى بشاعة، وترميهم بكتل الحجارة الضخمة (ص/ 43). ثم تبتدىء خيوط لغز القصر تنحل قليلا قليلا (انظر ص 44، 48، 50-51) إلى أن تبلغ الصفحة التاسعة والسبعين حين يحدث للمجموعة قريب من قمة الجبل شىء شبيه بما وقع للأعراب هناك، ويتضح بعد هذا أن الذى فعل ذلـك هو (يوسف الصافى)، الشاب الذى قتل حبيبته ليلة عرسها، وظن الناس أنه انتحر بعد ذلك، ولكن ظهر أنه فر هاربا إلى القصر الذى بناه أسلافه على قمة الجبل، وهو القصر الذى قامت المجموعة، بناء على اقتراح "مس إيفانس"، بتسلق الجبل للوصول إليه واكتشاف سره، (انظر أيضا ص/ 143 وما بعدها، حين يتكشف ما بقى من غموض فى قصة "يوسف الصافى") وهكذا.
وهناك، إلى جانب التشويق، التطور الذى لحق بالأشخاص جميعا تقريبا، فإن مزاعم الأستاذ "كنعان" قد انفضحت، ولم يعد الأستاذ "كنعان" بعد انكشاف زيفه هو الأستاذ "كنعان" قبل ذلك. أما المجموعة نفسها فقد بدأت الرحلة وعددها أربعة، وعند العـودة لم يكن هناك إلا اثنان. لقد مات مجاعص، أما "مس إيفانس" فقد ناداها المجهول فلم تستطع مغالبة ندائه، وبعد أن أبدت ضيقها من الإقامة بالقصر واستحثت رفيقيها على العودة إذا بها، وهم فى طريق العودة، تغافلهما وترجع إلى القصر فوق قمة الجبل، إلى حياة العزلة والفطرة، وإلى "يوسف الصافى" الذى ظنها أول ما رآها حبيبته "صفاء" جاءت تنتقم منه جزاء وفاقا لقتله لها (ص/ ۱۱۸ – 119)، والذى أخذت تعنى بجراحه، وتطورت عنايتها به إلى حب هادى، ولكنه مكين. وكيف لا، وهو أيضا كان يكره "دنيانا"، وصدم فى حبه كما صدمت هى، وعشق العزلة كما عشقتها؟ أما الراوى فإنه قد وقع فى غرام "مس إيفانس"، ولعله كان يمنى نفسه الأمانى حينما رافقها فى رحلتها قمة الجبل، ولكنه عاد بخفى حنين، إذ كان "يوسف الصافى" قد استطاع أن يخطف قلب "مس إيفانس"، ويفوز به من دونه، مما آثار غيرته"، وجعله يستحث رفقاءه العودة. ويبقى الشيخ عاد، وهو الوحيد الذى لم يبد أنه قد أصابه تطور ما، يل إنه حين اكتشف الراوى، أثناء العودة، اختفاء (مس إيفانس)، وسأله عنها كان كل ما فعله أن "اقتصر على ابتسامة هادئة مديدة، فيها معنى الاستسلام والاستخفاف بكل شىء" (ص/ 165)، ولم لا؟ أليس يمثـل الحكمة؟ إن الحكمة هى معرفة أسرار الحياة والرضا بتصاريفها، فلا شىء من ثمه جديد عليها، وكل مظاهر التطور بالنسبة إليها إنما هى أعراض زائلة، إذ لب الحياة هو هو.
وقد مسح الكاتب على ذلك كله بمسحة رقيقة وراقية من الفكاهة لطفت من وقع أحداث هذه القصة الغربية على نفوسنا. بل إن هذين العنصرين: غرابة الأحداث وغرابة تصرفات ومواقف "مس إيفانس"، والعنصر الفكاهى ليبرزان فى ختام القصة، فها هو الراوى، بعد أن فهم من "الشيخ عاد" أن "مس إيفانس" قد غافلتهما وعادت إلى القصر، يقف جزعا، بين "الشيخ عاد" ينظر إلى الأمر نظرة استخفاف واستسلام وهـو يبتسـم ابتسامة هـادئة مديدة. (ص/ 165 – 166).
أما الشخصيات التى كانت محور الفكاهة فى القصة فهى شخصية "حبيب" خادم الفندق، والأستاذ "كنعان"، و "مجاعص"، وإن كان نصيب الأخير من ذلك أكبر كثيرا من الأولين. ولعل ذلك كان وراء تألمنا الشديد لموته، فكأن هذا الألم تعبير عن شعورنا بالذنب تجاهه، إد ضحكنا كثيرا مع الراوى عليه، وهو بعد إنسان فيـه ما فينا جميعا من ضعف وعجر عن مقاومة إغراء هذه الأشياء أو تلك.